إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / مبادئ الحرب





هجوم القوات المصرية
الأوضاع الدفاعية
المفاجأة بإخفاء اتجاه الضربة
تطبيق القوات الجوية ومبدأ المفاجأة
حرب الخليج الثانية




المبحث الأول

المبحث الأول

أصول مبادئ الحرب

بدأت وقائع الحرب والقتال وتطورت عبر خمسة عصور متتالية، هي:

أولاً: العصر البدائي

دار الصراع والقتال في المجتمعات البدائية، من أجل البقاء واستمرار الحياة، في ظروف، كانت بالنسبة إلى الإنسان الأول غامضة ومجهولة ومخيفة.

فقد كانت ظواهر الطبيعة، كالبرق والرعد وعدوان الوحوش وموارد معيشته، همه الدائم، فكانت حياة الإنسان الأول أشد ما تكون حاجة إلى الأمن وإلى الدفاع عن مصالحه وموارده المحدودة. ومع وجود المجتمعات الأولى، اتضحت ظاهرة إغراء القوة، التي تتلخص في أن المجتمع يبدأ طبيعياً في استغلال القوة من أجل أمنه وحماية وجوده. فإذا ما اشتدت هذه القوة ونمت، وزادت متطلبات الأمن والحماية، سعت إلى العدوان على الآخرين.

هذا ما خرج به الباحثون عن استجابة المجتمعات لغرائز ودوافع أولية إلى جانب ما تعلمته من أساليب بدائية وكوارث البيئة التي عاشتها ومحاكاتها لتلك الأساليب التي تمثلت في الاختفاء والانقضاض والمطاردة والفرار، وهكذا.

يرى كثير من علماء النفس والاجتماع، أن الغرائز الطبيعية للإنسان كانت ومازالت هي المحرك والدافع الرئيسي إلى إثارة الحرب، كما يصل بعضهم إلى الربط بين الدوافع والغرائز وبين أسباب الحرب ومبادئها، فيذكرون أن النفس المؤسسة على غريزة الصراع تشكل الدافع العام إلى مبدأ الهجوم، وأن المحافظة على النفس المتولدة من غريزة حب البقاء تشكل الدافع الاقتصادي للحرب، كما تؤدي إلى مبدأ الأمن، وتؤدي هذه النظرة إلى ضرورة توافق مبادئ الحرب مع الغرائز والدوافع الإنسانية الطبيعية، وأن تعمل تلك المبادئ على تقويم الدوافع والغرائز، بما يحقق سلوكاً إيجابياً نحو تحقيق الأهداف.

ثانياً: العصر القديم

يضم هذا العصر التاريخ العسكري للإمبراطوريات العظمى القديمة المصرية والصينية والبابلية، والحيثية، والآشورية، والفارسية، والإغريقية، والرومانية، والبيزنطية؛ ويمتد لأكثر من ثلاثين قرناً ترسخت خلالها المبادئ الأساسية لفن الحرب، من أهمها النموذج المباشر والنموذج غير المباشر، يتسم الأول منها بإرادة القضاء على الخصم بسرعة، بواسطة المعركة، وبأعمال هجومية تندفع فيها القوة بهدف وبعمق، إلى أن ينهزم الخصم المعادي، وكان نجاح الهجوم يتوقف على قوة صدمة الكتلة المهاجمة، أما النموذج الثاني فكان يعمد أولاً إلى تفتيت الخصم واستنزافه مادياً ونفسياً، ثم تأتي المعركة إجراءً بسيطاً أخيراً، للإجهاز على العدو، ويرجع نجاح نموذجي الحرب هذين، إلى أسباب جغرافية وبيئية ونفسية، أوجدت توافقاً للغربيين مع الحرب المباشرة، وللشرقيين مع الحرب غير المباشرة.

ظهر كثير من أنباء حروب هذين النموذجين، في كتب الإنجيل والملاحم الأسطورية للهندوس وبعض أعمال الصينيين … وغيرهم، مما وفر لمحة عارضة لفن الحرب ومبادئها في العصر القديم، ولكنها قليلة الفائدة من الناحية الموضوعية، وقد بينت سجلات موقعة قادش، معلومات دقيقة تفيد كيفية استخدام مبادئ الهجوم وتطبيقها، والدفاع، والمفاجأة، والأمن، وخفة الحركة، والمناورة لدى الجانبين.

يعتبر كتاب فن الحرب الذي وضعه "صن تزو" المفكر الصيني، في القرن الخامس قبل الميلاد، أقدم المصادر العسكرية الوثيقة الصلة بمبادئ الحرب، وكانت مبادئ الحرب تظهر وتتضح معالمها، تبعاً ونتيجة لعبقريات القادة القدامى، وممارستهم العملية التطبيقية في ميادين القتال، وهكذا ارتبط فن الحرب بأسماء بعض القادة البارزين. وهناك عوامل عديدة أثرت على القادة القدماء، ووجهتهم في أثناء مرحلة تحديد وتطبيق أساليب القتال ومبادئ الحرب، ومن أهم العوامل طبيعة النظم السياسية والاجتماعية القائمة، وطبيعة وخصائص البيئة، ومسرح العمليات، ونوعية وتكوين العدو، وخصائص أساليبه القتالية، وغير ذلك من عوامل جوهرية.

إن العصر القديم قد وفر مصادر عديدة ومتنوعة، تمثلت أساساً في عمليات وحروب الأقدمين، التي حفظتها سجلات ومراجع متنوعة، أمكن، بدراستها وتحليلها، استنباط أصول مبادئ الحرب الرئيسية، وخاصة مبادئ الحشد، والاقتصاد في القوى والأمن، والمفاجأة، والمرونة، والمناورة، والتعاون.

ثالثاً: العصر الوسيط

يمتد هذا العصر من بداية القرن الخامس حتى نهاية القرن السادس عشر، ويعرف هذان القرنان وما بينهما في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى أو القرون المظلمة، وفيها هبط فن الحرب إلى أدنى مستوى له، واختفت مبادئ الحرب الحقيقة، بفعل عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية على وجه الخصوص، فبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، تفتتت أوروبا إلى عدة ممالك إقطاعية، دارت بينها حروب دائمة، أدت إلى انقسام الممالك إلى إمارات مستقلة، تجزأت بدورها إلى إقطاعيات صغيرة مستقلة نسبياً، يسودها نظام طبقي إقطاعي، وقد امتلكت كل إمارة وإقطاعية قوة عسكرية خاصة بها للدفاع عن مصالحها. وبذلك أدت تداعيات النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي إلى ظهور قوات مؤقتة محدودة العدد ضعيفة الإعداد والتدريب، ولم يكن بمقدورها خوض عمليات كبيرة طويلة الأمد أو بعيدة المدى.

مع ظهور النظام النقدي، أمكن للحكام الاستغناء عن جمع فلاحي الإقطاعيات، لقاء أموال يدفعها إليهم أصحاب الإقطاعيات، وصار في مقدور الحكام تكوين قوات من جنود محترفين مأجورين وتسليحهم بقدر ما تسمح به الموارد المالية، وصار للاعتبارات الاقتصادية المالية، الدور الأكبر في توجيه فن الحرب. فمن ناحية كان الحاكم يعتبر أن جيشه الخاص هو رأسمال مكلف، ينبغي المحافظة عليه، وكانت قوات الطرفين تتجنب الالتحام المباشر، وتتفادى الدخول في مصادمات دامية حاسمة، ومن ناحية أخرى كان شعار القوات المستأجرة "حيث النقود يكون الوطن"، وكانت تتصف بقلة الانضباط وبضعف المعنويات والأخلاق، وكان انتقالها للعمل من جانب إلى الجانب المضاد أمراً عادياً، وعلى رغم هذا الإهدار الشامل للأسس وقواعد ومبادئ فن الحرب، فإن حروب هذا العصر قد امتدت لفترات أطول من أي عصر، ويرجع ذلك إلى أن القوات المأجورة كانت تتعمد إطالة الحرب، تجنباً للبطالة.

اكتشف استخدام البارود في أوروبا في القرن الثالث عشر، ولكن البنادق لم تظهر إلا في السادس عشر، وعند استخدام هذه الأسلحة في القتال ازدادت الخسائر، بدرجة لم تكن معهودة في ذلك العصر، ولجأت الجيوش إلى حل المشكلة بأساليب سلبية، أدت إلى الاعتماد، بدرجة كبيرة/ على التحصينات والقلاع والخنادق، وبذلك فإن الوضع الدفاعي أصبح هو السائد في الحرب، وكانت النتيجة المباشرة، للتقدم التقني في السلاح، نتيجة عكسية تماماً، إذ ظهرت إستراتيجية دفاعية تقابلها إستراتيجية حصار بطيئة، وعجز فن الحرب عن استعادة الأساليب الهجومية خفيفة الحركة في معارك هذا العصر.

وفي ذلك العصر الذي غابت فيه شمس الحضارة الأوروبية وفنها الحربي، أشرقت شمس الحضارة الإسلامية وفنها الحربي، وجاءت أقوى الفتوحات، التي مرت على تاريخ الجنس البشري، فلقد أجتاح المسلمون الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، وتوغلوا شرقاً حتى التقوا بالصينيين واندفعوا غرباً إلى شمال أفريقيا، ثم تجاوزوا البحر المتوسط، وعبروه إلى بلاد الأندلس حتى وصلوا وسط فرنسا، وصارت الحضارة الإسلامية أكبر وأرقى الحضارات في هذا العصر، ولم يكن هذا الاجتياح الإسلامي اجتياحا، وحشياً همجياً، ولكن مداً حضارياً شاملاً. فلم يحل القرن الثامن الميلادي حتى كانت للدولة منظمات تعليمية تنتشر في كل أرجاء العالم المستعرب، وفي إطار هذه النهضة، أصدر علماء المسلمين مؤلفات عسكرية عظيمة القيمة بعثت أرقى مفاهيم فن الحرب القديم، وارتقت بها بفضل التجربة العسكرية الإسلامية الفردية، وأكدوا في مؤلفاتهم مبادئ الحشد والأمن والمعنويات والمرونة والشؤون الإدارية والمخادعة والمفاجأة.

على رغم أن أغلب الأوروبيين ينكرون فضل الحضارة الإسلامية عليهم، فإن ذلك الفضل ثابت ومؤكد، حيث نجد أن المؤلفات العسكرية الإسلامية قد أضاءت العصور الأوروبية المظلمة، وسدت الفجوة بين العصر القديم وعصر النهضة اللاحق، ووصلت بينهما، إذن الواقع أن فن الحرب الإسلامي قد أفاد بشكل مباشر، من احتكاكه وصراعه مع فن الحرب الفارسي، وفن الحرب البيزنطي اللذين كانا صاحبي التراث العريق لفنون الحروب السابقة. ومن ثم، فإن فن الحرب الإسلامي الجديد، قد عكس مفاهيم ومبادئ الحرب الشرقية والغربية الإسلامية على حد سواء.

رابعاً: عصر النهضة

بدأت النهضة الأوروبية بنهضة فكرية، كان للمسلمين الفضل الأول فيها، وقد أفرزت هذه النهضة الفكرية مفاهيم أساسية عامة، وقال مفكرو عصر النهضة إن الإنسان يستطيع، بسلاح العقل، أن يغزو ويدمر فكرة الصدفة والحظ في الحياة.

كان نيقولا مكيافيللي، السياسي الفلورنسي، أول من طبق هذه المفاهيم بعمق على ظاهرة الحرب، لأن كارثة غزو فرنسا لبلاده عام 1494م، دفعته إلى البحث عن أسباب الهزيمة، وعن كيفية تفاديها مستقبلاً، وقد اعتمد في بحثه على مؤلفات المؤرخين الرومان القدامى، وعلى تجربته السياسية، وعلى تحليله الفعلي للأحداث السابقة والجارية، وانتهى بحثه إلى نظريات ومبادئ ضمنها كتابه فن الحرب في عام 1512م، الذي أوقفه على المسائل العسكرية، واعتنى فيه برسم برنامج إيجابي للإصلاح العسكري، وأوجد مكيافيللي القواعد والمبادئ السليمة، وجعل دراسة الحرب علماً اجتماعياً. واعتبر أول مفكر عسكري أوروبي حديث، وفصلها عن الاعتبارات المعنوية، وربطها ربطاً وثيقاً بالنظريات والأحوال الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية، ووضع الأصول، التي يقوم على أساسها التفهم العقلي والتحليل النظري للحرب وللمسائل العسكرية.. بعد أن كانت الحرب تعتبر فناً يعتمد على موهبة القائد، صارت بعد ميكيافيللي علماً وفناً معاً.

استخدام منهج البحث العلمي التحليلي، الذي أوجده ميكافيللي، توصل المفكرون العسكريون الأوائل في عصر النهضة، إلى وجود ظواهر وإجراءات عسكرية، أدى استخدامها المتكرر في المعارك والحروب القديمة إلى تحقيق انتصارات تاريخية عظيمة. وقد شكلت المفاهيم، التي تضمنتها تلك الظواهر والإجراءات، الأصول الأولية الأساسية لمبادئ الحرب في العصر القديم، وإن لم تصنف على هيئة مبادئ حرب حتى ذلك الوقت، ولكن المفكرين قد استنبطوا أصول بعض مبادئ الحرب، كالحشد والاقتصاد في القوى، من انتصار إيبامفيداس بتشكيله المائل، في موقعة ليفكترا، وأصول مبادئ المناورة والتعاون والمطاردة، من انتصار الإغريق في موقعة بيدنا، وأصول مبدأ مرونة التشكيل وتوافقه مع خصائص الأرض، ومن انتصارات قيصر في موقعة فارسالوس، أكدوا مبادئ المناورة وخفة الحركة والمفاجأة والحشد، وكان ذلك حتى عام 48 ق.م.

جاءت الخطوة الأولى، لإحياء فن ومبادئ الحرب، بفضل جوستاف أدولف ملك السويد (1610ـ1632م)، الذي ابتدع تنظيمات وأساليب قتالية جديدة، مبنية أساساً على نوعية السلاح، ثم تتابعت الخطوات بفضل أعمال بعض المفكرين.

في عام 1740م اعتلى فردريك عرش بروسيا. وسرعان ما نبذ أساليب الحرب الموضوعية البطيئة وحرب الحصار، التي كانت شائعة في ذلك الوقت، وأعاد تنظيم جيشه وبناء تكتيكاته، وتبنى التشكيل المائل، وطوره بما يناسب نوعية القوات وخصائصها القتالية وتسليحها، وبذلك أمكنه استخدام وتطبيق مبادئ الحشد والاقتصاد في القوى، والمناورة وخفة الحركة والتعاون بكفاءة، مكنته من تحقيق انتصارات عديدة باهرة وحاسمة، على قوات متفوقة عددياً، وقد بين مبادئه بعد ذلك في كتابه المبادئ العامة للحرب.

عندما قامت الثورة الفرنسية، كانت الأفكار العسكرية كثيرة، وتوافرت القوة المادية والمعنوية اللازمة، وجاء نابليون بونابرت فاستخدمها في حروب متتالية، استغرقت نحو ربع قرن 1796ـ1815م عرفت باسم الحروب النابوليونية، وقد كشفت هذه الحروب عن فن ومبادئ حرب جديدة تماماً.

وبينما أظهرت الحروب النابوليونية مبادئ الحرب المناسبة لنموذج الإستراتيجية المباشرة الباحثة عن المعركة، فإن الحرب الأهلية الأمريكية بعد ذلك 1861ـ 1865م أظهرت مبادئ حرب مختلفة تناسب نموذجاً إستراتيجياً، يمزج بين الاقتراب المباشر وغير المباشر، وقد جاء ذلك النموذج ومبادئه، نتيجة للأبعاد الشاسعة لمسرح الحرب الأمريكية، ولضخامة أحجام جيوشها، ولنوعية تسليحها، ولطابع أهدافها السياسية، فضلاً عن التأثر بمبادئ الحرب المكتسبة من الهنود الحمر، ومن حرب الاستقلال.

ظهرت الحروب الأوروبية، خلال النصف الثاني من القرن التاسع، عدة حقائق، منها:

1. أن المدرسة العسكرية النابوليونية صارت المدرسة الأم، والمصدر الأول لمبادئ الحرب الحديثة، لجميع الدول الأوروبية.

2. أن عهد الملك القائد قد ولى، وأن زمن الاعتماد المطلق على موهبة وعبقرية القائد الأوحد قد انتهت.

3. اعتمد تحديد واستخدام وتطبيق مبادئ الحرب، على عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية مادية ومعنوية/ نفسية.

خامساً: العصر الحديث

عند بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كانت مبادئ الحرب مفاهيم عامة غير محددة أو مصنفة تماماً، وكان يلفها كثير من الغموض والتعميم، وحتى انتهاء الحرب في عام 1919م، لم تكن أي قوة من قوى العالم المسلحة قد اتخذت قائمة رسمية بمبادئ الحرب، وكان عقم مبادئ الحرب في أغلب مراحل الحرب العالمية، قد أدى إلى انتكاس فن الحرب وهبوطه إلى مستوى حرب المواقع الثابتة، وعانت الأمم المتقاتلة كوارث أليمة، وخسائر جسيمة، لم يكن لها نظير في التاريخ العسكري كله، مما شحذ همم الباحثين والمفكرين العسكريين، ودفعهم دفعاً إلى إعادة النظر والبحث وتصنيف مبادئ الحرب المناسبة لمعطيات ومتغيرات الحرب المعاصرة.

ظهر بعد ذلك "فوللر" بصفة أعظم مفكر وباحث عن مبادئ الحرب، وكانت قائمة مبادئ الحرب، التي استنبطها "فوللر" من مراسلات نابليون، واختبرها في الحرب، أول قائمة مبادئ حرب بريطانية، ومن ثم ظهرت في قواعد خدمة الميدان البريطانية لأول مرة عام 1920م.

في عام 1920م ظهرت أول قائمة مبادئ حرب رسمية أمريكية، وفي فرنسا ظهرت قائمة الحرب، التي استنبطها "فوش" من الحروب النابوليونية، أما الاتحاد السوفييتي، الذي كان بدأ ظهوره عام 1917م، فقد تبنى مبادئ الحرب الروسية القيصرية المستمدة أصلاً من المدرسة النابوليونية.

وفي تطور لاحق بعد ذلك، ظهرت مبادئ عقلانية تدعو إلى استخدام مناهج علمية من أجل اكتشاف وتحديد قوانين العلم العسكري ومبادئ فن الحرب، غير أن الاتحاد السوفييتي تطرف، دون سواه، في إتباع ذلك المذهب من منطلقات ماركسية، لينينية، على رغم أن تلك المذاهب العقلانية لم تحدث أي تعديل جوهري يعتد به في مبادئ الحرب النابوليونية.

على أن التطور الجوهري الحقيقي في مجال فن ومبادئ الحرب، إنما حدث بفضل فوللر، وليدل هارت، وديجول، الذين استخدموا المنهج، من خلال دراسة وتحليل الحرب العالمية الأولى، والتطور في التسليح ومعدات القتال، إلا أن العقلية العسكرية البريطانية المحافظة، وسياسة العزلة الأمريكية، والخلافات السياسية الفرنسية الداخلية، ودكتاتورية الحكم الستاليني، قد حالت دون استفادة بريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي من هذه النظريات في الوقت المناسب، بينما تلقفها القادة الألمان، وعالجوها نظرياً وعملياً، إلى أن بلوروا نظرية ومبادئ الحرب الخاطفة، واستعدوا بها لخوض الحرب العالمية الثانية.

كانت الحرب العالمية الثانية، بمثابة معمل اختبار وتطوير لقوائم مبادئ الحرب الرسمية، التي تبنتها مختلف الدول على أسس نظرية، تاريخية، والتي لم تكن قد اختبرت صحتها بعد، كما كانت معياراً لتقويم النظريات العسكرية، التي ظهرت بين الحربين العالميتين، ولقد أثبت سير نتائج العمليات العسكرية صحة وسلامة مكونات قوائم مبادئ الحرب، ولم تطرأ عليها سوى تعديلات طفيفة بناء على خبرات القتال المكتسبة، أما مفاهيم مبادئ الحرب، وأساليب استخدامها وتطبيقها، فلقد تعرضت لتعديلات جوهرية بفضل القوات الألمانية التي علمت العالم أساليب وتكتيكات الحرب الخاطفة والتي ارتقت نوعياً بفن ومبادئ الحرب. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، استخدم السلاح النووي، لأول مرة في التاريخ في هيروشيما وناجازاكى، وكان ذلك إيذاناً ببدء عهد عسكري جديد.

انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بامتلاك السلاح النووي، حيث اعتنقت نظرية "عقيدة" الردع الجسيم إلى أن لحق الاتحاد السوفييتي بها عام 1949م، وانشغل الفكر العسكري العالمي بنظريات ومبادئ الحرب النووية الجديدة المحتملة، حيث تصور المفكرون العسكريون في الخمسينيات والستينيات أن الحرب العالمية النووية الثالثة سوف تبدأ وتنتهي بالضربات النووية الصاروخية، وأن تلك الضربات، سوف تتضمن وتجسد، تلقائياً، مبادئ الهجوم، والحشد، والمناورة، وخفة الحركة، وغيرها، وأن مبدأ الاقتصاد في القوى ينبغي حذفه إذ يتحتم استخدام جميع القوى، منذ الضربة الأولى، وأن مبدأ الأمن صار يتركز حول تأمين الأهداف والمراكز السياسية، وصار مبدأ المفاجأة الإستراتيجية أول وأهم المبادئ على الإطلاق، وصار السلاح الصاروخي النووي هو السلاح الرئيسي.

بوصول القوة النووية المتضادة إلى حالة التوازن النووي، قدرت تلك القوى أن نظرية الردع الجسيم لن تؤدي إلا إلى انتحار متبادل، ومن ثم سعى الفكر العسكري، إلى وضع نظريات تستهدف تحديد حجم الدمار الشامل المتبادل في الحرب المحتملة، وذلك بالتحكم في وسائل الصراع، حيث ظهرت نظريات الردع المتدرج، والرد المرن، ونظريات أخرى متعددة في مجال نظم التسليح التقليدية، مثل الدفاع المتحرك، التي زادت من الاعتماد على القوات والأسلحة التقليدية.

نظراً لعدم ضمان التحكم التام في مستوى وسائل الصراع النووي، بقيت احتمالات الحرب النووية الشاملة قائمة، ولحل هذه المعضلة، اتجه الفكر العسكري الغربي إلى الاعتماد على تفوقه التكنولوجي، في شل وتحجيم القدرات النووية لدى حلف وارسو، وإحباط تفوقه العددي في الأسلحة التقليدية. فجاءت بادرة الدفاع الإستراتيجي المعروفة، باسم حرب الكواكب، وظهرت في الجانب الأمريكي نظرية "الحرب/ المعركة الجوبرية" وأجيال الأسلحة الذكية، وفي المقابل ظهرت في الجانب السوفييتي نظرية "مجموعة المناورة التعبوية السوفيتية"، وبذلك سادت لدى الشرق والغرب فكرة المعركة العميقة، الرامية إلى سرعة الوصول إلى عمق العدو، بدون قتال، ما أمكن، والاتصال بإحتياطياته وقواته، والانتشار بين أهدافه، ومن ثم تتفادى التعرض لضربات نووية، ومع سرعة حسم القتال في العمق، كان يتوقع تحقيق هدف الحرب قبل أن تتصاعد إلى مواجهة نووية شاملة. أي أن العمليات سوف تجرى بصورة تقليدية، تحت ظروف احتمال استخدام الأسلحة النووية، وبذلك عادت مبادئ الحرب التقليدية ومصدرها التاريخي إلى موقع الصدارة.