إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / الحرب البرية الجوية





مستويات الحرب
بناء النظرية العسكرية
بناء الدفاع المتحرك
أسلوب قتال نطاق الأمن
نطاق عمل القوات
معركة الكترا
المناورة الأمامية
المناورة الجانبية
الهجوم الخاطف المرحلة الأولى والثانية
الهجوم الخاطف المرحلة الثالثة والرابعة
الهيكل العام
الجزر الدفاعية الثابتة
الفكرة التطبيقية لنظرية الحرب
اختراق الدبابات لدفاعات العدو
عملية عاصفة الصحراء




المبحث الثالث

المبحث الثالث

العملية العميقة في العقيدة الغربية

بعد أن سادت نظرية الحرب الخاطفة، وإستراتيجية الاقتراب غير المباشر، معظم معارك الحرب العالمية الثانية، وبعد دخول العالم عصر القنبلة الذرية، جاء عصر الحرب الباردة، وكان الشكل المسيطر على العلاقات الدولية. وكانت إستراتيجية الرد التقليدي، والرد النووي، عامل الردع المميز بين دول الكتلة الشرقية والغربية، "حلف الناتو"، و"حلف وارسو"، وبدأ الباحثون في شئون الدفاع والأمن للدول الغربية، في إبداء تشككهم حول الأسس، التي ترتكز عليها الإستراتيجية الحديثة، وساد الاعتقاد بأن المناخ الإستراتيجي، قد تغير كثيراً. وهذا الأمر يتطلب تعديل المفاهيم السياسية والعسكرية الغربية، ولاسيما في ضوء النتائج الإستراتيجية، التي ترتبت على التكافؤ النسبي النووي للقوى العظمى، ودفع ذلك المهتمين بالنواحي الإستراتيجية، إلى البحث عن سبل جديدة لكسر الجمود في المأزق النووي، عن طريق إعادة النظر في الإستراتيجيات التقليدية.

في عام 1967م، تحول التركيز لدول منظمة حلف شمال الأطلسي، إلى تبني "إستراتيجية رد الفعل المرن"، وظهرت الحاجة إلى قوات تقليدية أكثر قوة، تكون قادرة على القيام بالدفاع المتقدم في ألمانيا، لفترة من الوقت، وأن تتوافر فيها المرونة في الحركة ورد الفعل، بما يتيح لقوات الناتو، في حالة فشل الردع التقليدي، أو عدم قدرة القوات التقليدية على الصمود في الدفاع، أن يتم اللجوء إلى تصاعد حجم التهديدات، مروراً باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، وتصعيداً لمرحلة استخدام الأسلحة النووية التعبوية والإستراتيجية. واعتمد الناتو سلسلة من الاستجابات المرنة، في رد الفعل لمواجهة التهديد السوفييتي، تمثلت في الدفاع التقليدي، والدفاع النووي، والانتقام النووي، وذلك بعد انخفاض مصداقية استخدام المنظمة للأسلحة النووية.

منذ أواخر الستينات، اهتم حلف وارسو بالتعزيز، الذي لا يلين للقوة التقليدية في وسط أوروبا، وفي الوقت، الذي انشغل فيه الغرب، حتى عام 1972م، خاصة فرنسا والولايات المتحدة، بالحرب في فيتنام، استغل السوفييت الحقبة لتحديث دبابتهم، وصواريخهم، وعقيدتهم، وتقوية قوتهم البشرية في أوروبا. ولأن الجيوش التقليدية للسوفيت ودول الكتلة الشرقية كانت ضخمة جداً، ولأن دباباتهم كانت متقدمة عددياً، على الدول الغربية، فلم يتمكن المخططون في دول الناتو، من إيجاد طريقة، تمكن قواتهم، وهي أصغر من قوات العدو، من صد أي هجوم محتمل من دول حلف وارسو، على أوروبا الغربية. ولذلك بحث الغرب في إيجاد وسيله للدفاع عن أوروبا الغربية ضد التفوق العددي السوفييتي.

جاءت الوسيلة من الدروس المستفادة، والخبرة المكتسبة من عمليات الشرق الأوسط، في حرب أكتوبر 1973م، خاصة في مجال استنزاف القوات المهاجمة، وصدها ثم تدميرها، وتوجيه الضربات المضادة خارج الحد الأمامي للدفاع، وتوجه ضد احتياطات العدو في العمق. وأصبحت الرؤية أوسع لتوسيع أرض المعركة وتعميقها، وأصبح البحث في سبل صد النسق الأول، واستخدام أسلحة ذات تقنيات عالية، وذات مدى أكبر لتدمير النسق الثاني، وأي قوات دعم لها، وجاءت فكرة الدفاع النشط.

أولاً: نظرية الدفاع النشط Active Defense

في عام 1973م، قام جيش الولايات المتحدة، بتشكيل قيادة التدريب والعقيدة[1] Training and Doctrine Command  TRADOCالتي أسست، عام 1976م، عقيدة جديدة للجيش أطلق عليها "الدفاع النشط"، وكانت خطوة على الطريق؛ لمواجهة التهديدات السوفييتية المحتملة، وجاءت لتترجم حاجة منظمة حلف شمال الأطلنطي إلى الدفاع المتقدم على أنه منهج علمي، ومن ثم فقد حولت ما بدا ظاهرياً، وكأنه ضرورة إستراتيجية، إلى ميزة تكتيكية.

ثانياً: مفهوم الدفاع النشط

1. أحد أشكال الدفاع، الذي يتميز بالمرونة وخفة الحركة، ويعتمد على الاكتشاف المبكر لتقدم قوات العدو الرئيسة، والمناورة بالقوات والنيران؛ لقتال العدو على مواقع تعطيلية، تنظم مسبقاً، لكل عناصر تشكيل القتال، وباتباع أسلوب استنزاف قوات العدو على خطوط متتالية، وإيقافها ثم تدميرها بالضربات المضادة، وتهيئة الظروف للتحول للهجوم.

2. وبذلك تبنّى حلف شمال الأطلنطي، فكرة الدفاع على أساس مواجهة، ملاقاة، الضربة الرئيسية للعدو المهاجم، في الأمام ما أمكن. مع قبول المخاطرة المحسوبة على اتجاهات ثانوية وأقل تهديداً، والاستمرار في التأثير على العدو المهاجم بالمناورة بالقوات والنيران خلال عمق الدفاع، لتدمير العدو المهاجم وإيقاف تقدمه.

3. قد يشمل النظام الدفاعي، مناطق قتل مخططة مسبقاً، لسحب التجميع القتالي المعادى إلى مناطق، تم إعدادها، وتدميرها بالقوات والنيران والهجمات المضادة.

ثالثاً: خصائص الدفاع النشط

1. تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة، واستنزافه قبل وصوله للدفاعات الرئيسة، وذلك من خلال قتال تعطيلي، في منطقة القوات الساترة.

2. تقوم القوات المدافعة بالمناورة بالقوات، ارتباطاً بالمجهود الرئيس للعدو، وعلى خطوط، تم إعدادها مسبقاً. ومن ثم فإن أنسب قوات للدفاع هي القوات الميكانيكية والمدرعة.

3. توفير احتياطي أسلحة مشتركة، لتكثيف الدفاع ودعمه في الاتجاهات المهمة، وكذا تنفيذ الهجمات والضربات المضادة، داخل وخارج الحد الأمامي للدفاع.

4. تركز الجهود في منطقة الدفاعات الرئيسة، لاستنزاف العدو المهاجم، والتمسك بالأرض الحيوية، مع عدم السماح للعدو بالاختراق.

5. بعد نجاح معركة صد العدو واستنزافه، تتحول القوات إلى الهجوم، وقد يكون باستغلال نجاح الضربات المضادة، أو التحول إلى الهجوم المضاد العام.

رابعاً: الهيكل العام لبناء الدفاع النشط (اُنظر شكل الهيكل العام)

1. المنطقة الساترة

يخصص لها حجم مناسب، من القوات وأسلحة الدعم والمعاونة، وتعمل على خطوط متتالية، بهدف استنزاف العدو وتعطيله، أطول فترة ممكنة، ويرتبط زمن التعطيل بعدد خطوط التعطيل.

2. منطقة الدفاع الرئيسية

وهي المنطقة الممتدة، من الحد الأمامي للدفاع، حتى الحدود الخلفية، وتدار فيها المعركة الدفاعية الحاسمة، لتدمير القوة الرئيسة للعدو، وقد تشمل مناطق قتل مخططة.

3. المنطقة الخلفية

وهي المنطقة الممتدة، من الحد الخلفي لمنطقة الدفاع الرئيسية، وحتى الحدود الخلفية للتشكيل، ويوجد فيها الأنساق الثانية والاحتياطات والعناصر المعاونة.

خامساً: إستراتيجية الدفاع النشط لحلف شمال الأطلسي

يُعد المفهوم الفكري للدفاع النشط، عن دول حلف شمال الأطلنطي، في أوروبا الغربية، نموذجاً لمنهج تحليل النظم، حيث صور أرض المعركة على أنها خريطة وصفية هائلة، مقسمة إلى مناطق متشابكة، طبقاً لمواصفات نظم الأسلحة المتمركزة فيها، من حيث المدى، وسرعة الرمي، ونسبة الإصابة، وذلك في مفهوم متكامل من ثلاثة عناصر رئيسة، تشمل الآتي:

1. تمركز قوات حلف شمال الأطلسي، في خطوط دفاعية، طولية متتالية، على خط المواجهة الفاصل بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، سابقاً، بحيث تتشابك ميادين الرمي بين الوحدات والوحدات المجاورة، وذلك بهدف خلق حائط نيران كثيف، يستحيل اختراقه، من دون تحمل خسائر فادحة.

2. في حالة الاختراق، تقوم قوات الحلف بالارتداد، بهدف المحافظة على تماسك خط الدفاع، وتمكينه من إعادة تشكيل حائط النيران لصد الهجوم.

3. الاعتماد على التحرك على طول خط الدفاع، بهدف تعزيز نقاط الاختراق المحتمل، بعد أن تتضح المحاور الهجومية للقوات السوفييتية.

4. وكان الهدف الأساسي، من مفهوم الدفاع النشط، هو تأسيس خط دفاعي فريد، يستطيع استنزاف أكبر قدر من العتاد الحربي، للقوات السوفييتية؛ لإضعاف قدرتها الهجومية.

سادساً: الجدال حول عقيدة الدفاع النشط

فور صدور عقيدة الدفاع النشط، قوبلت هذه الأفكار بجدال وانتقاد شديد، من داخل المؤسسات العسكرية الغربية وخارجها، استمر هذا الجدال مدة خمس سنوات، مما أدى إلى جدال مذهبي حاد، حول الأسلوب الأمثل لمواجهة التهديد العسكري السوفييتي.

كانت أبرز الانتقادات التي وجهت إلى العقيدة الآتي:

1. يغلب عليها الطابع الدفاعي، الذي اعتمد عليه مبدأ الدفاع الفعال، واتهمه النقاد بأنه لا يبشر في أحسن الأحوال، إلا بإرجاء الهزيمة، وهو لا يقدم وسيلة للوصول إلى هدف الحرب، وفي سعيه للقيام بالتزامه العقائدي المتمثل، في "كسب المعركة الأولى"، وانشغال القوة العسكرية بها، إلى الحد الذي يضعف كل شيء حول "كسب المعركة الأخيرة".

2. تجاهل العقيدة لبعض الأمور التكتيكية، مثل المبادرة، والروح المعنوية، والروح الهجومية، وأهمية النيران، على حساب المناورة.

3. صعوبة تنفيذ فكرة خط الدفاع الطولي، وأسلوب تعزيز مواقع الدفاع، وصعوبة تنفيذ المناورة العرضية، الحركة الجانبية، للقوات الصديقة في مواجهة التشكيلات الضخمة لحلف وارسو، التي تخلق معدلات عالية من القوة القتالية، قوات ونيراناً، في هذه المناطق، التي تكون، باستمرار، على نحو ساحق في صالح المهاجم، إضافة إلى تداخل ميادين الرماية، وخطوط الإمداد، وتعقيدات أخرى، مرتبطة بتنسيق التحركات لدول مختلفة من حلف الأطلنطي.

4. تجاهل العقيدة التحديثات المذهبية، التي أدخلتها القيادة السوفييتية على خطة عملياتها، حيث بدأ المذهب العسكري السوفييتي، منذ السبعينات، في الابتعاد عن نمطه التقليدي، الذي اعتمد على الهجوم الشامل، على عدد محدود من المحاور، بهدف تركيز الهجوم على نقاط محددة في دفاع العدو. إلا أن تجربة حرب أكتوبر 1973م، أثبتت مدى خطورة تركيز القوات المدرعة في محاور ضيقة، وذلك لانكشافها أمام الصواريخ المضادة للدبابات، مما دفع القيادة السوفييتية، إلى توسيع نطاق الهجوم على عدة محاور، بحيث تتمكن من تهديد نقاط الضعف في كل جبهة للدفاع، مستخدمة في ذلك ما سميت آنذاك، بوحدة التحرك العملياتي Operational Maneuver Group، التي تستطيع العمل بشكل مستقل، واستهداف أي نقطة في التمركزات الدفاعية للعدو. وكان هذا التحول، في نمط العمليات السوفييتية، سبباً في تقويض الأسس، التي ارتكز عليها الدفاع النشط، حيث إن نظرية الدفاع النشط تأسست على افتراض إمكانية كشف المحور الرئيس للهجوم السوفييتي، وتركيز النيران ضده. غير أن التحول السوفييتي، نحو هجوم متعدد المحاور، جعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحصين خط الدفاع بأكمله، تحسباً لاحتمالات الخطأ في تقدير النقاط الرئيسة المستهدفة من قبل وحدات التحرك السوفييتية.

5. تجاهلت العقيدة التهديد المتمثل، في قدرة القوات السوفييتية، على استثمار تفوقها العددي لتنظيم عملية هجومية، في شكل موجات متتالية، وانحصرت الرؤية على البعد التكتيكي، من دون النظر إلى تحليل لشكل العملية الهجومية الإستراتيجية. وإذا نجحت القوات المدافعة في صد النسق الأول وتدميره، فماذا عن الثاني والثالث؟، عندها سينهار الدفاع أمام هجوم موجات متتالية، حيث إن وصولها إلى المعركة الأمامية، سيؤدي إلى استنفاد قدرة الدفاع على استمرار تماسك حائط النيران، حتى إذا تمكنت من التغلب، تكتيكياً، على الموجات السوفييتية الأولى، ويتضح من ذلك أن تركيز التخطيط لكسب المعركة التكتيكية، أغفل العملية الإستراتيجية الشاملة.

تركت الانتقادات أثراً في صياغة عقيدة الدفاع النشط، وتكاثرت الأصوات المعارضة لنمط العمليات المقترح، وكانت المشكلة الأساسية، في الموجات المتتالية، أو الاحتياطات السوفييتية، التي تتشكل منها الموجات المتتالية. وتركز النقد على الإطار الفكري، الذي يتبلور فيه مفهوم عقيدة الدفاع النشط، ومن ثم فإن مواجهة التهديد العسكري السوفييتي، كان يجب أن تبدأ بتغير المفاهيم، التي حكمت العقيدة، حتى يمكن توسيع الأبعاد المادية والفكرية، التي تحدد التصور العام للعمليات العسكرية.

سابعاً: البحث عن نظرية جديدة للحرب

إن النجاح للوصول إلى فكرة جديدة للحرب، تبلور في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وذلك لإحداث تغير عقائدي، وتمثل منظور حلف شمال الأطلسي في توفير دفاع أمامي معقول على المستوى التقليدي، والبحث عن وسيلة لإبقاء الاحتياطات، أطلق عليها اسم "القوة المساندة"، أو النسق الثاني، أو الأنساق الثانية، لقوات حلف وارسو خارج المعركة، أو على الأقل السماح لها بدخول المعركة، في الزمان والمكان الأكثر مناسبة بالنسبة لقوات حلف شمال الأطلسي، وطالما كانت احتياطات قوات حلف وارسو، خارج المعركة الأمامية، فإن فرص نجاح قوات الأطلسي في تحقيق دفاع أمامي ناجح تصبح أفضل. وبدأ التفكير في التحرر من المعركة التكتيكية، إلى التفكير في العملية الإستراتيجية.

شهدت المؤسسات العسكرية الغربية، بريادة أمريكية، حركة فكرية، من خلال دراسة النظريات العسكرية القديمة وفلسفة الحرب، خاصة كتابات المفكر العسكري البروسي الشهير "كلاوزفيتز"، التي ساهمت في النهضة العسكرية الألمانية، منذ عام 1834م. وكان لنظريات كلاوزفيتز، أثر بالغ في تطور الفكر العسكري، مثل نظرية الحرب المطلقة، وقاعدة مركز الثقل، وقاعدة تحديد طبيعة الاشتباك، واجتهاداته الفلسفية، حول العلاقة بين الحرب والسياسة، وطبيعة ظاهرة الحرب، وفي هذا الإطار انتقى الفكر العسكري مفهومين للاستفادة منهما.

1. المفهوم الأول

أطلق عليه الفكر العسكري الألماني "الاحتكاك" Friction، وهو مصطلح يشير إلى كل ما من شأنه إحداث فجوة بين الأهداف، والمحصلات النهائية، لتطور الواقع، أي بين التخطيط والتنفيذ على أرض الواقع، وكان كلاوزفيتز يعني بها العوامل التي يصعب التنبؤ بها، والتي تجتمع لتؤدي إلى انحراف العملية الحربية، عن مسارها المقصود، مثل الروح المعنوية، وطبيعة الأرض، وحالة الجو والطقس، ورد فعل أعمال العدو.

2. المفهوم الثاني

هو فكرة وجود "مركز ثقل"، أو مركز جاذبية Center of Gravity، في جسم أي قوة عسكرية، وجوهر المفهوم؛ يتمحور حول افتراض وجود نقاط، أو مواقع أساسية، يرتكز عليها عمل المنظمة العسكرية بصفة عامة، ومن ثم، استهدافها بنجاح، يترتب عليه انهيار كامل في صفوف القوة العسكرية للعدو، وعرفها كلاوزفيتز، بالآتي: 

"هي القطب الذي منه تنبع كل مصادر الحركة والقوة"

كان من نتيجة تنامي الاتجاهات الفكرية، ظهور جدال فكري حاد بخصوص اختيار الإستراتيجية المناسبة، لصد الهجوم السوفييتي، وانقسم الجدال إلى نظريتين للحرب، كالآتي:

أ. حرب الاستنزاف

(1) يرجع تاريخها إلى إستراتيجية فابيوس (275 ـ 203) ق.م، للمماطلة والإجهاد، وجنكيز خان (1155م-1227م)، وطبقت خلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861م ـ 1865م)؛ ولذلك يعدها المفكرون نمطاً، اعتادت عليه القوات الأمريكية بمفهوم حديث.

(2) وتبنى على افتراض أن الفوز في الحرب، يأتي من تدمير مواطن القوة للعدو، والتي تتجسد في قدراته المادية، ومن ثم فإن الجهد الرئيس يجب أن يركز على التدمير، كما أن محور اهتمام التخطيط العسكري، يجب أن ينصب على كشف نقاط القوة للعدو، ثم استهدافها، لتوجيه أكبر قدر من القوة النيرانية ضدها، ومن ثم فإن التدمير يصبح هدفاً عسكرياً، في حد ذاته، وتتحول القوة العسكرية إلى آلة تدمير هائلة.

(3) وكان دعاة هذه النظرية، يرون أنها الطريقة الوحيدة؛ لإقناع القيادة السوفييتية بوقف هجومها، في حالة فشل الردع، وتكبيد القوات المعادية أكبر قدر من الخسائر المادية والبشرية، واتخاذ دفاعات متقدمة على الحدود الألمانية؛ لإيقاف تقدم القوات المعادية، قبل عبورها إلى ألمانيا الغربية، وحرمانها من احتلال أراضي تستغلها أوراقاً، عند التفاوض حول وقف إطلاق النار.

ب. حرب المناورة

(1) تعود إلى مفاهيم "سن تزو" 512 ق.م، وقواعد بيليزير عن الحرب (494م ـ 565م) وفردريك الثاني (1712م ـ 1786م)، وجوميني وكلاوزفيتز (1834م)، وفون مولكته 1850م، وفون شيلفن 1891م، وتكتيكات لودندورف (1865م ـ 1937م)، ومفاهيم الحرب الخاطفة الألمانية، إبان الحرب العالمية الثانية (1939م ـ 1943م) وإستراتيجية الاقتراب غير المباشر. 

(2) وفي تحليل للحرب الخاطفة، وإستراتيجية الاقتراب غير المباشر، نجد الآتي:

(أ) أن العقيدتين مترابطتان ومتكاملتان، تعتمدان على القوات خفيفة الحركة، والقوة النيرانية العالية، والسيطرة الجوية، على أنها أدوات ووسائل لتطبيقها.

(ب) أن الهدف الرئيس هو حسم المعارك، وتحقيق نصر سريع، بالتركيز على نقاط الضعف المعادية، وسرعة الوصول إلى عمق العدو ومؤخرته.

(ج) أن جوهر العقيدة يتركز على العامل المعنوي، لإحداث أثر نفسي على العدو، وشعوره باليأس، الذي يؤدي إلى الانهيار المادي.

(د) أن المبادئ الرئيسة للعقيدة، تتركز على المفاجأة، والمبادأة، والسرعة، والحشد - تحقيق تفوق محلي.

(هـ) أن مقومات نجاح العقيدة، يعتمد على توجيه الضربات السريعة المتلاحقة، ضد نقاط ضعف العدو، وتنفيذ العملية بوتيرة، تفوق قدرة نظام قيادته على التعامل معها، وتوليد الفوضى والارتباك، في الجسم العسكري المعادي، وهذه الأمور تتراكم، كلما ازدادت وتيرة العمليات الموجهة ضده، وتنتهي بانهيار شامل لمركز الثقل المحوري، في بنيان المنظمة العسكرية، وهيكل القيادة.

(و) أن الانهيار المادي للعدو، يرجع للتأثير الناتج عن ارتفاع وتيرة العملية العسكرية، وانعكاس ذلك على حركة سير المعلومات، داخل التنظيم العسكري للعدو، وإضعاف قدرته على تكوين صورة واضحة لمحيطه الخارجي،وهذا ما يترتب عليه تآكل قدرة هيكل القيادة في متابعة الموقف، والسيطرة على حركة القوات. وتبدأ عملية التآكل فور اختراق الدفاعات الأمامية للعدو، وتنتهي بضرب مواقعه الخلفية. ومع استمرار العمليات تكثر تقارير الموقف، وتزيد الموقف غموضاً، نتيجة للكثرة والسرعة، التي ترد بها، وعدم توفر وقت لتحليلها وتقويمها، فيبدأ الارتباك والشلل في هيئات القيادة المعادية والانهيار المادي لقواته.

(ز) إن أهم مزايا العقيدة هو تحقيق نصر حاسم وسريع، ضد عدو متفوق عدداً، في حالة التفوق النوعي في الأسلحة، والمعدات، ووجود منظومة مخابرات، واستطلاع، وتوفير موقف جوى مناسب، ونظام قيادة وسيطرة متطور، مع توفير أسلحة ردع تقليدية أو غير تقليدية.

(3) إن حرب المناورة تعتمد على الكثير من مفاهيم الحرب الخاطفة، خاصة الكشف عن نقاط الضعف في بنيان العدو، وتفادى نقاط القوة، بدلاً من مواجهتها، اعتماداً على مركز الثقل. وقد اختلفت نظرية حرب المناورة في نظرتها للمعركة التكتيكية، فهي لا تراها هدفاً في حد ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق هدف أشمل، وهو الوصول إلى مركز ثقل العدو. ومن ثم فإن قيمتها العسكرية تكمن في أثرها الإجمالي على مسار العملية العسكرية بصفة عامة، ويفسر هذا محور اهتمام حرب المناورة، إلى مستوى يتعدى البعد التكتيكي، اصطلح على تسميته مستوى العمليات Operational Level، المستوى التعبوي، حيث تدار فيه عملية تنسيق المعارك التكتيكية، وفي مجملها تمتد آثارها؛ لتشمل مسرح العمليات أو المستوى الإستراتيجي.

(4) ارتكزت المفاهيم الرئيسة لتطور حرب المناورة، على تصور مختلف للحرب، إذ تنظر إليها على أنها عمل خلاق، يعتمد على فن إدارة العملية العسكرية، وليس على المحصلة النهائية لمعادلات القوة بين خصمين.

من تحليل حرب الاستنزاف، وحرب المناورة، وتاريخ الحروب، والأدبيات العسكرية، خاصة في البحث عن وسيلة لاعتراض احتياطات حلف وارسو، تغيرت تدريجياً رؤية المخططين العسكريين لساحة المعركة، من تصور قائم على خطوط طولية متشابكة، في مناطق تتكاتف فيها النيران؛ إلى نظرة تشمل مسرح العمليات بأكمله، فتتحرك فيه القوات، بحرية، في كامل أبعاده، بحيث تجتمع لضرب العدو في أقصى أعماق دائرة عملياته. ومن هنا، جاءت فكرة العملية أو المعركة العميقة Deep Battle في عام 1981م.

ثامناً: العملية العميقة

تعني فكرة العملية العميقة، أو ما أطلق عليه، "أرض المعركة الممتدة" Extended Battle Field، أن القتال لا يجب أن يجري على الجبهة الأمامية فقط، ولكنها تغطي عمق أراضي العدو، في الوقت نفسه، حيث يمكن اكتشاف الأنساق الخلفية، ومنعها من تدعيم القوات الأمامية. وتركز العملية العميقة أو الهجوم العميق، على دمج جميع الأرصدة العسكرية، البرية والجوية، في خطة عمليات منسقة، هدفها إضعاف قدرة العدو أو منعها من تنفيذ خطته المستقبلية، وليس تدمير العدو، في حد ذاته. فالفكرة، وراء اعتراض الأنساق الثانية للعدو، قامت على افتراض منع وصول الموجات الهجومية الأولى، وفق الجدول الزمني المحدد لها، عندها، سيواجه نظام القيادة السوفييتي، بوضع يصعب التكيف معه، نظراً لمركزيته الشديدة، وعقيدته العسكرية، المبنية على فرض خطته العسكرية بالقوة، دون النظر للمتغيرات، التي قد تؤثر على مجرى العملية.

1. الأساس الإستراتيجي لمفاهيم الهجوم العميق

أ. المساهمة في الدفاع الأمامي الفعال، عن الأراضي التابعة لحلف شمال الأطلنطي، وبما يتيح الوقت لسلطات حلف الأطلسي بدراسة، الموقف الإستراتيجي وتحليله، والتوصل إلى قرار التصعيد النووي المدروس.

ب. الهجوم في العمق، ينبغي ألا يتعارض مع أنظمة التنفيذ، أو إجراءاته، أو مدركاته، فيما يتعلق بوسائل، وقدرات منظمة حلف الأطلسي، على التصعيد النووي المتأني.

ج. الهجوم العميق، ليس بديلاً عن التصعيد النووي المتأني، سواء أكان ذلك في التخطيط العسكري، أم للقوات المتطورة لتنفيذ هذا التخطيط.

بعد ترسيخ مفاهيم العملية العميقة أو الهجوم العميق، الذي يهدف إلى العزل الإستراتيجي لميدان القتال، ظهرت أفكار عقيدتين جديدتين منبثقتين من أفكار الهجوم العميق، وهما:

أ. عقيدة الحرب البرية الجوية، التي ابتكرتها الولايات المتحدة الأمريكية.

ب. عقيدة قتال الأنساق الثانية، التي ابتكرتها قيادة قوات حلف شمال الأطلسي.

2. عقيدة قتال الأنساق الثانية[2]

تقوم عقيدة قتال الأنساق الثانية Follow on Forces Attack، على مهاجمة الأنساق الثانية واحتياطات قوات حلف وارسو، بواسطة وسائل النيران التقليدية، لتشمل الأنساق الثانية لقوات النسق الأول المهاجمة حتى عمق مدى نيران هذه الأسلحة. وتبنى هذه النظرية، على فرض أن القوات السوفييتية وقوات حلف وارسو، سوف يتم حشدها في تشكيلات كبيرة، أو ستظهر على شكل أنساق وحشود، تعد في حد ذاتها أهدافاً لوسائل النيران، لقوات حلف الأطلسي، التي يمكن تأخيرها أو تدميرها، أو إحداث إزعاج شامل لها قبل دفعها للاشتباك.

الهدف من العقيدة

(1) تهدف العقيدة إلى: "استغلال نقاط الضعف المعرضة في الأنساق الثانية، والاحتياطات المعادية، في مراحل التمركز أو الحشد أو التقدم لدعم الأنساق الأولى، وتدميرها" من خلال الآتي:

(أ) أساليب القتال في العقيدة الشرقية، الخاصة بالهجوم متعدد الأنساق.

(ب) كثافة القوات على طول محاور الهجوم المحدودة، في مسرح العمليات الأوروبي.

(ج) تسهيلات النقل وعقد المواصلات.

(د) إمكانات حلف شمال الأطلنطي من تقنيات التسليح المتطورة.

(2) الأهداف الإستراتيجية/ التعبوية

(أ) عزل الأنساق الثانية وتأخيرها وتشتيتها.

(ب) إرباك، قيادات العدو وقواته وإزعاجها، وحرمانها من تطوير أعمال القتال، ودفع الأنساق الثانية، في الوقت والزمان والظروف المناسبة.

(ج) إحداث أثر نفسي عميق، وخلق شعور بالعجز واليأس، بين القوات والقيادات.

(د) إعداد وتطوير أسلحة ردع تقليدية؛ لإحداث أكبر الخسائر في قوات حلف وارسو.

(هـ) مهاجمة قوات العدو، في الزمان والمكان، اللذين يفتقر فيهما إلى الحصانة بدرجة كبيرة.

تاسعاً: قوات ووسائل القتال

تُعد القوات الجوية، والصواريخ أرض/ أرض، أهم وسائل القتال، إضافة إلى وسائل الحرب الإلكترونية وأعمال الخداع بمستوياته المختلفة. ويعمل كل ذلك في تعاون وثيق مع قوات الأنساق الأولى وعناصر التأمين. وعلى هذا الأساس وضعت دول حلف شمال الأطلنطي إستراتيجية تعزيز القدرات التقليدية للحلف، بهدف تطوير وسائل القتال ونظم النيران التقليدية، بالاستفادة من التقنية الحديثة، حتى تعطي تأثيراً قوياً، يماثل تأثير الأسلحة الذرية التكتيكية أو يقاربه.

متطلبات النجاح

أ. منظومة مخابرات واستطلاع، على درجة عالية من الكفاءة.

ب. امتلاك أسلحة ردع تقليدية، لها القدرة على إقناع العدو، بعدم جدوى الهجوم وإيقافه، إما لعجز العدو عن الانتصار، أو لأنه لا يمكنه تحمل النفقات، التي قد ينطوي عليها الانتصار.

ج. وسائل حرب إلكترونية، وقوات جوية على درجة عالية من الكفاءة للعمل ضد الأنساق الثانية للعدو، وحماية وتأمين عمق المسرح للقوات الصديقة.

د. أهمية انتزاع المبادأة، واستمرار المحافظة عليها، وتحقيق المفاجأة.

هـ. تطوير نظم القيادة، والسيطرة المشتركة، للسيطرة على جميع أعمال القتال، ومواجهة سرعة وحدة تغير المواقف الطارئة في الحرب الحديثة.



[1] تختص قيادة التدريب والعقيدة، بإدارة النظم التعليمية في الدول غير الشيوعية، وإدارة المئات من مراكز التدريب، وتعطى اهتماماً خاصاً لبعض الأدوار مثل تعلم نظرية تقنيات التدريب المتقدم، وتوفير الدعم النظري لفكرة استخدام الجيش في الحرب، وإعادة تقويم العقائد، التي حكمت الأداء العسكري الأمريكي

[2] عقيدة قتال قوات حلف شمال الأطلسي