إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / حركة الإخوان، في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (1910 ـ 1930)






معركة أم رَضَمَة
معركة الجهراء (الجهري)
معركة السَّبَلَة
معركة تربة (حَوْقَان)
معركة تربة الكبرى
فتح الطائف



حركة الإخوان في نظر المؤرخين وكتاباتهم

حركة الإخوان في نظر المؤرخين وكتاباتهم

تباينت الآراء الصادرة عن المؤلفين والمؤرخين، حول حركة الإخوان، وطبيعتها، السياسية والعسكرية.

فمنهم من يرى أنها كانت حركة متشنّجة متطرفة، تسعى للغزو والسلب والنهب، رافعة شعار الدين، مفتقدة التنظيم لأسس بناء الجيوش الحديثة؛ بينما يرى آخرون أنها حركة دينية جهادية فريدة في هدفها وتوجهها. وعلى الرغم من التناقض في الحكم عليها بين مؤيد ومعارض، فإن أحداً لم ينكر دورها ومساندتها للملك عبدالعزيز، في تأسيس حكمه وإرساء دعائمه.

وفي إيجاز نورد أهم الآراء والحكام، الصادرة عن عددٍ من الكُتّاب والرّحالة والقادة ـ عرب وأجانب ـ ممَّن عاصروا حركة الإخوان، وشهدوا عن قرب نشأتها وتطورها، ثم اندحارها وهزيمتها، أو من درسوا فكرها ووقفوا على تنظيمها.

1. أمين الريحاني[1]

يُعد أمين الريحاني من أوائل الكتاب وأشهرهم، الذين كتبوا عن الملك عبدالعزيز. فقد أصدر مُؤَلَفين يتناولان حياته في نجد، حين كان ملازماً له في مرحلة من أهم مراحل بناء الدولة السعودية. كان عنوان كتابه الأول: "تاريخ نجد الحديث وملحقاته"، ثم عُدل العنوان في الطبعات التالية إلى: "تاريخ نجد الحديث: سيرة الملك عبدالعزيز عبدالرحمن آل فيصل آل سعود، ملك الحجاز ونجد وملحقاتها". أمّا كتابه الثاني، وعنوانه: "ملوك العرب"، فهو عمل موسوعي، يقع في مجلدين، جاء معظم جزئه الثاني خاصاً بالملك عبدالعزيز.

ويعالج الريحاني القضايا التالية عن الإخوان:

أ. تساءل عن حركة الإخوان، وتنظيمهم وفكرهم:

"من هم الإخوان؟ من هم أولئك الوهابيون، الذين يردد الناس في كل قطر من الأقطار اسمهم مستعيذين بالله؟ وقلّ من يعرف حقيقة حالهم، ويُدرك سر اشتهارهم. أَهُم رسل الهول والموت، أم رسل دين، لا يعرف غير الله والكتاب والسنة، دين النبي محمد والصحابة؟ أقول نعم، جواباً على السؤالين".

ب. رصد طبيعة التحول الاجتماعي والنفسي، الذي أحدثته حركة الإخوان في نفوس أولئك البدو:

"الإخوان هم الفئة المحاربة، الفئة المتعصبة، الفئة المدّينه[2] جديداً في الوهابية. الإخوان هم جنود عبدالعزيز بن سعود، الذين كانوا بالأمس من العرب الرحل، من البدو الجاهلين، فديّنوا أي دانوا بدين التوحيد، فصاروا مسلمين. وهم في غلوهم، يعتقدون أن من كان خارجاً عن مذهبهم ليس بمسلم، فيشيرون إلى ذلك في سلامهم بعضهم على بعض. السلام عليكم يا لاخوان[3] حيا الله المسلمين. وإذا سلم عليهم سني أو شيعي، فلا يردون السلام".

"وها أن الإخوان في هذا الزمان يحملون البنادق والبيارق باسم الله، فيحملون أو كانوا يحملون على كل من لا يُدّين من العرب، وكأنيّ بهم لا يرون خيراً في حياة لا إكراه فيها على التوحيد، فينادي الأخ منهم ممتشقاً حسامه أو رافعاً بندقيته: أنا خيّال التوحيد، أخو من طاع الله، بيّن رأسك يا عدو الله! إنهم، من هذا القبيل، مثل رجال البروتستانت الأولين، الذين حاربوا "شارلس"، ملك الإنجليز. والسلطان عبدالعزيز أشبه برجل تلك الثورة الكبير، كرمويل.

ج. تناول جهادهم، وحماستهم، وصلابتهم، وبطولتهم، وصدق عقيدتهم:

"فكانوا رسل الهول ورسل الموت، في كل مكان، سُمعت فيه "هوستهم" المشهورة: هبت هبوب الجنة، أين أنت يا باغيها؟ فلا الحجاز ينساهم، ولا الكويت يذكرهم بالخير، ولا العراق يحسن بهم الظن، ولا الجوف ولا الجبل ولا القصيم يُكْبر في ساعة الوغى سواهم؛ ويردد خوفاً وإعجاباً غير اسمهم. الإخوان، زرعوا الهول في كل مكان. الإخوان يحاربون مستبسلين مستشهدين. روى الناس الموالون منهم، والمعادون، أخبار الشجاعة والبطولة، التي اشتهروا بها. قالوا: إِنهم شياطين الدين. وقالوا: إنهم أبطال المسلمين. وما كانت البطولة بغير الإيمان الحي، والثبات في الجهاد. لولا ذلك، ما كان الإخوان، وما كان مُلْك ابن سعود. هبت هبوب الجنة، أين أنت يا باغيها؟ وكل يبغيها. لذلك يحاربون، وقلما ينهزمون. الجنة أمامكم والنار وراءكم. فمن منهم يتقهقر، ومن منهم يولي مدبراً؟ هم شوكة ابن سعود أيام الحرب، وهم أيام السِّلم الشوك في غصن الدين. يحملون سلم التوحيد بالعرض، ويزعجون، أحياناً، حتى سلطانهم العزيز. حَدِّثْتُ كثيرين منهم، فما وجدت وراء اللسان غير قلب فيه أَتون من الإيمان، فلا يهاب صاحبه الموت ولا يخاف غير الله. ولكنك تسألني: أمن روح هناك فيها شيء من الحنان؟ أم من عقل فيه ذرة من البرهان".

د. قصة الفتى نوار

يستشهد الريحاني من قصة الفتى نوار، على فئة من الإخوان، ذات الالتزام الديني البسيط المُتَشبِّع بالعقيدة الصافية الخالصة، "وما نوار غير راعي بعير اكتراه "استأجره" منه شاب كان في خدمة السلطان ليسافر إلى القصيم. كنا يومئذ على أهبة الرحيل فأراد الشاب أن يواخينا فَقَبِلْنَا، فخرج راكباً معنا من الرياض. ونوار صاحب الذلول يمشي أمامه أو وراءه. وكان في بعض الأحيان، عندما يتعب، يثب إلى الرحل رديفاً، ثم يترجل مستعيذاً بالله. ذلك لأن الشاب الذي أكراه نوار بعيره هو "ازْكرت"[4] يدخن ويغني، والغناء في نجد اليوم محظور، وفي بعض مدن العارض والقرى الجديدة، الهُجَر، مُحَرَّم مثل الدخان. أمّا الزكرت فكان يرفع عقيرته كلّما خرجنا من قرية وصرنا في الفلاة، فيتلو إذ ذاك نوار التعويذتين. وعندما رآه لأول مرة  يشعل السبيل كاد يجن. كان ذلوله ماشياً إلى جنب ذلولي وكان نوار وقتئذ رديفه. فوثب، فجأة، إلى الأرض، كأن ناراً اشتعلت تحته، وهو يردد بصوت عال: أعوذ برب الفلق من شر ما خلق .. أجرنا اللهم من النار .. أجرنا اللهم من النار؛ والزكرت أثناء ذلك والربع كلهم يضحكون". وقد كان الريحاني معجباً بشخصية نوّار، لأنه يمثل أنموذج التدّين الفطري، لفئة الإخوان التي تعيش على السجية، ففيه سماحة البدوي ومرؤته، وشهامته وصدقه:

"كان الأخ نوّار، مع ذلك، لطيفاً وذا مروءة تشكر. فيعاون الخدم، ويرعى الركائب عند المراح، ويجمع الحطب ويشب النار، ولا يأكل إلاّ قليلاً. رافقنا هذا البشر الغريب، آخانا كارِهاً، عشرة أيام وما من مرة سلم عليَّ أو كلمني أو رد سلامي. مرضت، أثناء السفر، بالحمى، فكنت ذات يوم على الفراش في خيمتي، ونوار واقف اتفاقاً (مصادقة) في الباب. فقلت، مازحاً، بل كنت أضايقه عمداً: يا نوار أنا "مصخن" (مريض) اليوم. فمال بوجهه إلىَّ هاتفاً: والحمد لله! كانت عصاي طوع يدي قرب السرير فرميته بها لِما ظننته منه وقاحة بل وحشية، فأصابت منه الرأس، ولكنها لم تحرك اللسان بكلمة واحدة.

نهضت بعد ذلك وخاطبته وهو واقف عند النار: أنت يا نوار رجل تقي ورع صدّيق، وأنا رفيقك في السفر ـ مريض ـ "خويك مصخن" اليوم، ونبغي الرحيل، ولا رحيل مع مرض. فهلا ذكرتني في صلانك، وسألت الله لي الشّفاء العاجل. فلم يجبني بكلمة. فقلت: أفلا تصلي من أجلي يا نوار! ظل معرضاً عني ساكتاً. فقلت مصرِّاً: أنا "خوياك" ابغي منك أن تذكرني في صلاتك. هزّ الرّجل رأسه متأففاً وبَعُدَ عني، فتبعته وأمسكته بعباءته، وأظنني كنت محموماً فزادني هذا الصد منه حرارة وغيظاً، فقلت ولا مزاح: اسمع يا نوار أنا أعلِّمْك (أي أُخْبرك) أنت واحد و"حنا" خمسة عشر وكلنا ندخن ونغني، فإذا كنت لا تصلي من أجلي، وتسأل الله لي الشفاء، نذبحك والله مثلما ذبح مسفر هذه الشاة. أظن أن تهديدي راعه فحرك شفتيه بهذه الكلمات: الله يجيرنا وإياك من النار. وهذا منتهى التساهل منه. لم يطلب لي الشفاء، كلا، بل أشركني من فضله بالاستجارة من النار، نار الجحيم. كل الإخوان المديّنين جديداً هذا الرجل، كلهم نوّار". وهكذا، من خلال رسمه لشخصية نوار، يُطْلعنا الريحاني على نمط من الإخوان، يختلف عن نمط المطاوعة، في فهمهم للدّين. فنوار ذو إيمان صادق وعقيدة صافية، تنبعثان من سماحة نفسه وبساطتها.

هـ. الحديث عن فئات الإخوان الأكثر تسامحاً

"على أن هناك فريقاً آخر منهم، قد مرّ على تدينهم أو تدين آبائهم حقب من الزمان، فلطّف فيهم صورة الإيمان. هؤلاء يُسَلِّمون على غير الموحدين، ومنهم من يدخن سراً ويغني إذ سار في الفلاة، ولا يلوم ابن سعود على تساهله مع الكفار الإنجليز".

"وهناك فريق ثالث أكثرهم من جبل شمر، ديّنوا بعد سقوط حائل أو قبله، إما خوفاً وإما ارتزاقاً. فهم يتساهلون تساهل السني، و"لكن الأخ" الجديد يقول: إنهم مدغلون (منافقون).

قد كان في رجالي، الذين عشت وإياهم شهرين في السفر، من العارض إلى القصيم والكويت، من الثلاثة الإخوان، الأخ المجنون، والأخ المتعصب تعصباً نسبياً معقولاً، والأخ المتساهل. وكان في الصنف الأخير رجل ظريف، ذكي الفؤاد، يحسن النكتة والجواب. يدخن، دائماً، ولا يستأثر بالسبيل، بل كان يقدمه عند كل "تعميرة" إلى رفقائه، صارخاً بصوته العريض: دخنوا يا إخوان. بارك الله فيهم، قد كانوا طيلة الطريق موضوع التهكم والضحك. أجل، قد أضحكونا وفكّهونا في ساعات الضجر الطويلة".

و. تقسيم الإخوان إلى أنماط ثلاثة

"المطاوعة[5]، والعلماء، والمتعلمون المبتدئون. أمّا المطاوعة فهم في كل نجد يُعرفون من قيافتهم النسكية، بل من خلق أطمارهم. أمّا العمامة البيضاء الشبيهة بالضمادة، فإن هي إلاّ نصف ذراع من الخام يلفه المطوع فوق الغطرة (الغترة) على رأسه ويشكر الله. ثم يحمل عصا من الشوحط إذا كان كبيراً، وألاّ فقضيباً من الخيرزان، ويجوب البلاد في سبيل التوحيد. المطاوعة يعلِّمون الناس الدين، والعلماء يعلمون المطاوعة، وكلهم يوم الجهاد "خيال التوحيد أخو من طاع الله". وكلهم في أيام السلم فلاسفة في التقشف والقناعة، في الشدة والصبر، في التفقر والتقوى. ترى الأخ، في الطريق، حافياً لا يحمل غير عصاه، ينفخ الهواء في أطماره فيكشف عراه، وقد يكون مشى يومين أو ثلاثة من دون أن يذوق الخبز والتمر، فتسأله بعد السلام: "وتسايف أنت" (كيف أنت)؟ فيجيبك بصوت عريض، وقلب وطيد كأنه يمثل دوراً في رواية: بخير ونعمة والحمد لله! إنما هذه فضيلة الإخوان، بل فضيلة النجديين الكبرى. فهم على فقرهم، وسوء حالهم في الدنيا، قانعون راضون، وقلّما تسمع كلمة فيها شيء من اليأس أو الشكوى".

ز. صلة الإخوان بالملك عبدالعزيز

تناول الريحاني طبيعة العلاقة بين الإخوان والملك عبدالعزيز، وكيف أنّ الملك ـ أول أمره ـ قبلهم على ما هم عليه، واستطاع أن يستخرج أفضل ما فيهم.

"والسلطان عبدالعزيز إمامهم في كل شيء. فهو يعرف الشجاع فيهم، والتقي، والصبور، والعاقل والمجنون. ويُحسن سياسة الجميع، فيستخدمهم في سبيل الله، وملك ابن سعود. أجل، إن عنده لكلٍّ من الإخوان وظيفة ومقاماً: المعتدل للخدمة، والمتساهل للتجارة والسياسة، والمجنون للقتال. أمّا أمر الصنف الأخير، إخوان نوّار، فقد يستفحل عليه في بعض الأحيان، وقد يعجز عن ضبطهم دائماً، لأن المسافات في نجد بعيدة والمواصلات كلها أولية. الإخوان قوة هائلة ينقصها نظام وإدارة، وألاّ فتتفلت من يد سيدها، وتكون عليه، وعلى سواه، وخيمة العاقبة".

ويورد الريحاني خطاباً للملك عبدالعزيز يدلل به، كيف كان يُخاطب الإخوان خطاباً يعرف أقدارهم، خيرها وشرها، لذلك يُحْسِنُ سياستهم. يقول:

"كنت في عاصمة نجد يوم أُطلق سراحهم. فأُحضروا أمام السلطان، فخاطبهم قائلاً: لا تظنوا يا إخوان أن لكم قيمة كبيرة عندنا. لا تظنوا أنكم ساعدتمونا، وأننا نحتاج إليكم. قيمتكم يا إخوان في طاعة الله، ثم طاعتنا. فإذا تجاوزتم، ذلك، كنتم من المغضوب عليهم. أي بالله، ولا تنسوا أن ما من رجل منكم إلاّ وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمه. وما ملكناكم إلاّ بالسيف. ترى الصحيح. والسيف لا يزال بيدنا، إذا كنتم يا إخوان لا ترعون حقوق الناس. لا والله، لا قيمة لكم عندنا في تجاوزكم. أنتم عندنا مثل التراب ... أمّا إذا اعدلتم وعقلتم فحقكم، بشرع الله، خذوه من هذا الخشم ـ وضرب بالسبابة أنفه ـ وحقي آخذه منكم دائماً بإذن الله ... أنتم ما دخلتم في طاعتنا رغبة، بل قهراً. وإني والله أعمل بكم السيف، إذا تجاوزتم حدود الله".

2. هارولد ديكسون[6]

أصدر هارولد ديكسون، كتاباً بعنوان: "الكويت وجيرانها"، تحدث في أحد فصوله عن حركة الإخوان، متناولاً القضايا الآتية:

أ. نشأة الحركة

"نشأت (حركة الإخوان )، على حد علمي، على يد الشيخ المتدين الموقر عبدالكريم المغربي، الذي كان، في وقت من الأوقات، كبير علماء المرحوم فالح باشا السعدون، شيخ اتحاد المنتفق. ثم أصبح بعد ذلك عالماً مع مزعال (مزعل) باشا السّعدون، والد إبراهيم بك السعدون الحالي. وبعد أن ترك الشيخ عبدالكريم المغربي الخدمة مع مزاعل[7] (مزعل) باشا، رحل إلى نجد، التي أخفى نفسه فيها على شكل مصلح ومعلّم ديني، في مدينة الأرطاوية الصغيرة، التي كانت في ذلك الوقت عُشَّاً صغيراً من أعشاش الوهابية. وهناك قصة تقول: إن الشيخ عبدالكريم المغربي عاد، في العام 1899، عن طريق نجد وأنه قد زار الأرطاوية عن طريق عودته. وبدلاً من الترحاب، الذي ينتظره من صديقه القديم مزعل، طرده ووسمه بأنه كافر Infidel، ومشرك Polytheist".

ويحتفظ مكتب السجلات العامة البريطاني، بتقرير كتبه ديكسون في 2 سبتمبر 1929م، عندما كان يشغل منصب الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، يقول فيه:

"حركة الإخوان ـ تأسست، من ناحية أخرى، على يد ابن سعود لتخوض له معاركه وتنتصر فيها باسم الدّين. والإخوان، بحكم أنهم كانوا من البدو، لا يمكن الاعتماد عليهم مطلقاً، ونظراً لأنهم كانوا إخواناً وتستعر داخلهم جذوة "الدين"، فقد أصبحوا بحق لا يُقهرون. ويمكن تشبيههم "بمدرعات" كرمويل أو قوات العاصفة الألمانية".

ب. صلة الملك عبدالعزيز بحركة الإخوان

أمّا فيما يتعلق بإبلاغ الملك عبدالعزيز ديكسون، أنه لا علاقة له بإنشاء حركة الإخوان، كتب ديكسون نفسه في مطلع العام 1920، إلى المفوض المدني في بغداد، يقول: إن ابن سعود كان قد قال له: "أنا الإخوان". كما كتب ديكسون في البرقية نفسها يقول:

"في زيارتي الأخيرة، التي قمت بها إلى الأحساء، للقاء ابن سعود، (من 29 يناير إلى 20 فبراير)، بذلت جهداً عظيماً عَلَّني أكتشف أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حركة "الإخوان". وقد اكتشفت أن هذه المسألة مَهَمّةٌ صعبة، ذلك أن الشكوك كانت تحوم من حولي في جميع الأماكن، التي حاولت أن أتحرى فيها هذه المسألة. وقد اتضح لي، أن الناس قد لُمِّح لهم، من قِبل شخص أو آخر من أهل السُّلطة، بألا يصرحوا إلاّ بالنزر اليسير. وأنا لا يسعني إلاّ أن أتوصل إلى نتيجة مفادها أن ابن سعود نفسه كان وراء الأمر بكامله. وأنا أرى أن ابن سعود كان قد أصدر تعليمات عامة، بعدم التحدث كثيراً عن الحركة الجديدة أمام الأغراب .. فلم يكن ابن سعود يود أن يعرف الغرباء، أنه هو الذي يقف وراء هذا الأمر برمته، وأنه هو الذي يقوي الحركة ويوجهها لخدمة أغراضه الخاصة".

ج. تقويم ديكسون لحركة الإخوان

حاول ديكسون أن يكون موضوعياً، في تقويمه للإخوان وحركتهم، على الرغم من نظرته، التي كانت ضدهم بطبيعة الحال.

"على الرغم من كثرة ما كُتب عن قسوة الإخوان ورعبهم، لا بد أن أسجل الرأي الذي يقول: إن كل ذلك كانت تجري المبالغة فيه بحذق وعناية، خدمة لأهداف سياسية في ذلك الوقت. كنت أُكِن للإخوان دوماً إعجاباً حاقداً، ويحتمل أن يكون السبب في ذلك، هو أن هناك سحراً عجيباً يحيط بهؤلاء الرجال الصادقين، المؤمنين بالله حقاً، الذين يخرجون، على هدى أنوارهم لتنظيف الدين من المفاسد. وأنا أعترف هنا، بأني ما أن تعرفت على أحد هؤلاء الإخوان، حتى اكتشفت أن الفرق بينهم وبين الأنواع الطيبة الأخرى، من العرب البدو في الأماكن الأخرى، يسيرٌ جداً. وإذا ما أردنا أن ندرس هؤلاء الناس دراسة حقيقية، نجد أن الإخوان كانوا (مغرمين) متيمين بنسائهم، وأطفالهم، وإبلهم، وخيولهم مثل العرب البدو الآخرين، في حين أن سيداتهم الجميلات كانت لهن نفس السّمات، التي تسُر الخاطر، والتي تشيع بين شقيقاتهن في أنحاء الجزيرة العربية".

3. جون فيلبي John Philby [8]

أ. تأسيس الحركة

يورد فيلبي في أحد تقاريره، عام 1918، عن حركة الإخوان، ما يأتي: "عندما شرع عبدالعزيز في مهمة التوحيد، التي واجهته، لا بد أنه تأثر بالنموذجين، اللذين سادا في وسط جزيرة العرب. فقد كانت قوة محمد بن رشيد تعزى إلى تلك الخصائص الغريبة التي أوصلت الشمْر (قبيلة شمْر) إلى ما هم عليه ـ قبيلة بدوية في مدينة بدوية ـ في حين وصل سلفه الأكبر سعود بن سعود (يقصد الملك عبدالعزيز بن سعود) بجيوشه الغازية إلى أقصى بقاع جزيرة العرب، بفضل مزجه الحكيم بين الدين والسياسة، وهو الأمر الذي حفظ عليه سلطته"

ب. خصائص حركة الإخوان

ويرى فيلبي أن الملك عبدالعزيز، وإنّ خالف النموذجين السابقين عليه، إلاّ أنه مزج  بينهما في حركة الإخوان، التي تتمثل خصائصها الرئيسية فيما يلي:

اقتصارها على البدو من أتباع المذهب الحنبلي، الذي كان السواد الأعظم منهم يتبعونه من الناحية الاسمية فقط، أو هؤلاء الذين أصبح يُطلق عليهم فيما بعد اتباع التعاليم الوهابية، التي كانت موزعة حقيقة في ولائهم لابن سعود، بين هذه التعاليم نفسها وأحكام القانون العرفي غير المدون، الذي كان ينظم حياتهم؛ فأهل نجد الذين يسود بينهم رأي عام متشدد في أمور الدين، أقوياء ومنظمون تنظيماً جيداً، ومن المُناسب تماماً أن يكونوا وهابيين مخلصين، ومن ثمّ، فهم ليسوا في حاجة إلى أي شكل من أشكال الاهتمام الخاص".

ج. هدف الملك عبدالعزيز من إنشاء حركة الإخوان

يخلص فيلبي إلى أن هدف الملك عبدالعزيز "من إنشاء حركة الإخوان وتقويتها، هو زيادة قوته العسكرية، باستخدام عدد أكبر من رعاياه، حتى يمكن له تعويض الضعف الذي يَكْمُن في الدولة البدوية، وفي الجيش البدوي، والاقتصار في موارده، عن طريق إحلال الأمل في ثواب الآخرة، محل الاعتبارات الارتزاقية". ومع أنّ هذا الرأي عليه تحفظ شديد، وقد لا يمثل حقيقة موقف الملك عبدالعزيز، إلاّ أنه وجهة نظر جديرة بالتأمل والاعتبار.

4. جون س . حبيب [9]

قدّم جون حبيب دراسة تاريخية لحركة الإخوان، تُظهر أن الحركة نشأت في نجد حوالي عام 1910م، ووصلت إلى ذروتها في العشرينات من القرن الحالي، واندحرت مع مطلع الثلاثينيات. وهي حركة استطاعت أن تحوّل عدداً من القبائل الرعوية، التي تجهل مبادئ الإسلام، ولم تألف سيطرة السلطة المركزية، إلى قوة شبه عسكرية، متشددة دينياً، لعبت دوراً حاسماً في إنشاء المملكة العربية السعودية. وأهمية دراسة جون حبيب، أنها تجيب عن عدد من الأسئلة المحورية، مثل: من هم الإخوان؟ وكيف نشأت حركتهم؟ وما أسباب نشأتها؟ وما الدور الذي لعبه الإخوان، في توحيد الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية تحت قيادة الملك عبدالعزيز؟

أ. رصد المحاذير الناجمة عن تأسيس حركة الإخوان

من خلال رؤيته لأصول الحركة وتطورها، باعتبارها أداة عسكرية ـ سياسية، في يد الملك عبدالعزيز، ناقش جون حبيب طبيعة أفكار الحركة، وانتهى إلى أنها ليست كما أُشيع عنها، وأن الاتهامات الملصقة بها، من العنف والغطرسة والدّموية، كان مبالغاً فيها. يقول: "إن تنوع الأفكار الخاطئة عن الإخوان وتباينها، وحدتها والمبالغة فيها، لا يدعم سوى بساطة واقع هذه الحركة، إذا قارنا جانب البساطة هذا بالجانب الأسطوري والخرافي للحركة. الإخوان لم يكونوا أعضاء في المذهب الإسلامي الجديد، ولا أتباعاً للمدرسة الجديدة. فقد كانوا ينظرون إلى أنفسهم ـ وهذا هو ما ينبغي أن يكون معروفاً عنهم في ضوء معتقداتهم وممارساتهم الحقيقية ـ بوصفهم أتباعاً للمذهب الحنبلي، في ضوء تنقية محمد بن عبدالوهاب لهذا المذهب وتفسيره له. والإخوان بوصفهم متشددين لم يُدْخِلوا ممارسات دينية جديدة، ولا طقوساً جديدة، كما لم يُدْخِلوا أيضاً تحريمات أو إِباحات جديدة. على الرغم من أن المعايير المحددة للسلوك العام والخاص، التي التزموا بها وفرضوها، والتي من قبيل الفتوى الخاصة بالتدخين، هي أصلاً من عندياتهم" (أي من أفكارهم واجتهادهم).

ب. من هم الإخوان؟

يخلُص جون حبيب إلى أن الإخوان: "هم أولئك البدو، الذين تخلوا عن حياتهم الرعوية، وهاجروا إلى الهُجَر، وعاشوا فيها حياة التزموا فيها بتعاليم الإسلام وممارساته. والطريقتان اللتان أمكن بهما إقناع هؤلاء البدو بالتخلي عن حياتهم الرعوية، هما:

أولاً: أفراد بعينهم استلهموا الروح الدينية الجديدة، التي أشعل جذوتها فيهم الدعاة الدينيون الوهابيون أنصار ابن سعود، والذين بدأوا يعيشون حياة الجماعة، بعد أن وعدهم ابن سعود بدعمه المادي لهم.

ثانياً: أمّا القبائل، التي لم تكن على استعداد للتخلي عن حياتها الرعوية، فقد أقنعهم ابن سعود بالطريقة التالية:

"... كان يرسل إلى الشيخ ويخبره بلغة فظة أن قبيلته لا دين لها وأنهم جميعاً "جُهْل"[10] ثم يأمر الشيخ بالحضور إلى مدرسة "العلماء" المحلية[11]، التي كانت ملحقة بالمسجد الكبير في الرياض، وفي هذه المدرسة كان يجرى تفقيه شيخ القبيلة في الدين. وفي الوقت نفسه كان يتم إيفاد ستة من العلماء، من قبيلة الدّويش (مطير)، في حراسة بعض الإخوان المتشددين بحق، إلى القبيلة نفسها. كان هؤلاء العلماء يعقدون جلسات يومية يفقهون الناس من خلالها في الإسلام، وفي بساطته الأصلية...".

"... وعندما يصبح شيخ القبيلة متفقهاً في الدين بما فيه الكفاية، يدعونه إلى أن يبني له بيتاً في الرياض، ويبقى فيها ليداوم حضوره مع الإمام. وهذا بدوره كان أيضاً جزءاً من خطة السيطرة.....".

ج. تميز حركة الإخوان

وينتهي جون حبيب، عقب دراسته لمجتمعات الإخوان وحركتهم، إلى أن التزامهم المُنظّم هو الذي جعلهم مؤسسة تكاد تكون فريدة في شبه الجزيرة العربية. "وقد تميزت تلك المؤسسة بولع البدو العرب بالعمل المستقل، وميلهم إلى التنظيم المفكك (أي غير الملتزم). وقد أدّى كل من الانتشار السريع لحركة الإخوان، وزيادة عدد الهُجَر، إلى مواجهة ابن سعود بمشكلة سرعان ما بدأت تتضح أكثر وأكثر: فلما كان اقتناع الإخوان الديني مفروضاً عليهم، ولمّا كانوا دوماً واقعين تحت تأثير الحفز المستمر تقريباً من العلماء والمطوعين، ولمّا كان الدين شغلهم الشاغل في غياب المصالح الأخرى أو اللهو، فقد بدأوا يشكلون تهديداً لا لسلطة ابن سعود وقوته فحسب، وإنما للمجتمع الإسلامي، بالمعنى الأوسع لذلك المصطلح".

د. الصراع بين الإخوان والملك عبدالعزيز

أدرك جون حبيب حقيقة الصراع الخفي، ثم المُعلن بعد ذلك، بين الملك عبدالعزيز والإخوان، بعد أن اشتدت شوكتهم، وأصبحت السيطرة عليهم تحتاج إلى مجهود وصبر وتكتيك، خاصة بعد انتصارهم في تربة والطائف على قوات الشريف حسين. "فما أن وصلت أنباء مذبحة تربة إلى الطائف، حتى أُصيب سكانها بالرعب والخوف. وبدأ أفراد الأسرة المالكة والأعيان والتجار، الذين كانوا قد ذهبوا إلى المنتجع الصيفي في الطائف، يعودون إلى مكة من جديد. وطالب المسؤولون البريطانيون، الذين كانوا يشعرون بالتزام أدبي نحو الشريف حسين، بالتدخل العسكري؛ وطالب القناصل الأجانب البريطانيون بفرض عقوبات عسكرية، اقتصادية، ومالية على ابن سعود، بل إن الحكومة البريطانية نفسها في حالة من الجنون المؤقت، الذي لم تستطع معه أن تهتدي إلى ما يجب أن تفعله، بدأت أولاً بإصدار قرارات تُهدد بها ابن سعود، ثم راحت تغير تلك القرارات، بعد ذلك، سعياً منها إلى عدم تكدير موقفها معه".

"وفي كل الأحوال، لم تعد القضية قضية ابن سعود وإنما قضية الإخوان. وأصبحت المسألة الأساسية تتركز على مقدار الضغط، الذي يمكن أن يمارسه ابن سعود على الإخوان، حتى يتمكن من السيطرة عليهم، وبفرض أن ابن سعود كان على استعداد لذلك، فما هو مدى استجابة الإخوان لنصيحته لهم بعدم المضي قدماً في الغزو. وإذا ما نحينا ذلك جانباً، نجد أن الحكومة البريطانية كانت مضطرة إلى مراجعة الموقف برمته، وإعادة تقييم المشكلة في ضوء التزاماتها قبل الطرفين، وفي ضوء مصالحها الخاصة في المنطقة".

5. محمد جلال كشك[12]

أ. رؤية الدراسة للحركة

إنّ أهم ما تقدمه دراسة كشك عن حركة الإخوان، أنها صدرت عن رؤية نقدية منهجية أحاطت بأكثر الدراسات أو الآراء السابقة، خاصة التي كتبها المستشرقون حول الحركة. فتطرق كشك إلى أراء فيلبي، وأمين الريحاني، وجلوب باشا، ومحمد المانع، وحافظ وهبة، وغيرهم. فحلل أفكارهم ونتائجهم، ثُمّ عرض فكرته الخاصة عن الإخوان. يقول: "كما كانت فكرة الإخوان من عبقرية عبدالعزيز وحده، فإن تصفيتهم كانت مهمة مستحيلة إلاّ على عبدالعزيز .. أو كما قيل "من يُحَضّر الجان يعرف كيف يصرفه". وكما كانت الظاهرة محيرة، وفوق قدرة التفسير بالمنطق العادي ... فإن انشقاق الحركة، وتمردها، ثم انهيارها السريع، عسير على الفهم، يفوق القدرة على التفسير، إذا ما استعان بالمنطق الجاري، والروايات التي تستظرف الأخبار، أو تتجنب المواجهة الموضوعية، أو محاولة البحث عن أسباب في نقص خلقي، أو سوء نية في أحد الطرفين أو هما معاً .. مع أن قناعتنا هي أنه ما من طرف في القضية يستحق الإدانة بمسؤولية ما حدث! أو تسيء الحقيقة إليه .. بل كل مضى إلى مصيره المحتوم، وكل لعب الدور الذي يفترض فيه أن يلعبه، ويتوقع منه".

ب. الإخوان والملك عبدالعزيز

يرى محمد جلال كشك "أن قوات الإخوان تمثل لوناً من جيوش التحرير والجهاد، وأن كل الجيوش، التي كانت لها مهمة سياسية من خلال تربية عقائدية، لا بد عقب النصر من دخولها في مواجهة مع القيادة المدنية، فإمّا أن يتولى العسكر السلطة، ويصبح الجيش هو الطريق إلى الحُكم، أو تُصفي القيادة السياسية، العسكر المنتصر! حدث ذلك في الصين، وفي إسرائيل، وفي جيش التحرير الجزائري، وفي روسيا .. وقبل ذلك في المملكة العربية السعودية.

وفي كل الثورات، فإن الخلاف يبدأ عندما يصل الخط البياني إلى نقطة الذروة، عندها يحدث الانشقاق، ويبدأ الانفراج، الذي يظل يتسع بانحداره من القمة إلى القاعدة، حتى يتحول إلى صدع".

ويرى محمد جلال كشك، أن مرد الخلاف بين الإخوان والملك عبدالعزيز، أن الإخوان اختاروا مواصلة الثورة، بحكم تربيتهم وعقيدتهم وتكوينهم كمؤسسة عسكرية، حتى ولو كان الثمن تعريض الدولة السعودية الناشئة للخطر.

بينما اختار الملك عبدالعزيز بناء الدولة، والمجتمع الإسلامي، في بلد واحد، ليكون نموذجاً وحافزاً، لتجدد الثورة وانتشارها، عندما تأتي اللحظة المناسبة. ومن ثم كان عليه أن يعترف بالحدود، والكيانات، والسيادات، لأنه لا يملك القدرة على إزالتها، ولأن استمرار الثورة، يعرض "حصن الإسلام" للخطر، بل للزوال! ويرى محمد جلال كشك أن خلاف الملك عبدالعزيز مع الإخوان ليس أمراً جديداً، بل هو الخلاف المشهود في جميع الثورات، ومرده إلى أيهما أجدى: الثورة الدائمة .. أم بناء دولة الثورة؟! ولا أستطيع أن أتذكر حالة واحدة انتصر فيها تيار الثورة الدائمة .. وبقيت الثورة أو الدولة ..! "فإذا شئنا أن نجلس في مقاعد القضاة، فيمكننا القول إن رأي الإخوان كان يعني ضياع الدولة والثورة معاً .. أمّا موقف عبدالعزيز فكان المتفق مع كل الخيارات التي سبقته، وإن كانت التطورات حالت دون تنفيذ ما أراده".

ج. متى بدأ الخلاف بين الإخوان والملك عبدالعزيز

وفي تحديده لأسباب هذا الخلاف، يرى محمد جلال كشك أنّ الخلاف بدأ تحت أسوار جدة، فمنذ أن دخل "الإخوان" الحجاز تفجّر التناقض، وبدأت الأزمة، "فطالما ظلوا شرق الحجاز، لم يكن هناك فارق أساسي في أسلوب الحياة بينهم وبين "المشركين"، ولكن في الحجاز، تتجمع شتى الحضارات والثقافات والتقاليد من مختلف المجتمعات الإسلامية، فبدأ التنافر على الفور بين البدو المسلمين المتطهرين، الذين يريدون الإسلام في أكثر صوره تجريداً، ويرون في أبسط الطقوس مظهراً من مظاهر الوثنية، وبين المجتمع الحجازي المدني، الشديد الاهتمام بالطقوس، مع ما يبدو من عدم اهتمام أو حتى لا مبالاة  أو عدم تقدير لعظمة المكان الذي يعيشون فيه.
"وقد اضطر ابن سعود للتدخل أكثر من مرة ليمنع الإخوان من التعبير ـ بأساليبهم ـ عن سخطهم على أهل مكة. واستطاع الحكم السعودي أن يطمئن المكيين والحجازيين، بل والمسلمين عموماً، بتدخله للحد من تشدد الإخوان، ولكن على حساب علاقته مع هؤلاء، بل استطاع الحجازيون، بخبرة أهل المدن، أن يدقوا إسفيناً بين الثورة والدولة، ابتداء من طلبهم التسليم لأمير سعودي، وليس لقائد إخواني، معلنين بذلك ثقتهم وقبولهم للدولة وشكهم في الثورة أو رفضهم لها".

د. أسباب تصاعد الخلاف

ويرى محمد جلال كشك أن من أسباب تصاعد الخلاف بين الإخوان والملك عبدالعزيز، رفض الإخوان لمنطق السلطة والالتزام بحدود الدولة وقوانينها ونظمها. وأنّ الخلاف في جوهره، هو رفض الإخوان أن تقوم دولة عصرية بسيوف المؤمنين. "بقدر ما كان الشّعار الإخواني صحيحاً من الناحية النظرية، كان يبدو مضحكاً وغريباً من الناحية العملية، كذلك كان مسلك دولة عبدالعزيز، فهي من ناحية تبدوا ابتعاداً عن حرفية النصوص، ومن ناحية أخرى تبدو التطبيق الوحيد الممكن للمحافظة على دولة منتمية لهذه النصوص .. وهكذا اتفق النقيضان واصطدما في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، اتفق الإخوان وعبدالعزيز على استنكار المكوس أو الضرائب والجمارك من الناحية النظرية. وهذه الضرائب ظاهرة حديثة، قد تكون لها ضرورياتها، بل ومن الممكن تَلَمُس فتوى بمشروعيتها، وهو ما أخذت به الدولة، ولكن لا سبيل إلى إنكار قوة حجة الذين رأوا فيها مخالفة لنظرية وقيم المجتمع الإسلامي، القائم على حرية العمل، حرية التملك، حرية التجارة .. فما دام المالك أو التاجر يؤدي الزكاة أو حق المال، وما دام المستهلك يؤدي حق المجتمع، وهو العمل للقادر عليه، فليس للسلطة أن تتدخل بينهما بالمكوس .. والتحكم في الأسعار مرفوض أيضاً أو قل مكروه، أو غريب عن الفكر الإسلامي، والنظام الإسلامي، والدولة السعودية لم تحاول فلسفة الأمر، أو الزعم بإسلاميته، بل أوردته تحت باب الضرورات التي تبيح المحظورات، وفعلاً بعد أن تفجّر النفط، ألغت الدولة المكوس والضرائب".

هـ. أسباب انهيار الحركة

ولعل من أمتع وأعمق ما تقدمه دراسة كشك، نظرته الموضوعية لأسباب انهيار حركة الإخوان، وتصفيتها، يقول:

"ويمكن القول، بأن الإنجليز أرادوا ثورة الإخوان، وساعدوا على تأزمها وانفجارها. وجرها إلى المصير، الذي انتهت إليه، ولكنهم، بالطبع، لم يخترعوها. فكما قلنا، لا الإنجليز ولا أية قوة، مهما كان تفوقها أو نفوذها، تستطيع اختراع ثورة، أو تفجير ثورة في بلد ليست حبلى بها بالفعل، فالعقيم لا تجهض، أو لا حاجة لإجهاضها. فما كانت بريطانيا بالتي تطمئن على مستعمراتها وعملائها، إذا ما ظل عبدالعزيز يقود تلك الحركة، سواء قادها للجهاد المباشر بعد فتح الحجاز، أو اعتمد أسلوب تصدير الثورة، بالأفكار والدعاة والمتطوعين مع تطوير الحركة وأفكارها داخل السعودية. ولذلك، كان لا بد من المواجهة. وقد لجأ الإنجليز لأسلوبهم المفضل، وهو تفجير القوة المضادة من داخلها. فلما كشفهم عبدالعزيز، وتمكن من سحق مقاومة المتمردين، في المواجهة العسكرية، التي لم تكن أبداً بحجم أو شراسة ما كان يفترض في هذا الصدام. وأيضاً، بالمواجهة العقائدية، التي سحبت قواعد الإخوان من حول الدّويش، التي رأت الطريق الخاطئ الذي يسير إليه المتمردون، فعادت إلى طاعة الملك، ولو بتحفظاتها. وقد رأينا غلبة العناصر غير الإخوانية بجيش الدّويش، في المواجهة الثانية بعد السّبَلَة. عندها وجدت بريطانيا أن الهدف الرئيسي قد تحقق، وهو تفجير قنبلة الإخوان داخل نجد وليس خارجها. وتخلصت، بذلك، من سيفهم المعلق فوق إمبراطوريتها، في جزيرة العرب وما حولها. وأنه لا سبيل إلاّ عبدالعزيز، الذي خرج أقوى من الناحية العسكرية داخل الجزيرة".

 



[1] رحالة لبناني الأصل، أمريكي الجنسية، مسيحي الديانة، ومُثقف مُفكر مهموم بقضية الوحدة العربية.

[2] دَّين أي تمذهب بمذهب الوهابية، في اصطلاح أهل نجد.

[3] وأهل نجد يدخلون في المنادة "ال" التعريف على الاسم فلا يقولون يا إخوان، ويا أمير، بل "يا لاخوان" و"يا لامير".

[4] ازْكرت لفظة فارسية معناها من لا أهل له ولا عيال، وتطلق في نجد على من يقضي أيامه في قصر السلطان أو الأمير أو خادماً حول القصر ينتظر قسمة ربه. والزكرت كثير الأسفار عادة وكثير الأخبار، مرن العقل والخلق، يحسن الخدمة، ويحسن، كذلك، التهكم على الإخوان.

[5] جمع مطوَّع أي المطوع في خدمة الله، وأصله متطوع فأُدغم.

[6] هارولد ديكسون ضابط بريطاني برتبة الكولونيل، وكان يشغل وظيفة الوكيل السياسي لبريطانيا في الكويت.

[7] هكذا ورد الاسم في النص، بدلاً عن مزعل باشا.

[8] يُعد فَيْلبي أشهر بريطاني عاش في صحبة الملك عبدالعزيز. فقد اعتنق الإسلام، وتسمى عبدالله، وقد كان معجباً بقدرات الملك عبدالعزيز. وفيلبي خير من فهم حركة الإخوان، وإن كان شديد النفور منها. ومن أهم مؤلفاته: ـ قلب الجزيرة Arabian Highlands. ـ العربية الوهابية Arabia of the Wahhabis. ـ العربية السعودية Saudi Arabia.

[9] عربي المولد، أمريكي الجنسية، كتب رسالته لنيل درجة الدكتوراه في موضوع: الإخوان السعوديون في عقدين: 1910 ـ 1930م؛ ولعل هذا الكتاب هو أهم مُؤَلَف موثّق يدرس حركة الإخوان. فهو غني بمصادره الأصلية، من الوثائق الحكومية والمقابلات الشخصية، فضلاً عن الكُتب والمقالات الصحفية والدراسات المنوعة، وأحكام المنهج المطلوب لرسالة جامعية.

[10] هذه هي الكلمة العربية الدالة على "الجهل". أما الجاهلية فهي تشير إلى ما قبل الإسلام التي أطلق عليها المسلمون اسم "أيام الجهل" (الجاهلية).

[11] المقصود بهم العلماء الشرعيون.

[12] كاتب وصحفي مصري، يُعد عميداً لمدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ. عالج حركة الإخوان في مؤلف ضخم بعنوان: "السعوديون والحل الإسلامي"، حيث أفرد للحركة باباً خاصاً تجاوزت صفحاته 150 صفحة.