إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / جوديريان، وفرق البانزر




هاينز جوديريان

دور قوات البانزر في العمليات في غربي أوروبا
دور قوات البانزر في الغزو الألماني لروسيا
دور قوات البانزر في الغزو الألماني لفرنسا

البانزر خلال الحرب العالمية



جودريان وفرق البانزر

المبحث الأول

إنشاء القوات الألمانية المدرعة (1921 – 1938)

 

أولاً: جوديريان، نشأته وحياته

وُلد هاينز جوديريان صباح يوم الأحد، 17 يونيه 1888، في مدينة كولم Kulm، على نهر الفستولا، شرقي ألمانيا، في منطقة بروسيا الشرقية. كان والده فريدريك جوديريان أقدم ملازم في كتيبة المشاة الخفيفة الثانية. أمّا والدته، فهي كلارا كيرشهوف.

التحق جوديريان، وهو في السادسة من عمره، بمدرسة سانت أفولت، في إقليم اللورين، حيث كان يعمل والده. واضطره افتقاد المنطقة مدرسة ثانوية إلى الالتحاق، هو وأخوه، فريتز، بمدرسة كارلسروه العسكرية، في بادن، منذ الأول من أبريل 1901 حتى الأول من أبريل 1903؛ ثم بالمدرسة العسكرية الرئيسية، في جروش، قرب برلين. حصل جوديريان، في فبراير 1907، على شهادة "الريفيروفونج"، التي تعادل شهادة إتمام الدراسة الثانوية؛ وعُين ضابطاً تحت الاختبار في كتيبة المشاة الخفيفة العاشرة، في هانوفر، تحت قيادة والده.

التحق جوديريان، من أبريل إلى ديسمبر 1907، بمدرسة الحرب، في ميتز. ثم عُين ضابطاً، برتبة ملازم، في 27 يناير 1908، مع احتساب أقدميته، بدءاً من 22 يونيه 1906. ونقلت كتيبته، في أكتوبر 1909، إلى منطقة جوسلار، في جبال هارز، حيث تعرّف إلى مرجريت جورن، وتزوجا في الأول من أكتوبر 1913، وهو التوقيت نفسه، الذي التحق فيه بالأكاديمية الحربية، في برلين. ورزق، خلال الحرب العالمية الأولى، بنجلَيْه: هاينز جونز وكيرت. وتُوفي والده عام 1915. وطال عمر والدته إلى مارس 1931.

ثانياً: التفكير في قوات مدرعة

لم يتلقَّ الجنرال جوديريان أيّ تدريب فني على المدرعات، وإنما بدأ حياته العملية ضابط مشاة "الجيجرز"، ثم ضابط إشارة. فتولَّى، في يناير 1920، قيادة سرية مشاة. ونقل، في الأول من أبريل 1922، إلى إدارة التفتيش في وحدات النقل، التابعة لإدارة النقل الآلي، المفوضة إلى الجنرال تشيشفتز، في وزارة الدفاع؛ وذلك بعد تلقي جوديريان تدريباً عملياً، مع وحدات النقل، في ميونخ، استعداداً لاضطلاعه، في وزارة الدفاع، بتنظيم قوات الحملة الآلية واستخدامها.

تأثر جوديريان بفكر خبراء الإستراتيجية، مثل فولر ومارتل؛ غير أن ليدل هارت، كان الأشد تأثيراً فيه، ولاسيما اقتراحه تكوين الفِرق المدرعة من الوحدات المدرعة، ووحدات المشاة المدرعة؛ لتقوَى على الضربات بعيدة المدى، وقطع خطوط مواصلات العدوّ. وعكف جوديريان على دراسة استخدام الحلفاء الواسع للقوات المدرعة، إبّان الحرب العالمية الأولى، وبخاصة معارك الدبابات البريطانية، في السوم، وآمين وكامبري؛ واعتقاد معظم الدول الكبرى، بعد تلك الحرب، أن الدبابة ما هي إلا سلاح معاون للمشاة، يحميهم في الأراضي المفتوحة خاصة. وتنبَّه لعجز المشاة والأسلحة المعاونة عن اللحاق بالدبابات، ودعم اختراقها السريع لعمق دفاعات العدوّ وأجنابه وصفوفه الخلفية.

استخلص جوديريان، أن استخدام ألمانيا القوات المدرعة، أثناء الحرب الكونية الأولى، كان محدوداً جداً. واستأنس بما كتبه الملازم فوكهايم، أحد العاملين في أبحاث الضباط الأركان، لمصلحة جيش ألمانيا، الذي أهزلته معاهدة فرساي؛ فرأى الجنرال أنه إذا قدر لبلاده، أن تخوض حرباً جديدة، فلن تنفعها حرب الخنادق؛ ولا استخدام الحملة الآلية، خلف جبهة ثابتة، لا تتصل فيها مباشرة بقوات العدوّ، وتفتقر كذلك إلى أيّ وقاية ذاتية من نيران أسلحته الخفيفة، كالبنادق والرشاشات. وهو ما حدا جوديريان على التفكير في المركبات المدرعة.

ولم يَفُت الرجل تحقيق بريطانيا رُوَّي فولر وليدل هارت، بتأليفها، عام 1927، قوة من الدبابات والعربات المدرعة وناقلات الجند؛ وإجراء فيلق الدبابات الملكي، الذي يقوده العميد برود، مناورة، عام 1931، استخدم فيها اللاسلكي، للمرة الأولى. واستجاب للجنرال فون آلتروك، رئيس تحرير المجلة العسكرية، الأسبوعية، رغبته في استعراض ما تعانيه القوات المسلحة، وما يقترحه المتخصصون والمهتمون من حلول؛ فكتب في تلك المجلة مقالات قصيرة لافتة. كما تعرف، من خلال المجلة، إلى الكاتب النمساوي، الألماني الأصل، فرتز هيجل، مؤلف كتاب الجيب للدبابات. وأفاد منه علماً بالدبابات، وأفاده علماً بالاستخدام التكتيكي.

وتمخضت فكرة القوات المدرعة في رأس جوديريان، في 21 ديسمبر 1923، حينما كان يُعِدّ مناورة، قادها المقدم فون براوختش، وعاونت عليها القوات الجوية؛ فضلاً عن إعداده مشروعات عدة وتنفيذها، مستخدماً الحملة الآلية، وما سمحت به معاهدة فرساي من ناقلات جند مدرعة متخلفة، من طراز 4×4، لا يمكنها التحرك إلا على الطرق فقط؛ لثقل وزنها، وانتقالها على إطارات مطاطية، وليس جنزيراً؛ ما يعوق تحركها خلال الأراضي الرملية أو الطينية.

استهدفت تلك المناورات والمشروعات، أن تختبر إمكانية استخدام القوات المدرعة: الخفيفة والآلية، في أعمال الاستطلاع خاصة، بمشاركة قوات الفرسان. وهي قوات، تقتضي مهامّها خفة الحركة، التي توفرها المركبات الخفيفة والدراجات البخارية.

أمّا جوديريان، فقد استهدف تحويل الحملة الآلية، من وحدات إدارية إلى وحدات مقاتلـة؛ فانصب عليه سخط قائده، مدير التفتيش، في قوله: "إلى الجحيم بوحداتك المقاتلة... إنها مخصصة لحمل الدقيق".

ولم تكن طموحات جوديريان أوفر حظاً، إثر إلحاقه، عام 1924، بهيئة أركان حرب فِرقة المشاة الثانية، في ستتن؛ وترشيحه لتدريس الضباط أركان الحرب التكتيك والتاريخ العسكري؛ إذ انتقدوا عليه أفكاره انتقاداً هداماً. إلا أن دراسة تكتيكات قوات الفرسان وخفة حركتها، منذ حملة نابليون، عام 1806، إلى بداية الحرب العالمية الأولى، كان لها أثر فعال في رؤية جوديريان للاستخدام: التكتيكي والتعبوي.

أرسى جوديريان القوة المدرعة على قواعد ثلاث:

1. الحركة

يدحض جوديريان الاعتقاد، أن الحركة هي سبب النصر؛ فيقول إنها طالما تأتَّت، سواء بالترجل، أو باستخدام الدواب، أو السكك الحديدية، ثم السيارات؛ فما بالها لم تنتهِ إلى النصر! ويعلل ذلك بأنها تكاد تشل، حينما تواجه القوات المعادية. ويرى أن الدبابات تستطيع الحركة، بعد مواجهة دفاعات العدوّ؛ إذ يمكنها الهجوم على عمق دفاعاته، والوصول إلى أهدافه الحيوية وتدميرها، كمراكز القيادة، ومصادر النيران الرئيسية مثل المدفعية، والاحتياطيات، والمناطق الإدارية؛ ما يشله، ويربك خطط نيرانه، ويقصر جهده على رد الفعل.

2. النيران

المدفعية هي مصدر النيران الرئيسي للقوات، وبخاصة التمهيد النيراني قبيل الهجوم. بيد أن ذلك التمهيد، قلَّما يسَّر النجاح لهجوم المشاة والدبابات المرافقة لها؛ على استمراره مدداً طويلة، واستهلاكه كميات ضخمة من الذخائر. ولذلك، شح جوديريان على الذخيرة ومدة التمهيد النيراني، فآثر تدمير الأهداف الحيوية، في عمق دفاعات العدوّ، بقذائف معدودات، دقيقة التصويب، وفي فترة محدودة. ورأى أن هجوماً ناجحاً سريعاً بالدبابات، تتاح له المواجهة والعمق الملائمان لاختراق نظام العدوّ الدفاعي كلّه، هو أحظى بالنجاح من طرائق التقدم المحدودة، التي اتُّبِعت في الحرب العالمية الأولى. كما أن استخدام عدد وافٍ من الدبابات، وخاصة في قطاع الاختراق، يوفر، بالتبعية، الحشد الكافي من النيران الدقيقة التصويب. وهو الدرس المستفاد من مقابلة نجاح الدبابات الإنجليزية، في معركة كامبري، بفشلها حينما اقتصر دورها على مرافقة المشاة، في بدايات الحرب العالمية الأولى.

    3. الدروع

طالما حاذر الدرع القذيفة، وما انفك يتحصن منها. وما فتئت هي تجاهده. أسهم جوديريان في صراعهما، فاقترح دبابة ثقيلة، ذات درع أقوى، ومدفع عيار 75 مم، سيمكنه تدمير معظم الأسلحة المضادة للدبابات؛ كما أن مقذوفاته، ستكون قادرة على اختراق دروع الدبابات الفرنسية.  

ثالثاً: البدء بتنفيذ الفكرة

طلبت هيئة معلمي الحملة الميكانيكية من جوديريان، أن يقوم بتعليم رجالها أسلوب تكتيكات الدبابات، لم يكن جوديريان، في خريف 1928، قد رأى جوف أيّ دبابة، وإنما اقتصرت إحاطته بها وبقتال المدرعات، على قراءة المراجع المتوافرة، المترجم معظمها عن الإنجليزية. واكتفى، في المجال العملي والمشروعات، باستخدام دبابات هيكلية، مصنوعة من الخشب، ويسحبها جنود مترجلون؛ ثم استبدل بها أخرى، مغطاة بألواح معدنية، وتتحرك آلياً. وسافر، في مهمة تدريبية، مدتها أربعة أسابيع، إلى السويد، حيث أتيحت له قيادة الدبابة، للمرة الأولى؛ وكانت واحدة من دبابات، أنتجتها ألمانيا، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تستخدم في القتال؛ ثم باعتها للسويد، التي اتخذتها، عام 1918، نواة لأول وحدة دبابات سويدية.

أكدت للقائد الألماني دراسته التاريخية، وتنفيذه لمشروعات بدبابات هيكلية، ووقوفه على المشروعات البريطانية التكتيكية، أن إدخال الدبابات ضمن تنظيم فِرق المشاة خطأ، يحدّ من قدراتها. ولن يُحوْل دون ذلك إلا أن تجاريها، سرعة وقدرة على عبور الأراضي، الأسلحة التي تعاونها كافة. واستوثق، في 21 يونيه 1929، من خلاصته تلك، باستخدام فِرقة مدرعة في أحد المشروعات الميدانية، من دون جنود؛ فنجح مسعاه؛ فأمعن في رؤاه، غير عابئ بمعارضة مفتش النقل، الجنرال أتوفون، ومنعه إجراء مشروعات مشابهة لمستوى أكبر من اللواء، قائلاً: "إن فِرق البانزر، ما هي إلا محض حلم وخيال".

وما لبث الرياح أن واتت أحلام جوديريان، في خريف عام 1929، حينما عرض عليه مفتش القوات المحملة، العقيد لوتز، تولِّي قيادة كتيبة محملة، فالتقف عرضه، الذي أمسى حقيقة، في فبراير 1930، إثر تكوين تلك الكتيبة من أربع سرايا، انتظمت انتظاماً بكراً، كالآتي:

1. رئاسة الكتيبة، وسريتان، في برلين. إحدى السريتَين مجهزة بعربات[1] مدرعة، والأخرى بدراجات بخارية، ذات تسليح خفيف؛ فهما يكونان نواة لكتيبة استطلاع مدرعة.

2. سرية في جهة نيس، مضادة للدبابات، زوِّدت بمدافع هيكلية (خشبية).

3. سرية في منطقة التدريب، جُهزت بدبابات هيكلية.

وضعت كتيبة جوديريان تحت قيادة الفِرقة الثالثة. ولم يسمح له المشاركة في المناورات بما يفوق فصيلة. إلا أنه كان سعيداً بالمشاركة الفعلية؛ فضلاً عن ارتياحه إلى دعم الجنرال سترليناجل واهتمامه بأفكاره، ولكنه سرعان ما افتقد ذلك النصير، الذي صمم على ترك الخدمة، في ربيع عام 1931، إثر خلاف بينه وبين وزارة الحرب.

وطمع قادة قوات الفرسان في الاستيلاء على وحدات جوديريان الجديدة؛ إذ عارضوا قصر قواتهم على أعمال الاستطلاع التعبوي فقط. واقترح قائدهم، أن يعاد تكوين القوات، لتسمى قوات الفرسان الثقيلة، القادرة على إدارة أعمال قتال منفصلة، على أن توكل أعمال الاستطلاع إلى الوحدات الآلية. غير أن جوديريان خيب مطامعهم بدعوته  إلى تكوين وحدات دبابات، تعاونها وحدات معاونة، ذاتية الحركة، والتي حظيت بالقبول دون اقتراحاتهم.

لم تبالِ ألمانيا بتحريم معاهدة فرساي الدبابات على جيشها، المسمَّى "جيش المائة ألف مقاتل، بل شرعت، منذ عام 1926، تمهد لصنع دبابة ألمانية جديدة؛ فعاقد سلاح المهمات عدة مصانع على إنتاج نوعَين من الدبابات المتوسطة، وثلاثة أنواع من تلك الخفيفة.

وما لبثت أن أنجزت نموذجَين لكلّ نوع؛ مراعية ما حرص عليه النقيب بيرنر، المسؤول عن إنتاج تلك النماذج، من مواصفات: ميدانية وتكتيكية، مثل: منع نفاذ الغازات السامة، وميدان نيران دائري للمدفع الرئيسي ورشاش البرج؛ وارتفاع ملائم، يتفادى التضاريس، أثناء الحركة. صنعت هياكل الدبابات من الصلب الرقيق. وزوِّدت كلّ منها برشاشَين: أحدهما في برجها، والآخر في جسمها. وسلِّحت بمدفع، عياره في الدبابة الخفيفة 37مم، وفي المتوسطة 75مم. وناهزت سرعتها القصوى 12 ميلاً في الساعة.

عيبت تلك النماذج بكون مقعد القائد فيها مجاوراً للسائق؛ ما يحرمه الرؤية الخلفية. أضف افتقادها الاتصال اللاسلكي. ناهيك بأن وزن كلّ منها، لم يـزد على 24 طناً، لتلائم الجسور والطرق الألمانية. فعجلت ألمانيا إلى إنتاج نماذج جديدة، تتدارك تلك العيوب، ويتسع كلّ منها لخمسة رجال: القائد، والرامي، ومساعد الرامي، وعامل اللاسلكي، والسائق؛ فضلاً عن زيادة السرعة القصوى على خمسة وعشرين ميلاً في الساعة.

رابعاً: تباشير البانزر

لم يصطبر جوديريان لِما سيستغرقه إنتاج النماذج الجديدة، فتعجل دبابة تدريب؛ استخدم في إنتاجها الشاسيه "كاردن لويد"، المشترى من بريطانيا؛ وسُلِّحت بمدفع عيار 20 مم. أردفت بأخرى، بين عامَي 1932 و1934، سمِّيت "بانزر1". عقبتها "بانزرـ2"، المزوَّدة بمدفعَين: عيار أحدهما 20 مم، والآخر مدفع ماكينة، صنعته شركة مان. وأسفر اختبار الدبابات الجديدة، في مناورات صيف 1934، عن تزكية كثير من ضباط الفرسان النابغين لذلك السلاح الجديد، واصطفائهم إياه.   

وما كان لتلك المنجزات أن تُدرَك، لولا وصول هتلر إلى السلطة، في 30 يناير 1933، واختياره الجنرال بلومبرج وزيراً للحرب، والجنرال ريشينو مديراً لمكتبه؛ والاثنان يؤيدان النهوض بالقوة المدرعة. لا، بل إن هتلر نفسه، كان مهتماً بذلك. وآية ذلك أنه بعد محاضرة جوديريان وبيانه العملي، الذي استخدم فيه فصيلـة دراجات بخاريـة، ومضادة للدبابات، وفصيلتَين من عربات الاستطلاع المدرعة: إحداهما خفيفة، والأخرى ثقيلة؛ فضلاً عن فصيلة من البانزر –1؛ علق هتلر على سرعة تحركات القوات ودقتها، قائلاً "هذا هو ما احتاج إليه... هذا هو ما أريد الحصول عليه".

وأصبح هتلر، بعد موت الرئيس الألماني، المشير فون هندنبرج، في 2 أغسطس 1934، رئيساً للدولة؛ إضافة إلى كونه مستشارها وقائداً أعلى لقواتها المسلحة؛ فأحكم قبضته على كلّ السلطات، استناداً إلى قانون تفويض السلطة، الذي أقره البرلمان الألماني. وسرعان ما أعلن، في الأول من مارس 1935، التجنيد الإجباري؛ متنكراً لمعاهدة فرساي، التي حددت عدد الجيش الألماني، وحرّمت عليه الأسلحة: الرئيسية والهجومية، وقيدت صنعها.  

أمّا جوديريان، فكان عاكفاً على استدراك الفارق الشاسع في عدد الدبابات وتطورها، بين ألمانيا وجيرانها الأقوياء. وقد تلافاه استخدام دباباته في حشد ملائم، ودعم متحرك، وقيادة جريئة، تتقدم قواتها، وتخترق دفاعات العدوّ وتتغلغل في أعماقها، وتنتشر في أجنابه وصفوفه الخلفية، لتدمر قياداته ومواصلاته ومصادر نيرانه الثابتة؛ وكلّ ذلك في سرعة، تقتصر عنها ردود فعله المرتبكة. كما اقترح جوديريان على الجنرال بك، رئيس هيئة أركان الحرب، إنشاء ثلاث فِرق بانزر؛ ولكنه لم يوافقه على سوى اثنتَين. وعهد إلى الجنرال لوتز بقيادة القوات المدرعة، التي تكونت في 15 أكتوبر 1935، من ثلاث فِرق بانزر: قاد أولاها الجنرال فرهرفون فيك، في فيمار؛ وثانيتها الكلولونيل جوديريان، في فرزبرج (انظر ملحق أول تكوين لفِرقة البانزر، في 15 أكتوبر 1935وثالثتها الجنرال فسمان، في برلين.

خامساً: تشبث جوديريان بالبانزر

ألحقت فِرق البانزر الثلاث بقيادة القوات المدرعة، التي جاهد جوديريان أن تكون إحدى قيادات الجيش المستقلة، أسوة بسائر قيادات الأسلحة الأخرى. إلا أن رئيس هيئة أركان الحرب، رفض استقلاليتها؛ بل شرع يكوِّن لواء بانزر رابعاً، ليكون نواة قوات مدرعة، تُعِين المشاة، من قرب، ولا تعمل مستقلة.  

وازدادت معاناة جوديريان، حينما طالب قادة الفرسان، في الأول من يناير 1936، بالسيطرة على الوحدات المحملة. وقد انتظمت فِرقاً خفيفة، بدلاً من فِرق البانزر الثلاث، وانضمت إلى الفيلق السادس عشر. وأُلِّفت ثلاث فِرق خفيفة، كلُّ من آلايَيْن محملَين من المشاة، وآلاي استطلاع، وآخر مدفعية، وكتيبة دبابات، ووحدات معاونة؛ لتكون الفيلق الخامس عشر. وتكوَّن الفيلق الرابع عشر من فِرق مشاة عادية، تنقلها حملة آلية. وأَلَّفت الفيالق الثلاثة "الجماعة الرابعة"، تحت قيادة الجنرال فون براوختش، في ليبزج.

وتكاثرت عوائق البانزر، فطاولت موارد التصنيع المحدودة، التي اختصت بها الحملة الآلية، والتي بددها، مثلاً، إصرار رئيس المكتب العام للجيش، على تحميل السرايا المضادة للدبابات في آلايات المشاة العادية، والتي كانت تجرها الخيول؛ على الرغم من إبقاء على جر كتائب المدفعية الثقيلة بواسطة الخيول؛ ما أدى إلى عواقب وخيمة، خلال الحرب في الأراضي الروسية، وخاصة في الشتاء. رُقّي جوديريان إلى رتبة لواء، في الأول من أغسطس 1936. ووافقت ترقيته مناورات الخريف، التي اشترك فيها من وحدات البانزر، الآلاي الرابع فقط؛ بل استخدم في حشد قليل، لا يظهر كفاءة هذا النوع من القوات. وهو نفسه ما برهن به جوديريان للصحفيين المدعوين لحضور المناورات، صحة عكسه، الحشد الملائم.  

وأصدر، في بداية عام 1937، كتاباً، بعنوان: "انتباه البانزر"، سرد فيه فكرة القوة المدرعة ومراحل إنشائها وتطورها. ودأب على الكتابة في المجلات الألمانية العسكرية المتخصصة، ولاسيما مقاله في مجلة الاتحاد الوطني للضباط الألمان، في أكتوبر 1937، الذي أستعرض فيه رأي معارضيه، من المحاربين القدامى، الذين ما فتئوا يحسبون كلّ حرب خنادق، كمعارك الحرب العالمية الأولى. وما الدبابة إلا سلاح "أعمى وأصم"، ليس في مقدورها الاحتفاظ بالأراضي؛ كما أنها هدف سهل للأسلحة المضادة للدبابات، إذا أحسن اختيار مرابضها. ونوّه فيه كذلك بقول مؤيديه، "من ذلك الرعيل الأول" إن الدبابات، تقتحم الخنادق والأسلاك، حيث تحطم جنازيرها الأسلحة المعادية؛ تمهيداً لتطهير قوات المشاة المرافقة تلك المواقع. وذكر مجاهدتهم بأن ما أثارته الدبابات من ذعر، كان من أهم أسباب انهيار القوات الألمانية، في 8 أغسطس 1918.

 ولفت جوديريان إلى أن عصر حرب الخنادق، قد ولَّى. والحرب المقبلة، ستستند إلى حشد ملائم للدبابات، يحقق ثلاثة عوامل مهمة: القدرة على الحركة، ونقل المعركة إلى عمق دفاعات العدوّ؛ إنتاج النيران المؤثرة في أهداف منتقاة، تخل بالنظام الدفاعي المعادي؛ الوقاية الذاتية من نيران الأسلحة الخفيفة، بزيادة كفاءة الدروع. أضف إلى ذلك الاهتمام بالتأمين: الإداري والفني، المتمثل في الإمداد والإصلاح والإخلاء.

أمّا المناورة الرئيسية، في 12 سبتمبر 1937، التي حضرها هتلر وكبار ضيوفه: فمن إيطاليا حضر بنيتو موسيليني Benito Moussolini والفريق باديليو، من إيطاليا؛ ووفد بريطاني عسكري، يرأسه المشير ديفرل؛ وفد مجري عسكري ـ فقد شاركت فيها من قوات البانزر الفرقة الثالثة، بقيادة الجنرال فسمان؛ واللواء الأول. وعُهد بتقييم أدائها إلى جوديريان، ضمن هيئة محكمين. وأسفرت المناورة عن قدرة تلك القوات، منفردة، على القتال، وتذليل مشاكل الإمداد والصيانة؛ فكان ذلك إيذاناً بعصر جديد لقوات البانزر، وحافزاً لراعيها، جوديريان، إلى القول، في نهاية عام 1937: "إننا نطالب أن يكون لدى جميع الأسلحة المقاتلة، التي ستعمل، بالتعاون معاً، لتطوير نجاحنا، خفة الحركة نفسها؛ وأن تُلحق بنا، في وقت السلم؛ إذ إن العامل الحاسم في المعارك المقبلة، سيكون عديد القوات المدرعة، وليس المشاة".

ويخالف جوديريان إيمنسبرجر في إنشاء وحدات دبابات، تعمل، في تعاون دقيق، مع المشاة، أثناء اختراق دفاعات العدوّ. ويرى أن القوات المدرعة قادرة وحدها، وبلا تمهيد مدفعي كثيف، على أعمال قتال منفردة، بما فيها ذلك الاختراق. ويعتقد "أن المحركات ذات الدروع، يمكنها نقل أسلحتنا إلى أوضاع ملائمة داخل مواقع العدوّ، من دون الحاجة إلى التمهيد الابتدائي للمدفعية، إذا رُوعيت المعايير التكتيكية المهمة، كالتحرك على الأرض الملائمة، والمفاجأة، والحشد في استخدام الدبابات".

 



[1] العربات المدرعة، سمحت بها معاهدة فرساي، ونظراً لقدم وضعف تلك العربات، فقد كان جوديريان يستخدم الدبابات الهيكلية بدلاً منها لإطالة عمر استخدام العربات المدرعة.