إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / أسس ومبادىء الأمن الوطني





نموذج مجموعة دول
نموذج لعدة منظمات
نموذج دولة واحدة
مهددات الأمن الوطني
هرم ماسلو
مستويات الأمن الوطني
الأمن القومي والسياسة الوطنية
تأثر الأمن الجماعي
تسلسل صياغة الالتزامات الأمنية
دور الدولة في حماية الأمن

نظرية ماهان
نظرية ماكيندر
نظرية القوى الجوية
نظرية سبيكمان



الفصل الثاني

4. البعد الاجتماعي للأمن الوطني:

هو أكثر الأبعاد الأمنية تأثراً بمصادر التهديد، في المجالين الداخلي والخارجي، وعلى المستويين الرئيسي والثانوي، وفي كل الأبعاد. ويمثل البعد الاجتماعي البعد الأساسي للأمن الوطني، حيث تدور دراساته حول البشر من سكان الدولة (المواطنين)، الذين يُعني الأمن الوطني بتحقيق أمنهم. والعامل البشري عصب الأبعاد الأمنية كلها، فهم السياسيون، والاقتصاديون، والمقاتلون، والشعب بكل طوائفه ومهنه، كما أنهم هم المخططون، والمنفذون، والمستفيدون (أو المتضررون).

وتقوم أسس الدراسة للبعد الاجتماعي، على الإجابة عن عدة تساؤلات عن حقيقة المجتمع، وهي في الوقت نفسه تكشف عوامل التهديد، وتحدد درجته وأسبابه:

·   مدى إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين (مادية ثم معنوية).

·   درجة تحقيق العدالة الاجتماعية (أو التفاوت الاجتماعي)، بين طبقات المجتمع، في مختلف تكويناتها (الأسرة، الحيّ، المدينة والقرية، المستوى الوظيفي…).

·   توفر الخدمات الأساسية وحصول الأفراد، والمهن، والنقابات على حقوقهم.

·   الالتزام بالسلوك المنضبط في الحياة اليومية، من قِبل الشعب، والأجهزة الحكومية.

·   هـ. درجة قوة النسيج الاجتماعي للدولة (ترابط أم تفكك).

·   مدى تمتع العلماء، والباحثين بفرص للإبداع، والابتكار، واستفادة الدولة من إنتاجهم، ومدى توفر المؤسسات العلمية ذات المستوى العالمي.

·   مظاهر الانتماء، والولاء، والتضامن بين الشعب والحكومة.

أ. العوامل المهددة للبعد الاجتماعي:

(1) العوامل الداخلية:

(أ) طالما أن البعد الاجتماعي يهتم بدراسة السكان، فإن أولى عوامل التهديد الداخلية لابد أن تكون سمات المجتمع، وهو ما يطلق عليه "القوى البشرية للدولة". ويهتم فيها بثلاث نواحٍ، تمثل عوامل ضغط تهدد البعد الاجتماعي داخلياً. وهي الكثافة، والتوزيع، والخصائص النوعية للسكان:

·   الكثافة السكانية:

تمثل الكثافة السكانية المنخفضة نقطة ضعف[3]، فهي تعني عدم قدرة القوة البشرية في الدولة من استغلال الموارد الطبيعية المتاحة داخل حدود الدولة، أو عدم القدرة على ملء الفراغ بها. وفي كلتا الحالتين، فالدولة المجاورة ـ خاصة إذا كانت مرتفعة الكثافة ـ ستحاول حل مشاكلها السكانية على حساب موارد ومساحة الدولة الأقل كثافة. كما أن الدولة القليلة الكثافة السكانية، تلجأ إلى استيراد العمالة من الخارج، لاستكمال مطالب إدارة الدولة في معظم الوظائف (عدا وظائف الإدارة العليا التي يُحتفظ بها للمواطنين الأصليين في الغالب)، وهي نقطة ضعف أخرى، قد تزداد خطورتها، عندما تزيد نسبة الوافدين من الخارج (العمالة الأجنبية) عن نسبة الوطنيين، وقد ينتج عنها خطر آخر، لو تغلبت جنسية بعينها على باقي الجنسيات في الحجم، حيث يخشى من تمردهم، أو امتناعهم عن العمل في أوقات حرجة. أو قد يتصادم وافدون من جنسيات ذات خصومة بين بلادهم، أو لاختلاف عقائدهم وأيديولوجياتهم. وهو ما سيؤثر على اقتصاد الدولة، وأمنها الداخلي.

وتختلف التهديدات الموجهة للأمن الوطني، في بعده الاجتماعي، من جراء زيادة الكثافة السكانية العالية، مع وفرة الموارد الطبيعية، وارتفاع مستوى المعيشة (لكون البعد الاقتصادي قوي)، فتعتبر نقطة قوة لصالح الأمن الوطني، بينما تزيد المشكلات المهددة للأمن الوطني، عندما يصاحب ارتفاع الكثافة السكانية، ندرة في الموارد. فتصبح الدولة إما دولة عدوانية النزعة (ألمانيا، وإسرائيل)، وأما فقيرة متخلفة (بنجلاديش). والنوع الأول مصدر تهديد للدول المجاورة، ويسبب توتر في العلاقات الإقليمية والدولية، وقد تنعكس النتائج ـ وهو أمر وراد ـ ليصبح أمن الدولة نفسه هو المهدد من جراء سياسة الدولة العدوانية (ألمانيا بعد الحربين العالميتين، وإسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973)، والنوع الثاني تتسبب حالته من الضعف، لعدم قدرة أبعاده الأمنية على الصمود، في مواجهة مهددات الأمن القومي، وقد تكثر به الاضطرابات والتوتر الاجتماعي والسياسي، وقد يقع تحت الاحتلال من جانب قوة أكبر.

·   التوزيع السُّكاني:

يرتبط التوزيع السكاني (في أحد جوانبه)، بالكثافة الخاصة لمكان محدد[4]، وهو بذلك يتشابه مع الكثافة السكانية في الحساب، ويختلف عنها في مدلول النتائج. فَقِلَّة الكثافة السكانية الخاصة تصبح نقطة قوة، لعدم وجود ضغط على موارد المكان وخدماته، مما يوجد بيئة مستقرة اجتماعياً. وزيادة الكثافة السكانية تصبح نقطة ضعف، لضغطها على موارد وخدمات المكان، مما يسبب توتراً اجتماعياً به، وكلاهما يسبب مشكلة أمنية إذا اقترب من المناطق الحدودية. فقلة العنصر البشري في المناطق الحدودية، يوجد فراغاً أمنياً، يمكن أن تستغله الدول المجاورة، أو القوات المعادية. وارتفاع تعداد وكثافة المناطق الحدودية (وما يتبعه من نشاط سكاني اقتصادي كبير)، يخلق عنصر ضغط على أمن الدولة لتعرض الكثافة السكانية، والنشاط الاقتصادي لأخطار الحرب والاشتباكات، بارتفاع نسبة الخسائر[5] في القوى البشرية، والأهداف الاقتصادية الحيوية.

يتأثر التوزيع السكاني بالخدمات الرئيسية، فتصبح المنطقة (المدنية) عامل جذب للسكان (هجرة داخلية)، بسبب ارتفاع نسبة الخدمات فيها، وهي ظاهرة تصاحب العواصم السياسية، والمدن ذات النشاط الاقتصادي المرتفع (نيويورك، الإسكندرية)، أو تصبح عامل طرد سكاني، بسبب ضعف نسبة الخدمات فيها، مثل المناطق الحدودية في معظم الدول بصفة عامة، المناطق الصحراوية، والولايات المتحدة والمحافظات الريفية) ويؤدي عامل الطرد إلى انتقال كثافة سكانية إلى المدن الكبرى والعواصم السياسية، لترتفع الكثافة السكانية بها لمعدلات عالية جداً[6].

تؤدي ظاهرة الهجرة الداخلية إلى المدن الكبرى، والعواصم السياسية، إلى زيادة حجم التحضر (زيادة عدد سكان الحضر عن الريف) وتركزه في المدن، مما يخلق مشكلة تهميش اجتماعي للمناطق الريفية، التي تصبح ضعيفة الإمكانات، قليلة الخدمات، مع ارتفاع نسبة البطالة في المدن وما يتبعها من زيادة نسبة الجريمة بأنواعها. وينشأ حول المدن الجاذبة للسكان، نطاقات من الأحياء العشوائية الفقيرة، المكدسة بالسكان ذوي الدخول الضعيفة والذين ينعدم (أو يقل) لديهم المستوى الثقافي والصحي، فيسهل السيطرة عليهم من القوى الخارجية أو الداخلية المغرضة، فتزيد من عوامل التوتر الاجتماعي والاحتكاك الطبقي، علاوة إلى كونها نقطة ضعف عسكرية، لارتفاع نسبة الخسائر المتوقعة لسكان هذه المناطق، في حالة تعرضها لأعمال عسكرية[7].

·   الخصائص النوعية للسكان:

يقصد بالخصائص النوعية للسكان، مستوى التعليم، والمستوى الصحي، والتنظيم الاجتماعي، ونسبة القوى العاملة، ونسبة ومستوى الحرفيين للمهن الأخرى في الدولة.

ويؤدي ضعف الخصائص النوعية (خاصة التعليم والصحة) إلى ضعف القوى العاملة، وهو ما يضعف البعد الاقتصادي، ويزيد التوتر في البعد الاجتماعي، وينعكس سلباً على قدرة الدولة في التنمية، ويهبط بمستوى المعيشة لدرجات، أدنى فيزيد من حجم البطالة، ويزيد من أعباء الدولة التي تفشل في السيطرة على المشكلة واحتوائها. وتصبح تلك السّمة (ضعف الخصائص السكانية)، مصدر تهديد للبعد الاجتماعي للأمن الوطني.

وارتفاع الخصائص السكانية، يدعم الأبعاد الأمنية الأخرى، باعتبار أن القوى البشرية المحور الأساسي لكل الأبعاد، والمؤثر فيها كلها. وينتج عن ذلك تغلب على مصادر التهديد الاجتماعية، كما يُمَكّن من التغلب على مصادر التهديد في الأبعاد الأخرى كذلك، وتصبح القوى البشرية (خاصة مع الكثافة المعتدلة، والتوزيع المتوازن) عنصر قوة، بل إن عامل الخصائص البشرية، يمكنه أن يتغلب على سلبيات السّمات الأخرى (حالة اليابان، حيث لا موارد طبيعية، وارتفاع في الكثافة السكانية، حيث تصل إلى 536 نسمة / كم2، إلا أن خصائص السكان، خاصة التعليم والصحة، عالية للغاية حيث تصل نسبة توقع الوفاة عند الولادة إلى 4 نسمة في الالف، ونسبة التعليم 100%).

(ب) أحد مصادر التهديد الاجتماعي الرئيسية، التفاوت الكبير بين الطبقات والطوائف (تآكل الطبقة الوسطى)، فالفجوة الكبيرة في الدخل، ومستوى المعيشة، تؤدي إلى زيادة الظواهر الاستفزازية بين الغني والفقير، وهو ما يزيد درجة التوتر، وتصاعد الخلافات بين الجميع، وقد تصل إلى حد الاشتباك المسلح (حرب أهلية).

(ج) نتيجة للظروف التاريخية، التي تمر بها بعض المناطق، يتكون شعبها من عدة طوائف وأعراق، كما يعتنق المواطنون عدة ديانات مرت بها دولتهم، وقد يتكلمون عدة لغات، طبقاً لقوة اللغة في الدول المجاورة، أو ظروف الاستعمار سابقاً. ويؤدي عدم تجانس التركيب الاجتماعي للشعب، وكثرة الأقليات العرقية والدينية واللغوية، إلى صعوبة سيطرة الدولة على تلك المجموعات الكثيرة المتباينة من الشعب، كما يصعب إرضاء ميولهم أو الاستجابة لمطالبهم المتناقضة، وينتج عنها توتر اجتماعي، يظل كامناً، لتتفجر الأوضاع الاجتماعية وتهدد كيان الأمة وتماسكها، وهو ما يحدث دائماً في مثل هذه المجتمعات (لبنان، يوغوسلافية سابقاً، الاتحاد السوفيتي سابقاً، العراق)، حيث يكون البديل الوحيد للحفاظ على تماسك الدولة، هو قمع تلك الطوائف والأعراق بالقوة، وحتى هذا البديل من المستحيل أن يدوم إلى الأبد.

(2) العوامل الخارجية:

كل العوامل من خارج الدولة،التي تؤدي إلى عرقلة نمو الشعب وتطوره في الاتجاه السليم، تعتبر مصدر تهديد خارجي للبعد الاجتماعي. ومن تلك العوامل:

(أ) قيود استيراد التقنية المتقدمة، والتي تساعد على تحديث المجتمع، خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات.

(ب) القيود التي تفرضها بعض الدول، على مواطني الدولة بالخارج في العمل أو التنقل أو التعليم، وهو ما يضعف فرصهم لتحسين أوضاعهم علمياً أو اقتصادياً، مما كان سيعود بالنفع على الدولة نفسها.

(ج) تخلف المجتمع في الدولة، عن نظيره في الدول الأخرى الأكثر تقدماً، خاصة الدول المنافسة له في النفوذ إقليمياً أو عالمياً، أو المجاورة له.

(د) تتبنى بعض الدول، وتكون غالباً من الدول المعادية، لسياسة إرهابية، لذلك فهي تأوي عناصر معارضة للنظام الحاكم (سياسياً أو أيديولوجياً أو إجرامياً أحياناً)، حيث تمولهم، وتدربهم، وتخطط لاستخدامهم لضرب مصالح الدولة خارجياً أو داخلياً، للإضرار بالاقتصاد أو إحداث فتنة (أو توتر) اجتماعية[8].

ب. مؤشرات قياس عناصر تهديد البعد الاجتماعي:

(1) المؤشرات الداخلية:

(أ) الخلل في النسبة بين دخل الفرد وعدد السكان، وعدم التوصل إلى الحد الأمثل للسكان[9]، وهو ما يبتعد بالمجتمع عن حد الاستقرار.

(ب) ضعف القوة البشرية (كما ونوعاً)، المتاحة للخدمة العسكرية، (الوعاء التجنيدي).

(ج) ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع، وزيادة عدد المتسربين من مراحل التعليم المختلفة، خاصة صغار السن.

(د) ضعف قوة العمل (كما ونوعاً)، وارتفاع نسبة العاملين في الوظائف المكتبية والحكومية، مع انخفاض نسبة العاملين في الصناعة والزراعة والقيادات.

(هـ) ارتفاع نسبة البطالة بصفة عامة، والريف خاصة، مع انخفاض نسبة العمالة في المجال الزراعي.

(و) تعدد الطوائف، والأقليات في المجتمع، وحصولهم على امتيازات، تؤثر على التوافق الاجتماعي، وانسجامه.

(ز) ارتفاع نسبة التحضر بالدولة (سكان المدن) مما يخفض الكثافة السكانية في المناطق الحدودية، وتصبح مناطق شبه خالية، تغري الدول المجاورة على اختراقها للوصول إلى الأهداف الحيوية داخل الدولة، أو اقتطاع جزء منها (سياسة شد الأطراف).

(ح) تفشي اللامبالاة، والسّلبية، لدى الشعب (خاصة الشباب المثقف)، وعزوف الشعب، بصفة عامة عن المشاركة في الأحداث، والتعبير عن رأيه، واختيار ممثليه في المجالس النيابية المختلفة.

(ط) ازدياد نسبة الهجرة إلى الخارج (دائمة، ومؤقتة)، من المثقفين (وأهمها أصحاب الثقافات العالية، والتخصصات النادرة) والكفاءات والمهارات الصناعية.

(2) المؤشرات الخارجية:

(أ) ظهور أيديولوجيات، لا تتفق مع قيم ومبادئ المجتمع، وانتشارها بسرعة.

(ب) الإذاعات الموجهة (المضادة).

(ج) الحرب النفسية من دولة (أو عدة دول).

(د) أعمال التخريب لمصالح الدولة الخارجية، بواسطة مواطني الدولة المقيمين بالخارج، أو القادمين من الدولة لهذا الغرض[10].

ج. علاقة التعليم والثقافة، بالبعد الاجتماعي للأمن الوطني:

كُل ما يمس الجانب التعليمي، والديني بالتحريف والتضليل، هو عامل مهدد لأحد أهم مكونات البعد الاجتماعي، وهو العنصر الثقافي. ويتزايد خطر التهديد، بزيادة قوة وفاعلية الرسالة الموجهة إلى العنصر الثقافي لاختراقه، والتي تستخدم وسائل حديثة وعصرية، يصعب حجبها أو منعها، كما يصعب الوقاية منها. فالوسائل الإعلامية العصرية، ذات جاذبية شديدة، وانتشار واسع، يمكنها تغيير أصول الشعب ومعتقداته، بالتأثير على أفكار الشباب والنشء، وميولهم، وبث تعاليم موالية لكل أجنبي، بدلاً من التراث الوطني، تحت ستار التحديث والعصرية والعالمية.

وأخطر ما يهدد العنصر الثقافي، هو ضعف التعليم الوطني، خاصة في مجال اللغة الوطنية، والدين والمعتقدات، والعلوم الاجتماعية (تاريخ الدولة، وحقائقها الجغرافية، وتقاليدها الوطنية)، وهو ما يسهل اختراقه، عند تعرض المواطنين، لوسائل الإعلام الأجنبية المغرضة، أو برامج تعليمية أجنبية موجهة، تبث ثقافة، وتقاليد، وأيديولوجيات مختلفة.

اختراق العنصر الثقافي، يعتبر مصدر تهديد للبعد الاجتماعي، في جانبه العلمي، والتعليمي، بهدف الضغط على المجتمع للتنازل عن تقاليده وعاداته، بل وتشريعاته المستمدة من الكُتب السماوية[11]، أو ميراثه الحضاري، بدعوى مسايرة التقدم العصري، وعدم التخلف عن الركب.

5. البعد الجيوبوليتيكي للأمن الوطني:

تُضفي الحقائق الجغرافية، على البعد الجيوبوليتيكي قدراً من الأهمية، يختلف من موقع لآخر، ومن دولة لأخرى، وكلّما ارتفعت نسبة التميز للبعد الجيوبوليتيك، كانت محط اهتمام الآخرين وسعيهم للاستيلاء على المنطقة، وبسط نفوذهم عليها، لتزيد من قدرهم وشأنهم في السياسة العالمية والإقليمية.

وكما يكون التميز جيوبوليتيكا، مصدر تهديد للأمن الوطني، يكون أيضاً مصدر قوة ومناعة، بما يضيفه على الدولة من عوائق طبيعية، وظواهر جوية صعبة، أو كثافة سكانية عالية، وغيرها من العناصر التي تقلل من عبء الدفاع عن حدود الدولة في اتجاهات، وأوقات معينة، وتوفر الموارد البشرية للدفاع، والموارد المالية للإنفاق.

ويملي الوضع الجيوبوليتيكي، سياسات معينة، على القيادة السياسية للدولة وضعها في الاعتبار، وعدم تخطي، أو إهمال مؤشراتها، حتى لا ينتج عن ذلك تهديد ثم انهيار للأمن الوطني. فعندما تحقق الأوضاع الجيوبوليتيكية تميزاً في عنصر جغرافي، مهم للآخرين، فانه من الضروري استغلاله والاستفادة من هذا الوضع، وإفادة الآخرين منه أيضاً، لأن عدم استغلاله بالشكل الصحيح يمثل إهداراً لهذا التميز، ويحفز الآخرين ليسعوا لاستغلاله بأنفسهم، ولو بالقوة، لأهميته لهم (الموارد الطبيعية، مثل النفط والمياه والعناصر المشعة ـ الموقع الجغرافي، مثل قناة السويس، مضيق هرمز). وإذا كان الوضع الجيوبوليتيكي يحقق ضعفاً في جانب ما، فمن المهم السعيّ لتقويته من اتجاه آخر، فالضعف في القوى البشرية، يجب أن تقابله سياسة مرنة معتدلة، والكثافة العالية للقوى البشرية مع ضعف الموارد الطبيعية، يجب أن يعالج من خلال فتح مجالات الهجرة الدائمة والمؤقتة، والتكامل مع دولة أخرى أكثر وفرة في الموارد الطبيعية، وأقل كثافة بشرية.

إنّ عدم الدراية بالأوضاع الجيوبوليتيكية، واتجاهات السياسة العالمية، للاستفادة منهما، يعني الاصطدام بالقوى الكبرى، عالمياً وإقليمياً، صداماً تكون نتيجته حتماً فقد الدولة لحريتها، وانهيار أمنها. ومن أمثلة ذلك، حروب محمد علي والي مصر في الشام، ضد الدولة العثمانية، أزعج بريطانيا وفرنسا، اللتان تعتبران هذه المنطقة في دائرة نفوذهما (مجالهما الحيوي) لأهميتها، من حيث المواصلات ومجاورتها لدولتي العراق وإيران، محور الإستراتيجية الغربية، قبل الحرب العالمية الثانية. وأدى ذلك إلى تكاتفهما ضده، وهزيمته، وتقليص حجم جيشه وكذلك سلطاته. وبالمثل فإن اتجاه إسماعيل باشا، خديوي مصر، بجيوشه جنوباً، بقصد الحصول على موارد طبيعية إضافية (البحث عن مناجم ذهب)، والقضاء على تجارة الرقيق، التي كانت منتشرة، في ساحل أفريقيا الشرقي، قد نبه ذلك الدول الكبرى في عصره (بريطانيا وفرنسا أيضاً) إلى أنه بذلك يزيد من ميزات ولايته الجيوبوليتيكية، بحيازة موارد طبيعية، تقوّي من اقتصاده، كما أنه يسيطر على شمال البحر الأحمر جنوباً ليُحكم قبضته على المنافذ الوحيدة لهذا الشريان الحيوي للتجارة العالمية، قناة السويس ومضيق باب المندب. فكان لابد من الإيقاع به، بتأليب الباب العالي ضده (الخليفة العثماني) لخلعه، وهو ما حدث فعلاً.

أ. العوامل المهددة للبعد الجيوبوليتيكي:

يصعُب تحديد ما هو داخلي، وما هو خارجي من عوامل مؤثرة على البعد الجيوبوليتيك، لأن العناصر المكونة لهذا البعد كلها داخلية، إلا أن معظم تأثيرها، وما تتأثر به خارجياً.

(1) أهمية الموقع:

ينتمي موقع الدولة الجغرافي إلى منطقة محددة (جيوبوليتيكية)، وهي ذات مدلول خاص عند التعامل معها. ويعني ذلك، وجود علاقة بين الموقع الجغرافي ومنطقته الجيوبوليتيكية، التي لها كذلك علاقة مع المناطق الأخرى، وتضع كل علاقة منهما مبداءً في السياسة الخارجية للدولة. فدول منطقة الارتطام الجيوبوليتيكي (الشرق الأوسط)، يجدر بها التوازن في العلاقات بين الكتل المختلفة، بينما منطقة النفوذ الأمريكي، يجب عدم التدخل المباشر بها، كما يجب عدم المساس بالمصالح الأمريكية بها، والعكس صحيح، فالمنطقة الشرقية كذلك بالنسبة لروسيا الاتحادية، يجب عدم المساس بمصالح روسيا بها، إن كانت بدرجة أقل من الاتحاد السوفيتي السابق.

ويمثل الموقع الجغرافي عدة حقائق، تعكس دلالة جيوبوليتيكية. فمن جهة، يحدد الموقع الجغرافي، عدد الدول المجاورة، وهو ما يحدد حجم واتجاه المخاطر، التي يمكن أن تتعرض لها الدولة. كذلك يحدد الموقع، سمات المكان (الدولة)، الذي قد يحتوي على مميزات عدة، فقد يكون مشرفاً على طرق اقتراب ذات أهمية إستراتيجية لدولة ما[12]، ويعتبر إشراف الموقع على البحار المفتوحة عاملاً مهماً في زيادة قيمته، حيث تتسع علاقاته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويكون الموقع ذا أهمية خاصة عندما يرتبط بمواصلات خارجية، قد تكفل له الأمن، وقد تزيد من تعرضه للمخاطر[13]. وتمتع الموقع بمواصلات داخلية عديدة، يمكّن الحكومة المركزية من السيطرة على كافة أنحاء الدولة، كما يسعفها عند تحرك قواتها من اتجاه لآخر، وهو ما يزيد من درجة الأمان الداخلي[14].

وتمثل سمات الموقع، أهدافاً للآخرين، مِمَن تحقق لهم هذه السمات أهدافاً أمنية، فيهتمون بالموقع ويسعون إلى السيطرة عليه بشتى الوسائل. فقد حاولت روسيا القيصرية (ومن بعدها الاتحاد السوفيتي) السيطرة على إيران، حيث يمكن عن طريقها الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، أو بحر العرب ومنهما إلى المحيط الهندي. وعندما فشل، اتجه إلى أفغانستان لتحقيق الهدف نفسه. وفي المقابل، فإن بريطانيا تصدت للاتحاد السوفيتي، بالسيطرة على إيران والعراق، لمنعه من النفوذ إلى المياه الدافئة، ليكسر الحصار الاقتصادي حوله. كما تصدت له الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، بمعاونة سكان الإقليم عسكرياً (تسليح وتدريب)، ونجحت في هدفها، حيث اضطر إلى سحب قواته من أفغانستان، لارتفاع خسائره، دون تحقيق أي هدف.

(2) تأثير طبيعة الأرض:

يؤدي ضيق مساحة الدولة، إلى عدم توفر عمق إستراتيجي لها، فتضيق مسارح عملياتها، وتضعف قدرتها على المناورة، ويؤثر ذلك على حشد القوات للقيام بعمليات حربية. كما يؤثر على إمكانيات تلك القوات في العمل، حيث يحد من قدرتها على تغيير اتجاهات العمل (المناورة). ويكون على الدولة ذات المساحة الضيقة، الالتزام بإستراتيجيات محددة للحفاظ على أمنها. فهي إما محايدة، وتبتعد عن أي مشاركة في الأحداث المحيطة (لبنان بعد حرب فلسطين 1948، وحتى الغزو الإسرائيلي لجنوبها، عندما تزايدت الأعمال الفدائية الفلسطينية ضد إسرائيل من الحدود الجنوبية)، أو تنتهج سياسة عدوانية وقائية، بالإسراع إلى شن الحرب ونقلها خارج أراضيها (إسرائيل في كل حروبها ضد العرب، بعد قيام الدولة الإسرائيلية عام 1949)

كذلك، فإن طبيعة الأرض، توضح مدى صلاحيتها للأعمال العسكرية، والاقتصادية، وهو ما ينتج عنه، ضرورة، الاحتفاظ بقوات بحجم محدود، يزداد عند الخطر ليصل إلى الحجم الذي يستطيع أن يدافع فيه عبر عن حدود الدولة الصالحة لأعمال القتال، حيث يمكن أن يقل هذا الحجم، بوجود أجزاء من الأرض أو الساحل (في مسارح العمليات المنتظرة) غير صالح للحرب. كذلك، فإن صلاحية الأرض (من حيث شكل السطح، وطبيعة التكوين، والساحل وما جاوره) توضح إمكانية إنشاء موانئ بحرية وجوية بالحجم والقدرات، التي تزيد (أو تقلل) من النشاط الاقتصادي للدولة والسكان.

كلا النتيجتين (العسكرية والاقتصادية) تؤثر على سياسة الدولة العسكرية، والاقتصادية، وعلاقتها بالدول المجاورة، التي يمكن التعاون معها للتخفيف من قيود طبيعة الأرض، أو الحذر منها والاستعداد لمواجهتها بكيفية محددة[15].

(3) توافر الموارد الطبيعية:

وفاء الموارد الطبيعية، باحتياجات الدولة، يساعدها على استقلال قرارها السياسي. ووفرة تلك الموارد تساند الاقتصاد الوطني وتدعمه، وهو ما ينعكس كذلك على القرار السياسي قوة واستقلالية. إلا أنها، من جانب آخر، تصبح مصدر تهديد، عندما تكون ذات أهمية للآخرين، الذين سيسعون للسيطرة عليها (النفط).

موقع الموارد الطبيعية في الدولة، ومدى قربها من الساحل أو الحدود، يؤثر على سياسة الدولة، خاصة إذا كانت الموارد مجمّعة في مناطق قريبة، مما يُملي سياسة عسكرية للدفاع عنها وحمايتها بأسلوب خاص، ويلقي ذلك عبء على الاقتصاد الوطني، والقدرات العسكرية للدولة، بتعرض تلك الموارد لأخطار عديدة (غزو عسكري ـ تدمير ـ توفير بديل).

(4) توافر المواصلات:

توافر المواصلات الداخلية، وارتباطها بمواصلات خارجية، يزيد من المخاطر والتهديدات لأمن الدولة الوطني، بعدم القدرة على حشد القوات في الوقت والاتجاه الصحيحين، وضعف حركة التجارة الخارجية، وقدرة السكان في المناطق الحدودية، وضعف ولاء سكان الأقاليم الخارجية، البعيدة عن قلب الدولة، وتمردهم المتكرر[16].

ب. مؤشرات قياس عناصر تهديد البعد الجيوبوليتيكي:

(1) وجود دولة (أو عدة دول) ذات توجهات عدوانية، في نطاق الدوائر الأمنية للدولة.

(2) تغيير نظم الحكم في الدول المجاورة، واتجاهها إلى تحالفات معادية.

(3) تبني نظم حكم قريبة، لأيديولوجيات متناقضة مع أهداف الدولة، واحتضانها لعناصر إرهابية ومتطرفة من مواطني الدولة الفارين للخارج.

(4) محاولات الدول المجاورة التعدي على حدود الدولة (سياسة شد الأطراف).

(5) نشوب صراع مسلح (أو توتر سياسي وعسكري)، في دول الجوار الجغرافي، والدول التي ترتبط الدولة معها بمعاهدات دفاعية، أو تشترك معها في تنظيمات إقليمية (ودون إقليمية).

 


 



[1] حالة لبنان، وقت الحرب الأهلية، بوجود مليشيات مسلحة تابعة للطوائف والأحزاب، كذلك حالة الصومال بعد الانقلاب الأخير، ووجود مليشيات مسلحة تابعة للقبائل وأخرى منشقة عنها.

[2] استضافت المملكة العربية السعودية، قوات محدودة من دول الخليج الأعضاء معها في مجلس التعاون الخليجي، في حشد سمي `قوات درع الخليج`، الذي أثبت أهميته بسرعة وجوده على حدود المملكة مع الكويت بعد الغزو العراقي عام 1990. وقد أثبتت حرب الخليج الثانية، ضرورة وجود نظام أمن دفاعي جماعي، فكل دول المنطقة، باستثناء المملكة العربية السعودية، عاجزة عن بناء قوة عسكرية مؤثرة منفردة، ومن الوجهة الأمنية تعد المملكة وجيرانها من دول الخليج، كلاً متكاملاً.

[3] المعدل العالمي المناسب للكثافة 25 نسمة لكل كم مربع، ويحسب (كمعدل عام) بخارج قسمة تعداد السكان (شاملاً غير الوطنيين المقيمين بالدولة) على مساحة أراضي الدولة.

[4] خارج قسمة عدد السكان في المكان (مدينة ـ قرية ـ حيّ ـ منطقة ـ ولاية ـ محافظة) على مساحته.

[5] مشكلة المنطقة الشمالية (الجليل) في إسرائيل، التي ترتفع بها الكثافة السكانية لكونها ذات نشاط زراعي، وتتعرض لقصف صاروخي من قبل المقاومة اللبنانية (والفلسطينيون في لبنان سابقاً)، مما يزيد من الخسائر البشرية بها (القوى البشرية لإسرائيل محدودة) فضلاً عن الخسائر الاقتصادية لهذه المنطقة، وهو ما حدا بإسرائيل إلى القيام بعملية عسكرية لاحتلال جنوب لبنان (السلام من أجل الجليل) منذ عام 1982، لإقامة منطقة عازلة.

[6] الكثافة السكانية بالقاهرة 28.5 ألف نسمة / كم2.

[7] عادة تنتشر بالأحياء العشوائية ظاهرتي التكدس (وجود أكثر من أسرة في سكن واحد) والتزاحم (زيادة عدد القاطنون في غرفة واحدة)، وما ينتج عنهما من تهديدات اجتماعية، بالإضافة إلى ضعف (أو انعدام) الخدمات الرئيسية بتلك المناطق، وأولها الرعاية الصحية.

[8] تعريف الحد الأمثل `التوازن في النمو السكاني، الذي يتناسب مع النمو الاقتصادي بما يعني زيادة الدخل للفرد طردياً مع النمو السكاني`، وتصل الدولة إلى حد الاستقرار، عندما تصل إلى الحد الأمثل لتعداد السكان بالنسبة لدخل الفرد.

[9] مثال ذلك، الجماعات الإرهابية في مصر، والتي نفذ بعضها اغتيال السياح الأجانب بالأقصر للإضرار بالاقتصاد المصري، كما تحاول بعض الجماعات الإيقاع بين المسلمين والأقباط لإحداث فتنة طائفية، تؤثر على تماسك الشعب المصري، وتهدد أمنه.

[10] محاولة بعض المصريين، المهاجرين هجرة دائمة إلى كندا، تشويه سمعة مصر، بافتعال تظاهرات وأحاديث عن الاضطهاد الذي يلقاه إخوانهم في العقيدة (الأرثوذكس) على أيدي المسلمين في الدولة.

[11] كثير من الدول الإسلامية، تستمد قوانينها الوضعية، في مختلف الأنشطة البشرية، من القوانين الغربية، تاركة الاحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.

[12] كانت الهند، أهم المستعمرات البريطانية، لذلك احتلت كل المواقع المشرفة على طريق الملاحة البحرية المؤدية إليها (جبل طارق ـ مالطا ـ قبرص ـ مصر ـ السودان ـ عدن، وقد تخلت عنهم جميعاً عندما قررت منح الهند استقلالها).

[13] زادت أهمية مصر بعد حفر قناة السويس، وأدى ذلك إلى احتلالها لاستغلال هذا الممر المائي الحيوي للوصول إلى شبه القارة الهندية. كما أدت طرق المواصلات في سويسرا المرتبطة بكافة الاتجاهات في أوروبا إلى انتهاجها سياسة حيادية، وافق عليها جميع القوى في أوروبا، واحترموها.

[14] كان الفاصل بين إقليمي باكستان، الشرقي والغربي 1600 كم، دون توفر مواصلات بينهما إلاّ من خلال الأراضي الهندية، وهو ما ساعد على انفصال الشرق ليكون دولة مستقلة (بنجلاديش).

[15] تستخدم السودان الموانئ البحرية للدول المجاورة، في تجارتها الخارجية لعدم صلاحية معظم سواحلها على البحر الأحمر لإنشاء الموانئ (وهو ما يؤمن شواطئها ضد الإبرار البحري كذلك، كما أن موانيها على هذا البحر محدودة القدرة، ويفرض ذلك عليها أن تنهج سياسة معتدلة مع دول الجوار، أو تختنق اقتصادياً (مثلما حدث بعد الثورة الأخيرة في يونيو 1989، كما أنها لا تحتاج إلى قوة بحرية كبيرة، أو قوات ساحلية ضخمة للدفاع عن ساحلها.

[16] تقل قدرة وصلاحية المواصلات في المناطق الجبلية، وغالباً ما يتمرد سكان هذه المناطق (خاصة إذا كانت قريبة من الحدود )، على الحكومة المركزية وخير مثال على ذلك الأكراد في منطقتهم الجبلية على حدود ثلاث دول (إيران وتركيا والعراق) وهم متمردون على حكومات الدول الثلاث بصفة دائمة.