إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115 ـ 1206هـ)









مولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ونشأته

مولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ونشأته

1. مولده وأسرته

هو محمد بن عبدالوهاب، بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد، بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرّف، بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر، بن محمد بن علوي بن وهيب التميمي. وتميم من ذرية إلياس بن مضر.

كانت العيينة (وهي الآن ضاحية في شمال الرياض)، أجمل بلدان نجد وأغناها، وكان عدد سكانها خمسة وعشرين ألفاً. وكان فيها بيتان رفيعان: بيت الإمامة، ورئاسته لأسرة آل معمر، وبيت الزعامة الدينية والعلم، ورئاسته لأسرة آل مشرف، ففيهم العلماء الفقهاء، والمفتون والقضاة. في هذه البلدة، في عام 1115هـ، على الراجح، بُشّر الشيخ عبدالوهاب بن سليمان آل مشرف بولادة ابن له، فسَّماه محمداً تيمناً باسم النبي r وكان يرجو أن يكون لولده هذا شأن عظيم في مجال العلم والقضاء[1].

"وتلقى في طفولته العلم في بلدته، فحفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقّاد الذهن، سريع الحفظ، فصيحاً فطناً. روى أخوه سليمان أن أباهما كان يتوسم فيه خيراً كثيراً، ويتعجب من فهمه، وإدراكه مع صغر سنه، وكان يتحدث بذلك ويقول: إنه استفاد من ولده محمد فوائد من الأحكام".

وبجانب الصفات الشخصية، التي تميز بها الصبي محمد بن عبدالوهاب، فقد نشأ في بيت علم، هو جزءٌ من بيئة علمية محيطة به. وكان يتخلل تلك البيئة حلقات الدّرس الديني، مما جعلها بيئة صالحة لنشأة الصّبي. فبجانب ذكائه وشغفه بالعلم، كان أبوه عالماً فقيهاً، ألَّف عدة رسائل في الفقه. وكان مشهوراً عند الناس بالتواضع وكرم الخلق والطباع. وكان يقرأ لطلاب العلم، في مسجد العيينة، دروساً في الفقه والحديث والتفسير.

أمّا الجد، سليمان بن علي، قاضي العيينة في زمن عبدالله بن معمر، فكان أعلم رجال نجد وأفقههم، بل كان مرجعهم في الفقه الحنبلي، له فتاواه الرشيدة المعروفة. كما اشتُهر بالكرم والإنفاق، وكان ذا هيبة ونفوذ لدى الولاة والأمراء في مختلف جهات نجد. وكان عمه إبراهيم فقيهاً، كما كان أخوه سليمان، وابن عمه، عبدالرحمن بن إبراهيم، يطلبان العلم. ولمّا كان والده قاضي البلدة، فإن منزله ـ في أغلب الأحيان ـ كان ملتقى طلاب العلم، سواء كانوا من أهل البلدة ذاتها أو ممن يقدمون إليها من بلدان أخرى. وكانت اجتماعات هؤلاء العلماء والطلاب تتخللها مناقشات علمية. وكان حضور الصبي محمد تلك المناقشات، من الأمور، التي أضافت إلى معلوماته الشيء المفيد. ومن المرجح أنه كان على علم بأحكام أبيه، القاضي، في بعض القضايا، وهذا أمر له أهميته بالنسبة لتوسيع مداركه".

نجح الصبي محمد في حياته العلمية الأولى نجاحاً، سرّ والده، فعبّر عنه برسالة "نوّه فيها بشأن ابنه محمد، وأثنى فيها عليه، وعلى حفظه وفهمه وإتقانه، ذكر فيها أن ابنه بلغ الاحتلام قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمره، وأنه رآه حينئذ أهلاً للصلاة بالجماعة لمعرفته بالأحكام، فقدمه أبوه ليؤم الناس. وزوجه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ـ بُعيد بلوغه ـ ثم أذن له بالحج، فحج وقصد مدينة الرسول r وأقام فيها شهرين، ثم رجع بعد أن أدى الزيارة".

وعندما عاد من الحج لازم مجلس والده، فقرأ عليه الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وكان الصبي محمد مع صغر سنه، يكثر من القراءة في كتب التفسير والحديث، والإطلاع على آراء العلماء في أصل الإسلام. وكان يجيد الكتابة، سريعاً فيها، حتى قيل إنه "يكتب في المجلس الواحد كراساً من غير أن يتعب، فيحار من يراه لسرعة حفظه، وسرعة كتابته".

وكانت ملازمته للحلقات العلمية، ومجالسة والده، وكثرة إطلاعه، قد فتحت قدراته العقلية، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد، ومعرفة نواقضه التي تُضل عن سبيله. فأخذ ينتقد تلك البدع، التي تفشت في زمنه، وينكر على منْ يمارسونها، وكان يرى فيها الشرك المنافي لعقيدة التوحيد، "ومع أن بعض الناس كان يستحسن ما يقول، غير أنه رأى أن الأمر لن يتم له على ما كان يريد، فرحل في طلب العلم".

2. الرحلة في طلب العلم

أَذِنَ الشيخ عبدالوهاب لابنه محمد، بالسفر لسماع الأحاديث، والاستزادة من المعرفة، بعد ما رأى فيه النبوغ وحب العلم. وكان من عادة أهل نجد أن يرحل فتيانهم النابغون في طلب العلم، تأسياً بالصحابة، والأئمة الأربعة.

كان لرحلة الشيخ، التي حج فيها حجته الأولى (حجة الإسلام)، أثر لِما شاهده في الحرمين الشريفين، من حلقات العلماء والوعاظ. وكان ذلك كافياً لإقناعه بأن تكون خطوته الأولى في أسفاره العلمية إلى الحجاز. فارتحل من بلده "العيينة" إلى مكة المكرمة، لحج بيت الله الحرام. فلمّا قضى حجه، سار إلى المدينة، فوجد فيها الشيخ العالم عبدالله بن إبراهيم بن يوسف، من آل سيف، رؤساء بلدة "المجمعة". فأخذ الشيخ محمد عنه. يقول الشيخ: كنت عنده يوماً، فقال لي: تريد أن أريك سلاحاً أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم. فأدخلني منزلاً عنده فيه كتب كثيرة. وقال: هذا الذي أعددنا لها. ثم مضى به إلى الشيخ العلامة محمد حياة السِّندي المدني[2]، فأخبره بالشيخ محمد وعرّفه به وبأهله، فأقام عنده الشيخ، وأخذ عنه.

ويُحُكى أن الشيخ محمداً وقف يوماً عند الحجرة النبوية، فوجد أُناساً يدعون ويستغيثون. فرآه العلامة محمد حياة السِّندي، فأتى إليه، فسأله الشيخ: ما تقول في هؤلاء، قال: ]إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ (سورة الأعراف، الآية 139)، فأقام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في المدينة، ما شاء الله. ثم خرج منها إلى نجد. وتجهز إلى البصرة يريد الشام. فلمّا وصل البصرة، جلس يقرأ فيها عند عالم جليل من أهل المجموعة ـ وهي قرية من قرى البصرة ـ يُسمى محمد المجموعي. فأقام مدة، قرأ خلالها النحو، وقدراً كبيراً من اللغة والحديث. وشدَّد في مجالسه على إنكار تقديس الصالحين، وبيّن أن محبة الصالحين ليست في صرف الحقوق الربانية إلى قبورهم، ولكن في اتباع هديهم، والأخذ به. وبدأ يُنكر أشياء من الشركيات والبدع، واستحسن شيخه قوله؛ فقرر له دراسة التوحيد؛ فدرسه وانتفع به. ثم تجمع عليه أناس في البصرة، من رؤسائها وغيرهم، فآذوه أشد الأذى، وأخرجوه منها، وقت الهجيرة، كما لحق شيخه منهم بعض الأذى. فلمّا خرج الشيخ من البصرة، وتوسط في الدّرب، فيما بينها وبين بلد الزبير، أدركه العطش، وأشرف على الهلاك، وكان ماشياً على رجليه وحده، فلحقه صاحب حمار مُكارٍ (أي يستخدمه للأجرة) يقال له أبو حميدان، من أهل بلد الزبير، فرأى على الشيخ الهيبة والوقار، وهو مشرف على الهلاك، فسقاه وحمله على حماره حتى وصل الزبير. وأراد الشيخ أن يصل إلى الشام، ولكن ضيق ذات اليد، أثنى عزمه عن المسير إلى الشام، فقصد الأحساء.

فلمّا وصلها، نزل على الشيخ العالم، عبدالله بن محمد بن عبداللطيف الشافعي الأحسائي، ثم خرج من الأحساء، وقصد بلدة حريملاء. وكان أبوه عبدالوهاب، قد انتقل إليها من العيينة في سنة 1139هـ، بعد أن وقع خلاف بينه وبين أميرها، محمد بن حمد بن معمر، الملقب بخرفاش، فعزله عن القضاء، وجعل مكانه أحمد بن عبدالله بن عبدالوهاب بن عبدالله. فانتقل عبدالوهاب بعدها إلى حريملاء.

وعندما وصل الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى حريملاء، جلس عند أبيه يقرأ عليه، وينكر ما يفعل الجهال من البدع، والشرك في الأقوال والأفعال. وكثر منه الإنكار لتلك المحظورات وغيرها، مما جعل السواد الأعظم ضده، فعَنّفه أبوه، واستاء منه أخوه، وانبرى له زملاؤه فأوسعوه نقداً وتنديداً. فلم يبال بهذا كله ومضى لشأنه متكلاً على الله وحده، قوي العزيمة، ثابت الجنان، يناقش ويجادل ويقاوم، وكانت مكانة أبيه حاميةً له، من كثير من الأخطار التي تحيط به، ولكن ذلك لم يطل فقد توفى أبوه سنة 1152هـ، فخلا الجو لأولئك الأعداء المتألبين. وكان أكثر من يتناولهم بزواجره ومواعظه أتباع الرؤساء المستبدين وعبيدهم، لأن تعدياتهم لا تقف عند حد، وفسادهم يفوق كل وصف، فاضطهدوه وتعرضوا له بالسخرية والأذى.

وهناك روايات مشهورة شائعة عن رحلاته وطلبه للعلم، منها أن الشيخ خرج مستخفياً من البصرة، قاصداً بغداد. وأقام سنتين في المدرسة المعروفة بـ "مدرسة الوزير"، ثم تزوج هناك في دار بجوار مسجد جامع كبير، وعاش ثلاث سنين، وماتت زوجته وورث عنها ألفي دينار. ثم سار إلى كردستان، ثم رحل إلى إيران، وأقام في همدان سنتين يدرس ويُدرِّس، ثم سار إلى أصفهان وأقام فيها ثلاث سنين، وزعموا أنه درس التصوف وصار من المتصوفة، وأصبح له مريدون. لكنه خرج إلى "الري"، ثم منها إلى "قم"، فمكث فيها شهراً، ثم إلى تركيا، ثم إلى حلب ودمشق وبيت المقدس، ثم إلى مصر فأقام فيها سنتين وأياماً قلائل في الجامع الأزهر، ثم ذهب إلى السويس وركب السفينة إلى ينبع، ثم أتى المدينة، ثم إلى مكة حيث أدى فريضة الحج، ثم إلى العيينة.

وهذه الروايات هي التي نقلت عنها دائرة المعارف الإسلامية، وأحمد أمين[3]، وغيرهما من المؤرخين. والصحيح أن الشيخ لم يسافر إلى هذه البلاد، وإنما اقتصرت رحلته على مكة، ثم المدينة، ثم نجد، ثم البصرة، ثم الأحساء، ثم إلى بلدة حريملاء، التي انتقل إليها والده، وتولى القضاء فيها.

 



[1] يقول منير العجلاني، هناك أقوال أن الشيخ محمد ولد عام 1103هـ أو عام 1111هـ. ولكن الراجح هو عام 1115هـ، وهو قول حسين بن غنام.

[2] هو الشيخ محمد حياة السندي المدني، عالم بالحديث، وله في ذلك مصنفات - مولده في السند، وإقامته ووفاته في المدينة المنورة، توفي سنة 1163هـ.

[3] يشير منير العجلاني إلى مخطوطة اللمع لمؤلفها حسن الركي، بعنوان "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب"، وكتاب أحمد أمين، "زعماء الإصلاح في العصر الحديث".