إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / أسس ومبادىء الأمن الوطني





نموذج مجموعة دول
نموذج لعدة منظمات
نموذج دولة واحدة
مهددات الأمن الوطني
هرم ماسلو
مستويات الأمن الوطني
الأمن القومي والسياسة الوطنية
تأثر الأمن الجماعي
تسلسل صياغة الالتزامات الأمنية
دور الدولة في حماية الأمن

نظرية ماهان
نظرية ماكيندر
نظرية القوى الجوية
نظرية سبيكمان



الفصل الثاني

ثانياً: نظريات الأمن الوطني ومستوياته

1. نظريات الأمن الوطني

وضع الإنسان، نصب عينيه، فكرة مثالية عن أمنه الذاتي، متخيلاً ما يصبو إليه من مأكل ومشرب وملبس، وأسرة ومسكن، ودخل ينفق منه، ويشتري به كل مستلزماته، الضروري منها والكماليّ.

وانتقلت فكرة الأمن المثالي هذه، إلى المجتمعات والدول، التي كونها الإنسان على مر العصور. ولم تكن الفكرة متطابقة في كل المجتمعات، فهي وإن تشابهت في مضمونها، إلاّ أنها اختلفت في طرق تحقيقها. فهناك دول زراعية، وأخرى صناعية، وثالثة تجارية. وكما اختلف مستوى البشر، طبقاً لما قدره الله لهم من رزق، وسعى كل فرد إلى رزقه، كما كتب الله له، فإن الدول كذلك اختلف مستواها، فهناك دولة غنية، وأخرى متوسطة الغنى، وثالثة فقيرة. وسعت كل دولة، من خلال إمكاناتها، إلى تحقيق فكرتها عن الأمن المثالي (الأمن المطلق) Absolute Security.

ساد المجتمع الدولي نظريتان متضادتان، لفكرة تحقيق الأمن المطلق. وكان مقياس تبني الدول لأحد تلك النظريتان، يرجع إلى المكانة الدولية للدولة:

أ. نظرية الدولة العالمية للأمن International State Security

مؤيدو هذه النظرية، دائماً من الدول العظمى والكبرى، عالمياً أو إقليمياً، لذلك فإنهم يرون ـ طبقاً لمفهوم النظرية ـ "أن الأمن المطلق لا يتحقق إلا في وجود دولة عالمية (أو إقليمية)، تحتكر كل أسباب القوى"، وهو مفهوم الولاية القوية نفسه، في الإمبراطورية قديماً.

النقد الذي وجه إلى هذه النظرية، يوضح أن الدولة العالمية، ما هي إلا مرادف للدولة القومية، ذات الصبغة السياسية الاستعمارية، "فكل ما تضيفه الدولة العالمية لقواها لتحقيق أمنها المطلق، هو انتقاص من أمن الدول الأخرى، التي أصبحت جميعها معرضة للخطر". أي إن تحقيق الأمن المطلق في هذه النظرية، يعتمد على القوة والإكراه للآخرين.

ب. نظرية المجتمع العالمي للأمن Universal Association

معظم الدول تؤيد هذه النظرية، فهي نظرية الأغلبية من الدول غير العظمى أو الكبرى، التي تخشى نفوذ القوى الكبرى والعظمى وهيمنتها، مما سينقص من أمنها بدلاً من بلوغه الكمال والمثالية. وتفرض هذه النظرية، نظرة معاكسة لسابقتها (نظرية الدولة العالمية للأمن)، لذلك فهي تقر "أنّ الأمن لا يحتاج بالضرورة وجود الدولة، وإنما يمكن تحقيق مفهوم جيد للأمن بانضمام الجميع إلى جمعية عالمية، دولاً وأفراد. وأن يكون العمل الجماعي، لصالح الجماعة كلها، هو الدعامة القوية لضمان الأمن". هو ما يعني الاختيار الحر لتطبيقات الأمن، دون إكراه من أحد، وهي النظرة الأقرب للمثالية.

ومن المفارقات أن الدول الكبرى إقليمياً، تعتنق النظرية الأولى على المستوى الإقليمي حيث تحاول أن تفرض نظرتها لمفهوم الأمن على الآخرين داخل الإقليم، بينما تؤيد النظرية الثانية في تعاملاتها الدولية. والملاحظ أن معظم هذه الدول، إما أن تكون تحت حكم الفرد (دكتاتورية مطلقة)، أو أن تكون ذات ميول توسعية عدوانية ومشمولة برعاية عالمية. ومثال ذلك إسرائيل ونظريتها الأمنية للحدود الآمنة، مع توسعها الدائم على حساب جارتها، وعدوانها الدائم على دول المنطقة[1].

وبالمثل فإن تركياً ـ في دورها الجديد في إطار النظام الإقليمي للشرق أوسطية، المشمول برعاية النظام الدولي ذي الهيمنة القطبية المنفردة ـ أصبحت ممارساتها تتسم بالعدوانية، في مواجهة جاراتها. فهي تقتحم حدود العراق، لتطارد أكرادها الهاربين في المنطقة الحدودية العراقية. وتعتدي على حصص المياه لنهري دجلة والفرات، بدعوى أن المنابع في أراضيها، مهددة سورية بالعدوان، لتمنعها من إحالة المشكلة للمجتمع الدولي، ثم تقيم علاقات إستراتيجية، في إطار تعاون عسكري ذو مفهوم عدواني ردعي، مع إسرائيل تحت مظلة عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكلا الدولتين (تركيا وإسرائيل)، تنادي بإتباع القوانين الدولية، عندما تعترض سياستها دولة كبرى، مع أن كلاً منهما لا تتبع هذه القوانين، مع غيرها من الدول.

كذلك فإن العراق، تسارع إلى الأمم المتحدة تشكو لها، وتطالب برفع الظلم عنها، عندما تعترض تصرفاتها دولة كبرى أو عظمى، أو حتى دولة إقليمية أقوى. وهو ما فعلته مراراً مع إسرائيل ـ عندما قصفت جواً المفاعل النووي العراقي ودمرت منشآته ـ ومع إيران عندما استطاعت إيقاف الهجمات العراقية، وتحولت إلى الهجوم واحتلت جزءاً من الأراضي العراقية، في حرب الخليج الأولى. بينما تمارس، العراق، القوة وانتهاك أمن الآخرين (هاجمت إيران عام 1980، وغزت الكويت عام 1990، وهددت المملكة العربية السعودية في الوقت نفسه، واخترقت حدودها فيما عرف بمعركة الخفجي 1990).

2. مستويات الأمن الوطني

عندما اتضح أن الأمن المطلق ـ المثالي ـ يصعب تحقيقه، وأن تعارض الأهداف والمصالح القومية للدول، توقعها في مصادمات، تكون من نتائجها انتهاك الأمن الوطني للفريق الخاسر، في كل أو بعض مكوناته. وضعف للأمن الوطني للفريق الغالب في بعض الأحوال، سعت الدول إلى علاقات دولية وإقليمية تزيد بها من صلابة أمنها الوطني، وتغطي نقط ضعفه، في إطار المصلحة العامة، وتتلاقى الأهداف دون تعارض، وهو أمر ليس بالسهل كذلك، يسعى لمصلحة مطلقة لتحقيق الأمن الوطني، وهي فكرة قريبة الشبه من الأمن المطلق. بل استطاعت المصلحة العامة المطلقة، أن تجمع بين دول أكثر عدداً، وأكثر اختلافاً في قاعدتها، التي يُطلب لها الأمن الوطني (خصائص الدولة وشعبها)، سعياً لتحقيق الأمن الوطني لكل منهم، بتحقيق أمن جماعي لهم جميعاً، خوفاً من تكرار تجربة أليمة مضت.

ومن هذا المفهوم، بدأ في الظهور عدة تكتلات، لها عدة أهداف على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وبدخول التعاون العسكري، تكتمل الصفة ليصبح التكتل ذا صبغة أمنية متكاملة. وتكررت ظاهرة مشاركة الدولة في العديد من التنظيمات، سعياً وراء مزيد من الضمان لأمنها الوطني، في بعض، أو كل مقوماته.

وصُنفت تلك التكتلات في مستويات، تتدرج من الفردية (الذاتية)، إلى الدولية (الجماعية)، لإدراك مجالاتها وتحديد اتجاهاتها الأمنية:

أ. المستوى الأول، الأمن الداخلي Individual Security

أدنى درجات الأمن، وأساسها أيضاً، وهو يُعني بالحالة التي يوجد عليها الفرد (المواطن)، من استقرار وطمأنينة، وعدم تهديد لوجوده وبقائه، لذلك يعرف أيضاً بمسمى "الأمن الفردي". وهو ذو مظهرين، أحدهما مادي، وهي مجالات الأمن الأساسية لدى الفرد (المواطن ) من مورد رزق يوفر ضروريات الحياة، له ولأسرته، من مأكل ومشرب وكساء، ومأوى (سكن) دائم وآمن، والاطمئنان على حياته وأسرته من اعتداء الآخرين. المظهر الثاني معنوي (نفسي)، يحقق الحاجات النفسية للإنسان من الاعتراف بوجوده وفائدته للمجتمع (البيئة)، الذي يعيش فيه، وأهمية نشاطه ودوره للجماعة والمجتمع، ومنحه مركزاً مميزاً في المجتمع تقديراً له.

هذا الشق الأمني (أمن المواطن الداخلي) هو من مسؤوليات الدولة، وشأنها الداخلي مع مواطنيها. ومحصلة تحقيق هذا الأمن لجموع الشعب كأفراد، وجماعات، وطوائف، ومدن وولايات (محافظات ـ أقاليم ـ مناطق) هو تحقق للأمن الداخلي، للدولة نفسها.

ومع ذلك، فإن المنظمات العالمية، والمؤسسات غير الحكومية، صاغة هذا الأمن في مواثيقها باسم حقوق المواطنة، أو حقوق الإنسان وغيرها. وهو ما يعكس قلق الدول الأعضاء في تلك المنظمات، أو الجماعات المؤسسة لها (في حالة كونها منظمة غير رسمية)، من انتهاك أمن المواطن (الفرد) وانعكاسات ذلك على أمن الدولة أو أمن المجتمع، الذي يمكن أن يستشري، فيصيب ما جاوره من دول ومجتمعات فيهدد أمنها.

ب. المستوى الثاني، الأمن الوطني National Security

القصد منه ضمان تأمين الدولة من الداخل، مع توافر القدرة على دفع التهديد الخارجي، وصولاً لتحقيق حياة آمنة مستقرة، في إطار حدود الدولة، والتزاماتها السياسية. وهو مستوى مركب من عدة جزئيات، فالأمن الداخلي لهذا المستوى يسمى الأمن المحلي Local Security، وهو جزء من البعد السياسي للأمن. والأمن الذاتي Regime Security جزء من الأمن المحلي، وهو أمن خاص بالنظام الحاكم، الذي يشمل إجراءات المحافظة على الشرعية الدستورية للحكم، أو إجراءات الحفاظ على الوضع القائم، وبقاء النخبة الحاكمة في السلطة.

ويطلق على هذا المستوى أحياناً "الأمن القومي"[2]، وهي تسمية مرادفة، دون أن يكون لها صفة قومية، كما يدل الاسم في بعض الدول. كما تعني في دول أخرى تجمع قومية بعينها. وهذا التفسير لمعنى "الأمن القومي"، يتداخل مع مستويات أخرى تالية.

ويعتبر الأمن الوطني، المستوى الأساسي للأمن، والذي تسعى الدول لتحقيقه، داخلياً وخارجياً. وتنهج كل السبل الممكنة في سبيل ذلك، بما فيها الصراع المسلح للدفاع عنه.

ج. المستوى الثالث، الأمن دون الإقليمي Sub-Regional Security

يُعني هذا المستوى، بتأمين متطلبات الأمن، لعدد محدد من الدول، في إطار مصلحة مشتركة، سواء كان ذلك من خلال ترتيبات أمنية فقط[3]، أو تنظيم كامل (منظمة). وتكون هذه الدول غالباً عضو في تنظيم أوسع، يتيح لها الاشتراك في منظمة (دون الإقليمية)، والتركيز على مصلحة مشتركة تجمع هذه الدول في التنظيم دون الإقليمي. مثال ذلك مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومجلس التعاون العربي، والاتحاد المغاربي، وكلها نشأت في توقيتات متقاربة، لأسباب مختلفة. فالأول أنشئ عقب اندلاع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، لمواجهة أخطار هذه الحرب[4] (العسكرية، والاقتصادية، والسياسية)، وتحقيق المصلحة المشتركة بين أعضاء هذه المنظمة، بسبب تخوفهم من تأثير الحرب على البعد الاقتصادي للأمن، خاصة إذا أثرت الحرب على صادرات النفط وأسعاره. ويجمع بين دوله، أيضاً، الأصول العرقية، واللغة، والدين، والتاريخ المشترك، وجميع دوله عضوٌ في تنظيم أوسع، (جامعة الدول العربية)، ذي صبغة قومية عربية فقط. أما الثاني فقد أنشئ لهدف اقتصادي في البداية، وهو تنمية اقتصاد دوله الأعضاء[5]، وعندما اختلفت وجهات النظر الأمنية للأعضاء (خاصة بعد غزو العراق للكويت)، لم يكن من الممكن استمراره، فتم حله. ومثل سابقه، فدوله جميعها أعضاء في تنظيم أوسع (جامعة الدول العربية). والثالث هو اتحاد دول المغرب العربي[6]، وهو تجمع كان الهدف منه اقتصادي وسياسي، ولكن فاعليته ضعيفة، حيث لا يوجد له إطار أمني حتى الآن، على الرغم من أن هدفيه هما أهم أبعاد الأمن الوطني. وقد يكون ذلك للمتناقضات التي تحتويها دوله الأعضاء. ومن المفارقات أن هذا التنظيم هو الوحيد ـ وقد يكون ذلك على مستوى العالم أيضاً ـ الذي تشارك دوله جميعاً في عضوية عدة تنظيمات أوسع (جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية)، وكل منهما له صبغة مختلفة تجتمع في دول الاتحاد.

ويرى بعض الدارسين، أن المنظمات دون الإقليمية، المتفرعة من تنظيم إقليمي أوسع (كما في حالة المنظمات الثلاث السابقة ومنظمة جامعة الدول العربية)، أنها تتيح خصوصية زائدة لأعضاء التنظيم دون الإقليمي، بما يفترض معه رؤى أمنية خاصة يحققها هذا التجمع (أمن الخليج والنفط، في حالة مجلس التعاون الخليجي)، والذي يُفضّل معه عدم إشراك التجمع الأكبر، من دون أن يتعارض ذلك مع أمن التجمع الأكبر، من منظور أن تحقيق الأمن للمستوى الأقل، يعاون على تحقيق الأمن للمستوى الأكبر.

د. المستوى الرابع، الأمن الإقليمي Regional Security

ظهر مصطلح "الأمن الإقليمي"، في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ليعبر عن سياسة تنتهجها مجموعة من الدول، تنتمي إلى إقليم واحد، وتسعى للتنسيق الكامل لكافة قدراتها وقواها لتحقيق استقرار لأمنها في محيط الإقليم، بما يردع التدخلات الأجنبية من خارج الإقليم، والدول المجاورة المهددة له. وقد انتشر استخدام هذا المصطلح عقب الحرب العالمية الثانية، بظهور تنظيم إقليمي اهتمت معظم دول العالم به، وهو جامعة الدول العربية. وقد أنشأتها الدول العربية عام 1945، اعتماداً على القومية العربية، التي تجمع شعوب هذا التنظيم. إضافة إلى تجاورها في المنطقة العربية لتجمع هذه الدول بين الأصل العرقي الواحد، والتشابه السكاني (دين ولغة وتقاليد) والانتماء الإقليمي الواحد، وهو ما لم يتجمع في أي تنظيم آخر[7].

التنظيم الإقليمي الآخر، المشابه، هو منظمة الوحدة الأفريقية، التي تضم كل دول القارة الأفريقية، أي أنه أنشئ على أساس جغرافي، وهو كسابقه (جامعة الدول العربية) ضعيف الفاعلية، وغير مؤثر في أي بعد من أبعاده الأمنية. ولم يحقق أي قدر من الأمن للقارة ككل، أو لأعضائه الذين يُنتهك أمنهم دوماً، في الصدامات والأزمات العالمية والإقليمية، وبين أعضائه أنفسهم.

وإذا كانت المنظمتان السابقتان قد فشلتا، في تحقيق الأمن لأعضائها، فإن اتحاد الأمم الأوروبية ـ وهي منظمة إقليمية أيضاً تضم معظم الدول الأوروبية، كان أساس نشأتها اقتصادي أولا ـ تمكن من حل معضلة الأمن الإقليمي، فيما واجهها من أزمات. واستخدمت أنواعاً متعددة من القوى (سياسية واقتصادية وعسكرية) لحماية أمنها، واستطاع أن يُجَمّعْ تلك القوى (البرلمان الأوروبي، العملة الأوروبية، والقوات الأوروبية) ليصبح له قدراته الخاصة المعبرة عنه بحق[8].

وإذا كان عددٌ من الكتاب والخبراء والباحثين، قد أجازوا التنظيم دون الإقليمي، في إطار التنظيم الإقليمي الأكبر، على أساس أن تحقيق أمن الأصغر يعاون أمن أكبر، فإن عدداً آخر، يعد التنظيمات دون الإقليمية مغرقة في الخصوصية، مفضلة أمنها القطري، على الأمن الإقليمي، وهو ما يحرم التنظيم الإقليمي من قواها وقدراتها الكاملة، ويضعفه أحياناً.

هـ. المستوى الخامس، الأمن الدولي Universal Security

قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بحثت الدول الكبرى المنتصرة (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، والمملكة المتحدة)، وضع صيغة أمنية عالمية. وإقامة تنظيم دولي جديد، يستند إلى مبادئ وأسس دولية، بعد ما تبين عدم فاعلية الهيئة السابقة (عصبة الأمم)، التي أنشأت عقب الحرب العالمية الأولى، ولم تستطع منع نشوب حرب عالمية أخرى، لعدم مواءمة أجهزتها وميثاقها لمتغيرات المجتمع الدولي.

صدر في 7 أكتوبر 1944 مقترحات للأسس والمبادئ، التي سينشأ عليها التنظيم الدولي الرسمي الجديد، تحت اسم "هيئة الأمم المتحدة"[9]، وتكونت لائحة المقترحات من ستة مبادئ. وكان المبدأ الخامس فيها ينص على: "مساعدة التنظيم الدولي، إذا اضطر إلى استعمال القوة.

صيغت المبادئ الستة، التي تكونت منها مقترحات دبرتون أوكس، وقد وافقت عليها الدول التي أعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها (40 دولة منهم المملكة العربية السعودية ومصر والعراق وسورية ولبنان)[10]، في ميثاق للأمم المتحدة، خلال مؤتمر سان فرانسيسكو (25 أبريل ـ 26 يونيه 1945) حيث وافقت 111 دولة على جميع مواد الميثاق، وقع منها 50 دولة عليه (منها الدولة العربية الخمس السابقة). وجاء في نص الفقرة الخامسة من المادة الثانية، من الميثاق: "يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون للأمم المتحدة في أي عمل تتخذه، وفق هذا الميثاق. كما يمتنعون عن مساعدة أي دولة تتخذ الأمم المتحدة ضدها عملاً من أعمال المنع أو القمع". وجاء في المادة 43 من الميثاق، تعهُد الدول الأعضاء بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه وطبقاً لاتفاق أو اتفاقات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن.

نتج عن هذا المفهوم للأمن الدولي، تدخُل مسلح لقوات دولية أو إقليمية، سواء استخدمت القوة، أو لوحت بها، وسواء كان ذلك بتفويض دولي أو إقليمي[11]، لفض المنازعات الإقليمية، ومنع تصاعدها إلى مواجهة دولية[12]، أو لرد العدوان عن الطرف الأضعف[13]، أو لفرض عقوبات دولية، لردع التهديد وعدم تصعيد الخلافات.

أوضح المفهوم الدولي للأمن ضرورة أن تضع الدول في حسبانها، اعتبارات الأمن الدولي، أثناء اتخاذهم قرارات لحل مشاكلهم مع الآخرين، مهما اختلفت توجهات الدولة أو عظمت قواها السياسية، أو العسكرية، أو الاقتصادية.

لم يكن من السهل، في ظل نظام دولي ثنائي القطبية (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي)، تطبيق المفهوم الدولي للأمن، كما وُضع في ميثاق الأمم المتحدة، لتعارض الرؤى الأمنية للقوى العظمى. فاستخدمت قوة دولية لغرض الأمن، في مرات قليلة. أما في عصر النظام العالمي ذي القوة القطبية الواحدة (الولايات المتحدة الأمريكية)، الذي بدأ تشكله عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990، فقد أصبح ميسوراً استخدام قوة دولية (أو إقليمية) لغرض الأمن من مناطق النزاع الإقليمية، وكثر استخدام تلك القوات في أنحاء العالم، تأكيداً للشرعية الدولية، وتثبيت دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين.

يسمي بعض المحللين هذا المستوى، "بالأمن الجماعي Collective Security"، وينسبونه إلى المنظمة الدولية (الأمم المتحدة)، كما نص ميثاقها. ويعتبرون تحقيقه مسؤولية جماعية، وليست مسؤولية قومية بعينها، أو إقليمياً بذاته. وهو يهدف إلى "منع تغيير الواقع، أو الإخلال بعلاقاته وأوضاعه، على نحو غير مشروع، وذلك عن طريق تنفيذ تدابير دولية جماعية كقوة ضاغطة ومضادة لمحاولات التغيير".

والحرص على تحقيق الأمن الجماعي، لا يلغي الاختلافات السياسية أو العقائدية بين الدول، الساعية إلى تحقيق مصالحها، وإنما يستنكر العنف المسلح كوسيلة لحل النزاع، ويفرض اللجوء للوسائل السلمية عوضاً عن الحرب. وترى فكرة الأمن الجماعي، أن إحباط عدوان أو ردعه، في المجتمع الدولي، لا يمكن تحقيقه من "خلال المنطق والأخلاقيات الدولية"، وإنما بمواجهته بقوة متفوقة عليه. فأما أن تردعه، أو تصرعه، وتطبق تدابير العقاب على الدولة المعتدية، مهما كانت مكانتها الدولية.



[1] احتلت إسرائيل في حروبها مع الدول العربية المجاورة أجزاء من سورية ولبنان ومصر والأردن، وأصبحت تحتل كل فلسطين. ولم تنسحب إلا من الأراضي المصرية. كما قامت بغارات عدوانية على المفاعل الذري العراقي، ومقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وعددٍ من عمليات الاستخبارات والاستخبارات المضادة، في جميع أنحاء العالم.

[2] يلاحظ أن مصطلحي الأمن الوطني، والأمن القومي لهما نفس الترجمة في اللغة الإنجليزية "National Security" ، وهو ما يتفق مع وجهة نظر بعض الدولة التي لا تفرق بين الأمن الوطني والأمن القومي في المعنى.

[3] تعقد الدول المشتركة معاً في حوض نهر واحد، ذي إمكانيات كبيرة، اتفاقيات ومعاهدات لتنظيم استغلال هذا المورد الطبيعي الحيوي، والذي تصل أهميته بالنسبة لبعض الدول، إلى أهمية الحياة والبقاء نفسه (مثل مصر والسودان، والدول الواقعة على نهر النيل، التي كونت معاً تكتلاً ـ الاندوجو ـ لاستغلال مياه النهر، وحمايته وتنميته).

[4] يضم 6 دول عربية، هي: المملكة العربية السعودية، الكويت، البحرين، قطر، سلطنة عمان، دولة الإمارات العربية المتحدة.

[5] ضم 4 دول عربية (مصر والأردن والعراق واليمن) وهي دول تعاني من مشاكل اقتصادية، لافتقارها لرؤوس الأموال، ولديها مشروعات للتنمية.

[6] تكوًن من الدول العربية في غرب العالم العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا)، وهي كلها دول أفريقية تمثل الطرف الشمالي الغربي من القارة الأفريقية.

[7] على الرغم من كل تلك الخصائص الدافعة لقوة هذا التنظيم الإقليمي، إلا أنّ تقييم أدائه منذ نشأته، التي تجاوزت نصف قرن من الزمان، وفي ضوء الصعاب التي واجهها، يعتبر كياناً أقل فاعلية نسبة لإمكانات الدول الأعضاء به في كافة المجالات، وهو ما يشير إلى أن هذه الإمكانات معطلة الفاعلية، في معظمها.

[8] يُلاحظ أن دول هذه المنظمة الإقليمية، من أصول عرقية مختلفة، وشعوب مختلفة في كل خصائصها، وأنظمة حكم مختلفة، ولا تشترك إلا في كونها ذات مصلحة واحدة.

[9] عرف باسم مقترحات دبرتون أوكس، نسبة إلى المدينة الأمريكية التي عقد فيها الاجتماع بين ممثلي الدول الكبرى والعظمى الثلاث المنتصرين.

[10] تمت الموافقة على تلك المقترحات قبل أول مارس 1945.

[11] المادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة، تبيح لمجلس الأمن إنابة التنظيمات الإقليمية لاتخاذ إجراءات قهرية لحفظ السلم والأمن الدولي.

[12] تدخلت قوة مسلحة تابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية لفض النزاع في ليبيريا عقب الانقلاب والحرب الأهلية فيها في سبتمبر 1990.

[13] حشدت الأمم المتحدة قوة مسلحة بلغت حوالي نصف مليون مقاتل من أكثر من ثلاثين دولة في أكتوبر 1990، لتحرير دولة الكويت بعد أن غزتها القوات العراقية في 2 أغسطس 1990، (تم تحرير الكويت في فبراير 1991).