إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الدولة العثمانية وأحداثها حسب التسلسل التاريخي من عام 656هـ، 1258م إلى عام 816هـ، 1413م






الحدود أثناء حكم يلدرم بايزيد
الحدود بعد وفاة مراد الأول
الحدود خلال حكم جلبي محمد
الحدود عند وفاة محمد الثاني
الحدود في عصر محمد الثاني
الفتوحات العثمانية وتواريخها



795هـ/1393م

863هـ/1458-1459م

إنشاء جامع "أبي أيوب"

كان هذا الجامع أول جامع بني في "إستانبول"، بأمر من السلطان "محمد الفاتح". واسم هذا الصحابي الجليل، هو "خالد بن زيد"، وكنيته "أبو أيوب الأنصاري". وقد اشتهر بأنه حامل علم الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ولما هاجر النبي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، استضيف في منزل هذا الصحابي المدني الجليل.

ولقد اشترك أبو أيوب الأنصاري، الذي عمر كثيراً، في حصار "إستانبول"، الذي جرى في عهد الأمويين، في عام 48-49هـ/668-669م. إلا أن هناك اختلافات كبيرة، بين المصادر، العربية والتركية، في هذه المسألة؛ فيرى بعض المؤلفين العرب، مثل "ابن سعد"، و"ابن قتيبة"، و"ابن الأثير"، و"الطبري"، و"المسعودي" أن "أبا أيوب"، قد توفي في الطريق إلى "إستانبول"؛ وأنه بناءً على وصيته، دفن بالقرب من أسوار "إستانبول". أما المصادر التركية، فترى أنه قام بدور كبير في الحصار. يضاف، إلى ذلك، أن الرواية التركية، تشير إلى أنه استشهد بسهم، أصيب به من البيزنطيين؛ في الوقت، الذي تفيد فيه الرواية العربية، أنه توفي بأجله. وعلى الرغم من ذلك، فإن الروايات الواردة في المصادر التركية، تنقسم، من حيث التفريعات، إلى عدة أقسام. وقد أعاد النظر في هذه الروايات التركية، العالم الألماني، الذي توفي في نهايات القرن السادس عشر الميلادي، "لونكلاو"، في كتابه "تاريخ المسلمين الأتراك". كما أن "موردتمان" و"ماريوس كانارد" أيضاً، قد أجريا تحقيقات في هذه المسألة. وبموجب إحدى هذه الروايات، فقد أصيب أبو أيوب بسهم في رأسه، في أثناء الحصار؛ وأنه وصى بأن يدفن، من دون أن يشعر به البيزنطيون. وتفيد رواية أخرى، أنه تعاهد مع المحاصَرين، ودخل إلى "آيا صوفيا"؛ وأنه بعد أن صلى في هذه الكنيسة، وخرج منها، تعرض لهجوم بالأحجار والسهام، من لدن الروم، الذين خانوه، حيث استشهد. والنقطة المشتركة، بين الروايات، التركية والعربية، هي دفن هذا الصحابي الجليل في "إستانبول".

أما مسألة اكتشاف قبره، في عهد السلطان "محمد الفاتح"، فإنها قد اختلطت بالعديد من الأساطير؛ وتشترك كل تلك الأساطير في نقطة واحدة. وسر كل الاكتشاف، يكمن في كرامة البطل المعنوي لفتح "إستانبول"، "آق شمس الدين". ومع ذلك، فإن بعض المصادر، مثل "حدائق الجوامع"، قد أكدت الأدلة التاريخية لسر هذا الاكتشاف؛ حيث إن المكان، الذي أشار إليه هذا العالم الجليل، لما حفر بمقدار ذراعين، وجد شاهد قبر، كتبت عليه عبارة صغيرة: "هذا قبر أبي أيوب". وبناءً على هذا التوضيح، فإن قبر "أبي أيوب"، قد اكتشف مع فتح "إستانبول"، في عام 857هـ/1453م، بعد أن بقي في باطن الأرض مدة 784 سنة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه، بموجب آراء المؤلفين العرب، مثل: "الطبري"، و"ابن سعد"، و"ابن قتيبة"، فإن قبر "أبي أيوب"، قد قدس من لدن البيزنطيين أيضاً؛ بل إن البيزنطيين قد اعتادوا التردد إلى هذا المكان، للقيام بأداء دعاء المطر. إلا أنه لم يوجد أي قيد في المصادر البيزنطية، حول هذه المسألة.

ولقد بنى السلطان "محمد الفاتح"، أولاً، الضريح، ثم الجامع، حيث اكتمل البناء في عام 863هـ/1458-1459م. وعلى الرغم من ترميم هذه الكلية، فيما بعد، وإضافة ملاحق إليها، إلا أن الجامع الحالي، ليس الجامع، الذي بناه السلطان "محمد الفاتح"؛ إذ إن الجامع القديم، الذي تعرض للهدم، قد هدم تماماً، في عهد السلطان "سليم الثالث"، في عام 1213هـ/1798م؛ وترك فقط مئذنتان اثنتان، فبني الجامع من جديد على الطراز القديم نفسه. واكتمل البناء في عام 1215هـ/1800م. أما أهم تجديد أجري على الضريح، فكان في عام 1234هـ/1819م.

ولقد أضفت هذه الكلية، التي تعد مقدسة في نظر المسلمين، والتي كانت تسمى، في العهد البيزنطي، بـ"كوسمودين"، طابعاً روحانياً، وقوة جذب، على المدينة.

 

863هـ/1459م

عهد الفوضى في "المورة" الجنوبية

لقد بدأ النزاع ينشب بين أمراء "المورة"، ابتداءً من شهر ربيع الأول، الموافق لشهر يناير من هذه السنة، حيث أصبحت المدن، تنتقل من واحد إلى آخر.

لم يكن أخوي الإمبراطور البيزنطي الأخير، حاكمي "المورة"، عدم رؤية المصير، الذي ينتظرهما، من جراء الصراع على حكم الإمارة، التي بقيت بأيديهما، بشرط تبعيتها للدولة العثمانية؛ حيث جهزا ذلك المصير بأيديهما. إلا أن الذنب الكبير، يقع على "توماس"، الذي قام بتمرد في وجه الحكم العثماني، من جهة؛ ثم شجع أخاه، "ديميتريوس" على الهجوم، من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن "ديميتريوس"، كان يستند في حكمه إلى الأتراك، إلا أن "توماس" كان يود الاستقلال بالحكم.

وهذا الصراع المقزز، الذي حول "المورة" الجنوبية إلى فوضى وخراب، من جهة ـ قد غير وجهة الأهالي من هؤلاء الأمراء نهائياً، من جهة ثانية. ومن الطبيعي أن يكون الأتراك، الذين كانوا يحكمون "المورة" الشمالية، في تلك الفترة، قد استغلوا هذا الوضع، وحصلوا على العديد من الغنائم.

وفاة البطل المعنوي لفتح "إستانبول" العالم الكبير، "آق شمس الدين"

ويذكر أيضاً عام 864هـ/1459-1460م؛ و880هـ/1475م، تاريخاً لارتحال هذا العالم، الذي يبجله التاريخ التركي على الدوام. وبموجب أقوى الروايات، كانت وفاته يوم الإثنين، 10 ربيع الأول، الموافق لـ 15 يناير. ونظراً إلى وفاة "آق شمس الدين"، واسمه الحقيقي "محمد"، في "كوينوك"، فإنه دفن بها.

وهذا العالم الجليل، كان متصوفاً، من جهة؛ وطبيباً، من جهة أخرى. وفي مؤلفه، الذي سماه "مادة الحياة"، تحدث عن الأمراض، التي تتكون في الجسم، عن طريق الجراثيم، والتي تتكاثر، من خلال مراحل التفريخ؛ حيث أسس بذلك "نظرية الجرثومة". ولهذا السبب، فإنه لا يعد مهماً في تاريخ الطب التركي فقط، وإنما في تاريخ الطب العالمي.

و"آق شمس الدين" من مريدي "الحاج بيرام"، في التصوف. وناظم "يوسف وزليخا"، الذي يعد من أكبر رجالات الأدب التركي الديواني "حمد الله حمدي" ـ هو الابن الأصغر لـ"آق شمس الدين".

و"آق شمس الدين"، الذي يذكر أنه ولد في عام 792هـ/1390م، لما توفي، كان في التاسعة والستين من عمره.

 

864هـ/1459م

تحول "صربيا" إلى ولاية تركية، بعد فتح "سمندره"

لقد اضطرت عاصمة "صربيا"، "سمندرة"، ذات الموقع المستحكم، إلى الاستسلام للجيش التركي، تحت قيادة الوزير الأعظم، "محمود باشا"؛ وبذلك اكتمل فتح "صربيا"، والتي أصبحت ولاية تركية. وقد استسلمت قلعة "سمندره"، في يوم الخميس، 12 المحرم، الموافق لـ 8 أكتوبر. وبناءً على ذلك، فإن مملكة "صربيا"، زالت من التاريخ، بعد فتح "إستانبول" بست سنوات وخمسة أشهر وعشرة أيام. إلا أن قلعة "بلجراد"، بقيت خارج تلك الفتوحات، حيث كانت تحت الحكم المجري.

وبما أن الوزير الأعظم، "محمود باشا"، قد تحرك من "إستانبول"، في يوم الإثنين، الأول من رجب 862هـ، الموافق 15 مايو 1458م، فهذا يعني أنه بدأ بالحملة على "صربيا" في أواسط شهر رجب، الموافق لبداية شهر يونيه. ونظراً إلى أن الحملة انتهت بفتح "سمندرة"، في يوم الخميس، 12 المحرم 864هـ، الموافق لـ 8 نوفمبر 1459م، فإنه يمكن عدّ الحملة، بأنها استمرت سنة وخمسة أشهر.

ولقد فتحت قلعة "سمندرة"، التي تقع على مسافة أربعة وأربعين كم، في جنوب شرقي "بلجراد"، أول مرة، في عهد "مراد الثاني". وبعد أن بقيت خمس سنوات في الحكم العثماني، أعيدت إلى "صربيا"، بموجب معاهدة "سزه كدين". وقد بقيت هذه المدينة تحت الحكم الصربي خمس عشرة سنة، بين فتحها الأول وفتحها الثاني. وعلى الرغم من أن استحكامات القلعة الخارجية، قد تم الاستيلاء عليها، في أول حملة السلطان "محمد الفاتح" على "صربيا"؛ وبالنظر إلى عدم فتح القلعة الداخلية؛ رفع الحصار عنها.

وبناءً على فتح "صربيا"، فإنها قد تخلصت من الفوضى، التي سببها أدعياء السلطة المختلفون.

ولقد قام ملك "صربيا"، "لازار"، الذي حكم البلد شهرين، وزوجته، الملكة "ألني"، بمغادرة "صربيا"، بعد أن أخذا خزائنهما؛ وذلك بموجب شروط استسلام القلعة الداخلية.

ميلاد "جَم سلطان"

لقد ولد "جم سلطان"، ابن السلطان "محمد الفاتح"، الذي اشتهر بقصصه الحزينة، وهو ولي عهد والده الشرعي، ولد في ليلة السبت/الأحد، 26/27 صفر من هذه السنة، في قصر "أدرنة". وهناك رواية أخرى ضعيفة، تفيد أنه ولد في ليلة الأحد/الإثنين، 20/21 صفر، الموافقة لـ 16/17 ديسمبر. كما أن هناك رواية ثالثة، أكثر ضعفاً من الثانية، وهي أنه ولد في "إستانبول"، في عام 863هـ/1458-1459م.

والدة "جم سلطان"، هي "جيجك سلطان". وهناك العديد من الروايات حول قومية هذه السيدة؛ فقد نُسبت إلى القوميات: الرومية، والصربية، والفرنسية، والإيطالية، والمجرية، وغيرها من القوميات؛ بل لقد ذكر أنها ابنة أخي البطل المجري الشهير، "يانكو هونياد". أما المصادر العثمانية، فلا تتحدث عن ذلك بشيء. إلا أنه بالنظر إلى ذكرها بأن له خالاً، يسمى "علي بك"، فإن الروايات المتناقضة فيما بينها، والتي تفيد أنها أجنبية، مشكوك في صحتها. ولقد نسب إلى مثل هذه القوميات الأجنبية، العديد من آل عثمان، حتى والدة السلطان "محمد الفاتح".

ويعد "جم سلطان" شاعراً كبيراً، من أهم رجالات الأدب التركي الديواني. وله ديوانان: تركي وفارسي.

 

864هـ/1460م

إلحاق إمارة "المورة" الجنوبية

بقيت من بقايا الإمبراطورية البيزنطية القديمة، إمارة "المورة"، في "الروملي"، والإمبراطورية الرومية، في "طرابزون". وكانت إمارة "المورة" تحت حكم أخوي الإمبراطور البيزنطي، كوستانتينوس الحادي عشر": "ديميتريوس" و"توماس". إلا أن هذين الأخوين، نظراً إلى صراعهما مع بعضهما، من جهة؛ ومع الإقطاعيين الأهالي، من جهة ثانية ـ حولا "المورة" إلى قطعة من الدم والنار؛ ولذلك، طلبت الكنيسة الأرثوذكسية، التي احتمت بالسلطان "محمد الفاتح"، منه التدخل في هذا الوضع؛ لإنهاء المشكلات، التي باتت كارثة على البلد. وبناءً على هذا الطلب، قام السلطان "محمد الفاتح" بالحملة الأولى على "المورة"، فألحق شمالي شبه هذه الجزيرة بالحكم التركي؛ ومنح إدارة جنوبيها للأميرين المذكورين، بشرط حسن التعامل مع الإدارة التركية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذين الأميرين، بدآ بالصراع، من جديد، بعد أن غادر السلطان "محمد الفاتح" المنطقة؛ بل إن "توماس"، لم يتردد في مواجهة الأتراك. والحقيقة، أن السبب، الذي دفع بالسلطان "محمد الفاتح" إلى هذه الحملة الأخيرة على "المورة"، هو ذلك الوضع.

ويروى أن السلطان "محمداً الفاتح" تحرك للحملة على "المورة"، في يوم الأحد، 21 جمادى الآخرة، الموافق لـ 21 أبريل. ولقد تحرك الجيش التركي من شمالي "المورة" إلى جنوبيها.

وعلى الرغم من أن "ديميتريوس"، قد حافظ على علاقاته الطيبة بالإدارة التركية، فإن أخاه، "توماس"، بالنظر إلى انتظار وصول المساعدات من الحكومة البابوية؛ ولكونه كان يستند إلى البنادقة ـ لم يتردد في التعرض للبلدات التركية. إلا أن اقتراب جيش "محمد الفاتح"، دفع بـ"توماس" إلى الهروب بسفينة بندقية، إلى روما.

وقد تم هدم كل القلاع، التي قاومت الجيش العثماني، في هذه الحملة.

لقد ألغيت إمارة "المورة" نهائياً. وألحقت كل أراضيها بالدولة العثمانية. وتم بذلك القضاء على كل أنواع الفوضى، التي كانت البلاد تئن تحت وطأتها. وبذلك، تحققت أمنيات الكنيسة الأرثوذكسية، بيد السلطان "محمد الفاتح"، الذي منح إمارة "أنز"، الواقعة على نهر "مريج"، لـ"ديمتريوس"، الذي قاوم أخاه، وأخلص للدولة العثمانية في صراعه معه. ويروى أن "ديميتريوس"، على الرغم من ذلك، قد ترك الدنيا وشؤونها، ودخل في دير، للتنسك. أما "توماس"، الذي فر هارباً، إلى روما لاجئاً لدى البابا، فقد امَّحى أثره من ساحة التاريخ نهائياً. وقد دخل "آندريا"، من أبناء "توماس" المذكور، إلى المذهب الكاثوليكي، وباع حقوقه المتخيلة له في الإمبراطورية البيزنطية، لملك فرنسا، "شارل الثامن".

وبتلك الصورة، تم فتح "المورة الجنوبية"، بعد "صربيا". وقُضي على إمارات الروم، ولم يبق في شبه الجزيرة هذه، سوى مراسي "كورون" و"مودون" و"بيلوس"، البندقية، التي سوف تفتح في عهد "بايزيد الثاني".

وبناءً على فتح "المورة"، فقد امَّحى وجود أسرة "بالأولوغوس" البيزنطية الحاكمة. ولم يبق من بقايا الإمبراطورية البيزنطية، سوى إمبراطورية "طرابزون" الرومية، التي كانت تحت حكم أسرة "كومنينوس".

وكانت إمارة "المورة"، هي الدولة الخامسة، التي قضى على وجودها العملاق الكبير؛ إذ إن هذا العملاق [أي السلطان "محمد الفاتح"] قد قضى، منذ جلوسه الثاني، على الإمبراطورية البيزنطية، عام 857هـ/1453م؛ وإمارة "أنز" الجنوية، في عام 860هـ/1459م؛ وإمارة "أثينا" الإيطالية، في عام 862هـ/1458م؛ وعلى المملكة الصربية، عام 864هـ/1459م؛ وأخيراً إمارة "المورة"، في هذا العام 864هـ/1460م. وقد قضى السلطان "محمد الفاتح" على الحكومات الخمس المذكورة، خلال سبع سنوات.

إدخال إمارة "الأفلاق" تحت الحماية

(حول هذه المسألة، انظر: الفقرة الأولى، من أحداث عام 866هـ/1462م).

 

865هـ/1461م

هدنة "ألبانيا"

على الرغم مما يذكر، من أن هذه الهدنة، كانت معاهدة سلم، عقدت للتصديق على حكم "إسكندر بك" على "ألبانيا" و"أبير"، فإن ذلك غير صحيح. وبموجب الأبحاث الأخيرة، يبدو أن السلطان "محمداً الفاتح"، قد عقد معاهدة عدم التجاوز، مع رئيس حركة المقاومة الألبانية، "إسكندر بك"، بغية توفير الأمن والاستقرار، للتفرغ لحملة الأناضول، التي كان يخطط لها، في تلك الفترة. والسبب الذي دفع السلطان "محمداً الفاتح" إلى اتخاذ هذا الإجراء، كما يتضح من الفقرة الآتية، لم يكن الحملة على الأناضول فحسب؛ بل إجبار "إسكندر بك"، كذلك، الذي أصبح آلة طيعة للدول النصرانية، مثل البابوبة و"البندقية" وغيرهما من الدول؛ واتخذ لنفسه الجبال للانطلاق منها، في حرب العصابات؛ وكذلك كون "إسكندر بك"، قد اضطر إلى التوجه إلى "نابولي"؛ لتقديم المساعدة إلى الملك الجديد، "فرديناند" ضد المعارضة، التي قامت في وجهه، بناءً على وفاة والده، ملك "نابولي" و"آراكون"، "آلفونسو الخامس"، الذي توفي عام 855هـ/1451م. وبناءً على ذلك، فقد اقترح "إسكندر بك" على السلطان "محمد الفاتح"، عقد هدنة، لفترة، فقبل الأخير؛ بسبب رغبته في التفرغ لحملة الأناضول. أما رواية عقد الصلح، والتخلي عن "ألبانيا" و"أبير"، فلا أصل لها من الصحة. وبناءً على مراجعة "إسكندر"، عقدت هدنة "ألبانيا"، في يوم الإثنين، 13 رمضان، الموافق لـ 22 يونيه. وعلى الرغم من وجود روايتين حول عقد هذه المعاهدة، بأنها كانت لفترة ستة أشهر أو ثلاث سنوات؛ وبالنظر إلى بدء التحركات في "ألبانيا"، بعد فترة وجيزة، فإن الرواية الأولى، يبدو أنها أصح. ويبدو أن السبب في عدّ هذه الهدنة معاهدة صلح، هو الخلط بينها وبين المعاهدة، التي عقدت بعد سنتين.

المرحلة الأولى من الحملة على شمالي الأناضول: فتح مستعمرة "آماسرا" الجنوية

إن فتح "إستانبول"، الذي قد هز أوروبا بالخطر التركي، من جهة، ودخول الطريق التجاري بين البحر الأسود والبحر الأبيض بيد الأتراك، من جهة أخرى، قد جعلا العالم الغربي بأجمعه، في خوف من أزمة اقتصادية خانقة، ولا سيما دولاً، مثل: "البندقية" و"جنوى"، كانت تعيش على التجارة البحرية والمستعمرات. وقد أدى هذا الوضع عداوة بين الشرق والغرب، تمثلت في إطار واسع مشترك، بين الدول الإسلامية والنصرانية، من العداوة العثمانية. ففي الوقت الذي كانت البابوية، وجمهوريتا "البندقية" و"جنوى"، تقوم بعقد اتفاقات سرية مع الإمبراطورية الرومية، في "طرابزون"، من جهة؛ قام حاكم "آقيونلي"، "أوزون حسن"، بتأسيس علاقات نسب مع تلك الإمبراطورية، وعقد علاقات سياسية سرية مع جمهورية "البندقية"، وتعاون بذلك مع النصرانية الغربية، من جهة أخرى. بل يذكر وجود علاقات سرية بين حكومتي "قره مان" و"إسفنديار" و"أوزون حسن". وهذا يعني أن إطاراً كبيراً من الخصومة، كان يتم التمهيد له، ضد العثمانيين. ويمكن شرح موقف السلطان "محمد الفاتح" من فتح الأناضول الشمالية، على ثلاث مراحل، تدبيراً أولياً، اتخذ في مواجهة تلك المؤامرة العدائية.

وكانت في الأناضول، على سواحل البحر الأسود، في تلك الفترة، ثلاث حكومات: أولاها، من الغرب إلى الشرق، حكومة "آماسرا" اللاتينية، في حوزة الجالية الجنوية، والتي كانت أهم مركز تجاري للتجارة الجنوية. وثانيتها، الإمارة التركية "لسينوب" و"قسطموني"، لبني "جاندار" أو "إسفنديار". وثالثتها، الإمبراطورية الرومية، في "طرابزون"، التي كانت في حوزة أسرة "كومنينوس" البيزنطية القديمة. فحملة السلطان "محمد الفاتح" على الأناضول، الرامية إلى فتح الدول الثلاث، قد تحققت، مرة واحدة، ومن الغرب في اتجاه الشرق. وانتهت تلك الحملة بإدخال تلك الدول تحت الحكم العثماني، من جهة؛ وإتمام الوحدة السياسية لتتريك الأناضول، من جهة ثانية.

لقد أخفى السلطان "محمد الفاتح"، الذي أعد الأسطول والجيش لحملة الأناضول الشمالية، الهدف، الذي كان يرمي إلى تحقيقه، من فتح الدول الثلاث؛ وتوجهه نحو أي منها قبل غيرها، عن أقرب الأقربين إليه، في الفترة الأولى. ولقد اشتهر السلطان "محمد الفاتح" بسريته التامة، في كل تحركاته، السياسية والعسكرية، حتى النهاية؛ بل إنه لما خرج إلى حملة الأناضول هذه، وجه القاضي عسكر سؤالاً إليه، لما وجد المجال مناسباً، فقال له السلطان "محمد الفاتح": انظر، يا شيخ، إذا كانت إحدى الشعرات من لحيتي، تعلم ما أفكر فيه، فإني أقوم بنتف تلك الشعرة، على الفور.

ولهذا السبب، فإن السلطان "محمداً الفاتح"، لما تحرك على رأس جيشه، براً، قدم ظرفاً مغلقاً، إلى الوزير الأعظم، "محمود باشا"، الذي سافر، في الوقت نفسه، على رأس الأسطول. وكان يحوي تعليمات التحرك البحري، واشترط عليه فتح الظرف، بعد أن يجتاز البوسفور إلى البحر الأسود. وهذا الأصل، ما زال مطبقاً في بعض الحركات العسكرية، حتى يومنا هذا.

لقد حاصر السلطان "محمد الفاتح" "آماسرا"، من البر؛ والوزير الأعظم، "محمود باشا" من البحر، من خلال 100-150 سفينة. وبناءً على هذا الهجوم المباغت، فإن الجالية الجنوية، لم تجد أمامها إلا امتثال أول إنذار من السلطان "محمد الفاتح"، بالاستسلام. وأما ما تذكره بعض المصادر العثمانية، من أن "آماسرا"، فتحت من لدن بني "إسفنديار"، فهو غير صحيح.

وهناك رواية، تفيد أن ثلثي أهالي "آماسرا"، تم نقلهم إلى "إستانبول"؛ بغية استخدامهم في أعمال الإعمار فيها.

وهناك روايات مختلفة، في المصادر العثمانية، تفيد أن فتحها، كان في عام 864هـ/1460، أو في عام 864-865هـ/1460-1461م، أو في عام 865هـ/1461م. أما المصادر، الغربية والبيزنطية، فتذكر أنه كان في عام 865هـ/1461م. وهذا هو الصحيح.

المرحلة الثانية من حملة الأناضول الشمالية: القضاء على استقلال حكومة بني "جاندار" أو "إسفنديار"، وإدخالها تحت التبعية

لقد ضرب الحصار، من البر والبحر، على "سينوب"، مثل "آماسرا". وكان على رأس هذه الحكومة التركية، في تلك الفترة، "إسماعيل بن إبراهيم بك الثاني"، من بني "إسفنديار". ونظراً إلى لجوء أخي هذا الحاكم، ومنافسه، "قزل أحمد" إلى العثمانيين، فقد عين في هذه الحملة على إمارة "قسطموني"، واضطر "إسماعيل بك" إلى الانسحاب إلى قلعة "سينوب" المستحكمة. وعلى الرغم من أن "إسماعيل بك"، كان في إمكانه الدفاع عن نفسه، بالاستناد إلى متانة القلعة واستحكاماتها، وقوة أسطوله، فإنه استسلم، ولم يقاوم، بسبب الضمان، الذي منحه له الوزير الأعظم، "محمود باشا". و"إسماعيل بك" هذا، كان قد اشتهر بعلمه وفضائله الأخلاقية. ولما قدم إلى مقر السلطان "محمد الفاتح"، مع الوزير الأعظم، "محمود باشا"، استقبله كل الوزراء العثمانيين والأمراء، بتقدير جم، واحترام لائق به، وتمجيد. كما أن السلطان "محمداً الفاتح" أيضاً، تقدم عدة خطوات إلى الأمام، لاستقباله. ولما رغب "إسماعيل بك" في تقبيل يد السلطان "محمد الفاتح"، سحب يده، قائلاً له: إسماعيل بك، أنت أخي الكبير، وهل يجوز لك تقبيل يدي! وأمسك بيدي هذا الأمير التركي، وأجلسه بجانب تخته. ولقد منحه السلطان "محمد الفاتح"، الذي قدره حق التقدير، واردات مدن "يني شهر" و"إينه كول" و"يار حصار"، كما عين ابنه، "حسن آغا"، على سنجق "بولو". وعلى الرغم من أن عمه، "قزل أحمد"، كان أميراً على هذا السنجق، فإنه بناءً على تعيينه على إمارة "قسطموني"، في هذه الحملة، وجهت إمارة "بولو" لابن أخيه. وعين "إسماعيل بك"، فيما بعد، على سنجق "فليبه"، في "الروملي". وتوفي بها، في عام 884هـ/1479م. وقبره في "فليبه".

وعلى الرغم من وجود رواية، تفيد أن "إسماعيل بك" من "قره مان"، قد آل مصيره إلى ذلك، بسبب اتفاقه مع "آقّيونلي"، فإن هذه النقطة في حاجة إلى دراسة مستقلة. والحقيقة، أن "إسماعيل بك"، كان في إمكانه الدفاع عن نفسه، من خلال قلعة مستحكمة، منيعة، مثل "سينوب"، فيها أربعمائة مدفع، وألفا مدفعي على رأسها، وأسطول راس في الميناء، ولا سيما السفن الحربية الكبيرة، ووجود عشرة آلاف جندي في إمارته. إلا أنه على الرغم من تلك القوة، البرية والبحرية، قد ضحى بدولته، في سبيل عدم اقتتال الأتراك. وهذا، في الحقيقة، يدل على شخصيته الكبيرة، التي قدرها السلطان "محمد الفاتح" حق تقدير.

لقد حكم "إسماعيل بك" ثمانية عشر عاماً، حتى تاريخ شهر المحرم من عام 847هـ، الموافق لشهر مايو من عام 1443م. ولقد كتب "إسماعيل بك"، الذي اشتهر بعلمه، مختلف التآليف؛ وخدم بذلك الثقافة التركية. كما قام أيضاً بإعمار بلاده، من أقصاها إلى أقصاها.

أما أخو "إسماعيل بك" ومنافسه في الحكم، "قزل أحمد"، فقد عزل من منصبه، بعد أن حكم، تحت الحكم العثماني، فترة من الوقت. ومنذ ذلك التاريخ، اختفت حكومة بني "جاندار" أو "إسفنديار"، عن الساحة التاريخية. وما تورده المصادر العثمانية، من تاريخ إلحاق حكومة "إسفنديار" بالدولة العثمانية، عام 864هـ/1459-1460م ـ غير صحيح.

وهنا، مسألة ينبغي التنبيه إليها، وهي أن حكومة "جاندار"، أو بني "إسفنديار"، لم تنقرض مع فتح السلطان "محمد الفاتح"؛ ولكنها حرمت من استقلالها، وأصبحت إمارة تابعة للدولة العثمانية.

ولقد أطلق، على هذه الذرية، بنو "جاندار"، نسبة إلى حاكمها الأول. كما أطلق عليهم أيضاً بنو "إسفنديار"، نسبة إلى الحاكم السابع أو الثامن في الأسرة. وأطلق عليهم كذلك "قزل أحمديين"، نسبة إلى اسم الحاكم الأخير.

المرحلة الثالثة من الحملة على الأناضول الشمالية: فتح إمبراطورية "طرابزون" الرومية

كان الوضع السياسي لإمبراطورية "طرابزون" الرومية، متعلقاً بدولة "آقّيونلي" التركمانية عن قرب. وحتى يمكن فهم فتح "طرابزون"، لا بد من شرح تلك العلاقة، أولاً. إن "بهاء الدين قره عثمان"، الذي اشتهر باسم "قره يولوك"، ويعد المؤسس لدولة "آقّيونلي"، قد بدأ يظهر على الساحة، في أثناء قيامه بخدمة القاضي "برهان الدين"، حاكم "سيواس". وبعد ما قتل القاضي "برهان الدين"، برزت شخصيته على الساحة أكثر. وفي مقابل ميل منافسهما، "قره قيونلي" إلى الأتراك، فإن "قره يولوك"، قد حصل من "تيمورلنك"، في بداية عهد الفترة [أي الفوضى]، على منطقة "ديار بكر"، مكافأة له على الخدمات، التي قدمها له. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ حكم "آقّيونلي"، يشكل وضعاً سياسياً، في شرق الأناضول. والعامل الأساس، الذي أدى توسيع نطاق هذه الدولة التركمانية، في شرق الأناضول، هو "أوزون حسن"، حفيد "قره يولوك"، والذي كان يحكم، في عهد السلطان "محمد الفاتح". فقبل أن يخرج السلطان "محمد الفاتح" في حملته على شمال الأناضول، تزوج "أوزون حسن" "كيرا كاترينا"، ابنة أخي إمبراطور "طرابزون"، "دافيد كومنينوس"؛ وهي ابنة الإمبراطور السابق، "يؤانس الرابع"، أو "كالو"؛ وعقد اتفاقاً معه، أو بالأحرى، أدخل هذه الدولة الصغيرة، والكبيرة الاسم، تحت حمايته؛ وقام، من جهة أخرى، بالاتصال مع البنادقة والجنويين، مستفيداً في ذلك من الأعمال، التي كانت الصليبية الغربية تقوم بها، ضد الدولة العثمانية. وينبغي البحث في الأسباب، التي مهدت لنشوب معركة "أتلوك بلي"، التي وقعت بعد هذا التاريخ، باثنتي عشرة سنة. وقرابة "أوزون حسن" وأسرة "كومنينوس" الطرابزونية، لم تكن محصورة فقط في النسب [أي الصهرية] الشخصي. فهناك رواية، تفيد أن جدة، "أوزون حسن"، هي من "آل كومنينوس". وكانت أخت زوجة "أوزون حسن"، زوجة لأحد البنادقة، من الأسر العريقة. وكانت لهذه العلاقات الصهرية، في ذلك الوقت، قيمة سياسية. يضاف إلى كل ذلك، الأسباب التي نشبت من الوضع الجغرافي، حيث أصبح "أوزون حسن"، هو أكبر منافس للدولة العثمانية، في الشرق. ويذكر أن لـ"أوزون حسن" علاقات سرية ببني "قره مان" وبني "إسفنديار".

وقد استولى "أوزون حسن"، في عام 864هـ/1459-1460م، على إمارة "شبين قره حصار"؛ ووصل بذلك إلى حدود الدولة العثمانية، في جنوب الإمبراطورية الطرابزونية. وقد أرسل ابن أخيه، "مراد بك"، سفيراً إلى السلطان "محمد الفاتح"، طالباً منه إلغاء الخراج، الذي كانت إمبراطورية "طرابزون"، تدفعه إلى الخزينة العثمانية. ولما لم يحصل "أوزون حسن" على الاستجابة لطلبه، قام بالاستيلاء على الحدود العثمانية، في عام 865هـ/1461م، حيث استولى على قلعة "قيونلي حصار" أو "قيون حصار". وانتقل إلى وضع المخاصم للدولة العثمانية، بشكل علني. وبناءً على هذا الوضع، فقد أرسل السلطان "محمد الفاتح" جيشاً، بقيادة أمير أمراء الأناضول، "حمزة بك شرابدار"، لاسترداد قلعة "قيونلي حصار". إلا أن "حمزة بك"، انهزم أمام قوات "آقّيونلي"، فأرسل "كديك أحمد باشا"، الذي خلفه في منصبه. وفي الوقت الذي تغلب فيه "كديك أحمد" على قوات "آقّيونلي"، رأس السلطان "محمد الفاتح" قيادة الجيش، فاسترد السلطان "محمد الفاتح"، كأول عمل له في هذا الصدد، قلعة "قيونلي حصار"، ثم توجه إلى جبل "بلغار"، وأمام هذا الجبل، الذي يعد من قمم جبال "كموشخانه"، جاءت والدة "أوزون حسن"، التي تسميها المصادر العثمانية بـ "ساري خاتون" أو "ستارة خاتون"، إلى مقر جيش السلطان "محمد الفاتح"، وعرضت عليه رغبة ابنها في عقد الصلح معه، وقدمت إليه بعض الهدايا. ويذكر أن السلطان "محمداً الفاتح"، قد قدم التقدير والاحترام لهذه المرأة، وسماها بالوالدة. ولقد ووفق على عقد هذا الصلح مع "أوزون حسن"، وأبقيت والدته "ساري خاتون" بمعية الجيش العثماني، رهينة. ومن الطبيعي أن يكون السلطان "محمد الفاتح"، بذلك الصلح، قد أمن على حملته على "طرابزون". والحقيقة، أن الهزيمة الأخيرة لـ"أوزون حسن"، لم تكن العامل الوحيد، الذي أدى حيدته؛ بل إن المنافسة الشديدة، بينه وبين "قره قيونلي"، كان لها تأثيرها في هذا الوضع. وبما أن "قره قيونلي"، كانت عامل موازنة ضد "آقّيونلي"، التي بدأت بمواجهة الدولة العثمانية، منذ استيلاء "تيمور" على الأناضول الشرقية، فإنه لم يكن ممكناً، أن يستخف "أوزون حسن" بحاكم "قره قيونلي"، "جيهان شاه"؛ وأن يعادي السلطان "محمداً الفاتح" في الوقت نفسه. وتخلى "أوزون حسن" عن حماية إمبراطور "طرابزون"، "دافيد كومنينوس"، في الوقت الذي كان يود حمايته، لذلك السبب.

إن قيام السلطان "محمد الفاتح" بإمرار جيشه من جبال "كموشخانة" الوعرة، المغطاة بالثلوج، بعد تسوية الأرض، وقطع الأشجار ـ انتصار كبير، يشبه تسيير السفن، عبر البر، في أثناء عملية حصار "إستانبول". ويذكر أن إمبراطور "طرابزون"، لم يتوقع قيام السلطان "محمد الفاتح" بتلك الحملة أبداً. ولما رأت "ساري خاتون"، أن السلطان "محمداً الفاتح"، اضطر إلى النزول من على فرسه لصعود الجبل، قالت له:

ـ يا ابني، ما السبب، الذي أدى بك إلى تحمل هذه المشاق، لفتح "طرابزون"؟ فرد عليها السلطان "محمد الفاتح" جواباً مختصراً:

ـ يا أم، إن هذه المشاق كلها في سبيل الدين؛ لأن سيف الإسلام بيدنا. فإن لم نتحمل هذا التعب، فلا يجوز إطلاق لفظ الغازي علينا.

لقد تم تأسيس إمبراطورية "طرابزون" الرومية، إمارة مستقلة، في عام 600هـ/1204-1205م في أثناء استيلاء لاتين أهل الصليب الرابع على "إستانبول"، وذلك على يدي "آلكسيوس الأول"، من أسرة "كومنينوس"، وأمراء بيزنطة. وفي مقابل إمبراطورية لاتين في "إستانبول"، كانت الدول، التي أسسها الروم في الأناضول، دولتين اثنتين: أولاهما، إمبراطورية "إزنيق"؛ والثانية، إمبراطورية "طرابزون". وعلى الرغم من أن دولة "طرابزون" الرومية، التي كانت عبارة عن شريط ساحلي على البحر الأسود، كانت على شاكلة إمارة؛ فإن الحاكم الثالث على هذه الدولة، قد حسد إطلاق "يؤانس كومنينوس" على نفسه إمبراطور "إزنيق"، فاشتهرت إمارة "طرابزون" الرومية، بعد ذلك، بـ"إمبراطورية طرابزون". وعلى الرغم من زوال إمبراطورية "إزنيق"، التي استمرت نصف قرن، في عام 1261م، مع استرداد الروم لـ"إستانبول"، من اللاتين، فإن إمبراطورية "طرابزون"، استمرت قرنين ونصفاً، حتى عهد السلطان "محمد الفاتح". وقد تعاقب على حكمها عشرون حاكماً. كان أولهم "آلكسيوس كومنينوس"، وآخرهم "دافيد كومنينوس". والسبب الذي أدى استمرار هذه الإمبراطورية الهزيلة فترة طويلة من الوقت، هو تأثير صلة النسب، التي أسست مع الحكام المجاورين. فقد زوج حكام "طرابزون" بناتهم حكام "آقّيونلي" و"قره قيونلي" التركمانيتين، وأباطرة بيزنطة، وأمراء "القوقاز"، بل التيموريين، واستفادوا منهم بذلك. وكان "أوزون حسن" حاكم "آقّيونلي"، آخر أولئك الأصهار. وقيام العديد من أروام بيزنطة، في إمبراطورية "طرابزون"، بعد فتح "إستانبول"، وعدّهم الإمبراطور قبل الأخير" "يؤانس كومنينوس الرابع"، الوالي الشرعي لروما الشرقية، قد أزعج السلطان "محمداً الفاتح"، فساق جيشاً، بقيادة "خضر بك"، فدفع الإمبراطور "يؤانس الرابع" ثلاثة آلاف ذهب، خراجاً له، وأبعد بذلك الخطر عن نفسه، ثم قام بتزويج ابنته الجميلة "أوزون حسن"، وبذلك وفر لنفسه حامياً جديداً، يحتمي بظله. وبناءً على وفاة الإمبراطور، في عام 862هـ/1458م، ونظراً إلى أن ابنه كان في الرابعة من العمر، فقد استولى أخوه، "دافيد" على تخت الإمبراطورية، وقام بالاتصال بجمهوريتي "البندقية" و"جنوى"، وطلب، في الوقت عينه، مساعدات من البابوية، باسم النصرانية. وبناءً على هذا الطلب، قام البابا "بيه الثاني"، بجمع مجمع، أقر فيه القيام بحملة صليبية جديدة، ضد الأتراك. إلا أن الإمبراطور الأخير على "طرابزون"، لم ير أي فائدة من ذلك، بل وجد إمبراطوريته محاطة بالكارثة، من البر والبحر. وبناءً على هذا الوضع، فإن الإمبراطور، الذي لم يجد أي سبيل للمقاومة، حاول إجراء التفاوض مع السلطان "محمد الفاتح"، بتقديم ابنته إليه؛ وقبول العديد من الشروط الثقيلة. إلا أن السلطان "محمداً الفاتح" لم يقبل مثل هذه الأشياء. فلم يجد الإمبراطور بداً من الاستسلام، من دون أي قيد أو شرط. ولقد أُرسل الإمبراطور، مع زوجته، الملكة "ألني"، وأولاده الثمانية، وكل أفراد أسرته، إلى "إستانبول" بالسفينة، بغية سوقهم إلى "سرز". وهذه الدولة، "إمبراطورية طرابزون الرومية"، التي استمرت في العيش قرنين ونصفاً، من القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر الميلاديين، قد لفظت أنفاسها الأخيرة على يد السلطان "محمد الفاتح"، وأفل نجمها، في لحظة واحدة. وبذلك، فإن السلطان "محمداً الفاتح"، قد قضى على إمبراطورية "طرابزون"، بعد أن أزال الإمبراطورية البيزنطية، وإمارة "المورة"، الواقعتين تحت حكم "آل بالأولوغوس".

وقد قدم السلطان "محمد الفاتح" التقدير والاحترام، لوالدة "أوزون حسن"، التي رافقته إلى "طرابزون". وبعد أن تم فتحها، قدم لها العديد من الغنائم، وأرسلها إلى ابنها، بكل عز وإكرام.

وبموجب المعلومات، الواردة في المصادر الغربية، فإن أهالي "طرابزون"، أخرجوا منها، فأُرسل قسم منهم إلى "إستانبول"، ووزع قسم منهم على العساكر أسرى، ونفي بعضهم إلى خارج المدينة. أما المصادر العثمانية، فتفيد أن الأهالي أُبقوا في أماكنهم؛ على عكس المصادر الغربية. والحقيقة، أن بعض الأبحاث الأخيرة، للمؤلفين الغربيين، تؤكد هذه الرواية العثمانية.

وما يذكره العديد من المصادر العثمانية، من أن فتح "طرابزون" كان في عام 864هـ/1460م ـ غير صحيح. وبناءً على فتح "طرابزون"، بعد فتح "آماسرا" و"سينوب"، فقد دخلت كل سواحل البحر الأسود بالأناضول، تحت الحكم العثماني. وهذا يعني أن السلطان "محمداً الفاتح"، قد حقق المرحلة الأولى من خطته الكبيرة، الرامية إلى جعل البحر الأسود بحيرة تركية، في وقت وجيز للغاية.

وكانت إمبراطورية "طرابزون"، هي الدولة النصرانية السادسة، التي قضى عليها السلطان "محمد الفاتح"، إذا استثنيت مستعمرة "آماسرا"، التي اقتصرت على جالية جنوية، وكذلك إمارة "إسفنديار"، التي كانت تحكمها [أي "آماسرا"].

وهناك رواية، انتقلت إلى مصادر التاريخ الغربية، من مصدرين بيزنطي ولاتيني؛ واستغلها أعداء الأتراك كثيراً، وهي أن أفراد أسرة إمبراطور "طرابزون"، أعدموا، بعد فترة وجيزة، على يد السلطان "محمد الفاتح". غير أن الملكة "ألني" وابناً لها وابنة، قد نجوا من هذا المصير. بل إن تلك الرواية، يضخم أمرها إلى درجة أنها تذكر أن العثمانيين رموا بجثث المذكورين إلى العراء، لتلتقطها الوحوش الضارية؛ وأن الملكة "ألني"، اضطرت إلى أن تذهب، ليلاً، لدفن جثث زوجها وأولادها. وإذا كانت هذه الرواية، التي حولت إلى قصة حزينة ـ صحيحة، فينبغي عدم الاستخفاف بالجرم، الذي استحق ذلك العقاب. وبناءً على الرواية نفسها، فإن سبب هذا التدبير، هو حصول العثمانيين على خطاب من زوجة "أوزون حسن"، "كاترينا" أو "أكاتريني كومنيني"، موجه إلى الإمبراطور. حيث تضمن هذا الخطاب خطة لتهريب واحد من "آل كومنينوس"، إلى "أوزون حسن". ومعلوم أن الهدف من هذا، إرسال الأمير الرومي، مع قوات "أوزون حسن" إلى "طرابزون". وكان "أوزون حسن"، قد بدأ بتأسيس علاقات بشبكة عدائية واسعة، في أوروبا، ضد العثمانيين؛ وأتم تبادل السفراء بينه وبين البنادقة؛ وكان قد أعد أسس اتفاق، بين البنادقة و"آقّيونلي"، منذ ذلك الوقت. والحقيقة، أن وضعاً من هذا القبيل، إذا تعرض من خلاله أمن الدولة العثمانية واستقرارها للخطر، والذي يؤدي نشوب معركة، فليست الدولة العثمانية فحسب، بل أي دولة معاصرة، لا يمكنها أن تترك فاعلي عمل من هذا القبيل، من دون عقاب. ويبدو أن أسرة "آل كومنينوس"، التي عفي عنها، وترك لها حرية العيش في كنف الدولة العثمانية، مع تخصيص أراض بثلاثمائة ألف آقجة ـ كانت تقوم بفاعليات سرية، تهدد الوحدة الوطنية للدولة العثمانية. فإعدام الإمبراطور، مع بعض أولاده، كان لذلك السبب. والحقيقة، أنه في الوقت، الذي كان يتم فيه التضحية بأمراء آل عثمان، "لتوفير النظام للعالم"، ويتخذ "محمد الفاتح" من ذلك قانوناً، تسير عليه الدولة، فإنه لا يمكن السكوت عن اتصالات خفية، كانت تستهدف أمن الدولة العثمانية. وطلب عدم قيام السلطان "محمد الفاتح" بأي عمل تجاه الأمراء الأعداء له، يعني عدم الإلمام بالأخطار، التي كانت محدقة بالدولة العثمانية، في تلك الفترة، أو بالأحرى العداوة للأتراك، من دون أي هوادة.


 



[1] وردت Fatih والصحيح : Mohammad