إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / جوديريان، وفرق البانزر




هاينز جوديريان

دور قوات البانزر في العمليات في غربي أوروبا
دور قوات البانزر في الغزو الألماني لروسيا
دور قوات البانزر في الغزو الألماني لفرنسا

البانزر خلال الحرب العالمية



جودريان وفرق البانزر

المبحث الثالث

جهد البانزر بين عامَي 1941 و1945

 

أولاً: المناخ الألماني: السياسي والعسكري

وقعت روسيا وألمانيا، في 31 أغسطس 1939، ميثاق صداقة، وأعقبته أولاهما بالاستيلاء على دول البلطيق (أستونيا Estonia ـ لاتفيا Latvia ـ لتوانيا Lithuania)، والهجوم على فنلندا Finland، في نوفمبر 1939. كما أجبر الروس رومانيا على تسليمهم بسارابيا؛ ما اضطر هتلر إلى إعلان ضمان الاستقلال الروماني. وأسهم في تأزم العلاقات الروسية ـ الألمانية إعلان موسوليني الحرب على اليونان، وانضمام بلغاريا ويوغسلافيا إلى المحور، وارتداد الأخيرة عنه، بعد انقلاب بلجراد، وتوقيعها في 5 أبريل 1941، ميثاق صداقة مع روسيا؛ لتندلع، في اليوم التالي، حرب في البلقان؛ لم يشارك فيها جوديريان؛ ولكن شاركت فيها البانزر، فعجلت بحسم أعمال القتال، وهزيمة الجيشَين: اليوغسلافي واليوناني، وتقسيم يوغسلافيا بين كلّ من ألمانيا وإيطاليا والمجر وبلغاريا وألبانيا، وإنشاء كرواتيا دولة مستقلة.

وسعى هتلر إلى تبديد التأزم، فدُعي وزير خارجية روسيا، مولوتوف، لزيارة برلين، حيث اشترط عقد اتفاقية، تحدد مستقبل بولندا؛ والإقرار بالهيمنة الروسية على فنلندا؛ والاعتراف بمطالب روسيا، في كلّ من رومانيا وبلغاريا؛ وإعلان حاجة روسيا إلى مضيق الدردنيل. فأيقن الفوهرر، أن استقرار ألمانيا في أوروبا، لن يتحقق إلا بهزيمة روسيا. وأكدت له هيئة الأركان الألمانية، أن ذلك لن يستغرق أكثر من 10 أسابيع. 

ثانياً: الغزو الألماني لروسيا (انظر خريطة مهامّ قوات البانزر في المسرح الأوروبي، خلال الحرب العالمية الثانية)

جمع النازيون لروسيا ثلاثة جيوش. وحشدوا قوات البانزر في أربع جماعات: واحدة لكلّ من جيشَي الشمال والجنوب؛ واثنتان لجيش الوسط: إحداهما، قادها الفريق جوديريان، وقوامها ثلاثة فيالق بانزر، راوح عماد كلّ منها بين فِرقة واحدة وثلاث فِرق بانزر، وفِرقة واحدة وفِرقتَي مشاة محملة، أو فرسان، أو حرس الرايخ. والأخرى، قادها الفريق الأول هوث (انظر شكل دور قوات البانزر في الغزو الألماني لروسيا).

لم تحدد الخطة الألمانية اتجاهات لمجهود القوات الرئيسي؛ ليتسنّى دفْع الاحتياطي إلى أكثرها نجاحاً. وعهدت إلى جوديريان بعبور نهر البوج، على كِلا جانبَي برست؛ ثم الاختراق العميق للدفاعات الروسية؛ والإسراع في الوصول إلى الهدف التعبوي: روسلافل، الينا، سمولنسك، لحرمان العدوّ إعادة التجمع وتكوين جبهة جديدة؛ فضلاً عن الاستعداد للاتجاه شمالاً، بمعاونة الفريق الأول هوث، للاستيلاء على ليننجراد.

برع جوديريان في كتمان نيته. ولم يفطن لها الروس في قلعة برست، بل انصرفوا إلى مباريات الكرة الطائرة، والتدريب على أنغام الموسيقى العسكرية؛ لتنصبّ عليهم، فجر 22 يونيه 1941، النيران النازية، تمهيداً لعبور دبابات البانزر الأمامية نهر البوج، البالغ عمقه ثلاثة عشر قدماً. وسرعان ما استولى جوديريان على جُسور النهر، جنوب القلعة، سليمة؛ وأنشأ بعض الجسور في شمالها. وخاضت دبابات البانزر والدبابات الروسية، مساء اليوم نفسه، أولى معاركهما.

والتقت، في 27 يونيه، جماعتا البانزر، التابعتان للفريق جوديريان والفريق الأول هوث، وحاصرتا منطقة بياليستوك؛ فأحرزتا أول نصر حاسم في هذه الحملة. وما لبث جوديريان أن ترك بعض وحداته للمعاونة على إحكام الحصار، ريثما تصل قوات المشاة؛ واندفع، شرقاً، للاستيلاء على خط الهدف التعبوي.

ونشط النازيون، فجر الأول من يوليه، في التقدم نحو نهر الدنيبر، لإنشاء رؤوس جسور قوية، قبل وصول الاحتياطيات الروسية. ووقعت أكبر معركة جوية، منذ بدء القتال، أسفرت عن هزيمة الروس، وأسْر 36 ألفاً من قواتهم المحاصَرة. بيد أنهم بادروا، صباح اليوم التالي، إلى هجوم مضاد، شاركت فيه، للمرة الأولى، دباباتهم T-34. وقد دحر الألمان ذلك الهجوم، غير أن ضعف تأثير مدافعهم في الدبابة الروسية الآنفة، راب فِرقة البانزر 18 وأقلقها.

لو انتظر جوديريان وصول قوات المشاة، في 14 يوليه، لأتاح للقوات الروسية تقوية دفاعاتها، التي سيصعب، عندئذٍ، اجتياحها عبر النهر؛ ما يؤخر تحقيق المهمة التعبوية الأولى، وإنجاز العمليات في الخريف. ولذلك، قرر، في 10 يوليه، عبور النهر والتقدم نحو سمولنسك؛ بعد أن جهد في إقناع قائد جيش الوسط، المارشال فون كلوج، بما يعتزمه. وفي اليوم التالي، اتخذ جوديريان مركزاً لقيادته في تولوشتو، حيث كانت قيادة نابليون، عام 1812 قد تمركزت. 

ثالثاً: معركة كييف والزحف إلى موسكو

عكفت القيادة الألمانية، في 17 يوليه، على تدارس الاتجاه الرئيسي للهجوم النهائي لحملة الخريف. وكلِّف سكرتير هتلر، العقيد شمندت، تقديم وسام غصن البلوط لصليب الفرسان إلى جوديريان، مباحثته في الاتجاهات التالية:

1. اتجاه الشمال الشرقي إلى ليننجراد؛ لتأمين الإمداد البحري لجيش الشمال، من السويد، عبْر البلطيق.

2. اتجاه الشرق، نحو موسكو؛ للاستيلاء على المصانع المهمة.

3. اتجاه الجنوب الشرقي، صوب أوكرانيا؛ للسيطرة على المناطق الصناعية.

قد آثر جوديريان الاتجاه الثاني؛ لأن الاستيلاء على العاصمة الروسية، قبل الخريف، سيكون أشد حسماً. كما أوصى بسرعة الإمداد بدبابات البانزر الجديدة.

وبادر هتلر، في 4 أغسطس، إلى الاجتماع، في قيادة جيش الوسط، مع قادة جماعاته العسكرية، بمن فيهم قائدا البانزر: جوديريان وهوث، اللذان أيدا الاتجاه إلى موسكو. إلا أن الفوهرر كان يرى، أن ليننجراد والمنطقة الصناعية حولها، هي هدفه الأول؛ وأوكرانيا هي هدفه الثاني. وجعل الاستيلاء على موسكو قبل بدء الشتاء. كما أنه لم يستجب، على علْمه بالتفوق: العددي والنوعي، للدبابات الروسية T-34، لطلب قائدي البانزر الإسراع في الدبابات الجديدة، متعللاً ببناء تشكيلات جديدة؛ ولكنه وعد بإرسال محركات دبابات للصيانة. 

أمر هتلر، في 25 أغسطس 1941، بالهجوم على كييف. ولم يسأله جوديريان سوى الإبقاء على جماعة من البانزر غير مجزأة؛ ليمكنه حسم المعركة، قبل أن تسوء الأحوال الجوية؛ فآتاه سُؤْلَه. ولكن هتلر، سرعان ما ألغى موافقته على ذلك الطلب، إذ ضم فيلق البانزر الثالث إلى احتياطي الجيش، لتقتصر جماعة جوديريات على فيلقَين؛ ما أثر في القوة الدافعة لرأس الحربة، وطاول أثره حماية الأجناب المعرضة، والكثافة الهجومية.

استولى جوديريان، في 26 أغسطس 1941، على جسر سليم، أتاح له عبور نهر دزنا، بحماية الطائرات القاذفة. وأعيد إليه فيلقه الثالث، ليقوَى على دحر الهجمات الروسية، والتقدم إلى كييف، التي لم يعصمها من الألمان سوء الأحوال الجوية، وخاصة الأمطار الغزيرة، في 4 سبتمبر 1941؛ ولا خسائرهم الكبيرة، المتمثلة في عشر دبابات واثنَي عشر مدفعاً؛ فسقطت في 23 سبتمبر.

وبدأ الإعداد للهجوم على موسكو بتوحيد جماعتَي البانزر؛ ودفعهما، قبل هطل الأمطار، إلى اختراق سريع، يستولي على خط كورسيك ـ أوريل ـ بريانسك، ثم خط تولا ـ موسكو. وقد أمكن، في 4 أكتوبر، الاستيلاء على أوريل، وقطع خط السكك الحديدية. وكان القتال عنيفاً للاستيلاء على كورسيك، التي تدافع عنها قوات روسية قوية. وعاق التقدم في اتجاه تولا سقوط الأمطار والجليد، والتعزيزات الروسية السيبيرية، المجهزة بما يعينها على أعمال قتال الشتاء. بيد أن ذلك، لم يَحُل دون استيلاء جوديريان، قبيل نهاية نوفمبر، على جزء من خط ميخائلوف ـ ورايسك. ولم يردع الألمان انخفاض الحرارة، خلال ديسمبر 1941، إلى أقل من الصفر؛ ولافتقارهم إلى ملابس الشتاء؛ ولافتقارهم الغذاء والوقود؛ فوصلت دبابات من فِرقة البانزر الثانية إلى يوليانا، على مسافة أربعة عشر ميلاً شمال غرب موسكو؛ وقطعت فِرقة البانزر الرابعة خط سكك موسكو الحديدية. 

اضطر جوديريان، بعد موافقة هيئة قيادته، إلى إيقاف الهجوم، في 6 ديسمبر 1941، وسحب الوحدات الأمامية إلى أقرب خط دفاع؛ بل طلب موافقة هتلر على التقهقر إلى خط ملائم، يمكن الدفاع عنه جيداً، ريثما يتحسن الموقف، خلال ربيع 1942. رفض الفوهرر، مساء 26 ديسمبر 1941، مقترحات جوديريان؛ لا بل نقله من الجبهة الروسية إلى قيادة القوات الاحتياطية؛ ما أشعره بأن وضعه مريب، فطلب أن يُستجوب. ولكن هتلر اكتفى بإرسال أحد ضباط أركانه، العقيد شمندت، إلى الجبهة، حيث أكد له زملاء جوديريان ورجاله صحة موقفه.

رابعاً: تطوير قوات البانزر

طالما طمح الألمان إلى دبابة، تضاهي الدبابة الروسية T-34. غير أن هتلر، وافق على الاستمرار في تصنيع الدبابة النمر Tiger (60 طناً)، وإنتاج الدبابة بانثر Panther الأخف (35 45 طناً). وأمر بإنتاج 600 دبابة، شهرياً؛ إلا أن الطاقة الإنتاجية، لم تزد على 125 دبابة. وطلب إنتاج دبابة (100 طن) ذات تدرع قوي، يقاوم مقذوف الحشوة الجوفاء، الذي ظهر وقتئذٍ. فوضها إلى المهندس فرديناند بورش Ferdinand Porsche، الذي طلب إيقاف صناعة السيارات المدنية، توفيراً لحاجة الدبابة المطلوبة؛ ليمكنه في ربيع 1943، عرْض نموذجها التجريبي على هتلر.

وعهد هتلر إلى شركتَي بورش وهتكل بإنتاج دانات المدفعية 80 مم و75 مم، للدبابتَين: النمر والبانثر، على الترتيب. كما أمر بتصنيع 12 دبابة بانزر 4، بدرع أمامي مزدوج؛ لاستخدامها في الهجوم على قلاع جزيرة مالطة؛ وبزيادة إنتاج دبابة بانزر 3، ومدافع الهجوم ذاتية الحركة، وناقلات للدبابات فوق الثقيلة، تنفذها شركة مان؛ مع زيادة سمك الدروع الأمامية إلى 100مم للبانزر، و120 مم للنمر.

وأمر هتلر بإنتاج الدبابة الفأر (100 طن)، بمعدل 10 دبابات، شهرياً؛ فضلاً عن إنتاج الدبابة الماموث، وثلاث دبابات كبش[1]، وهما يستخدمان في مصادمة الدبابات المعادية أو هدم المنازل والموانع العمودية. واستعجل دفع أول سرية من الدبابة النمر إلى القتال في ليننجراد، لتجربتها.

انتقد جوديريان على هتلر تشتت أوامره وتضاربها؛ وإرهاقه صناعة الدبابات باستكثاره من أنواعها، وعدم اكتفائه بنوعَين أو ثلاثة منها فقط. وعاب تجريب الدبابة النمر، بقوة سرية، في ليننجراد؛ إذ أضر، لاحقاً، بالقوات الألمانية المدرعة، حيث استخدمت في مناطق موحلة؛ ما اضطرها إلى التقدم على محاور الطرق، فكانت أهدافاً سهلة للأسلحة الروسية المضادة للدبابات. ناهيك بأن تجريبها، أفقد القوات الألمانية عامل المفاجأة التكتيكية، بإظهار سلاح جديد متفوق، لم يتوقعه العدوّ؛ فبادر إلى إنتاج سلاح مضاد لتلك الدبابة. كما أخذ على الفوهرر التوسع في إنتاج عدد محدود من الدبابات الثقيلة، لن يكون ذا فاعلية في مواجهة وفرة الدبابات الروسية؛ لا، بل قد يؤثر في إنتاج دبابة القتال الرئيسية، بانزر 4، التي أثبتت فاعليتها في القتال، في المسرح الروسي، قبل موسم الشتاء.

تدارك المخلصون من كبار الضباط المدرعات الألمانية، باقتراحهم على هتلر تفويضها إلى جوديريان. فاستدعاه، واستجاب له شروطه: أن لا يتبع إلا للفوهرر مباشرة؛ ويسمح له بالتأثير في تطور المدرعات، بالتنسيق مع مدير مهمات الجيش، ووزير التسليح، والإشراف على وحدات التدريب ومراكزه؛ ويخوَّل التنظيم والتدريب لوحدات الدبابات في قوات العاصفة. وعيَّنه، في الأول من مارس 1943، مفتشاً عاماً للقوات المدرعة.

خامساً: تزعزع قوات البانزر

تدهور الموقف في ستالنجراد. واستسلم جيش ألماني كامل، بعد حصاره. وعاود الروس، خلال صيف وخريف 1943، هجماتهم المضادة، ووصلوا إلى شرق نهر الدنيبر. واستعادوا مدينة كييف. واستسلمت الجبهة الألمانية، جنوب زابروزا. وعاود هتلر أخطاءه، فأمر بهجمات مضادة متعددة؛ رافضاً حشد عدة فِرق مدرعة، لتوجيه هجمة واحدة مضادة قوية؛ ما شتت قواته المدرعة، وثبطها. لا، بل دفع إلى الميدان وحداتها الجديدة، ولَمّا يكتمل إعدادها؛ إذ إن جوديريان، كان قد كوَّنها من المدرعات الفرنسية والمدفعية البولندية المستولى عليها؛ وأوصى، بعد تفتيشها، بتأجيل إرسالها إلى الجبهة شهراً، ريثما يتدرب عليها رجالها من القوات الألمانية في فرنسا وبولندا.

وأرغم هتلر لسابق مقترحات جوديريان، بالاعتناء الكافي بالأسلحة المضادة للدبابات، حيث أصبح مأزق قوات المشاة الألمانية في روسيا، وعجزها عن دفع الهجمات المتلاحقة للدبابات الروسية المتوافرة، على الاستجابة، في نهاية عام 1943، لِما كان جوديريان قد اقترحه، من ضرورة الاعتناء الكافي بالأسلحة المضادة للدبابات. فانبرى المقترِح يجسد مقترَحه؛ مستخدماً شاسيهات الدبابات التشيكية القديمة (38 طناً) في إنتاج مدمرات الدبابات، أو تحميلها بأسلحة مضادة للدبابات، عديمة الارتداد؛ وبرشاشات مششخنة. وقد نجحت تلك الأسلحة نجاحاً كبيراً. كما نجح استخدام المدفع، عيار 37 مم، المزدوج المضاد للطائرات. وكان يمكن زيادة فاعلية الدفاع الجوي، لو وافق هتلر على تحميل المدفع، 20مم، الرباعي، على شاسيه دبابة.

لم يَعْتَبر هتلر بخطأ بلاده في خوضها الحرب العالمية الأولى، في غير جبهة؛ وإنما أشعل، إلى جانب الجبهة الروسية، الشرقية، أخرى غربية، شرع خصمه فيها، الحلفاء، يستعدون، خلال ربيع 1944، لإنزال كبير حيث كان رومل يقود الجيش (ب)، ويضطلع بالدفاع عن جزء من حائط الأطلسي، بنشر دفاعاته في الساحل، وتحت مياهه القريبة، وفي مصايد لقوات الحلفاء المظلية. ولكنه لم يحتفظ باحتياطي قوي من المدرعات؛ متنكراً بذلك لنهج جوديريان. 

بدأ الخلفاء بالإنزال، فجر 6 يونيه 1944، ورومل في ألمانيا، ينتظر الاجتماع بهتلر؛ فلم تتلقَّ الفِرقة المدرعة 21 أوامره بهجوم مضاد، ولم تمتثل أوامر القائد الميداني. ولم تستطع القيادة الألمانية دعم الجبهة الغربية؛ لأن الجبهة الشرقية، حيث شدد الروس هجماتهم، في اتجاه نهر الفستولا ـ وارسو، داخل بولندا ـ أوشكت، في 22 يونيه، أن تنهار، فاستحوذت على أيّ إمدادات ألمانية متبقية. وزاد الأزمة حدة، أن القوات الألمانية الجوية، عجزت عن استكمال أطقم كافية للمتبقي من الطائرات. غير أن ذلك، لم يَحُل دون مبادرة بعض الوحدات المدرعة إلى هجمات مضادة، نهاراً، في مناطق، تسيطر عليها بحرية العدوّ وطيرانه؛ ما أنزل بالمدرعات الألمانية خسائر جسيمة؛ بل فتتها عدم استخدامها بالحشد الملائم. وقبيل نهاية يوليه، كانت خسائر القوات الألمانية قاصمة، في الشرق، حيث فقدت خمساً وعشرين فِرقة؛ ما اضطر هتلر إلى نقل قيادته، من أوبرسلبرج إلى شرق بروسيا.

راودت هزائم ألمانيا المشير فون كلوج، قائد جبهتها الغربية، والمقرب إلى هتلر، عن عقد هدنة مع الحلفاء، من دون أن يعلم الفوهرر بذلك. ونميت هذه النية إلى جوديريان، فسارع، في 19 يوليه 1944، إلى تحريها؛ مموهاً غايته بتفتيش القوات المدرعة في الغرب. وأثناء مهمته في فرنسا، أبلغ مدير الجيش نائب جوديريان تأجيل تحرك وحدات البيانات العملية، المعدَّة لدعم الجبهة الشرقية، ريثما يجري، في 20 يوليه، احتفال شعبي للقوات الاحتياطية. ولم تكن كلمة "الاحتفال الشعبي" سوى إيذان بمحاولة اغتيال هتلر، الذي نجا منها، واقتصرت أضرارها على جرح ذراعه. ولكنها نالت ن بوهل، المزمع تعيينه رئيساً لهيئة أركان الحرب العامة؛ ما اضطر هتلر إلى استدعاء جوديريان، واستبداله، في 21 يوليه 1944، بالرئيس الجريح.      

سادساً: جوديريان رئيساً لهيئة الأركان العليا

جهد جوديريان في تدارك مأزق ألمانيا، فاقترح على هتلر المحافظة على وارسو، دون تدميرها؛ والتلويح للثوار البولنديين بأن من يقبض عليه منهم، سيعامل معاملة الأسرى، طبقاً للقانون الدولي. وهو ما خفف من الحرج في وسط الجبهة الشرقية. وأوصى بالتخلي عن تبديد الهجمات المضادة، والاستعاضة عنها باحتلال خطوط دفاعية جيدة، واللجوء إلى هجمات مضادة بالدبابات، بالحشد المتاح؛ تسفر عن أفضل نتائج ممكنة في الموقف المتدهور. 

أمّا الحلفاء، فقد أمعنوا، في الجبهة الغربية، في دفْع القوات الألمانية إلى ما وراء حائط الأطلسي. وأمكن الروس، في الجبهة الشرقية، احتلال كلّ من رومانيا وبلغاريا والمجر؛ والقضاء على جيش الجنوب، على امتداد نهر الدانوب، في أواخر نوفمبر 1944. أضف إلى ذلك، أن الوطنيين: التشيكيين والإيطاليين، شرعوا يقاومون القوات النازية.  

لم يقبَل هتلر تراجع الاحتياطي، ولا مركز القيادة الرئيسي، في الجبهة البولندية. وخطط لهجوم قوي، في الجبهة الغربية؛ يحرم العدوّ النصر الكامل، ويجبره علي التخلّي عن تصميمه على استسلام ألمانيا، من دون قيد أو شرط. ولذلك، نقل مقر قيادته إلى زيجنبرج القريبة من الجبهة. واقترح جوديريان، أن يكون نهر الميز هدفاً للقوة الألمانية المحدودة؛ إلا أن طموح هتلر، تجاوزه إلى هجوم مضاد، شامل، وعميق، سخّر له ثلاث فِرق، كانت قد أعدت لدعم الجبهة الشرقية، فأرسلها إلى المجر. لا، بل رفض إخلاء المدن الألمانية القريبة من الجبهة، ووصم مقترحيه، ولاسيما جوديريان، بالانهزام.  

سابعاً: هزيمة النازية

طول قتال، ناهز الخمس سنوات؛ وتناقص الأسلحة لدى ألمانيا عنها لدى الحلفاء، بمتوسط 15 إلى 1 في القوات البرية، و20 إلى 1 في القوات الجوية ـ ألقيا  على كاهل الجيش الألماني، بحسب قول جوديريان، عبئاً ثقيلاً، حينما بدأ الهجوم الروسي، في 12 يناير 1945. في الليلة السابقة للهجوم، التقطت إشارة روسية لاسلكية، تقول: "كلّ شيء جاهز". وفتحت الثغرات في حقول الألغام. وحشدت الدبابات، على مقربة من خط الجبهة. كما أفاد آخر الأسرى الروس، أن الموجة الأولى، تتكون من وحدات فائقة، أطلق عليها اسم: وحدات التأديب.

سقطت وارسو، في 17 يناير. ودخل المشير الروسي ذوكوف، في 20 منه، الأرض الألمانية. هام الألمان، ومنهم زوجة جوديريانن التي تركت منزلها في دبنهوف، لتكون، كما يقول زوجها نفسه، "ضمن عدته وعتاده".

عَجِل جوديريان إلى مقابلة الدكتور بول براندون، أحد دبلوماسيي وزارة الخارجية؛ آملاً أن يمكن الاتصال بدول الغرب، عسى أن تقتنع بأخطار احتلال الروس لكلّ ألمانيا؛ فيمكن القيادة الألمانية، حينئذٍ، نقل كلّ قوات الجبهة الغربية، للدفاع عن المتبقي من الحدود الألمانية الشرقية. ولكن، سرعان ما اتهمه وزير الخارجية، روبنتروب، بالخيانة العظمى، أثناء عرض الوزير مقترحاته على هتلر.   

حاول جوديريان أن يحمي الجنود، الذين لم يبلغوا السادسة عشرة، من إرسالهم إلى الحرب. واقترح حماية المنطقة الصناعية، في سليزيا، بعد تدمير منطقة الروهر الصناعية؛ ولكن اهتمام هتلر بدفع أيّ قوات، شرقاً، كان من الأسباب المباشرة لسقوط تلك المنطقة. كما حاول، من خلال هيملر، لفت المجتمع الدولي إلى المعاملة الوحشية، التي يتلقاها الألمان من الروس؛ وإن كان جوديريان ليذكر الفظائع، التي ارتكبها الجستابو في روسيا.

وفي نهاية مارس 1945، عبر الأمريكيون نهر الراين، ودخلت دباباتهم، الباتون، إلى مدينة فرانكفورت. واستمر الحلفاء في التقدم من الجبهة الغربية، والروس من الجبهة الشرقية. وفي 21 أبريل، دُخلت برلين، على النازيين، فانهارت دولتهم؛ وقُدِّم من لم ينتحر من قادتها إلى محاكم مجرمي الحرب الشهيرة، التي عقدها الحلفاء المنتصرون في نورمبرج، في 20 يونيه 1946.

 



[1]  الدبابة الكبش، نسبة إلى ذكر الأغنام ذات القرون القوية في القتال.