إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / دور شارل ديجول Charle's de Gaulle في الحرب العالمية الثانية









دور

أولاً: دور ديجول قبل الحرب

يُعد شارل ديجول Charles de Gaulle، واحداً من أبرز أبطال الحرب العالمية الثانية، شانه في ذلك شان ونستون تشرشل Winston Churchill، رئيس وزراء بريطانيا، وفرانكلين روزفلت، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وجوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي، وهم الأبطال الذين أحرزوا الانتصار للحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية)، على دول المحور (ألمانيا، وإيطاليا، واليابان) في الحرب العالمية الثانية.

وقد ضرب شارل ديجول المثل في التحدي وإرادة الصمود، رغم كل ما حاق ببلاده، فرنسا، على أيدي الألمان، واستسلام الحكومة الفرنسية الكامل؛ فقد فرّ ديجول إلى لندن، وهناك أقام حكومة في المنفى، وواصل الكفاح والمقاومة بمساعدة الحلفاء، إلى أن تمكن من تحرير فرنسا، والفرح بثمار النصر. وقد تميز ديجول، منذ البداية، بالعناد والإصرار على الصمود، تجلى ذلك منذ لحظة دخول الألمان فرنسا. ففي مارس 1939، أرسل هتلر إلى بولندا، يطالب بضم أجزاء من أراضيها إلى ألمانيا، وأتبع ذلك بإنذارات إلى الحكومة البولندية، ثم لم يترك لها فرصة الرد، بل أسرع بقيادة الجيوش الألمانية لغزوها، في أول سبتمبر 1939. ولما كانت كل من بريطانيا وفرنسا قد سبق أن تعهدتا بالدفاع عن بولندا؛ فقد أعلنتا الحرب على ألمانيا، في 3 سبتمبر 1939، ولكن دون تحرك جدي؛ فقد كانتا تأملان أن يتمكن الاتحاد السوفيتي من مساعدة بولندا، ولكن خاب أملهما؛ إذ وقَّعت ألمانيا والاتحاد السوفيتي معاهدة عدم اعتداء، واتفقتا سراً على تقسيم بولندا فيما بينهما. واقتصر التحرك الفرنسي على إرسال قوات إلى خط ماجينو Maginot Line، (وهو حزام من الصلب والقلاع الحصينة شيدته فرنسا، بعد الحرب العالمية الأولى، على طول حدودها مع ألمانيا)، وقابلها هتلر بحشد قوات ألمانية على خط سيجفريد Siegfried Line، (وهو الخط الذي كان هتلر قد بناه مقابل خط ماجينو)، ولم يحدث اشتباك بين قوات الطرفين، إلى 11 مايو 1940، حين انطلقت عشر فرق ألمانية مدرعة، وست فرق آليات في اتجاه الغرب، وراحت تزحف بسرعة، عبر الأراضي البلجيكية، والتفت حول خط ماجينو، وفوقها مظلة من الطائرات الألمانية تحميها، وتسبقها، وتمهد لها السبيل، بإلقاء قنابلها على مواقع الخطوط الخلفية الفرنسية، وتقصف كذلك خطوط السكك الحديدية، والطرق البرية الرئيسية، لتمنع وصول الإمدادات والمؤن إلى القوات الفرنسية، وعبرت سبع فرق ألمانية نهر الأردين Ardenne، وتمكنت من الوصول إلى نهر "الموز"، خلال ثلاثة أيام. ثم في اليوم التالي 14 مايو 1940، واصلت زحفها، فعبرت النهر من جهات ونيانت، وجيفيت، ومونترمي، وسيدان، وحين حاولت الفرقة المدرعة الفرنسية الأولى التصدي للهجوم، في يوم 16 مايو 1940، في غربي منطقة تامور، حاصرتها المدرعات الألمانية، وسحقتها تماماً. وسارعت القيادة الفرنسية إلى نقل الفرقة الثانية المدرعة بالقطار إلى هرسون، ولدى وصولها، دمرها الألمان عن آخرها. وحدث الشيء نفسه مع الفرقة الثالثة المدرعة.

في 18 مايو 1940، وصلت الفرق الألمانية السبع إلى منطقة "سان/ كانتان"، وهناك تصدت لها الفرقة الرابعة المدرعة، وهي الفرقة التي تولى شارل ديجول قيادتها، اعتباراً من 11 مايو 1940، وصمدت تلك الفرقة أمام الهجوم الألماني، بل كبدت الألمان خسائر كبيرة، وتمكنت من التقدم نحو عشرين ميلاً، ولكنها اضطرت إلى التراجع؛ بسبب القصف المركز، من طائرات الـ "ستوكا" الألمانية.

وفي اليوم التالي 19 مايو 1940، تقدمت قوات ديجول مسافة ميل، في هجوم مضاد، ولكنها اضطرت إلى التراجع مرة أخرى. وظلت هذه القوات صامدة أمام القوات الألمانية تسعة أيام أخرى، أي إلى يوم 28 مايو 1940، بل حاولت في ذلك اليوم تدمير رأس الجسر، الذي أقامته القوات الألمانية عبر نهر السوم La Somme، عند أبفيل Abbeville، ولكنها فشلت. وفي ذلك الوقت جاءت الأخبار باستسلام الجيش البلجيكي، بجميع أسلحته إلى الألمان، وانسحاب الجيش البريطاني من دنكرك، ورغبة قيادة الجيش الفرنسي في الاستسلام، وكل هذا، إضافة إلى الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد، وعدم وصول إمدادات، فتّ في عضد ديجول وقواته، وجعل اليأس يدب إلى قلوبهم، وكان لابد من الانسحاب.

وبدأ الهجوم الألماني العنيف في 5 يونيه 1940، وتمكنت القوات الألمانية من عبور نهر السين Seine، من الشمال والجنوب، ومن ثم تمكنت من دخول باريس Paris، خاصة أن ذلك تواكب مع إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا.

أراد بول رينو Paul Reynaud، رئيس وزراء فرنسا، مواصلة المقاومة والاستمرار في الحرب، لكن كثيراً من كبار رجال القيادة العسكرية أبدوا يأسهم، وأعلنوا ألاَّ فائدة من ذلك، فاستقال بول رينو، وتشكلت حكومة فرنسية جديدة، قبلت الاستسلام، وإبرام الهدنة مع ألمانيا في 22 يونيه 1940. وبموجب تلك الهدنة، احتلت ألمانيا ثلثي شمال فرنسا، والشريط الغربي منها، على طول المحيط الأطلسي، ولم يتبق لفرنسا إلا الجنوب، وأصبحت فيشي هي عاصمة هذا الجنوب، وتولى المارشال هنري بيتان، وهو أحد أبطال الحرب العالمية الأولى، رئاسة حكومة فيشي، فأعلن تعاونه الكامل مع الألمان، الذين بادروا في نوفمبر عام 1942، إلى احتلال بقية فرنسا كلها.

لم يقبل اللواء شارل ديجول، الذي عُيَّن وكيلاً لوزارة الدفاع، اعتباراً من 5 يونيه 1940، هذا الوضع، وأبت وطنيته وحبه لفرنسا أن يرضى بالاستسلام للألمان، بعد تلك الهزيمة الساحقة، التي سقط فيها نحو 90 ألف جندي فرنسي قتلى، وسقط نحو 200 ألف آخرين جرحى، وبلغ عدد الأسرى والمفقودين نحو مليوني شخص، وسقطت باريس، وسُرِّح الجيش الفرنسي، ولم يبق منه إلاّ مائة ألف فرد فقط، لا يُسمح لهم باستخدام أي مركبات سوى الخيول والدراجات. ومن ثم، عزم شارل ديجول على تولي إدارة المعركة، من مسرح آخر، فلاذ بالفرار، في إحدى طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني إلى لندن، ومن هناك أدى دوره البارز في الحرب العالمية الثانية، وفي تحرير فرنسا، ليتبوأ منزلة الزعيم الفرنسي الأول في القرن العشرين.

كان شارل ديجول Charles de Gaulle، عسكرياً من الطراز الأول، وكان وطنياً محباً لبلده فرنسا. ولد في 22 نوفمبر 1890، في قرية كولومبي القريبة من مدينة ليل Lille، بفرنسا. نشأ نشأة متدينة؛ فقد كان أبوه ـ أستاذ الفلسفة والأدب في معهد الجزويت ـ يصحبه دائماً إلى الكاتدرائية القديمة، المبنى الرئيسي في مدينة ليل. بعد أن أتم ديجول تعليمه الجامعي في كلية سان سير Saint-Cyr العسكرية، التحق بالجيش في عام 1909، ضمن فوج المشاة الثالث والثلاثين، في أرّاس Arras، تحت إمرة العقيد هنري بيتان Pétain، وشارك في الحرب العالمية الأولى، ضابطاً في سلاح المشاة، وأبلى بلاءً حسناً، وجُرح ثلاث مرات، وأُسر في مارس 1916.

لدى عودته إلى فرنسا في 11 نوفمبر 1918، في عمليات تبادل الأسرى، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1921، عمل في هيئة أركان حرب الجنرال فيجان Le Généal Weygand، في بولندا، ثم عاد إلى فرنسا، ليتولى تدريس التاريخ العسكري، في كلية سان سير، حتى اختير لحضور فرقة دراسية في كلية أركان الحرب، ثم صار عضواً في الأمانة العامة للدفاع الوطني، وهي الهيئة الدائمة، التي يعتمدها رئيس الوزراء؛ لوضع الخطط والدراسات الحربية. ثم أُرسل إلى الشرق في جولة؛ لدراسة الأحوال هناك، ثم عاد إلى فرنسا عام 1932، ليتولى لأربع سنوات، منصباً رئيسياً في وزارة الدفاع. وطول تلك الفترة،عكف شارل ديجول على متابعة التطورات السياسية والعسكرية في أوربا، وأخذ يدون أفكاره وآراءه في مجموعة من المؤلفات، نشرها خلال الفترة 1924 ـ 1940، ضمَّنها تحليلات إستراتيجية وعسكرية قيمة متميزة، ومن هذه المؤلفات:

1. كتابه "الخلاف في صفوف العدو" La Discorde Chez L'ennemi، نشره عام 1924، واستعرض فيه طبيعة العلاقات بين القوى العسكرية والمدنية في ألمانيا.

2. وكتابه "حد السيف" Le Fil de L'epée، نشره عام 1932، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات، كان قد ألقاها في جامعة السربون، تبين مفاهيمه وأفكاره،حول موضوع القيادة والتنظيم، وبيَّن أنه ليس من المحتم دائماً على القائد، تنفيذ أوامر القيادة العليا حرفياً، بل عليه في المعركة، أن يتصرف على حسب ظروف المعركة، لتحقيق النصر، بحيث يجعل رجاله، على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، يعملون معه كفريق واحد. ثم لا بد أن يتميز بالقدرة على السيطرة على الأحداث والتأثير فيها، وأن يتحمل مسؤولية ما يترتب على أعماله، وألاّ يظهر انفعالاته. ثم انتقل إلى الكلام عن تاريخ فرنسا العسكري، وأسهب في تحليل أهم المعارك، التي خاضتها القوات الفرنسية في مختلف العصور. ودرس أسباب الهزيمة، وما كان ينبغي فعله لتحويل الهزيمة إلى نصر.

3. وكتابه "نحو الجيش المحترف" Vers L'armée de Métier، نشره عام 1934، ونادى فيه بوجوب الإسراع في إعداد جيش فرنسي محترف، جاهز للتصدي للمخاطر المستقبلية، يتميز بالحركة السريعة، والقدرة الفائقة على المناورة بالأسلحة الحديثة الفاعلة، خاصة الآليات والمدرعات، على أن يكون هذا الجيش في ظل زعيم محنك، وقائد قوي، ومعه نخبة مختارة من القادة الأكفاء. وتحدث عن الطبيعة الجغرافية للمنطقة، وهي الطبيعة التي تجعل من السهل غزو فرنسا من الشمال الشرقي، وطبيعة الأرض الألمانية، التي تسهل توجه الأطماع الألمانية إلى الاندفاع جهة الغرب، والوصول إلى باريس عبر بلجيكا، (وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك)، وضرورة أن تكون فرنسا في حالة استعداد دائم، وتأهب مستمر، مع إعداد مقاومة شعبية جاهزة ومدربة.

4. وكتابه "فرنسا وجيشها" La France et Son Armée، نشره عام 1938. انتقد فيه الجهاز العسكري الإداري بشدة وركز فيه، كما في سائر كتبه، على فكرة واحدة، وهي عظمة فرنسا La Grandeur Française، وبيَّن أن مصير فرنسا معلق بجيشها، وهو يعاني حالياً من تقصير وإهمال شديدين. كما بيَّن أن فرنسا لا يمكنها أن تصبح دولة عظمى، إلاّ بالقضاء على آفة تعدد الأحزاب، وأن عليها دوراً قيادياً في قارة أوروبا، بسبب وضعها التاريخي. وقد أثار الكتاب موجة عارمة من السخط، وتسبب في أزمة بين ديجول ورؤسائه العسكريين، وأُوقف نشر الكتاب حتى عام 1945، حين أُعيد نشره مرة أخرى.

ولقد عبَّر شارل ديجول، في مؤلفاته تلك، عن اعتراضه على أسلوب القيادة الميدانية الثابتة، وطريقة إدارة الحرب، وهاجم فكرة فرنسا في إقامة خط ماجينو، قائلاً:

"إن أي أمة بمقدورها أن تبني خطاً دفاعياً حصيناً تتحطم عليه هجمات أعدائها، ولكنها لا تستطيع أن تجبر عدوها على شن هجومه، عبر هذا الخط؛ فالعدو ليس بالغفلة التي تجعله يفعل هذا. ومن ثم، فإن اعتماد فرنسا على هذا الأسلوب، يعرض سلامتها للخطر، ويحد من فاعلية جيشها".

وأوضح شارل ديجول أن خط ماجينو محدود العمق، وعيبه الأساسي أنه يترك شمال شرقي فرنسا كله مكشوفاً أمام الأعداء، بما يمكنهم من الالتفاف حوله، (وكان هذا ما حدث بالفعل في الحرب العالمية الثانية)، فضلاً عن أن هذا الخط تطبيق نموذجي لفكرة الحرب الثابتة، وهي فكرة خاطئة لا تناسب مقتضيات الحرب الحديثة، التي تتسع ميادينها في البر والبحر والجو، والتي تتطلب إستراتيجية جديدة، تعتمد على تنوع مسارح القتال وميادينه، وسرعة الحركة، بما يواكب الاختراعات في أسلحة التدمير الحديثة، من ناحية القوة والمدى، والمفاجأة، والهجوم الخاطف، المعتمد على قوة مدرعات كافية، تضم أفراداً محترفين كاملي التدريب. وأوضح أنه، ما دامت فرنسا لن تستطيع، بحال من الأحوال، أن تساوي الألمان في القوة العددية، فلابد أن يتم تعويض ذلك من ناحية الكيف والنوع. ومن ثم، فإن فرنسا تحتاج، تحديداً، إلى ست فرق ثقيلة، وفرقة واحدة خفيفة، تتشكل جميعها، بحيث تشتمل كل فرقة على لواء مدرع من فوجين، أولهما: دبابات ثقيلة، وثانيهما: مدرعات متوسطة، إضافة إلى كتيبة مدرعات خفيفة، ولواء مشاة من فوجين، وكتيبة قناصة، ولواء مدفعية مزود بقطع، تستطيع التحرك في جميع الارتفاعات، ومؤلف من فوجين يستخدمان، بالتوالي، مدافع طويلة وقصيرة المدى، ومدافع مضادة للطائرات. على أن تضم الفرقة كذلك، فوج استكشاف، وكتيبة هندسية، وكتيبة استخبارات، وكتيبة تمويه، وكلها مزودة بمعدات حديثة سريعة.

يضاف إلى ذلك وجود احتياطي عام من الدبابات والمدافع الثقيلة، والمهندسين، ووسائل النقل والتمويه. ويحمي كل ذلك سلاح طيران قوي، قادر على الرصد والمطاردة والانقضاض. ولابد أن يكون مجموع أفراد الجيش مائة ألف فرد عامل، فضلاً عن أفراد الاحتياط.

ووصف أسلوب خوض المعركة بقوله: يتم حشد الجيش في ليلة واحدة، ليتحرك بسرعة من نقطة ما، في هجوم تبدأ به ثلاثة آلاف دبابة، بطول جبهة تبلغ خمسين كيلومتراً، تساندها المدفعية، وخلفها المشاة بأسلحتهم الآلية، وفوقهم الطائرات تتقدمهم وتحميهم. حتى إذا اخترق العدو خط ماجينو، يجد جيشنا يحيط به. ثم أوضح أهمية تأمين وسائل الاتصال اللاسلكية، باعتبارها وسيلة الربط الأساسية، بين عناصر الجيش. وختم كتابه بأن هذه التطورات المقترحة لابد لها من قائد كفء، مشهود له بالجرأة والموهبة والقدرة على التجديد.

وفي عام 1937، تولى قيادة "آلاي" الدبابات الرقم (507) في مدينة متز Metz، وهو برتبة عقيد. ثم في عام 1939، تولى قيادة لواء الدبابات الملحق بالجيش الفرنسي في اللورين. وفي مايو عام 1940، رقي إلى رتبة العميد، وتولى قيادة الفرقة الرابعة المدرعة، قبيل الهجوم الألماني على فرنسا بأيام. ثم اختير وكيلاً لوزارة الحربية الفرنسية، فحضر المؤتمرين، اللذين عقدا في لندن للتشاور بين حكومات الحلفاء، وهناك التقى ونستون تشرشل Winston Churchill، رئيس وزراء بريطانيا، وتوطدت الصداقة بينهما.

وبوجه عام، كان ديجول عسكرياً من الطراز الأول، وخبيراً إستراتيجياً، وصاحب نظريات، نالت إعجاب الجميع، حتى أعدائه، ونال شهرة ذائعة لبلائه المتميز في الحرب العالمية الأولى، وفي حربه ضد الروس في بولندا.

وكان ديجول يشعر بالمرارة والألم، وهو يرى القيادات، في بلاده، لا تأبه بأفكاره ومقترحاته؛ فقد كان يظن أن الجميع لابد أن يسارعوا إلى تنفيذ ما يقوله ويقترحه، خاصة حين أرسل فرانسوا بونسيه، سفير فرنسا في ألمانيا، ومعه الملحق العسكري الفرنسي، تقارير العرض العسكري الألماني الضخم في شوارع برلين، في مايو 1937، وحملت هذه التقارير الانطباع بأن القوات الألمانية لا يمكن أن يقف في طريقها شيء، إلاّ قوات مماثلة لها. وكذلك، حين جاءت الأخبار، في 11 مارس 1938، أن القيادة الألمانية أرسلت إلى فيينا فرقة آلية، أثارت الرعب عند النمساويين، لدى رؤيتهم إياها، ودخلت تلك الفرقة، وعلى رأسها هتلر نفسه، دخول الظافرين.

وتوالت التقارير، بعد ذلك، تبين أن الدبابات الإيطالية، والطائرات الهجومية الألمانية، تحقق النصر في كل أرض تدخلها، وأن القوات الألمانية قد اجتاحت تشيكوسلوفاكيا، في سبتمبر 1938، وخطب هتلر في برلين قائلاً:

"الآن أستطيع أن أعلنها صريحة، وأنتم جميعاً تعلمون ذلك، لقد حققنا درجة من التسلح، لم يسبق للعالم أجمع أن شهد مثلها قط".

وجاءت الأخبار باجتياح الألمان بولندا كذلك، في سبتمبر عام 1938، وفرنسا لا تحرك ساكناً، ولا تفعل شيئاً. ويقول شارل ديجول: "كانت فرنسا خلال هذه المآسي المتتالية مثل الضحية، التي تنتظر دورها في الذبح". بل وسارع بول رينو إلى إعلان أن هذا الجمود والانتظار له فوائده الجمة، بقوله: "إننا لنحتفظ، عن طريقه، بوحدة أراضينا، دون خسائر".

في 26 يناير 1940، حاول شارل ديجول حث الحكومة الفرنسية على التحرك؛ فوجَّه إلى ثمانين شخصية بارزة في الحكومة والقيادات العسكرية مذكرة يتكهن فيها بأن الألمان سيبادرون بالهجوم بقوات آلية هائلة براً وجواً، وأن بإمكانهم أن يخترقوا الجبهة الفرنسية في أي لحظة، ومن ثم لابد من حشد الوحدات الاحتياطية الممكنة، وتوحيدها معاً تحت قيادة واحدة. ولابد ألاّ يظل الشعب الفرنسي فريسة للوهم السائد بأن الجمود العسكري الراهن ينسجم مع طبيعة الحرب الجارية، وعلى العموم، مازال أمام فرنسا وقت لتتخذ الاستعداد اللازم.

ولكن هذه المذكرة لم تؤثر في شيء، ويبدو أن المسؤولين الفرنسيين لم يهتموا بها اهتماماً كافياً.