إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / المملكة العربية السعودية بعد الملك عبدالعزيز









الفصل الخامس

الفصل الخامس

عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود

خادم الحرمين الشريفين

(1426 ـ .../2005 ـ ...)

 

أولاً: مولده ونشأته

هو عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود. ملك المملكة العربية السعودية منذ 26 جمادى الآخرة 1426، الموافق الأول من أغسطس 2005.

ولد في مدينة الرياض عام 1343هـ الموافق 1924م، وهو الابن العاشر للملك عبدالعزيز، رحمه الله. والدته الأميرة فهدة بنت العاصي بن كليب بن شريم الشمّري، من قبيلة شمر العربية. توفيت عام 1934م.

نشأ في كنف والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، مؤسس الدولة السعودية الثالثة. وقد رباه تربية صالحة، متمسكاً بدين الله وسنة رسوله. وأثر فيه والده تأثيراً كبيراً، فنشأ محباً لوطنه شاعراً بالمسؤولية تجاه بلده ومواطنيه. وقد استفاد كثيراً من مدرسة والده في السياسة، وتجاربه في الحكم والإدارة والقيادة.

تلقى تعليمه على يد عدد من كبار المعلمين والعلماء. وكان تعليمه على الطريقة الإسلامية التقليدية، وهي طريقة الكُتَّاب، ودروس العلماء، وحلقات المساجد، وغيرها من وسائل الدرس والتعليم. وتأثر بشخصية معلميه من العلماء والمفكرين والمشايخ، الذين عملوا على تنمية استعداده بالتوجيه والتعليم. وله مطالعات واسعة في مجالات متعددة من المعرفة والثقافة وعلوم الحضارة، ما أكسبه معرفة وإلماماً لكثير من الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية. وكان كثير الاجتماع بالعلماء والخبراء ليتبادل الآراء والمشورة معهم. كما يلتقي المواطنين من جميع الفئات في كل مناسبة، للتعرف على أحوالهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.

وقد عايش منذ صغره، تطورات الأحداث التي مرت بها المملكة، وتفاعلها مع محيطها الإسلامي والعربي، ما زودّه بحصيلة وافرة من المعرفة والدراية السياسية.

 

ثانياً: المهام المبكرة

حينما شب الأمير عبدالله وقوي عوده، بدت عليه ملامح التأثر بمدرسة الملك عبدالعزيز التي ترسخ معاني الرجولة والصلابة والتواضع والانضباط الديني والنفسي والأخلاقي. ولاحظ الملك سعود، ومن بعده الملك فيصل، انخراط الأمير عبدالله في العمل العام وتحمله المسؤولية، وجديته في النصح لإخوانه. فكان بذلك ملازماً لإخوانه الملوك الذين استثمروا صراحته وشفافيته ومن ثم استفاد الأمير عبدالله منهم الخبرة في الحكم والسياسة والإدارة. وكان ذلك مدعاة للاعتماد عليه في العديد من المهام والمسؤوليات وبعض أشغال الدولة.

1. مستشاراً للفيصل

بدأ الأمير عبدالله ممارسة المسؤولية العامة بعضويته ضمن خمسة أمراء، في الهيئة العليا المناط بها دراسة شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي شكلها الملك فيصل بن عبدالعزيز، عندما تولى الحكم. وقد تكونت تلك الهيئة من الأمير مساعد بن عبدالرحمن (عم الملك عبدالله)، والأمير خالد، والأمير فهد، والأمير عبدالله، والأمير سلطان. وقد حرص الملك الفيصل بأن يتصف أعضاء تلك الهيئة بالجدية والإخلاص وقوة الإرادة؛ فتولى الأمير خالد ولاية العهد ونيابة رئاسة مجلس الوزراء، وكان الأمير فهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية، وتولى الأمير عبدالله رئاسة الحرس الوطني، وتولى الأمير سلطان وزارة الدفاع والطيران.

2. رئاسة الحرس الوطني

توالت المسؤوليات وتعاظمت المهام على الأمير عبدالله. وقد عرف الملك فيصل، يرحمه الله، خصائص شخصية الأمير عبدالله ومحبة الناس له؛ فهو يمتلك القدرة على الإقناع والتأثير في الآخرين بشفافيته وصراحته، فأسند إليه الملك فيصل مسؤولية تأسيس جهاز الحرس الوطني في عام 1382هـ.

وخلال سنوات قلائل حقق الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فراسة أخيه الملك فيصل، من خلال الحركة التطويرية لذلك الجهاز العسكري المهم؛ فالحرس الوطني قوات مسلحة من نوع خاص تتألف من أبناء المجاهدين، الذين ساروا تحت راية التوحيد بقيادة الملك عبدالعزيز، ومن أبناء البوادي الذين توارثوا الروح العسكرية أباً عن جد، بحكم طبيعة حياتهم التي تضرب جذورها في أعماق شبه الجزيرة العربية، ولذلك فإن جهاز الحرس الوطني يحتاج لقيادة من طراز خاص، تكون قريبة من العناصر المكونة لهذه القوة العسكرية من حيث حب هذه الأرض والارتباط بها، وعشق الفروسية وحياة الصحراء والحياة الفطرية، والقدرة على الصبر وقوة التحمل. وقد تجسدت هذه السّمات في الأمير عبدالله، فنجح في قيادة هذا الجهاز العسكري. وكان سموه نقطة تحول كبيرة وبارزة لهذا القطاع الحيوي، وأثبت كفاءة ملحوظة في تطويره انطلاقاً من شخصيته المؤمنة بضرورة بناء المؤسسات المتكاملة، وليس الأجهزة الفردية المعزولة عن المجتمع، وضرورة ربطها بالمجتمع حتى إن كانت مؤسسة عسكرية. وقد أثبتت اقتصاديات التنمية الحديثة صحة هذه النظرية وأهميتها لمصلحة التنمية الشاملة في المجتمع.

وما أن تولى الأمير عبدالله رئاسة الحرس الوطني، حتى شرع في تطوير الحرس الوطني وتحديثه للارتقاء بوحداته وتشكيلاته إلى مستوى رفيع يتناسب والمهام التي أنيط بها هذا القطاع. فمنذ ذلك الحين لا يمر عام إلا وقد انتقل الحرس الوطني نقلة جديدة في كفاءة منسوبيه القتالية، ومستوى مهاراتهم الفردية والجماعية، ومستوى ثقافتهم العلمية والعملية، ومستواهم التعليمي والاجتماعي.

عُرف الأمير عبدالله بعمق حسه الوطني والعربي والإسلامي، وبإيمانه بدور الثقافة المحوري في صنع هذا التحدي، فنشأت الفكرة بضرورة إيجاد ملتقى ثقافي يسهم في نشر الفكر والثقافة ويستوعب مختلف الآراء ويكون ملاذاً يأوي إليه المفكرون والأدباء والباحثون والعلماء لتبادل الآراء وبحث ما يهم الأمتين العربية والإسلامية.

وشاهد على ذلك رعايته للمهرجان السنوي، الذي ينظمه الحرس الوطني للتراث والثقافة في الجنادرية، الذي عقدت دورته الأولى عام 1985. وقد أصبح المهرجان معلماً كبيراً وملتقى عربياً وعالمياً للتراث والثقافة. وتهتم نشاطات المهرجان المختلفة بالمحافظة على إحياء التراث، ومن ذلك تنظيم سباق الهجن السنوي الكبير، وتنوع المشاركات التراثية والثقافية في المهرجان، حيث تشارك إمارات المناطق في عرض نماذج لنشاطات المنطقة وحرفها المتعددة، على أرض القرية التراثية في الجنادرية.

 

ثالثاً. الأمير عبدالله نائباً ثانياً (1395 ـ 1402)

في السابع عشر من ربيع الأول عام 1395 هـ الموافق 29 مارس 1975م، حظي الأمير عبدالله بثقة الملك خالد، لما يتمتع به الأمير عبدالله من قدرات وتجارب ومسؤولية قيادية، فكان الأمير عبدالله الرجل الثالث في الدولة حينما كان خالد ملكاً للبلاد، وفهد ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء. واستمر في هذا المنصب مدة سبعة أعوام، كانت فترة تاريخية وحاسمة في الأوضاع الإقليمية والخليجية والعربية والدولية، إضافة إلى كونها فترة تحولات تنموية ضخمة على الصعيد المحلي، مع الطفرة النفطية وارتفاع إيرادات المملكة من العملات الصعبة.

ومن خلال موقعه كان للأمير عبدالله دور أساسي في صناعة القرار السعودي، وفي صنع وتنفيذ السياسة السعودية من خلال المهام التي كان يكلف بها من قبل الملك خالد، وولي عهده الملك فهد. فتابع الأمير عبدالله عن قرب جلسات مجلس الوزراء جميعها بحكم منصبه، وكان مشاركاً في كل ما تحقق من خطط ومشروعات.  وعرف عنه خلال هذه الفترة متابعته للملفات المحلية والخارجية، فأوكل إليه الملك خالد وولي عهده الأمير فهد العديد من المهام في الداخل والخارج وتمثيل المملكة في عددٍ من الزيارات الخارجية لدول العالم الصديقة.

فعلى الصعيد الإقليمي خلال تلك الفترة، نشأت وترعرعت فكرة إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفي تلك الفترة، أيضاً، جاءت ثورة الخميني لتقلب نظام الحكم في إيران، فتدهورت العلاقات العراقية ـ الإيرانية لتتحول إلى حرب شرسة تهدد أمن المنطقة برمتها. وعلى الصعيد العربي، بدأت بوادر الخلاف والتشتت مع إقدام مصر على التفاوض مع إسرائيل ووصلهما لاتفاق "كامب ديفيد" المثير للجدل. وبدأ تأزم الموقف العربي وظهور خلافات عربية ـ عربية أخرى، مثل: الخلافات العراقية ـ السورية، والأردنية ـ السورية، والجزائرية ـ المغربية، والحرب الأهلية في لبنان، والأزمات الحادة بين الأردنيين والفلسطينيين. وعلى الصعيد الدولي مثَّل احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان خطراً داهماً يسعى إلى انتشار المد الشيوعي في إقليم آسيا.

كل هذه الأحداث الجسام فرضت تحديات كثيرة على قادة المملكة العربية السعودية بوصفها دولة محورية في المنطقة. وقد اضطلع الأمير عبدالله إبان هذه الفترة بالعديد من المهام السياسية، وشارك مشاركة فعلية في هذه القضايا. فأوكل الملك خالد للأمير عبدالله القيام بالعديد من الجولات الخارجية، وأوفده ممثلاً للمملكة لحضور العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية. كما قام بالعديد من الزيارات العربية التي استهدفت رأب الصدع واحتواء الخلافات العربية ـ العربية ولم الشّمل وتوحيد الصف العربي، في مواجهة أعداء الأمتين العربية والإسلامي، حتى أطلق عليه المعلقون والمتابعون للشأن العربي "صقر السياسة السعودية".

ولعل من أبرز جولات الأمير عبدالله لتحقيق هدف اجتماع الكلمة العربية وإنهاء الخلافات بين الأشقاء، سلسلة الزيارات التي قام بها لإزالة الغيوم بين الأخوة في سورية والأردن، وسورية والأردن والعراق، وقادة الأحزاب في لبنان، والتوفيق بين فصائل المقاومة ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما بذل الأمير عبدالله جهوداً من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة دول عدم الانحياز لوقف الاقتتال الدائر بين العراق وإيران.

أما على الصعيد الداخلي فكان للنائب الثاني، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، أياد بيضاء في إنشاء الإدارة العامة للخدمات الطبية، وافتتاح مستشفى الملك خالد في جدة، وافتتاح مستشفى الإمام عبدالرحمن الفيصل بالدمام، وافتتاح مستشفى الملك عبدالعزيز بالإحساء. كما أصدر توجيهه بإنشاء مركز الملك عبدالعزيز للأورام بجدة.

وقد حققت الشؤون الصحية بالحرس الوطني إنجازات متميزة وقفزات متقدمة في مجال الخدمات الطبية والرعاية الصحية الفائقة، لعل أهمها إنجازها العديد من الجراحات العالمية لفصل التوائم السيامية من داخل السعودية وخارجها لمختلف الجنسيات.

كما أسهم الحرس الوطني بشكل كبير في عملية التحضير والتوطين، التي وضعتها الحكومة كسياسة إستراتيجية. وقد التحق عشرات الآلاف من أبناء البادية بالحرس الوطني، ما ساعد على الاستقرار والاستيطان في المدن. فشُيِّدت المجمعات والوحدات السكنية والمساجد ومباني الخدمات والمدارس والمستشفيات في مختلف مناطق المملكة.

وفي عام 1395 صدر أمر الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، رئيس الحرس الوطني، بإنشاء إدارة الثقافة العامة والتعليم في الحرس الوطني. وقد استمرت وكالة الحرس الوطني للشؤون الثقافية والتعليمية بالحرس الوطني في الإشراف على مهام التربية والتعليم إلى أن صدر الأمر الملكي في عام 1424هـ بضم قطاعات التعليم في القطاعات الحكومية كافة، إلى وزارة التربية والتعليم.

 

رابعاً: الأمير عبدالله، ولياً للعهد

توفي الملك خالد بن عبدالعزيز يوم الأحد 21/8/1402هـ الموافق 13/6/1982. وفي سلاسة وهدوء وإجماع بايعت الأسرة المالكة فهد بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد، ثم بايعه العلماء وجموع المواطنين. وأعلن الملك فهد في اليوم نفسه تعيين الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولياً للعهد، وقد أجمع أفراد الأسرة المالكة على ذلك؛ ثم صدر أمر ملكي في مساء ذلك اليوم بتعيين سمو الأمير عبدالله نائباً لرئيس مجلس الوزراء ورئيساً للحرس الوطني إضافة إلى ولاية العهد، لتبدأ مرحلة جديدة فاصلة في التاريخ السياسي والاقتصادي للمملكة، بما شهدته من تحديات جسام.

مع السنوات الأولى لحكم الملك فهد، رحمه الله، وولي عهده الأمير عبدالله، انخفضت أسعار النفط بشكل غير مسبوق، وتراجعت إلى مستويات غير متوقعة، وتراجعت معها إيرادات الدولة بأكثر من 75% في ظل استمرار المملكة استكمال نهضتها ومشروعاتها. ولم يكن ذلك هو التحدي الوحيد؛ فعلى الصعيد السياسي تواصلت المساعي الإيرانية لتهديد الاستقرار في المنطقة، وألقت الحرب العراقية ـ الإيرانية بظلالها القاتمة على اقتصاديات المنطقة برمتها. ولم تكد المنطقة تفيق من هذه الحروب وتنفض الغبار عن نفسها، حتى وقعت الفاجعة الكبرى المتمثلة في الغزو العراقي للكويت، وتغيير مجرى الأحداث والسياسات في المنطقة. كل هذه التحديات واجهت الملك فهد بن عبدالعزيز وولي عهده في غضون السنوات الثماني الأولى من عهدهما، ما كان يستدعي التعامل معها بوعي وحذر شديدين حرصاً على أمن المملكة واستقرارها.

كان الأمير عبدالله سنداً وداعماً لأخيه الملك فهد، رحمه الله، في اجتياز هذه التحديات كافة. واستطاعت المملكة عبور الحواجز الصعبة والتحديات الجسام التي واجهتها في مرحلة الثمانينات الميلادية، في الداخل والخارج. وعبر سلسلة من القرارات الإستراتيجية الناجحة على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، نجحت المملكة في تجنب الآثار الوخيمة لتلك التغيرات الإقليمية منها والدولية.

1. انتهاء فترة الطفرة

في منتصف الثمانينات تعرضت سوق النفط الدولية لانخفاض كبير في الأسعار هدد مصالح الدول المنتجة، ومن بينها المملكة العربية السعودية، أكبر منتج ومصدر للنفط. فقد انخفضت أسعار النفط بشكل غير مسبوق، وهو المورد الذي يمثل الدخل الرئيس في المملكة والمصدر الأساس في بناء واستكمال مشروعات البنية الأساسية. وقد تراجعت إيرادات الدولة من 368 ألف مليون ريال عام 1401/1402هـ إلى 206.5 ألف مليون ريال عام 1403/1404هـ واستمر هذا التراجع عاماً بعد آخر حتى بلغت الأزمة ذروتها عام 1405/1406هـ، حين وصلت إيرادات المملكة في هذا العام 76.5 ألف مليون ريال، معلنة انتهاء عصر الطفرة النفطية ودخول المملكة في مرحلة عجز الميزانية.

هذا الانخفاض الكبير في أسعار النفط لم يكن له تأثير كبير في الاقتصاد السعودي، إذ بدأت المملكة في جني ثمار المراحل السابقة من بناء وإعمار. وكانت أكثر مشروعات البنية الأساسية قد اكتملت، وبدأت تضخ إنتاجها في الاقتصاد الوطني. وكان النمو المستمر في المنشآت التعليمية والصحية والاجتماعية والطرق والكهرباء، وغير ذلك من الخدمات التي تم إنشاؤها في سنوات قليلة وبمستويات عالية، يلبي حاجة الاقتصاد الوطني لسنوات مقبلة؛ لكن التحدي الحقيقي الذي واجهته قيادة المملكة كان يكمن في كيفية مواجهة الانخفاض في إيرادات الدولة، وكيف تُلبى الاحتياجات المتزايدة لاقتصاد متنامٍ إذا استمر النفط في انخفاضه لسنوات طويلة قادمة؟.

وقد كان للسياسة الحكيمة التي اتبعها الملك فهد، رحمه الله، بمساندة ولي عهده الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، في حشد كل الموارد واستنفار كافة الطاقات وترشيد النفقات الحكومية والتخطيط السليم والدقيق للسياسات وترتيب الأولويات، الأثر البالغ في تجنب هذا التأثير السلبي في اقتصاد المملكة؛ بل استمرت الجهود لترقى المملكة إلى مصاف الدول المتحضرة، حيث عمدت الدولة إلى الاعتماد على قطاعات الدولة الإنتاجية الأخرى غير النفطية، التي كانت قد بدأت تؤتي ثمارها بعد اكتمال أعمال البنية الأساسية. وأسهم ذلك في المحافظة على مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي والرفاهية في تلك الفترة. وبذلك استطاع الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله مواجهة هذا التحدي بصمود واجتيازه بنجاح، بل استمرت الدولة في ضخ الجزء الأكبر من ميزانيتها لاستكمال التجهيزات الأساسية.

2. السياسة النفطية

أما التحدي الثاني الذي، لا يقل أهمية عن سابقه، فتمثل في ماهية السياسية النفطية المثلى التي ينبغي اتباعها من قبل المملكة، وهي أكبر الدول إنتاجاً ومخزوناً للنفط؛ فمخاطر الفشل في إدارة هذه الثروة قد تترتب عليه مخاطر كبيرة الوطن في غنى عنها؛ لكن المملكة وبفضل من الله، ثم بحكمة قيادتها وضعت سياستها النفطية على أسس راسخة، وبذل الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله تضحيات كبيرة في سبيل تحقيق الاستقرار للسوق البترولية العالمية، دون الإخلال بمتطلبات التنمية والازدهار، أو القيام بالالتزامات القومية والدولية والإنسانية، التي أخذتها المملكة على عاتقها، تجاه بعض الدول الإسلامية والعربية. فقد حرصت المملكة دائماً على تأمين السوق النفطي بالإمدادات وفق المعدلات المطلوبة، ما أسهم في بقاء عجلة الحضارة دائرة بكامل سرعتها. كما تحاشت دائماً السيطرة على السوق، أو فرض سعر مرتفع، أو احتكاره. ويأتي في هذا الصدد سجل المملكة الحافل في دعم منظمة "أوبك" وتعزيز مسيرتها لخدمة المنتجين والمستهلكين، التزاماً بمسؤوليتها تجاه المجتمع الدولي، وحفاظاً على استقرار الاقتصاد العالمي.

ومن أجل ذلك اكتسبت المملكة سمعة دولية رفيعة بأنها مورد للنفط يمكن الاعتماد عليه، ولديها إمكانية لزيادة إنتاجها لسد الاحتياطات الضرورية والعاجلة، وحماية المصالح الاقتصادية الدولية.

3. لم الشمل العربي، وتوحيد الصف

منذ توليه ولاية العهد، كثف الأمير عبدالله جهوده من أجل توحيد الصف العربي ولم الشمل. وكانت جهوده في هذا المسار قد بدأت في عهد الملك خالد، من خلال مساعيه وزياراته المستمرة لبؤر الخلاف، حتى عُرف بأنه رجل المساعي الحميدة وزعيم الوساطات الناجحة. فقد كان توحيد العرب وجمع كلمتهم يشغل عقل الأمير عبدالله وفكره.

وكان للمملكة دور كبير في عودة مصر إلى البيت العربي، إذ كان الأمير عبدالله بن عبدالعزيز من أشد المتحمسين لهذه الخطوة والداعين إليها في مؤتمر القمة الاستثنائي في الجزائر. وظل يردد للقادة والمسؤولين العرب: "لا غنى للعرب عن مصر ولا غنى لمصر عن العرب". وفي زياراته الخارجية ولقاءاته بالمسؤولين العرب كان ينادي دائماً بترك ملفات الماضي، وبدء صفحة جديدة مع مصر من أجل استكمال منظومة الوحدة العربية.

إن إيمان المملكة بالوحدة والتضامن لا يتوقفان عند حد؛ فهي وسيط دائم في كل خلاف ينشب بين قطرين عربيين، أو إسلاميين. فكانت وسيطاً بين الفرقاء في أفغانستان، كما أدت، بشكل أو بآخر، دور الوسيط في النزاع القطري ـ البحريني على الحدود ونجحت في تقليل هوة الخلاف بين الجانبين. كما سعت إلى حل كل الخلافات داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية. فالقيادة السعودية تنزع إلى الوحدة والتضامن، وترفض كل خلاف ينشب بين دولتين عربيتين إسلاميتين أو دولة عربية وأخرى مسلمة، كما حدث بين العراق وإيران في حرب الخليج الأولى، وذلك لاحتواء الخلافات بين دول الإقليم، بما يقلل فرصة التدخل الأجنبي في المنطقة.

وقد نجحت المملكة من خلال هذه السياسة في تحقيق أعلى مستوى من التفاهم العربي في نهاية الثمانينات الميلادية، خاصة بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية وتهيئة الأجواء لوفاق عربي حقيقي، بعد عقد كامل من التشرذم. ولهذا عدّت المملكة بحق رائدة الوفاق العربي، ولولا الغزو العراقي للكويت لتغيرت صورة العرب تغيراً كاملاً.

4. الغزو العراقي للكويت

في الثاني من أغسطس عام 1990 زحفت القوات العراقية عبر الحدود إلى الكويت، وسيطرت على العاصمة الكويت. واستطاعت العائلة الحاكمة الكويتية النجاة من محاولة تصفيتها، واستقرت في ضيافة المملكة العربية السعودية. وقبل الثاني من أغسطس وتأكيداً لدور المملكة التاريخي الرائد في التصدي لقضايا الأمة العربية والإسلامية، والعمل الجاد على جمع شملها وتوحيد كلمتها، سعت المملكة لوأد الخلاف بين الكويت والعراق قبيل الغزو. وكان الأمير عبدالله في مقدمة مستقبلي ولي العهد الكويتي الشيخ سعد العبدالله الصباح، ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي السيد عزت إبراهيم، واللذين وصلا إلى جدة استجابة لدعوة المملكة لإنهاء الخلافات والحفاظ على وحدة الصف وجمع كلمة العرب، حيث عقد اجتماع ضم الوفدين في قصر المؤتمرات بجدة.

وقد انحصر الدور السعودي في اجتماع جدة على تهيئة الأجواء بين الجانبين، دون مشاركة في المباحثات التي تمت بينهما خلال الاجتماعات الثنائية المغلقة، التي اقتصرت على طرفي النزاع. ونتيجة لإصرار الجانب العراقي على موقفه غير المنطقي ووجود نوايا الاحتلال، لم يُكتب لاجتماع جدة النجاح. وقد سارعت المملكة بإجراء سلسلة من الاتصالات الواسعة مع مختلف الأطراف العربية والإسلامية، أملاً في إيجاد حل عربي إسلامي للقضية ينأى بها عن أي تدخل أجنبي، ويتيح المجال للتوصل إلى حل ينهي المشكلة والآثار المترتبة عليها.

لكن أطماع النظام العراقي قادته ـ في نهاية الأمر ـ  إلى احتلال الكويت وتشريد شعبها، فجاءت وقفة المملكة صامدة في وجه ذلك العدوان وكشف نواياه للعالم أجمع. فكان التأييد منقطع النظير من دول العالم لموقف المملكة بضرورة تحرير الكويت، وأن الشعبين السعودي والكويتي شعب واحد. ودفعت المملكة بكل ثقلها في سبيل إعادة الشعب الكويتي إلى أرضه ووطنه.

وخاطب ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز إخوته الكويتيين في تلك الأزمة قائلاً: "لقد كنا معكم بعقولنا وقلوبنا... فأنتم امتداد لنا ونحن امتداد لكم... كنت مؤمناً بالله... ثم بعودة الكويت لأهلها تحت ظل شرعيته".

5. إدارة ولي العهد الأمير عبدالله شؤون الحكم عام 1416، نيابة عن الملك فهد

كان الملك فهد، رحمه الله، يوكل لولي عهده الأمير عبدالله القيام بمهامه أثناء زياراته الخارجية، أو سفره لحضور المؤتمرات الدولية، أو إجازاته الخاصة. وفي عام 1416هـ تعرض الملك فهد لوعكة صحية تطلبت فترة طويلة من الراحة والاستجمام بناء على نصيحة الأطباء، فأوكل إلى أخيه الأمير عبدالله إدارة شؤون الحكم في 11 شعبان 1416هـ، حيث ينص نظام الحكم السعودي على أن يتولى ولي العهد تصريف أمور الدولة أثناء غياب الملك، سواء في زيارات رسمية، أو حضور مؤتمرات للقمة، أو خلال قضاء إجازاته السنوية، أو أثناء تعرضه لحالات مرضية. ونصت المادة 65 من النظام الأساسي للحكم على أن: "للملك تفويض بعض الصلاحيات لولي العهد بأمر ملكي".

ولم يكن عبدالله بن عبدالعزيز بعيداً عن مهام الحكم أو جديداً عليها، حينما أسندت إليه بعد مرض الملك فهد. فقد أسهمت الأعوام التي قضاها ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، في إلمامه بكافة المشكلات والتحديات التي يواجهها وطنه، ومعرفته بمجريات الأحداث وتفاصيلها في الداخل والخارج، ووضوح رؤيته تجاه كل تحد، سواء أكان داخلياً أو خارجياً. فقد تهيأت له عناصر الخبرة والمعرفة من ممارسة مهام الحكم خلال عقد ونصف تقريباً من ولاية العهد، فضلاص عن أعوام عديدة أخرى من مشاركاته في اللجان الاستشارية العليا للدولة ورئاسته للحرس الوطني.

وقد شكلت سنوات ولايته للعهد، وتصريفه شؤون الدولة داخلياً وخارجياً، حوالي عشر سنوات، رؤية واضحة وحلولاً واقعية تجاه قضايا الداخل والخارج.

كان لدى الملك فهد ثقة كبيرة في قدرة أخيه الأمير عبدالله على القيام بكافة الأعباء والمسؤوليات على أحسن وجه، وثقة كبيرة في القرارات والمواقف والسياسات التي يتخذها، فكان يتبناها الفهد ويرعاها، حتى أن أكثر الأوامر الملكية، التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة قبل تولي الملك عبدالله مقاليد الحكم، كانت تنص على: "وبناء على ما عرضه علينا سمو ولي العهد.."، كما كانت الموافقات الملكية تصدر بناء على اقتراحات سمو ولي العهد.

6. تداعيات الحادي عشر من سبتمبر

فجّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تحديات كبيرة للمملكة العربية السعودية. فقد تحولت أنظار العالم نحو المملكة نتيجة وجود 15 سعودياً من بين العناصر الـ 19 التي نفذت اعتداءات نيويورك وواشنطن. فضلاً عن أن أسامة بن لادن "زعيم تنظيم القاعدة" كان يُنظر إليه على أنه سعودي الجنسية، على الرغم من أن الجنسية السعودية أُسقِطت عنه منذ العام 1994.

ونتيجة لذلك تعرضت المملكة العربية السعودية إلى حملة إعلامية ومنظمة، من قِبل دوائر اليمين المحافظ المتشدد مدعومة بدوائر اللوبي الصهيوني، ومستفيدة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بغرض تحقيق أكثر من هدف، ليس أقله تشويه صورة المملكة على المستوى الدولي وتهديد أمنها الداخلي، والضغط عليها لتغيير سياستها الخارجية تجاه القضايا العربية والإسلامية.

وقد اتخذت هذه الحملة أشكالاً متعددة، منها مقالات صحفية في صحف أمريكية وغربية بارزة، وبرامج ولقاءات تلفزيونية وإذاعية، ومنها تقارير لجان حكومية، وتقارير منظمات حقوق الإنسان. وهذا يشير إلى أن وراء هذه الحملات محركاً يقودها في أكثر من اتجاه وبأكثر من وسيلة. كما أنها لم تعد مقتصرة على الولايات المتحدة وبريطانيا بل شملت وسائل إعلام في دول أخرى، مع اختلاف بواعثها وأفكارها.

استطاع عبدالله بن عبدالعزيز تجاوز الأزمة في فترة قصيرة، حيث تحرك على أكثر من صعيد؛ فمن ناحية حرص على المشاركة وحضور المؤتمرات الدولية والإقليمية، والقيام بجولات خارجية للعديد من الدول. فشارك في قمة "إيفيان" للدول الصناعية في فرنسا (يونيه 2003) حيث أبرز الدور المحوري للمملكة وأهمية مبادرته للسلام في الشرق الأوسط. وحضر القمة العربية الأمريكية بشرم الشيخ في الشهر نفسه، ورعى المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي نظمته المملكة العربية السعودية ممثلة بوزارة الخارجية في مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات في مدينة الرياض في فبراير 2005. وقد دعا في ذلك المؤتمر إلى إقامة مركز دولي لمكافحة الإرهاب يكون العاملون فيه من المتخصصين في هذا المجال، والهدف من ذلك نقل المعلومات وتبادلها بشكل فوري يتفق مع سرعة الأحداث، وتجنب سيئها قبل وقوعها.

كما دعم تحركات المسؤولين والمثقفين السعوديين لإبراز دور المملكة على أصعدة السلام والأمن والاعتدال؛ فذهب السعوديون إلى كل مكان ليرفعوا صوتهم عالياً بأن بلادهم بريئة من الإرهاب، وأنها هي بالمثل اكتوت بنار الإرهاب. وقدموا الكثير من المعلومات والحقائق عن حقيقة الإسلام وسماحته ووسطيته.

كما أصدرت المملكة قوانين إضافية لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال. وقد نجحت المملكة بشكل كبير في إزالة التضليل الإعلامي الذي لحق بصورتها وصورة الإسلام. كما أن زيارتي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز للولايات المتحدة في أبريل 2002، وأبريل 2005، أحدثتا تغيراً مهماً وتطوراً شاملاً في العلاقات، فعادت الوفود التجارية والمعارض والاجتماعات إلى سابق عهدها وشهدت العلاقات الأمريكية السعودية نمواً كبيراً.

7. مواجهة الإرهاب

أدت الحرب على الإرهاب إلى موجة جديدة من العنف اجتاحت العالم بأكمله، نتيجة استيقاظ الخلايا النائمة لتنظيم القاعدة في أنحاء العالم، كرد فعل على الحرب الأمريكية على حركة طالبان وتنظيم القاعدة. وكانت المملكة العربية السعودية إحدى الدول المستهدفة لهذا التنظيم الإرهابي، بغرض تهديد أمن واستقرار واحدة من أهم المناطق  الإستراتيجية في العالم. وقد كانت الحرب الأمريكية على أفغانستان، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق، إضافة إلى الدعم الغربي المتواصل للكيان الصهيوني، بمثابة الوقود الذي أشعل الإرهاب في أنحاء العالم، حيث استغلت رؤوس الإرهاب هذا الظلم الواقع على العالم الإسلامي، لتجنيد الشباب واستقطابهم للقيام بأعمال إرهابية حتى في أوطانهم.

أدرك عبدالله بن عبدالعزيز خطر الإرهاب على حاضر الدولة ومستقبلها، وآثاره السلبية في حالة إهماله على أمن الدولة واقتصادها؛ لذا قرر أن يقود بنفسه معركة الدولة في مواجهة الفئة المتطرفة، فكانت مكافحة التطرف أولوية لا تقبل التأجيل على مستوى الفرد والأسرة والمؤسسة والمجتمع بأسره. وقد استنفرت كلماته العفوية المفعمة بمشاعر الوطنية الصادقة همم الغيورين من أبناء شعبه، لمواجهة قوى التطرف والشر. وكانت مجالسه منبراً فنّد فيه بنفسه شُبه الإرهابيين وضلالاتهم. وكان ينقل للحاضرين أنباء القضاء على بعض أفرادهم مبدياً أسفه على انحراف بعض أبناء شعبه، ومحذراً الأسر من مغبة إهمالها لأبنائها.

وبحكم موقعه القيادي في مجلس الوزراء، جعل مكافحة التطرف والإرهاب أحد أهم عوامل تقييم أداء الجهات المعنية بهذه المهمة. فأشاد بمن عمل وقدم جهوداً في هذه المعركة. وفي الوقت ذاته عاتب كل المقصرين في القيام بدورهم في الحرب ضد الإرهاب.

وعندما رأى عبدالله بن عبدالعزيز أن جهود محاصرة الإرهاب فكرياً وأمنياً قد نجحت، التفت إلى الفئة الضالة من موقع مسؤوليته عن حماية الوطن والمواطنين؛ ولكن بقلب الأب الذي يتفهم أسباب وقوع أحد أبنائه في الخطأ. وعرض عليهم ـ بنفسه أيضاً ـ وباسم أخيه الملك فهد ـ رحمه الله ـ عفواً عاماً غير مشروط في خطوة سياسية بثت الثقة في نفوس المترددين منهم، وزلزلت قناعات المتعاطفين معهم، وأطاحت بأوراق رؤوس الضلال فيهم، وأكسبت الدولة مزيداً من الحب والتأييد.

8. المجلس الاقتصادي الأعلى

يحتل الشأن الاقتصادي مكانة عالية في قائمة اهتمام الحكومات، حيث تربطه علاقة مباشرة بالمصالح العليا للدول والحرص على تقدمها وتنميتها واستقرارها، الأمر الذي جعل رسم السياسات الاقتصادية وبلورتها محوراً أساسياً لأعمال الحكومات ومسؤولياتها؛ لذا حينما قرر الملك فهد إنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى، وضع على رأسه أخاه وولي عهده الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، لثقته في خبرات ولي العهد ومهاراته في تولي مثل هذا المنصب المهم وإدارته، نظراً لأهمية الدور الكبير الذي سيقوم به هذا المجلس، إذ هو المناط به تحديد السياسات الاقتصادية العليا للمملكة.

تبنى الأمير عبدالله الأنشطة التي يقوم بها المجلس منذ تأسيسه، وصاحبه إنشاء مجلس استشاري فاعل كان لهما دور بارز في استحداث العديد من التشريعات الاستثمارية، التي طال انتظارها؛ ونظراً لاهتمامه بالجانب الاقتصادي، شهدت المملكة العديد من التطورات الكبيرة خلال السنوات السابقة، خاصة فيما يتعلق بفتح المجالات الاستثمارية وتيسيرها وإزالة العقبات والقيود أمامها. وقد قدم المجلس الاقتصادي منذ تأسيسه عام 2000م العديد من الإنجازات والقرارات؛ فأجاز 48 قراراً حتى عام 2005م انعكست على مصلحة البلاد، في مقدمتها إستراتيجية الخصخصة، إضافة إلى نظام الاستثمار الأجنبي، ونظام الضريبة، وتملك الأجانب للعقارات، وتنظيم صندوق التنمية البشرية، وخفض الرسوم الجمركية، وتنظيم هيئة الاتصالات، وهيئة الكهرباء، والسماح للشركات السعودية بالاستثمار في قطاع النقل الجوي.... .

وكان سر نجاح المجلس وفاعليته على مدار الأعوام الخمسة الماضية، يرجع إلى توجه عبدالله بن عبدالعزيز ونمط تفكيره في الشأن الاقتصادي؛ إذ رأى منذ توليه هذا المنصب ضرورة خروج الملف الاقتصادي من "عباءة" الدولة إلى القطاع الخاص، وضرورة إعادة النظر وتنظيم العلاقة بين جميع أطراف العملية الاقتصادية، بدءاً من الدولة وأجهزتها، مروراً بالمستثمرين المحليين والأجانب، وانتهاءً بالمواطن.

9. المجلس الأعلى للنفط

تولى عبدالله بن عبدالعزيز منصب نائب رئيس المجلس الأعلى لشؤون البترول والمعادن، منذ إنشائه في العام 1420هـ. وقد أنابه الملك فهد عنه في العديد من الجلسات لرئاسة المجلس، وإصدار القرارات نيابة عنه. وكان من أبرز القرارات التي اتخذها المجلس برئاسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ما صدر في جلسة رمضان عام 1424هـ، التي وافق فيها على مشروع اتفاقية التنقيب عن الغاز غير المصاحب وإنتاجه في جنوب الربع الخالي، بين حكومة المملكة، من جهة، وشركة "شل" وشركة "توتال" وشركة "أرامكو السعودية"، من جهة أخرى. كما ترأس جلسة جمادى الأولى من العام نفسه التي أُقر فيها مشروع تنظيم الغاز وإمداداته وتسعيره ونظام ضريبة استثمار الغاز الطبيعي، وأقر خطة العمل لشركة الزيت العربية "أرامكو" للسنوات القادمة حتى عام 2008. وترأس جلسة جمادى الأولى عام 1423هـ التي أُقرت فيها خطة عمل شركة "أرامكو" من عام 2002 إلى عام 2006، واعتمد التقرير السنوي للشركة والميزانية العمومية لها.

وقد قام عبدالله بن عبدالعزيز بدور كبير في ترتيب شؤون وسياسات البترول في المملكة، ووضع السياسات النفطية لها والسياسات العامة لشركة "أرامكو"؛ إلا أن أكبر إنجاز يسجل له في هذا الشأن هو مشروع الغاز، وهو مشروع وطني ضخم فتح بموجبه قطاع الغاز للاستثمار الأجنبي. وقد أطلق مبادرته في جمادى الآخرة عام 1420هـ بدعوة شركات البترول العالمية للاستثمار بالمملكة. ومن أهم ما تميزت به مبادرة عبدالله بن عبدالعزيز للغاز هي التنويع في اختيار الشركات النفطية العالمية، فدخلت للمرة الأولى شركة نفط روسية وأخرى صينية، إضافة إلى شركات متنوعة أخرى إيطالية وأسبانية وأرجنتينية، وهو ما سيؤدي إلى الاستفادة من إدارات مختلفة وتقنيات جديدة، ومصادر مالية وعلاقات قوية مع عدة دول في آن واحد؛ فضلاً عمّا سوف يعود من زيادة في احتياطات الغاز وزيادة إنتاجه، بما يحقق متطلبات التنمية وتنويع مصادر الدخل من خلال توفير الغاز ومنتجاته للصناعات المختلفة؛ وكذلك إيجاد فرص عمل تقدر بحوالي 140 ألف وظيفة، سيشكل السعوديون نسبة 65% منها في السنوات الثلاث الأولى لتشغيل المشروع، وباكتمال السنة الثالثة تكون النسبة 75%، إضافة لتدريب وتأهيل الشباب السعوديين وتشجيع المقاولين والموردين السعوديين. علماً بأن هذه المشروعات سوف تشمل حفر المستثمر الأجنبي آباراً ومد خطوط أنابيب وإنشاء معامل معالجة وبنية تحتية للتصدير، وإقامة صناعات القيمة المضافة، ما يعني وجود التأثير المضاعف الذي سيسهم في توسع اقتصاد المملكة.

 

خامساً: تولي مقاليد الحكم

توفي الملك فهد يوم الاثنين 26 جمادى الآخرة سنة 1426، الموافق الأول من أغسطس 2005، وفي اليوم نفسه أصدر الديوان الملكي بياناً أعلن فيه مبايعة الأسرة المالكة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ملكاً للمملكة العربية السعودية "وفق المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم". وأشار البيان إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز اختار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولياً للعهد، بموجب المادة ذاتها.

وبدأت البيعة من المواطنين لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير سلطان في قصر الحكم، في الرياض، الأربعاء 28 جمادى الآخرة 1426، الموافق الثالث من أغسطس 2005. (انظر ملحق الكلمة التي وجهها الملك عبدالله بن عبدالعزيز للمواطنين في الإذاعة والتلفزيون بعد توليه مقاليد الحكم).

1. نظام البيعة

في خطوة جريئة من خطوات الإصلاح والبناء، أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أول نظام للبيعة في رمضان عام 1427. وقد صدرت بعده اللائحة التنفيذية للنظام، ثم بعد ذلك تمت تسمية أعضاء الهيئة، حيث دشن الملك عبدالله بذلك مرحلة جديدة من الحياة القانونية والخطوات الإصلاحية والتنظيم والتحديث والتطوير السياسي، والعمل المؤسسي المنظم في تداول السلطة، وهو ما يتناغم مع جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية الأخرى، التي شهدتها المملكة؛ فنظام البيعة من شأنه إكمال نظام الحكم في المملكة، وهو صمام أمان لمواجهة كل التحديات وإكساب نظام الحكم في المملكة الاستقرار المستديم، والتعامل بفكر الدولة العصرية المتجددة، حيث يتيح النظام الجديد الانتقال السلسل للحكم. ومن شأن ذلك أن يدعم الحفاظ على كيان الوطن والاستقرار السياسي في كافة الميادين والتكاتف بين أبناء الأسرة المالكة، من ناحية، والشعب السعودي من ناحية أخرى، من خلال أنظمة للحكم تفي بالمتطلبات المستقبلية التي تحتاجها الدولة لضمان أمنها واستقرارها ونموها ورعاية مواطنيها وتوفير كل سبل الرفاهية والحياة الكريمة. (انظر ملحق نظام هيئة البيعة لتنظيم شؤون الحكم ومبايعة الملك واختيار ولي العهد، الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود).

2. حقوق الإنسان

اكتملت منظومة الدفاع عن حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية بتأسيس "الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان"، التي صدر قرار بتشكيلها في جلسة مجلس الوزراء برئاسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 15 شعبان عام 1426هـ. وهي ترتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء وتهدف لحماية حقوق الإنسان وتعزيزها، ونشر الوعي بها والإسهام في ضمان تطبيق ذلك. وقد منح نظام الهيئة صلاحيات واسعة لها، واستقلالية عن جميع الأجهزة الحكومية، وجعلها تتمتع بشخصية اعتبارية واستقلال تام في ممارسة مهامها، ولها رئيس بمرتبة وزير، ونائب رئيس بالمرتبة الممتازة.

3. الإصلاح الفكري

أما الإصلاح الفكري، فقد تمثل في بدء الملك عبدالله بن عبدالعزيز طرح حوار جاد وشامل حول محاربة الغلو والتطرف والتعصب، والدعوة إلى الفكر الوسطي والحوار الجاد والإيجابي والرصين، بين كافة فئات المجتمع حول القضايا الخلافية، بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة لها، مع المحافظة على الوحدة الوطنية.

وتمثل ذلك في تأسيس "مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني"، وهو مركز دائم للحوار الوطني جاء امتداداً لمؤتمر الحوار الوطني، الذي استضافته الرياض في يونيه 2003، وكان أوصى بإنشاء مثل هذا المركز ليستمر الحوار الوطني ويتسع نطاقه، وليدخل إليه المزيد من المتحاورين ويبحث فيه المزيد من القضايا، بهدف أن يتطور الحوار حتى يكون أسلوباً بناء من أساليب الحياة في السعودية. ويسعى المركز إلى توفير البيئة الملائمة الداعمة للحوار الوطني بين أفراد المجتمع وفئاته (من الذكور والإناث)، بما يحقق المصلحة العامة ويحافظ على الوحدة الوطنية المبنية على العقيدة الإسلامية.

4. الجهاز القضائي

يعد جهاز القضاء أحد المرافق التي نالت اهتمام الملك عبدالله وعنايته. ومع أن النظام القضائي في المملكة لا شبهة فيه ولا ريبة، إلا أنه كان في حاجة إلى مزيد من الضبط والتنظيم والترشيد والتطوير، بما يتناسب ومتطلبات التطور الذي تعيشه المملكة. ولتحقيق كل ما يتطلبه ذلك من تهيئة الكوادر وتوفير الوظائف والتجهيزات ومباني المحاكم والمتطلبات اللازمة لتحقيق الأهداف والغايات، أعلن الملك عبدالله في رمضان 1428هـ عن نقلة نوعية شاملة في إطار مشروع متكامل أُطلق عليه اسم: "مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء". وقد خصصت لها ميزانية خاصة بهذا المشروع تبلغ 7 مليارات ريال، وكانت باكورة هذا المشروع إصدار نظامي القضاء وديوان المظالم، واللذين من شأنهما الارتقاء بمرفق القضاء وتطويره بشكل شامل وكامل، يتزامن مع ما تشهده المملكة من تطور وتحديث في مناحي الحياة كافة.

5. المدن الاقتصادية

كان، ولا يزال، الجانب الاقتصادي أحد أهم الجوانب التي يوليها الملك عبدالله جل اهتمامه، حيث أقرت المملكة إنشاء خمس مدن اقتصادية من الطراز الأول، هي: "مدينة الملك عبدالله الاقتصادية" جنوب رابغ، ومركز الملك عبدالله المالي في الرياض، ومدينة الأمير عبدالعزيز بن مساعد الاقتصادية بحائل، ومدينة المعرفة الاقتصادية بالمدينة المنورة، والمدينة الاقتصادية في جازان.

وقد باتت المدن الاقتصادية إحدى أهم وسائل الجذب الاستثماري، كونها تقدم كافة التسهيلات والمغريات للشركات والمؤسسات المختلفة، ما يجعلها واحدة من أفضل السبل لجذب الاستثمار ورؤوس الأموال الضخمة، ودفع عجلة الاقتصاد الوطني.

6. جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية

إيمان الملك عبدالله بالعلم وحماسه للتكنولوجيا، جعله يطرح مشروعاً من أهم وأكبر المشروعات العلمية في الشرق الأوسط، وهو "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية"، التي وضع حجر أساسها ظهر الأحد 9 شوال 1428هـ، الموافق 21 أكتوبر 2007م. وتهدف هذه الجامعة إلى أن تضع المملكة العربية السعودية على خارطة القرن الواحد والعشرين، من خلال إنشاء جامعة من طراز عالمي قادرة على التفاعل والتعاون مع مراكز ومعاهد الأبحاث العالمية، لاستثمار خبراتها وربط مخرجات أبحاثها بالفرص المتاحة في المجمعات الصناعية الإستراتيجية والتقنية، وتوليد صناعات حديثة، أو تطوير وتحويل الصناعات القائمة. فهي ليست جامعة تقليدية وإنما أرادها الملك عبدالله أن تكون جامعة ذات مكانة عالمية، تتبنى أفضل المعايير وتستقطب علماء رواداً من أنحاء المعمورة، بحيث تكون مجتمعاً عالمياً يضم أناساً متميزين من جميع أنحاء العالم، وتجرى أبحاثاً مؤثرة لا تحدها التخصصات من أجل إيجاد بيئة جديدة للبحث، بعيداً عن قيود الهياكل التنظيمية، وبناء شراكات عبر المجتمعات والثقافات والقارات، من أجل الهدف الأكبر المتمثل في خدمة الإنسانية من طريق إيجاد حلول علمية وتقنية للمشكلات، التي تواجه المملكة والمنطقة والعالم أجمع.

7. تفعيل دور المرأة

عُرِف عن عبدالله بن عبدالعزيز حرصه الشديد على إنفاذ تعاليم الشريعة،  وتمسكه بها، والمحافظة عليها، لذلك فهو منحاز إلى الشرع دائماً ولو على حساب العرف والتقاليد الاجتماعية، خصوصاً إذا لم يكن لها سند في الشرع، لذلك كان سباقاً إلى منح المرأة حقوقها التي كفلها الإسلام ووقف العرف والتقاليد الاجتماعية عائقاً أمامها.

وترتكز نظرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى دور المرأة على منحها كافة الحقوق التي كفلتها لها الشريعة، وإتاحة المجال أمامها للمشاركة في مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما لم يتعارض ذلك مع حكم شرعي. وانطلاقاً من ذلك شهدت قضية مشاركة المرأة في الشؤون العامة حراكاً كبيراً في الآونة الأخيرة، نظراً لما أبداه الملك عبدالله من اهتمام بها، وفي هذا الإطار، أيضاً، وقعت المملكة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 2000م، وتوسيع دورها ومنحها المزيد من الحقوق.

ويأتي في مقدمة ما تحقق للمرأة من مكاسب في الآونة الأخيرة مشاركتها بشكل دائم في ملتقيات الحوار الوطني التي عقدت بالمملكة، حيث شاطرت المرأة الرجل في تلك اللقاءات. وكان لرأيها وقضاياها اهتمام كبير، وقد خصص لها اللقاء الثالث في يونيه 2004 تحت عنوان "المرأة حقوقها وواجباتها"، بمشاركة 88 مشاركاً وباحثاً نصفهم من النساء. وقد عقد عبدالله بن عبدالعزيز عقب الملتقى اجتماعاً مع المشاركات فيه، واستمع إلى مطالبهن وناقش معهن لأكثر من ساعتين المشاكل التي تعترض المرأة السعودية، ووعدهن بأن كل مشاكل المرأة سوف تدرس لإعطائها حقوقها كاملة حسب الشريعة. وقد رأت المشاركات أن الاجتماع شكّل نقلة نوعية نحو تحقيق متطلبات المرأة السعودية.

ومن ضمن الإنجازات التي تحققت للمرأة السعودية في ظل حكم الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إصدار بعض القرارات التي تصب في إطار تعزيز مشاركتها في المجتمع. وفي مقدمة ذلك زيادة فرص عمل المرأة، وحقها في الحصول على ترخيص بمزاولة الأنشطة الاقتصادية، وإلغاء شرط الوكالة لسيدات الأعمال، وإنشاء وحدات وأقسام نسائية في الأجهزة الحكومية، التي تقدم خدمات ذات علاقة بالمرأة، والتحاق أكثر من 30 امرأة للعمل بوزارة الخارجية للمرة الأولى. ومن ضمن الإنجازات التي تحققت دخول سيدات الأعمال إلى مجالس إدارات الغرف التجارية وهيئة المهندسين السعوديين، ودخول ثلاث نساء إلى عضوية المجلس التنفيذي لأول جمعية سعودية أهلية لحقوق الإنسان، وانتخاب صحافيتين في مجلس إدارة هيئة الصحافيين.

8. الدائرة الخليجية

يبدو واضحاً اعتزاز الملك عبدالله بن عبدالعزيز بانتمائه الخليجي في حرصه على أن تكون العضوية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية ليست ارتباط سياسي أو علاقة عابرة فقط، بل واقع مصيري يعكس آمال وتطلعات مشتركة لدول وشعوب المجلس. كما يسعى الملك عبدالله دائماً إلى دفع جهود مجلس التعاون لتحقيق أهدافه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصولاً للوحدة المتكاملة.

كما أنه يسعى دائماً إلى وحدة الصف والكلمة بين الخليجيين، وحل أي خلاف بين دول المجلس من خلال التمتع بروح التسامح والتعقل، وحصر كل خلاف في نطاقه المحدود، وعدم الانجراف وراء الخلافات البيئية البسيطة والتعامل بشفافية مع المسائل الحساسة. وترتكز رؤية الملك عبدالله بن عبدالعزيز على إعطاء الأولوية القصوى لدعم مسيرة المجلس، ودفع العمل الخليجي المشترك من خلال دعم مجلس التعاون وترسيخ جذور هذا الكيان، من أجل تحويل الآمال والتطلعات إلى واقع ملموس.

9. الدائرة العربية

ظلت علاقة ملوك المملكة العربية السعودية بالقضية العربية علاقة وجود، وهكذا استمرت في فكر الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ ولكنها شهدت تطورين مهمين في عهده:

أولهما: اقتراب الرؤية الرسمية مع رؤية أهل الفكر والرأي إلى حد التطابق. وهذا يتضح جلياً في مبادرة الإصلاح العربي، حيث يرى الملك عبدالله أن الخلل العربي له أسبابه الداخلية لذلك لا بد من الانطلاق في إصلاح هذا الخلل من الداخل، قبل أن يفرض الإصلاح من الخارج بكل ما يحمله من مخاوف ليس أخطرها الهيمنة، وليس أقلها عدم مراعاة الخصوصية.

والتطور الثاني: هو الواقعية السياسية القائمة على الشفافية والمصارحة وفقه الواقع.

ولعل أهم الثوابت التي ينطلق منها الملك عبدالله هي: أن الانتماء العربي لا مساومة عليه، ولا بد من توجيه كافة الجهود لإرساء أسس متينة للتضامن العربي والوصول بالعرب إلى رؤية مشتركة في حل الخلافات ومواجهة التحديات، والإيمان القاطع بأن الخلافات العربية هامشية وهي إلى زوال، والسعي الدءوب إلى تقريب وجهات النظر بين القادة العرب، وأن قضية فلسطين هي القضية المحورية للمحيط العربي، ولا بد من العمل الجاد على تحقيق السلام العادل والشامل، الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وأن الجامعة العربية هي النظام الإقليمي العربي الذي يجب أن يبقى وأن يتم دعمه. ويطالب الملك عبدالله دائماً بتفعيل القمم العربية وتحويلها إلى قمم للتأمل والتحليل، يصدر عنها قرارات منطقية وواقعية تنفذ وفق جداول زمنية معقولة. وتأسيساً على الثوابت وانطلاقاً من التطورين المهمين في فكر الملك عبدالله، جاءت مبادرتاه الشهيرتان اللتان اكتسبتا طابعهما العربي بتبني الدول العربية لهما وهما: "مبادرة السلام، و"مبادرة الإصلاح".

10. الدائرة الإسلامية

إذا كانت قمة مكة التي انعقدت في رحاب البيت العتيق تشكل استثناء في مسيرة العمل الإسلامي المشترك، فإن فكر الملك عبدالله، السياسي ورجل الدولة، هو صانع هذا الاستثناء، وربما يكون من المفيد عند تحليل الرؤية السياسية للملك عبدالله في دائرتها الإسلامية العودة إلى كلمته الاستثنائية أيضاً في قمة "بوترا جايا" الإسلامية في 22 شعبان 1424هـ حيث قدم تشخيصاً دقيقاً لأزمة العالم الإسلامي، مقروناً بالحلول وبآليات عملية قابلة للتنفيذ.

فالملك عبدالله يرى أن الخلل الفكري نابع من الغلو، والغلو يؤدي إلى التطرف والتطرف يقود إلى الإرهاب. وجاء علاج هذا الخلل في صيغة سعودية محددة لتوسيع اختصاصات مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

كما يرى أن الخلل الاقتصادي ناجم عن عجز الدول الإسلامية عن مواكبة المتغيرات الاقتصادية، التي يشهدها العالم، وفشلها في تحرير الاقتصاد وعلاج هذا الخلل في دفع عجلة التنمية إلى الأمام بتشجيع التبادل التجاري بين الدول الإسلامية، وتعزيز الموارد المالية للبنك الإسلامي والمخصصة لتمويل الصادرات بين الدول الأعضاء.

أما الخلل السياسي، فيرى الملك عبدالله أنه يكمن في فشل الدول الإسلامية في حل قضاياها السياسية فيما بينها، فضلاً عن القضايا السياسية بينها وبين الدول غير الإسلامية؛ وكذلك فشلها في التعامل مع الآخر على أسس سليمة. وجاء الحل في مقترح بتشكيل لجنة السلام الإسلامية لبحث القضايا المعلقة بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين والآخرين.

وانطلاقاً من حرص الملك عبدالله بن عبدالعزيز على معالجة هذا الخلل السياسي في العالم الإسلامي، رعى المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي انعقد في مكة المكرمة في يونيه 2008، وكذلك رعى المؤتمر العالمي للحوار من أتباع الديانات والثقافات العالمية، الذي عُقد في مدريد في يوليه 2008.

11. الدائرة الدولية

ثمة محددات إستراتيجية تحكم علاقة المملكة بالعالم في فكر الملك عبدالله يأتي إطارها العام في معيار يتسم بالثبات، ويتمثل في حقيقة أن المملكة جزء من الأسرة الدولية تؤثر وتتأثر بما يدور فيها؛ فالملك عبدالله يرى أن موقف المملكة من الأسرة الدولية يقوم على الصداقة والتعاون مع الجميع. فهو يسعى لإقامة علاقات إستراتيجية مع جميع الدول أساسها المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأحد، بالقدر نفسه من الحزم يرفض الملك عبدالله أن يتدخل أحد في شؤون المملكة الداخلية. ويسعى الملك عبدالله جاهداً إلى نشر السلام والرخاء بين جميع الشعوب. وتسعى المملكة إلى تحقيق ذلك من خلال سياستها المعتدلة في إنتاج النفط وتسعيره وحماية الاقتصاد الدولي من الهزات والقلاقل، التي تؤثر على جميع أعضاء الأسرة الدولية. كما أن للملك عبدالله مواقف ثابتة في تأييد قضايا العالم العادلة، والتعاون البناء في مواجهة الكوارث، بغض النظر عن الاعتبارات العرقية والدينية والأيديولوجية. فالمملكة دائماً سباقة إلى الوقوف والمساندة لكل الدول في أوقات المحن والشدائد.

ويسعى الملك عبدالله جاهداً إلى تعزيز بناء الأمم المتحدة لتصبح أكثر فاعلية وقادرة على النهوض بمهامها في تحقيق الأمن والسلم الدوليين والتنمية المستدامة في العالم، وضمان حقوق الإنسان في إطار احترام الخصائص الذاتية للمجتمعات والثقافات المتعددة. كما أن للملك عبدالله أياد بيضاء في دعم قضايا التنمية المستدامة وجهود التنمية في الدول النامية، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهيئات التنمية ومؤسساتها.

كما يرى الملك عبدالله أن خطر الإرهاب يهدد العالم أجمع، لذلك على العالم بأسره أن يتعاون على مواجهته وتجفيف منابعه وحرمانه من مصادر تمويله وبؤر إيوائه. وفي هذا الإطار يبرز مقترح الملك عبدالله بإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب الذي لا جنسية له ولا قومية ولا دين. (انظر ملحق نص "إعلان الرياض" الصادر عن المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، في ختام أعماله في مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية في الفترة من 25 إلى 28 ذو الحجة 1425هـ الموافق 5 إلى 8 فبراير 2005م).

12. الملك الإنسان

حياة الملك عبدالله بن عبدالعزيز زاخرة بالأعمال الجليلة والمبادرات الحافلة بالمواقف الإنسانية المنظورة. ومن الصعوبة بمكان حصر مثل تلك المواقف في نموذج معين أو تحديدها في إطار محدد، لأنها مواقف عفوية تأتي في لحظتها دون تكلّف ولا وضع توقيت لها، وإنما تصدر ـ بداهة ـ بدافع حس إنساني رفيع وتلقائية مواتية بحسب المناسبة التي تجري، دون افتعال للحدث ولا تزوير للواقع.

ومن نماذج مجالات الخير لديه إضاءته للآمال الشاحبة لدى بعض الأسر التي يولد لها توائم متلاصقة (سيامية)، فجعل من مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني واجهة طبية عالمية بتخصصه في أمراض مستعصية، فتحقق الإنجاز الرائع لعمليات فصل التوائم على أرقى مستوى في العالم، وقد أجريت عمليات عديدة تكللت بالنجاح التام. وكان وراء هذا النجاح متابعة الملك عبدالله ودعمه لهذا المستشفى ليكون على أعلى مستوى طبي. فكان هذا المستشفى يستقبل، بتوجيه من الملك عبدالله، وعلى نفقته الخاصة، التوائم التي تجرى لها عمليات صعبة معقدة، إلى جانب رعايتهم على مدى شهور بعد النقاهة. وكان يتعهد شخصياً متابعة عمليات الفصل ويشاهد التوائم ويقبلهم، كما أنه يستقبلهم إلى جانب والديهم وذويهم في قصره ويودعهم، ولم تكن هذه العمليات خاصة بجنسية أو دين، وإنما هي شاملة لكل من ابتلي بهذا الابتلاء.

وقد بلغت إنسانية الملك عبدالله مداها بإطلاقه لجملة من المشاريع الاجتماعية العملاقة والنبيلة لصالح الفقراء ومحدودي الدخل والمعوزين، استشعاراً منه بعظم المسؤولية وثقل الأمانة تجاه رعيته. ومن هذا المنطلق جاء توجيه الملك عبدالله باعتماد إستراتيجية مكافحة الفقر بوصفه مشكلة معقدة، وتأكدت أهميتها بإنشاء الصندوق الخيري لمعالجة الفقر إثر زيارة الملك عبدالله التاريخية لبعض الأحياء الفقيرة في جنوب مدينة الرياض إبان ولايته للعهد، وكذلك توجيهه بتخصيص أكثر من ملياري ريال للإسكان الشعبي ضمن مشاريع مؤسسة "الملك عبدالله لوالديه" للإسكان التنموي، إضافة إلى استهلاله عهده بزيادة رواتب موظفي الدولة والارتقاء بحاجات ذوي الدخل المحدود، ورفع مخصصات الضمان الاجتماعي والصندوق العقاري وبنك التسليف.