إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / ملف النعوش الطائرة (حوادث قتل العمالة المصرية في العراق عقب انتهاء الحرب الإيرانية ـ العراقية)









10

10. التساؤل عن حقيقة الأحداث

أثارت مجلة المصور، في عددها الصادر في 24 نوفمبر 1989، الموضوع نفسه تحت عنوان:

"قضية الحقوق وقضية النعوش"، وكان سؤالها:

لا نعرف من نلوم على، الذي حدث للمصريين في العراق؟

هل نلوم العراق، أم نلوم أنفسنا، أم نلوم الظروف؟ أم أنه قدر مصر، أن يلقى المصريون دائماً جزاء سنمّار؟ لو أردنا نبدأ بمسؤوليتنا نحن المصريين، فمسؤوليتنا أننا تركنا الأبواب مفتوحة على مصاريعها، لهجرة العمالة المصرية، من دون ضابط أو رابط. في السبعينات، كان بعض دهاقنة (خبراء) الاقتصاد المصريين يتصور، أن هجرة العمالة المصرية إلى الخارج، ربما تشكل الحل الأمثل للمشكلة الاقتصادية في مصر. فتحوا الأبواب على مصاريعها، من دون قيد أو ضابط، في ظروف ربما كانت تستوجب ذلك. كانت خزائن دول الخليج لم تزل تعمر بفوائض بترولية ضخمة، مكنتها من الأنفاق الضخم على عدد من المشروعات، التي تطلب أعداداً هائلة من العمالة الأجنبية. أصبحت الهجرة حلم كل مصري، حتى الفلاحين هجروا أراضيهم، تركوها بوراً، وذهبوا يعملون فوق سقالات البناء، في العراق والسعودية ودول الخليج، التي ازدحمت بأعداد هائلة، وصلت في بعض الأحيان إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين عامل مصري. وعلى الرغم من أن العلاقات السياسية لم تكن قائمة، بين مصر وعالمها العربي، فلقد لقيت العمالة المصرية ترحيباً من هذه الدول، لأسباب عديدة ربما كان أبرزها:

أن الجميع يعرفون، أنّ المصريين لا يهاجرون إلى الأبد، وأنهم، لا بد، عائدون إلى بلادهم، وأن غاية ما يريدونه من الهجرة، أن يتحقق لهم بعض المدخرات، التي يعودون بها كي تعاونهم على المستقبل. وأن الجميع يعرفون، أيضاً، أن المصريين في الهجرة، هم أكثرهم الجاليات العربية عزوفاً عن التدخل في شؤون الآخرين، شاغلهم الوحيد في الغربة أن يؤدوا أعمالهم، على نحو يرضي صاحب العمل، وأن يتمكنوا من تحويل بعض من مدخراتهم، إلى ذويهم في مصر.

وإن العمالة المصرية، التي خرجت من مصر، من دون ضابط أو رابط، أدت إلى وفرة ضخمة في سوق العمل، هبطت بأجورهم إلى الحدود الدنيا. وكان العمال المصريون يعملون في هذه الدول، من دون أية مظلة تحميهم، وقد أدت وفرتهم الزائدة إلى قبول ما لا يمكن قبوله. ولأن الباب كان ـ ولا يزال ـ مفتوحاً على مصراعيه، أصبحت العمالة المصرية في الخارج، نهباً للنصابين والأفاقين، الذين أثروا ثراء ضخماً، من وراء مكاتب التوظيف الوهمية، أو من وراء شركات الأموال، التي نهبت مدخرات العمال.

واجب الأنصاف يقتضي منا أن نقول، إن جهوداً عديدة قد بُذلت بالفعل، في محاولة لتنظيم خروج العمالة المصرية، بما يضمن حقوقها في إطار اتفاقيات عمل ترعاها الدولة. ولكن هذه المحاولات أصتدمت بمشكلتين أساسيتين:

أولهما: أن بعضاً من الدول المستفيدة من هذه العمالة، لم تكن متحمسة لأي تنظيم من هذا النوع، لأن تنظيم هذه العلاقات سوف يعود، بالضرورة، إلى نوع من توازن العرض مع الطلب، بما يحفظ للعمالة المصرية حقوقها.

ثانيهما: أن محاولة التنظيم، كانت تصطدم، داخل مصر، بمعارضة استناداً إلى الدستور، الذي يكفل للمصريين حرية التنقل والعمل، في إطار القانون. لا ينبغي أن يكون هناك عائق، أمام ضرورات تنظيم هجرة العمالة المصرية إلى الخارج، لأن الأمر في النهاية يتجسد في صورة يرفضها كل مصري! آلاف المصريين يذهبون وراء حلم الهجرة، يتصورون أن فرص العمل لم تزل وفيرة، وأن الأيام لم تزل تمضي سيرتها الأولى. ثم تصدمهم الحقيقة، فيضطرون، أو تضطرهم الظروف، إلى أشياء وأشياء تزري صورة الوطن، وتمتهن كرامته. والذين يحتجون بالدستور، الذي أكد على حرية التنقل في إطار القانون، عليهم أن يدركوا أن لا أحداً يطلب قيوداً تعسفية، تشل النص الدستوري، أو تبطل فاعليته. ولكننا نطلب فقط، أن يكون السفر للعمل في الخارج، وقفاً على من يرتبطون بعقود عمل حقيقية. وأن تشرف الدولة على عقود عمل جماعية، تنظم وتحفظ حقوق عمالنا في الخارج. والمؤسف أن العائد الأكبر من دخول هؤلاء، قد تسرب في مسائل غريبة: شركات توظيف الأموال التي أكلت جزءاً، وضاعت أجزاء أخرى في أنماط استهلاكية جديدة، لم تكن تعرفها القرية المصرية. وسعيد الحظ من استطاع أن يبني لنفسه داراً جديدة، من الطوب الأحمر، أكلت قيراطاً أو قيراطين من أرضه الزراعية. الآن أختلف الوضع، لم تعد فرص العمل وفيرة، ولم تعد الأجور مغرية كما كانت. وتضاعفت، بسبب الأزمة الاقتصادية، التي تمسك بخناق الجميع، القيود على تحويلات العمال، حتى بلغت تلك النسبة الشحيحة في العراق. وذلك يعني في النهاية، أن مصر سوف تواجه مشكلة جديدة، تتمثل في عودة هؤلاء العاملين من دون أن ينالوا حقوقهم الدّنيا. فلماذا إذن يصر البعض على أن تظل الأبواب مفتوحة على مصاريعها؟ ليسمح لي الأشقاء في العراق، وقد قدمت المسؤولية المصرية على مسؤولية أي طرف آخر، أن أتحدث بكل الصراحة، عن مسؤولية الجانب العراقي، في الأزمة المثارة بين الشعبين، لأن صراحة الأشقاء هي، التي يمكن أن تفتح الطريق إلي فهم مشترك، ولأن المشكلة قد أصبحت جزءاً، من شاغل الشارع المصري، والشارع العراقي، بحيث أصبح مستحيلاً أن يكون في الصمت، أو التهوين، أو العداوة، الحل أو العلاج. لقد بقي المصريون ما يقرب من عشرة سنوات في العراق، كانوا موضع الرعاية والاهتمام، كانوا يلقون بالفعل معاملة كريمة، في كل مكان. كانت لهم أسبقية الرعاية على كل الجاليات الوافدة، كانت حقوقهم تماثل أو تقترب من حقوق العراقيين. فما الذي تبدل، أو تغير حتى يصبح الحال غير الحال، ولماذا أقترن التبدل بوقف الحرب مع إيران؟ أحد لا يستطيع أن يزعم، أن المصريين جميعاً، كانوا على مستوي المسؤولية، كما أن أحد لا يستطيع أن يزعم، أن الجميع كانوا أخياراً. فالمصريون، شأنهم شأن العراقيين، وشأن أي شعب آخر، يمكن أن يكون فيهم الصالح والطالح، وفي جالية ضخمة، وصل عددها إلى ما يقرب من المليون نسمة، يصبح ذلك أمراً طبيعياً، لأن بينهم من يضرب، ويتشاجر، ويسرق، ويزني، بل ومن يقتل، تلك طبائع البشر، والمهم في مثل هذه الظروف، أن يكون إدراكنا لهذه المتاعب، مرتبطاً بفهمنا المتكامل للدور العظيم، الذي أداه المجموع المصري تجاه العراق، وهو يخوض حربة الضروس ضد إيران. إنني أخشى أن أقول إن المعايير قد تغيرت، بعد وقف القتال؟

ثم تأتي بعد ذلك قضية النعوش، وهي تحمل جثث المصريين، الذين ماتوا في العراق. والأرقام المصرية تقول، إن صناديق الموت حملت إلى مصر 975 حالة هذا العام، على وجه التحديد. وربما تكون النسبة طبيعية، قياساً إلى عدد المصريين الموجودين في العراق. وربما يكون بين هؤلاء أعداد لقيت حتفها، في ظروف لا تحتمل الشك أو الشبهة، ظروف تتعلق بحوادث طارئة في العمل، أو في الحياة. لكن ما ثار شكوك الأهلي في القرى والنجوع، أن التقارير، التي تأتي مع الصناديق، تقارير مبتورة لا تفيد شيئاً عن الظروف، التي وقع فيها الحادث. تذكر فقط "ماس كهربائي"، أو "شج في الرأس"، أو "تهتك في الجمجمة"، أو "لا يزال الأمر قيد البحث". وحتى الأسبوع الماضي، كانت وزارة الداخلية المصرية تشكو، من أن التقارير، التي طلبتها عن هذه الحوادث، لم تصل بعد من بغداد. على الرغم من أن وزارة الداخلية العراقية، أكدت استعدادها لأن ترسل كل التقارير، المتعلقة بمن لقوا مصرعهم، في ظروف تختلف، عن ظروف الوفاة الطبيعية. لا أريد أن أعطي لهذه القضية أبعاداً، تزيد من حجم الشكوك المثارة، لأنني لا أستطيع أن أصدق، أن هناك من يترصد قتل المصريين في العراق. ليسمح لي الأشقاء في العراق، أن أقول بكل الصراحة، إن القرارات الأخيرة، التي حددت لكل الفئات العاملة في العراق نصيباً في التحويل، لا يزيد على 40 ديناراً، إن كان موظفاً حكومياً، ويصل إلى 10 دنانير في الشهر، إن كان يعمل على عاتقة، هذه القرارات كانت تنطوي في داخلها، على قرار بالاستغناء، عن جزء كبير من العمالة المصرية، إن لم يكن معظمها. لأن أياً من العاملين المصريين في العراق، سوف يسأل نفسه: ما الذي سوف يستفيده من الغربة، إن كان لن يتمكن من تحويل قدر من دخله، يمكّنه من الأنفاق على الأسرة، التي تركها في مصر؟

ولا لوم ولا تثريب على العراق، إن كانت أعاده ترتيب البيت العراقي، بعد نهاية الحرب، قد تطلبت ذلك. ولكن ينبغي لبغداد، أن تناقش أثار هذه القرارات مع القاهرة، لكي يتدبرا معاً ردود أفعالها، على ما يقرب من مليون مصري، ربما يتعذر استمرار بقائهم هناك، بحيث تصبح عودتهم كريمة بلا مهانة، بدلاً من تكدسهم في مطار بغداد، آلافاً تنتظر أياماً تطول إلى أسابيع. ما كان لبغداد أن تنسى، وسط أولوياتها العديدة، أن لهؤلاء المصريين حقوقاً، ينبغي أن تؤدى. فالورقة الصفراء التي يحملها كل عائد، لتعطيه حق صرف تحويلاته الضئيلة في القاهرة، مؤجلة السداد إلى أكثر من ثمانية أشهر قادمة، حتى تراكم للمصريين العائدين، ما يقرب من 400 مليون دولار. إن الوضع الاقتصادي صعب في العراق، وأعرف أن العراق قد اقتطع أخيراً، ومن بنود ضرورية، 30 مليون دولار، لكي يتم صرفها على ثلاث دفعات سداداً لبعض المتأخرات. لكن كيف لمواطن مصري بسيط، اغترب عاماً عن بلادة، أملاً في فسحة الرزق، أن يستوعب ذلك؟ إن الرؤية الواقعية لأبعاد مشكلة المصريين العاملين في العراق، تبدأ من الوفاء بحقوقهم الاقتصادية، في أسرع وقت ممكن، لأن ذلك هو جوهر المشكلة، ولأن كل المشكلات الأخرى، هي في الحقيقة، ردود أفعال لحقوق تأخرت عن أصحابها.