إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / أسس ومبادىء الأمن الوطني





نموذج مجموعة دول
نموذج لعدة منظمات
نموذج دولة واحدة
مهددات الأمن الوطني
هرم ماسلو
مستويات الأمن الوطني
الأمن القومي والسياسة الوطنية
تأثر الأمن الجماعي
تسلسل صياغة الالتزامات الأمنية
دور الدولة في حماية الأمن

نظرية ماهان
نظرية ماكيندر
نظرية القوى الجوية
نظرية سبيكمان



الفصل الثاني

أولاً: أبعاد الأمن الوطني

أوضحت تعريفات الأمن الوطني، وجود أبعاد له، وهي مصدر قوته أو ضعفه. كما وضح كذلك تأثير تلك الأبعاد على بعضها، وأكدت تطبيقات الأمن الوطني هذا المنظور. كما تفيد أيضاً، أن هذه الأبعاد، إذا هُددت كلها أو بعضها، يصبح الأمن الوطني كله مهدداً، وأن ضعفها يهيئ سبل اختراقه.

   ويتكون الأمن الوطني، على أي مستوى كان، من عدة أبعاد أساسية، تختلف قوة كل منها، باختلاف خصائص الدولة. كما تتميز دول بقوة بُعْدٍ بعينه، عن غيرها من الدول، طبقاً لمكونات البعد وتعدد نقط القوة فيه. كما لا يشترط أن تكون نقطة القوة في بُعْدِ دولة، هي نقطة قوة نفسها لهذا البعد في دولة أخرى. ويترابط مكونات البعد، وتأثره بالأبعاد الأخرى، تكون قدرة الدولة وإمكانياتها:

1. البعد السياسي

يعتبر هذا البعد، من وجهة نظر الأمن الوطني، العنصر الأساسي، الذي يُحدد كيفية تنظيم وإدارة قوى الدولة ومواردها. وهو ذو شقين، سياسة داخلية، لإدارة المجتمع والتغلب على مشاكله، وسياسة خارجية، لإدارة مصادر القوة للدولة للتأثير على المجتمع الدولي، وسياسات الدول الأخرى، لتحقيق مصالح الدولة.

ومطالب هذا البعد، بالنسبة للسياسة الداخلية، هي استقرارها في إطار الشرعية الدستورية، وتوجيه التنافس للقوى الداخلية والاتجاهات السياسية لصالح الأمة. أما مطالبه للسياسة الخارجية، فهي نجاحها في تأمين متطلبات السيادة الوطنية، واحتياجات الدولة، دون خضوع لأي ضغوط خارجية.

ومكونات هذا البعد، في إطار السياسة الداخلية، هي: التعرف على الاتجاهات والقيم والأفكار المسيطرة على الحياة السياسية في الدولة، وتعدد الأحزاب (أو الجماعات) السياسية وقوتها وتنظيماتها، ومدى قوة جماعات المصالح أو مراكز القوى، وتأثيرها في الطوائف والنقابات والتنظيمات الشعبية المختلفة، والتعرف على الأهداف المعلنة، واستنتاج الأهداف غير المعلنة (من خلال تحليل السياسيات السابقة والمتبعة، وأثرها على أسلوب صنع واتخاذ القرار).

أما مكونات البعد، في إطار السياسة الخارجية، فهي: قدرة الجهاز الدبلوماسي وكفاءته، وأسلوب استخدام الدولة لمصادر قوتها، والمنظمات الدولية والإقليمية، وحشد الرأي العام، واستخدام القوى السياسية للدول الأخرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة، من أجل شرح أهداف الدولة، ومد نفوذها في المجتمع الدولي، وتحديد وإدارة السياسة الخارجية للدولة.

ويمكن في إطار هذا البعد، إقامة علاقات دولية وإقليمية، وعضوية أحلاف، وعقد معاهدات واتفاقيات، بما يخدم الأهداف الوطنية للدولة. ومن الضروري أن يساند هذا البعد، باقي أبعاد الأمن الوطني، ويدعمها. فمن غير المتصور وجود اقتصاد قوي، أو قوة عسكرية ذات فاعلية، من دون أن تدعمها سياسة قوية.

2. البعد الاقتصادي

تعطي القوة الاقتصادية للدولة، ثقلاً سياسياً على المستويين الإقليمي والعالمي. ويؤدي التكامل الاقتصادي مع دول أخرى، في إطار تنظيم إقليمي أو دولي، إلى عِظم عائد هذه القوة، وهو ما يحقق في الوقت نفسه الأمن الجماعي لتلك المجموعة.

ويمثل البعد الاقتصادي، القوي، ركيزة مهمة وحيوية للقوة العسكرية. وبتأمين الاكتفاء الذاتي من الاحتياجات، وتحويل الصناعات الحربية، لتأمين المعدات والأسلحة اللازمة للقوة العسكرية، وتدبير المال اللازم لشراء ما ينقص من السوق الخارجي، مما يقوى من تلك القوة. وتعود القوتان (الاقتصادية والعسكرية) بالفائدة على القوة السياسية إيجابياً. وبذلك، تتصاعد قدرة الدولة نتيجة مساندة كل قوة للأخرى، بالاستفادة من الإمكانات الكبيرة للقوة الاقتصادية. والعكس صحيح.

وتوصف القوة الاقتصادية بأنها من المتغيرات، مما يمكن معه بناؤها وتنميتها إطرادياً، دون نظر إلى المقومات الأساسية من المصادر الطبيعية. فاليابان إحدى القوى العظمى اقتصادياً (من مجموعة الدول السبع الغنية)[1] على الرغم من أنها لا تملك موارد طبيعية، ولا يوجد لديها أي مصدر طاقة طبيعي، وهي تستورد كل خاماتها من الخارج، إلا أنها دولة صناعية غزيرة الإنتاج، تتمتع بجودة فائقة لمنتجاتها، ولديها تقنية فائقة كذلك. وقد أمكنها الوصول إلى هذا المستوى المرموق ـ خاصة بعد هزيمتها واستسلامها غير المشروط، في نهاية الحرب العالمية الثانية ـ بتغيير قوتها الاقتصادية بالتصنيع المتميز، وهو المثال نفسه، الذي ضربته ألمانيا (الغربية) كذلك، بعد الحرب العالمية الثانية.

ويرتكز هذا البعد على العناصر الاقتصادية الرئيسية الخمس، زراعة، وصناعة، وتعدين (موارد طبيعية)، وتجارة، ورؤوس أموال (مؤسسات مالية ومصرفية):

أ. الزراعة

تعتمد الدول، بدرجات متفاوتة، على الاستيراد من الخارج لاستكمال احتياجاتها من المواد الغذائية والمنتجات الزراعية. فكما أن الأمن المُطلق لم يتحقق لأحد، فإن الأمن الغذائي المطلق أمر مستحيل. فلم تستطع دولة أن تنتج كل احتياجاتها الزراعية، حيث يتطلب ذلك أن تشتمل أراضي الدولة وأجواؤها على كل أنواع التربة، والظواهر الجوية، والمناخ اللازم لاستنبات كافة المزروعات، بل أن التقدم العلمي والزراعات المحمية، ما زالت عاجزة، حتى الآن، عن استنبات كل الأنواع، إضافة إلى تكلفتها المرتفعة.

ويتأثر هذا العنصر بعدة عوامل أساسية، منها نسبة ما تنتجه الزراعة منسوبة إلى احتياجات الدولة، ونوع ما ينتج ومدى احتوائه على الزراعات الإستراتيجية (الحبوب بأنواعها، خاصة القمح والأرز باعتبارهما الأكثر طلباً للغذاء) والمحاصيل الصناعية، أي تلك التي تدخل في الصناعة مثل القطن والكتان والنباتات الزيتية، والمحاصيل التصديرية أي تلك المطلوبة في الأسواق الخارجية لمميزاتها عن نظيرها في الدول الأخرى، مثل القطن طويل التيلة، والنباتات العطرية والطبية، والموارد المائية والعذبة اللازمة للزراعة.

ويمثل الفرق السالب، بين الإنتاج والاستهلاك في المحصولات الغذائية، ما يُسمى بالفجوة الغذائية. وكلمّا كثرت الأصناف والكميات المدرجة في قائمة تلك الفجوة، دل ذلك على ضعف مؤثر في الأمن الغذائي، ينعكس بقوة على القوة الاقتصادية. وقد يؤثر أيضاً على القوى الأخرى، باستنزافه لحجم كبير من الأرصدة المالية. وقد يصل الأمر إلى حد تهديد الأمن الوطني نفسه، إذا اشتملت القائمة على أصناف إستراتيجية تحتكرها قلة من الدول[2].

يلحق بالإنتاج الزراعي من المحصولات الغذائية، الثروة الحيوانية والأسماك وبعض المنتجات الحيوانية المهمة للغذاء، مثل الألبان والبيض، وكذلك الإنتاج الداجن، (اللحوم البيضاء). وهي في مجملها مكملة لقائمة الإنتاج الغذائي، أو مضافة إلى قائمة الفجوة الغذائية، إذا كان بها نقص عن الاستهلاك. وتُعتبر من نقاط القوة في الاقتصاد، عندما يتوفر حجم تصديري كبير منها، لشدة الطلب عليها في الأسواق العالمية، على أن تكون ذات صفات مميزة[3].

ويتطلب التغلب على نقط الضعف الزراعية (الغذائية)، إما زيادة الإنتاج الزراعي وتحسينه (إذا كانت المقومات مستوفاة، من أرض صالحة، ومياه وأحوال جوية مناسبة)، أو زيادة الإنتاج في قطاع آخر (الصناعة مثلاً)، لتوفير فائض مالي لاستيراد ما نقص. وهو بديل أضعف لصعوبة الاستيراد في حالة الحرب، أو عند حدوث طارئ ما يضعف من فرص الاستيراد[4]. أو زيادة الإنتاج في مكان آخر تتوافر به مطالب الزراعة، وهو ما يستوجب علاقات سياسية خاصة (بعض الدول العربية الصحراوية الطابع مثل دولة الإمارات العربية، كانت تدير مزارع ضخمة في دولة الصومال، قبل الحرب الأهلية).

ب. الموارد التعدينية

هي موارد طبيعية، تُكتشف في باطن الأرض، وتقوم عليها صناعة التعدين لاستخراجها، فإما تصدر كلها بحالتها الخام ـ كما في معظم دول العالم النامية ـ أو يُصَنّعْ جزء منها (حسب طاقة الدولة التصنيعية)[5]، لتصبح بنداً أساسيا في ميزانية الدولة، للاتفاق على المشروعات وتحسين الخدمات، واستيراد ما نقص في القطاعات الأخرى، لسد احتياجات السوق الداخلي والاستهلاك.

وتوجد الموارد التعدينية (الطبيعية) في مناطق متجاورة (غالباً)، ويسمها الجيولوجيين، حزام الإنتاج. وتؤدي تلك الظاهرة إلى تجاور الدول المنتجة، وقـد تتقاسم منطقة الإنتاج نفسها، التي يدور ـ غالباً صراع سياسي أو عسكري للسيطرة عليها، أو قانوني للاتفاق على نسبة الملكية. وقرب مناطق التعدين المتشابهة الإنتاج من بعضها، تجعل التنافس بينها شديداً، خاصة إذا أنشأت الدول المتجاورة صناعات تحويلية قائمة على تلك الموارد، لتتشابه المنتجات التصنيعية كذلك (هذه الظاهرة واضحة تماماً في الإنتاج النفطي).

وتصنف الموارد التعدينية إلى: موارد خطرة، وإستراتيجية، ومهمة، ودرجات أقل. وتعتبر المواد الخطرة هي الأكثر طلباً في العالم، لأهميتها في الحضارة الإنسانية، ومن أمثلتها مواد الطاقة بأنواعها (الفحم ـ والنفط ـ والغاز ـ والمواد المشعة أو القابلة للتخصيب الإشعاعي). أما المواد الإستراتيجية، فتشمل المعادن الصناعية، وعلى رأسها الحديد والنحاس، والمواد الضرورية في الصناعة كعامل مساعد مثل المنجنيز. والمواد ذات الاستخدامات المتعددة (الفوسفات حيث ينتج منه السماد الكيماوي لإخصاب الأرض الزراعية، وكذلك يستخرج منه اليورانيوم المشع بتكلفة قريبة من تكلفة استخراج الخام من الطبيعة)، والمعادن النفيسة، لندرة وجودها في العالم (مثل الذهب، والماس).

ويزيد من قوة الدولة الاقتصادية، امتلاكها مناطق لإنتاج المعادن (مناجم ـ آبار)، إلا أن اعتمادها كلياً على صادراتها من المواد الخام، يجعلها في قبضة الدول الصناعية، التي تستورد منها الخام محددة سعره، وتكتل الدول المنتجة يزيد من قوة المساومة عند بيعه، إلا أنه يقابله عادة بتكتل مضاد للدول المصنعة والتي في الغالب تكون المحتكرة لتسويق السلع المصنعة من ذلك الخام، ويعتبر خام النفط أفضل مثال لذلك.

أدى عدم توازن ذلك المورد (التعدين)، مع قوى الدولة الأخرى (خاصة) إلى احتلال الأرض من أجل الخام (عصر الاستعمار)، مما يؤدي إلى التبعية السياسية والعسكرية. أي أن عدم التوازن يساعد على تهديد الأمن الوطني للدولة. وقد يكون التهديد اقتصادياً، عندما تلجأ الدول المنتجة إلى التنافس، حيث يقل دخل الدولة من تصدير الخام، الذي تعتمد عليه اعتماداً كلياً في نفقاتها كدخل رئيسي لها. فتلجأ لزيادة الإنتاج لينخفض السعر أكثر، وتكون المشكلة حادة عندما تكون تلك المادة حيوية للعالم (مواد الطاقة وعلى رأسها النفط)، أي إنها لا تستطيع خفض إنتاجها خفضاً مؤثراً، لزيادة سعر البيع.

ويتأثر أمن الدولة الوطني، بمواقع مناطق إنتاج الخام، ودرجة قربها من الحدود (مناطق القتال المتوقعة مستقبلاً) حيث يمكن تدميرها وتعطيل الإنتاج فيها. أو قد يستولي عليها العدو (آبار النفط المصرية في سيناء، استولت عليها إسرائيل عقب حرب يونيه 1967، فحرمت مصر من هذه الثروة فترة طويلة، لحين استردادها). وكذلك، فإن الموارد التعدينية المهمة والخطرة، والضرورية للآخرين، تصبح مصلحة حيوية لهم، يهتمون بالدفاع عنها وتأمينها، وهو ما ينتقص من أمن الدولة الوطني، لاستخدامها قوات أجنبية (من تلك الدول ذات المصلحة الحيوية لديها أو غيرها) لتأمين مواردها التعدينية.

ومن أهم الحقائق في هذا المورد، قابليته للنفاذ، حيث يحتاج تكوينه في باطن الأرض لملايين الأعوام، خلافاً للموارد الزراعية المتجددة، في مواسم زراعية محددة كل عام. ويصبح مخزون المادة المعدنية في باطن الأرض (الاحتياطي المكتشف)، هو عمر الفائدة المستمر لهذا المورد. كذلك، فإن استنباط مواد صناعية لها الفائدة التصنيعية نفسها للموارد الطبيعية، يفقدها أهميتها أو يضعفها. وتفقد الدولة في المقابل أحد مواردها المالية المهمة (المطاط الطبيعي، واللدائن الصناعية).

ج. الصناعة

تُعد الصناعة عصب الاقتصاد في العصر الحديث، ولا توجد دولة قوية، دون صناعة قوية. لذلك، فالدول الصناعية هي دائماً من الدول العظمي والكبرى. وقد انهار الاتحاد السوفيتي (وهو دولة عظمى) عندما أنهار اقتصاده، بانهيار الصناعية فيها (إضافة إلى عوامل أخرى)، وتنجح الدولة في رفع مستوى معيشة مواطنيها (وهي الهدف الأسمى للأمن الوطني) عندما تنجح في زيادة إنتاجها الصناعي وتسويقه، وتنتقل من مصاف الدول النامية، إلى مرتبة الدول الصناعية أو الغنية (مثل الدول الآسيوية الملقبة بالنمور. إندونيسيا وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية). ويشترط أن تكون الصناعة الوطنية قائمة على تقنية ورؤوس أموال وطنية، وإلا فإن هذا التقدم الصناعي والرقى والمالي، يصبح رهينة لهؤلاء الذين بيدهم التمويل ونقل التقنية.

ولزيادة قوة الاقتصاد القومي، فإن الصناعة يجب أن ترتكز على أفرع صناعية مهمة، مثل الصناعات الثقيلة، وصناعة الصلب، وصناعة الآلات، والصناعات الإلكترونية المتقدمة. كما في الزراعة، فإن التكامل الصناعي مع الآخرين يزيد من قوة هذا البعد.

يدل النمو الصناعي للدولة على قوة اقتصادها، الذي ينعكس على باقي قوى الدولة. فتستطيع حماية مصالحها، وتحقق أهدافها الوطنية، وأمنها الوطني. وغالباً ما تكون تلك الدولة مصنعة للأسلحة والمعدات الحربية، مما يزيد من قوتها وقدراتها.

د. التجارة

أدت الحاجة إلى منتجات الآخرين، للحصول على الحاجات الأساسية والمهمة ثم الترفيهية، إلى نشوء التجارة في صور مختلفة. بدأت بالتبادل، ثم صارت مقيّمة بالعملات وباستخدام أحدث مخترعات العصر وأهمها (الحاسبات الإلكترونية). والتجارة لا تكون بيعاً وشراءً للسلع فقط، وإنما يمكن أيضاً أن تكون تجارة خدمات. وهي ذات مستويات متعددة، فقد تكون داخلية (محلية) في إطار حدود الدولة، أو مع دول الجوار الجغرافي لتصبح إقليمية، أو في إطار منظمة معينة، أو خارجية مع دول أخرى بعيدة (تجارة دولية).

وتسيطر طرق النقل ووسائله على أحوال التجارة. فتنتعش الأسواق التجارية، عندما تكون طرق النقل آمنة، ويزيد حجمها باكتشاف طرق جديدة، أو وسائل نقل حديثة. وتصبح طرق النقل (المواصلات) ذات أهمية إستراتيجية، فتزيد أهميتها إذا كان يمر عبرها تجارة مادة خطرة أو إستراتيجية (النفط مثلاً). وزيادة أهمية التجارة، يعني زيادة أهمية المواقع المسيطرة على طرق المواصلات لتلك التجارة، مما قد يؤثر على أمن الدول الموجودة تلك المواقع. (احتلت المملكة المتحدة، كل المناطق التي تمر عبرها تجارتها مع الهند).

ويزيد الانتعاش التجاري من الأرباح، المترتبة على العمل التجاري والأعمال الأخرى المرتبطة به (النقل ـ التسويق ـ التكليف ـ الدعاية ـ الخدمات ..) وينتج عن ذلك تعظيم للربح، وزيادة دخل الدولة والمواطنين، بل إن عدداً من الدول تعتمد على التجارة لزيادة دخلها، وانتعاش اقتصادها[6].

تظهر الحضارات دائماً على طرق التجارة، كما يزداد الوعي الثقافي والحضري في المدن القريبة منها. وهي ـ أي التجارة ـ مكملة للعناصر السابقة (الزراعة والصناعة والتعدين)، حيث لا فائدة من تلك العناصر، من دون التجارة، التي عن طريقها يتم الحصول على المواد الأولية اللازمة، وكذلك يتم تصريف المنتجات بالبيع أو الاستبدال، والحصول على الأموال اللازمة للإنفاق على العناصر الأخرى، أو أوجه الصرف للدولة.

وتعتبر التجارة العامل الأكثر أهمية في البعد الاقتصادي، من وجهة نظر الأمن الوطني. فهي توفر للدولة احتياجاتها (واردات)، كما تصِّرف لها منتجاتها (صادرات)، وتمارس الدول التجارية تمارس تجارة خارجية بحتة (تجارة دولية)، لتزيد من أرباحها. كما يقوم بالتجارة الدولية، شركات عالمية، انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبحت قوة لا يستهان بها، لسيطرتها على الأسواق التجارية وأسواق المال. وأصبحت تلك الشركات[7]، أقوى من الحكومات في كثير من المناطق.

وكما في الموارد الطبيعية (المعادن)، فإن الموقع التجاري يصبح أداة جذب للقوى الخارجية، ومطمعاً لاحتلاله (قديماً)، أو السيطرة عليه، وهو ما ينقص من أمن الدولة. ويؤدي تغيّر اتجاهات التجارة الخارجية إلى انكماش اقتصادي، وتخلف حضاري (حالة مصر بعد حقبة الكشوف الجغرافية باكتشاف رأس الرجاء الصالح، واستعادتها لمركزها التجاري المهم عقب حفر قناة السويس وافتتاحها).

تمت عدة اتفاقيات ومعاهدات دولية بشأن التجارة، كما نشأت عدة منظمات دولية لرعاية التجارة العالمية، كان آخرها وأهمها، تلك المعروفة باسم "منظمة التجارة الدولية". وهي التي سعت لتحرير التجارة الدولية من السياسات الحمائية للدول (الرسوم الجمركية وقوانين الحد من الواردات والحصص المقننة وغيرها)، وصدر عنها عدة اتفاقات دولية، عرفت فيما بعد باتفاقية الجات General Agreement on Tariffs GATT .

هـ. رؤوس الأموال

هي عنصر أساسي في البعد الاقتصادي، حيث تموِّل المؤسسات المالية الوطنية، المودع لديها رؤوس الأموال الوطنية، المشروعات الزراعية والصناعية وحركة التجارة استيراداً وتصديراً. ويعود ذلك النشاط الاقتصادي بفوائد عديدة على أمن الدولة الوطني، فإضافة إلى تنمية الزراعة والصناعة والتجارة، وزيادة دخل الدولة، نتيجة لهذه الأنشطة. فهو يزيد من حجم العمالة الوطنية، ويقلل نسبة البطالة. وتقوى الأبعاد الأخرى نتيجة زيادة الأنشطة الاقتصادية، وزيادة الدخل الوطني للدولة. كما يرفع من مستوى معيشة الأفراد، ويساند ذلك الأبعاد الأخرى مرة ثانية.

وتُعد رؤوس الأموال موارد صناعية، تنشأ نتيجة أنشطة اقتصادية، توفر فائضاً يمكن ادخاره. لذلك، من المهم أن تزيد نسبة المدخرات الوطنية، التي يمكن أن تستخدمها الدولة في تمويل مشروعات جديدة، ترفع من نسبة العمالة، وتزيد من دخل الأفراد ودخل الدولة. ويؤدي نجاح المشروعات الاقتصادية المختلفة، إلى تحقيق متطلبات الأمن الوطني، وهو ما يعود بفوائد جمة على المجتمع، خاصة أن هذه الأنشطة تدعم تلقائياً العملة الوطنية، وتخرج بها من التبعية للعملات القوية (العملات الصعبة). كما تقلل من تأثير الأزمات الاقتصادية الخارجية.

وأكثر الفوائد أهمية لهذا النشاط الاقتصادي، تقليل الاعتماد على القروض الأجنبية، والابتعاد عن دائرة الفوائد وخدمة الدَّين التي لا تنتهي. كما أن ارتكاز نظام الحكم، على فائض رؤوس أموال وطني، يهيئ له حرية القرار السياسي، ويدعم ذلك الأمن الوطني للدولة.

يُلحق بهذا البعد (البعد الاقتصادي) الإمكانات العلمية، والتطور التقني بالدولة، وارتفاع مستوى هذا الاتجاه، يساند الأنشطة الاقتصادية المختلفة، مما يساعد على تحقيق تنمية حديثة، وعصرية متقدمة.

3. البعد العسكري

أكثر أبعاد الأمن الوطني فاعلية، كما أنه البعد الذي لا يُسمح بضعفه أبداً، لأن ذلك الضعف يؤدي إلى انهيار أمن الدولة الوطني، وتعرضها لأخطار وتهديدات عنيفة، قد تصل إلى حد وقوعها تحت الاحتلال الأجنبي، أو إلغائها تماماً وضمها لدولة أخرى (الدولة الغازية) أو تقسيمها لدويلات أو اقتسامها مع آخرين. والبديل الباقي ليس أحسن حالاً، فقد تلجأ حكومة الدولة الضعيفة عسكرياً، إلى دولة إقليمية أو عالمية كبرى لحمايتها، وهو ما يعني السّماح لتلك الدولة الكبرى بانتهاك أمنها الوطني في عدة أبعاد، مقابل أن تؤمنها من أخطار أخرى، وهو بديل كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ويفترض أن الدول لا تستخدم قوتها العسكرية، إلاّ بعد أن تستنفذ القوى الأخرى وسائلها (السياسية والاقتصادية). ووجود القوة المسلحة بالقدر المتفوق، مع توافر إرادة استخدامها، توجد قدر مناسب من المصداقية، تردع الآخرين عن التعرض لمصالح الدولة. وبعض الدول تعتنق عقائد قتالية عدوانية، فهي لظروف ضعف بعض الأبعاد الأمنية (خاصة البعد الجيوبوليتيكي، والبعد الاجتماعي) أو اختلال بعض العناصر في الأبعاد الأمنية، (مثل ارتفاع الكثافة السكانية، مع ضعف الموارد الطبيعية) لا تسمح بتهديد أمنها، فتبادر بالاعتداء على الآخرين، بحثاً عن احتياجاتها الضرورية الناقصة، التي باستكمالها يكتمل أمنها (مثال ذلك إسرائيل في الوقت الحاضر وألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية).

ويتطلب هذا البعد إعداد حجم من القوات المسلحة، بتسليح عصري مناسب للعدائيات المحتملة، قادرة على الحركة، للدفاع عن حدود الدولة السياسية، وحماية الأهداف الحيوية، وتحقيق الأهداف الوطنية داخلية وخارجية، وتنفيذ الالتزامات الإقليمية والدولية.

ويرتبط هذا البعد بباقي أبعاد الأمن الوطني، ارتباطاً شديداً. فضعف أي منهما يؤثر على القوة العسكرية ويضعفها، بينما قوة هذه الأبعاد تزيد من القوة العسكرية. فالضعف السياسي يؤثر على مصداقية اتخاذ قرار استخدام القوة المسلحة، بينما يكون مهماً استخدامها مبكراً لتغطية هذا الضعف. وضعف القدرة الاقتصادية يحد من إمكانية بناء قوة مسلحة كبيرة الحجم، كما لا يمكن من تسليحها بأسلحة عصرية فعّالة. والضعف في القوة الاجتماعية، يؤدي إلى الحد من حجم القوات (إذا كان تعداد الدولة محدوداً) أو عدم القدرة على استيعاب الأسلحة الحديثة (إذا كانت القوة البشرية ذات خصائص ثقافية وصحية متدنية)، أو قد تكون القوة المسلحة ضعيفة الإيمان بالقضايا الوطنية، أو موالية لطائفة أيديولوجية بعينها، مما يؤثر على أدائها القتالي.

تتأثر القوة العسكرية، بإمكانات الصناعة الحربية في الدولة، ودرجة التقنية المتاح استخدامها فيها، وإمكانات علمائها في التطوير. ولسد هذا العجز، فإن البعد الاقتصادي يتحمل أعباء ضخمة لاستيراد الأسلحة والمعدات القتالية الحديثة، الباهظة التكلفة، مع وجود قيود على القرار السياسي للدولة تجاه الدول الموردة للأسلحة، خاصة أنه لم يعد متاحاً هذا الهامش من المرونة بين المعسكرين، في النظام الدولي السابق الثنائي القطبية، والذي كان يتيح للقيادات السياسية تنويع مصادر الأسلحة.

وتستطيع الدولة، المحدودة القوى العسكرية، زيادة قدراتها في هذا البعد، بعقد اتفاقيات عسكرية، أو بالانضمام للأحلاف المناسبة لأهدافها الوطنية، وإن كان ذلك سيلزمها بالتقيد بأهداف الآخرين، وعدائياتهم المحتملة، وهو ما يمكن أن يتعارض مع أهدافها وعلاقاتها الدولية.

4. البعد الاجتماعي

الإنسان هو العامل المؤثر في الأمن الوطني، فهو القوة الفاعلة لأبعاده، وهو المَعْنِي بتحقيق أمنه، فرداً كان أو جماعة أو مجتمعاً. ويعطي هذا المفهوم أهمية بالغة للبعد الاجتماعي للأمن الوطني. حيث يكون المطلوب، حسن إعداد المواطن، ليؤمن ذاته وغيره. ويتضمن إعداد المواطن في صحته وعقله (ثقافته) وأخلاقياته وتقاليده (تراثه).

وحتى يمكن تحقيق مطالب هذا البعد، فمن الضروري بحث مقوماته، وتحليلها، ودراستها، والتخطيط لتنمية جوانب القوة فيها، وعلاج نقاط الضعف.

وتدور دراسات هذا البعد حول الإنسان، في خصائصه العددية وخصائصه النوعية (كماً وكيفاً). أما خصائصه العددية، فهي تبحث نسبة تعداد السكان إلى مساحة الأرض، ومناطق التركيز السكانية، ومعدلات النمو، والتركيب العمري[8]، ودرجة التحضر[9] ونسبة واتجاهات الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن، ونصيب الفرد من الدخل القومي، ودرجة التماسك الوطني، ونسبة الطوائف الأخرى (عرقية ـ أيديولوجية ـ مهنية …)، والتركيبات المختلفة الأخرى المكونة للشعب[10].

يهدف هذا البعد إلى إيجاد حالة استقرار للمجتمع، وإلى تماسك نسيجه، مع توازن العوامل السكانية والاجتماعية المختلفة. ويلحق بهذا البعد الشخصية المميزة للمجتمع، وميراثه الحضاري، وعاداته وتقاليده، والإطار الديني والثقافي للمجتمع.

ويتطلب تحقيق هذا البعد، دراسة شاملة للأبعاد الأخرى، والإمكانات التي تقدمها للبعد الاجتماعي، لتهيئة المواطن الصالح، وكيفية استغلال عائد البعد الاجتماعي لمساندة الأبعاد الأخرى. وتنعكس الدراسة في شكل تحديد لخصائص المجتمع، شاملة مشاكله السكانية وخصائصه[11].

5. البعد الجيوبولوتيكي

يشكل هذا البعد مفهوم استغلال الحقائق الجغرافية، من منظور سياسي، مع مراعاة مصالح الآخرين، المشاركين في الأهداف نفسها، والمتأثرين من الاستغلال السياسي للوضع الجغرافي. وتكمن أهمية هذا المفهوم في عنصرين:

أ. ما توضحه الدراسات الجغرافية من حقائق للإقليم، تبرز المزايا والعيوب معاً، وهي بذلك تضع بدائل للقرار مبكراً.

ب. اكتشاف نقطة التصادم المحتملة مع الآخرين، مكانياً وزمنياً، بما يساعد على الإعداد لها مسبقاً، على ضوء ما وضح من مزايا وعيوب للحصول على أفضل النتائج، التي تحقق الأمن الوطني للدولة.

ويتكون هذا البعد من حجم الدولة، وشكلها، والعلاقة بينهما (مع توضيح درجة عمق الدولة بعيداً عن الحدود)، والعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها على البعد العسكري. والعوائق الطبيعية، والاتساع المتاح للتجمعات السكانية، والموارد الطبيعية وتوزيعها، وقرب ذلك من الحدود (مع ارتباطها بالعلاقات مع دول الجوار، لمعرفة تأثير العدائيات المحتملة عليها، سواء التجمع السكاني، أو مناطق استغلال الموارد الطبيعية). والمناطق والهيئات ذات الأهمية الحيوية، والأهداف الصناعية الحيوية. والمنافذ البرية والبحرية للدولة، ومدى تمتع حدود وسواحل الدولة بحماية طبيعية. وشكل سواحل الدولة وطولها وصلاحيتها للاستغلال في الأنشطة الاقتصادية. وأهمية موقع الدولة بالنسبة للدول ذات المصالح الحيوية في الإقليم. والعلاقات التاريخية والعرقية والأيدولوجية مع الشعوب المجاورة. وتأثير كل الحقائق والعلاقات المتشابكة، وانعكاسات تلك العلاقات على الأعمال الحربية والقوات المسلحة.

هناك حقيقة جغرافية مهمة، تعكسها الدراسات الجيوبوليتيكية عن مكان ما، إذ لا يجوز إهمال ما تمليه الخصائص الجغرافية من حقائق، فإما تستغل أهميتها بأفضل شكل، أو يتخذ إجراء وقائي حيال ضعفها (وهو ما يغفل عنه معظم السياسيون والقادة، وينتج عنه قصور تحقيق الأهداف الوطنية المرجوة، وقد ينتج عنه كذلك تهديد للأمن الوطني. إذ لم يتخذ الإجراء المناسب للوقاية).



[1] الدول السبع الكبرى الصناعية (أغنى دول العالم)، هي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، اليابان، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وكندا. وتضم روسيا الاتحادية كذلك تحت مسمى الدول الصناعية الكبرى.

[2] تحتكر الولايات المتحدة الأمريكية، تسويق فائض القمح في العالم، بصفتها صاحبة أكبر فائض في العالم، وترأس منظمة تجمع دول حزام الإنتاج القمحي (كندا ـ المكسيك ـ استراليا)، لضمان السيطرة على هذه السلعة الإستراتيجية، وتستخدم تلك الميزة في سياستها للضغط على الدول الأشد احتياجاً للقمح.

[3] بعض الدول لديها ثروة حيوانية ضخمة، قد تصل إلى عشرات الملايين من الرؤوس (الصومال ـ السودان)، إلا أن عدم العناية بها (أمراض ـ هزال)، تجعل الفائدة العائدة منها قليلة، بل في بعض المناطق تحسب قوة القبيلة، ونفوذ الأسرة، بالعدد الذي تمتلكه من رؤوس الماشية والأغنام، أو قد يقدسونها فيحرمون بيعها أو ذبحها، فتصبح تلك الثروة حبيسة التقاليد، وعديمة الفائدة اقتصادياً، بل أنها تصبح عبئاً، بعض الدول تستفيد من تلك الثروة جيداً بالعناية بها (تسمين ـ إنتاج ألبان ـ صوف) وتصدرها للأسواق الخارجية، لتصبح قوة مضافة للاقتصاد.

[4] قد يقل الإنتاج الزراعي للسلعة الغذائية في الدول المصدرة، بفعل مناخ سيئ، أو تحديد الدول المنتجة شروطاً سياسية صعبة.

[5] معظم الدول المالكة للموارد الطبيعية التعدينية، من الدول النامية، التي تعتمد في دخلها على تصدير المواد الخام، وغالباً ما تكون المادة خاماً واحداً، أو عدد قليل منه، مما يعرض دخلها لأخطار عديدة.

[6] دولة الإمارات العربية المتحدة، من الدول التي تعتمد على موقعها في مدخل الخليج العربي في التجارة مع العالم الخارجي، وأصبح لديها أسواق موسمية دولية للتبادل التجاري، ومعارض سنوية، للتعريف بالسلع والمنتجات الجديدة، علاوة على تجارة إعادة التصدير والمناطق التجارية الحرة.

[7] تسمى أيضاً الشركات متعددة الجنسيات، لتعدد الجنسيات المشاركين فيها، أو لتعدد المناطق التي تعمل فيها، وتسمى كذلك الشركات عابرة القارات، كناية عن اتجاهات عملها.

[8] التركيب العمري، هو دراسة لفئات العمر المختلفة بالمجتمع مقسمة إلى شرائح من وجهة نظر العمل، مع حساب معدلات النمو المختلفة بحسبان معدلات الخصوبة والوفاة، ومعرفة معدل الإعالة، المشاركة السكانية في النشاط الاقتصادي (قوة العمل).

[9] التركيب العمري، هو دراسة لفئات العمر المختلفة بالمجتمع مقسمة إلى شرائح من وجهة نظر العمل، مع حساب معدلات النمو المختلفة بحسبان معدلات الخصوبة والوفاة، ومعرفة معدل الإعالة، المشاركة السكانية في النشاط الاقتصادي (قوة العمل).

[10] منها تركيب قوة العمل واقتصادياتها ـ التركيب التعليمي والثقافي ـ التركيب اللغوي ـ التركيب الديني ـ وغيرها. وهي توضح تفاصيل المجتمع وتفاعلاته ودرجة تماسكه.

[11] لهذا البعد حسابات عديدة، تقديرية في معظمها، للحصول على أرقام يمكن تحليلها والاستناد إلى مدلولها عند وضع السياسات والإستراتيجيات المختلفة.