إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود




الملك عبدالعزيز آل سعود
الملك عبدالعزيز وملك أفغانستان
الملك عبدالعزيز والملك حسين بن طلال
الملك عبدالعزيز والملك عبدالله بن الحسين
الملك عبدالعزيز والملك فاروق
الملك عبدالعزيز والملك فيصل بن الحسين
الملك عبدالعزيز وتشرشل
الملك عبدالعزيز يطالع جريدة





القسم الثالث

القسم الثالث

صفاته وخصاله

 

يختلف الملك عبدالعزيز، في عاداته وأطواره، عن معظم الملوك والأمراء في زمانه، لأن للبيئة العربية الصحراوية، التي نشأ فيها، أثر في تكييف عاداته، خصوصاً أنه لم يغادر بلاده إلاّ إلى الكويت والبصرة والبحرين ومصر. ولم يزر البلاد الأوربية، ولم يقرأ كتب الأوربيين ومؤلفاتهم، ولم يطلع على أخلاقهم وعاداتهم.

1. صفاته الجسمية

جـاء وصف الأمير عبدالعزيـز بن سعود في جريدة (الإجيبشن ميل)، الصـادرة بالإنجليزية في 27 نوفمبر عام 1916م، على النحو التالي:

"لا يكاد ابن سعود يبلغ الأربعين من عمره الآن، على أن هيئته تدل على أكثر من ذلك. تركيبه الجسماني متناسق، طوله يزيد على ستة أقدام، يدل مظهره على أنه من الذين تعودوا الزعامة، ضخامة بنيته لا توجد في البدوي العادي، فيه كذلك المزايا التي يمتاز بها العربي الأصيل، وهي استقامة جانب طلعته، ولحامة خيشومه، وظهور شفتيه، وطول ذقنه الرقيقة. يداه نحيفتان وأصابعه لطيفه، وتلك سمة تكاد تكون عامة بين أبناء القبائل العربية الأصيلة، خطواته الواثقة، حركته الرزينة الهادئة، وابتسامته الحانية المشرقة، ونظراته العميقة المتأملة، وكلها سمات تخالف سمات الرجل الغربي، ذي الشخصية القلقة، مما زاد في وقاره ومنظره المهيب".

ووصف أمين الريحاني السلطان عبدالعزيز بن سعود عام 1341هـ/1922م، وكان يومئذ في السابعة والأربعين من عمره، بقوله:

"السلطان عبدالعزيز طويل القامة، مفتول الساعد، شديد العصب، متناسق الأعضاء، أسمر اللون، أسود الشعر، له لحية خفيفة مستديرة، وشارب يأخذ منه حسبما ورد في السنة المطهرة، له من السنين سبع وأربعون".

وفي جسمه كثير من الندوب، من أثر ما أصابه في المعارك من الجروح، وفي يده إصبع مشلول. ولما تقدم في السن تغيرت بعض ملامحه، وأصاب الرمد عينه اليسرى، فكان يضع نظارة يستعين بها في القراءة. ثم ازداد ضعف عينه اليسرى، وذهب نورها. ولذلك كان يدني الورقة أو الكتاب من عينيه ليتبينه جيداً.

2. كنية الملك عبدالعزيز وألقابه

كان للملك عبدالعزيز كُنى وألقاب رسمية، وغير رسمية:

أولاً: غير الرسمية وهي: أبو تركي، طويل العمر، محفوظ، سُعِّيد، ابن سعود، ابن السعود، الشيوخ، الإمام، وذلك كالتالي:

كان أحب الكنى لعبدالعزيز، أن يقال له: أبو تركي (وهو ابنه البكر)، يدعوه به رجال القبائل. وكانوا، في أحيان أخرى، يكنونه ببعض أبنائه الآخرين. وكلهم حبيب إليه، أثير عنده.

أما توجيه الخطاب إليه بطويل العمر، فهذا يشاركه فيه أكثر الناس في المملكة، عندما يتحدث أحدهم إلى الآخر. وكان أحب إليه من دعوته بعظمة السلطان، أو جلالة الملك.

وكان البدو يخاطبونه بقولهم: "يا محفوظ".

وكان المنادي يتقدم ركب الملك عبدالعزيز، عندما يسير بالإبل، حتى إذا سمعه أحد البدو أو الحضر يقصده مسرعاً وينادي على الملك، ليقضي له ما يريد من حاجة، بقوله: "يا سُعَيِّد"[1].

ولم يكن يرتاح إلى تعريفه "بابن سعود" أو "ابن السعود"، في الكتابة عنه أو الحديث إليه،  مع أنهما أشهر ما عرف به من كناه وألقابه، في الشرق والغرب.

وإذا قيل في حاشية الملك عبدالعزيز، وبين رجاله القريبين منه أو البعيدين عنه، (حضر الشيوخ) أو (فعل الشيوخ)، كان هو المعني بذلك، حتى في أيام أبيه. لأن لأبيه لقباً آخر يعرف به، هو الإمام. ولقب "الشيوخ" شائع في جزيرة العرب، لكل ذي سلطان أو رياسة. يطلق عليه في ديرته وما يتبعها، تمييزاً له عن غيره من شيوخ القبيلة أو رؤسائها. وقلما يجري لفظ "الشيوخ"، على ألسنة غير النجديين منهم. ومن نطق به من أهل الحجاز أو نزلاء بلاده، إلا القبائل، فهو مقلد يتشبه بهم أو يجاريهم.

وهناك اللقب الشرعي الخاص، لقب الإمامة، آل إليه بعد وفاة أبيه. وكان أسلافه، من عهد محمد بن سعود المتوفى سنة 1179هـ /1765م، يقرن اسم كل منهم بالإمام، كما هو معروف. وللإمامة في أعناق المسلمين حقوق، في الطاعة والأحكام، وكان لقب الإمام، منذ دعي به عبدالعزيز، أحب ألقابه إليه.

ثانياً: ألقابه الرسمية، مما خاطبته به الحكومات وبعثاتها، في مكاتباتها وعلى ألسنة ممثليها ووفودها وما ورد في صحفها، وما كان يقترن به اسمه في المعاهدات الدولية وما يشبهها من عقود ورسائل، وهي: أمير نجد ورئيس عشائرها، الباشا والي نجد وقائدها، سلطان نجد، عظمة سلطان نجد وملحقاتها، جلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية. وذلك كالتالي:

أول ما عرف به من الألقاب أيام اشتغاله بتوحيد أجزاء نجد، والقضاء على الفتن فيها، ومعاركه مع ابن رشيد وغيره، هو: "أمير نجد ورئيس عشائرها".

وبعد أن حُوّلت نجد إلى ولاية ومنح لقب باشا، كتب إليه الترك بلقب:  "والي نجد وقائدها عبدالعزيز باشا".

ولما عقد مؤتمر الرياض سنة 1339هـ /1921م، وحضره علماء البلاد ورؤساؤها، تقرر أن يكون لقبه  "سلطان نجد"، وكذلك لقب من يخلفه بعده. واعترفت الحكومة البريطانية له، ولمن يخلفه من ذريته بهذا اللقب، في27 ذي الحجة 1339هـ /22أغسطس 1921م، فجعلت تنعته بـ (صاحب العظمة سلطان نجد).

ولما ضمت إمارة آل عائض في تهامة عسير، وإمارة حائل في الشمال إلى سلطنة نجد سنة 1340هـ /1922م سميت بلاده  سلطنة نجد وملحقاتها، وجعل لقبه: "عظمة سلطان نجد وملحقاتها".

وبعد دخوله جدة سنة 1345هـ /1926م اجتمع أعيانها وأعيان مكة وبايعوه ملكاً على الحجاز، فأصبح لقبه: "جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها"، وأُبلغ ممثلو الدول الأجنبية ذلك فاعترفت به.

وفي 25 رجب 1345هـ/ 19يناير1927م بايعه أهل نجد، في الرياض، ملكاً لنجد، فأصبح لقبه: جلالة "ملك الحجاز ونجد وملحقاتها".

وفي 17 جمادى الأولى 1351هـ صدر مرسوم ملكي في الرياض، بتوحيد أجزاء المملكة الحجازية والمملكة النجدية وملحقاتها، وتسميتها جميعاً المملكة العربية السعودية ابتداء من يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ /22 سبتمبر 1932م، فأصبح لقبه الرسمي من هذا اليوم: صاحب الجلالة "ملك المملكة العربية السعودية".

وبهذا  اللقب دعي الملك عبدالعزيز بين رجاله وفي خاصته، ثم في مختلف أوضاعه السياسية وعلاقاته الخارجية رسمياً.

3. تدينه وتقواه

كان الملك من بداية حياته حتى نهايتها، مسلماً تقياً ورعاً، يتبع أوامر الشريعة. فهو من أسرة حاربت طوال قرنين من الزمان من أجل العقيدة السلفية الصحيحة، وإرشاد الناس، ومحاربة البدع والخرافات. ومع أنه لم ينل قسطاً وافراً من التعليم، في صباه وشبابه، لكن ذلك لم يمنعه من أن يقف على معاني آيات القرآن الكريم ويفهم الكثير من الكتب الدينية. وكان يخصص نصف ساعة في اليوم لقراءة القرآن، ويحافظ على تلاوة الأوراد والأذكار. وكان نادراً ما يتحدث أحد من دون أن يستشهد بآية من القرآن الكريم، الذي كان يستقي منه فيضاً لا ينضب، من الحكمة والإلهام. وغني عن القول، أنه لم يشرب الخمر أو المسكرات، ولم يدخن. وكان يؤمن أن ما أصابه من توفيق، فهو من الله وحده. ولما بسط سلطانه على الحجاز عظمت مسؤولياته الدينية، وأصبح مسؤولاً عن تأمين الحج، وتوفير الراحة للحجيج، وخدمة الحرمين الشريفين.

وقد منحته معتقداته الدينية قوة في مختلف الأحوال. من دون أن يكون مختالاً فخوراً بنفسه، بل متواضعاً بسيطاً. 

تعلم الملك عبدالعزيز من دينه نظاماً دقيقاً لحياته، في بلاده الصحراوية القاسية. وكانت أعمال الملك اليومية وأوقاتها، ترتبط بأوقات الصلاة، التي تبدأ بصلاة الفجر، وتنتهي بصلاة العشاء.

وفي أسفاره في الصحراء، كان ينطلق بعد ساعة ونصف من شروق الشمس، ويتوقف عند وقت الصلاة، ثم يتابع سيره حتى قبيل غروب الشمس.

ولمّا سافر من جدة إلى مصر، على ظهر الطراد الأمريكي، أخذ يسأل عن جهة القبلة، ولم يترك فروض الصلاة وهو على ظهر الفلك. ولم يتمكن تشرشل من إشعال سيجاره الشهير في حضرة الملك، لعلمه بمدى التزامه بحرمة التدخين.

وربما كان أعظم مكاسبه من استيلائه على الحجاز، أنه تمكّن من أداء الحج كل سنة. وكان الملك يقيم احتفالاً في مساء اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، لكل زعماء العالم الإسلامي، الذين أدوا الحج. وكان يلقي قبل المأدبة خطاباً يشتمل، عادة، على نصيحة طيبة وتوجيه ديني سليم. وكان هذا الاحتفال، أو المؤتمر الإسلامي العالمي، مفتوحاً لكل الحجاج البارزين. وكانت الجموع الغفيرة تزدحم لسماع كلمات جلالته. وبعد أن يلقي خطابه يفتح المجال لكل زعيم، يريد أن يعبر عن رأيه في الأحداث الجارية.

4. برّه بوالده وبأسرته

كان الأمير عبدالعزيز، بعد أن تولى الإمارة في الرياض، يزور أباه الإمام عبدالرحمن في قصره، صباح كل يوم. ويزوره والده بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. وعندما يصل الإمام عبدالرحمن ، ينهض الأمير عبدالعزيز من مكانه، فيستقبله، ويقدمه إلى صدر المجلس، ويجلس بين يديه مع الأخوياء (المرافقين)، أو بين الزوار. وكان حين يخاطب أباه، يجعل لنفسه صفة المملوك، ويجلس بين يديه صامتاً، ينتظر ما يأمره به.

ويروي أحد مرافقي الملك، عن تأدبه مع أبيه قائلاً: "أذكر يوماً وقد عدنا من مكة إلى الرياض، في ركاب الملك عبدالعزيز، وكان الإمام عبدالرحمن حياً، فوصلنا إلى بلدة مراة، فبعث يستأذن أباه في دخول الرياض، وعين الوقت الذي يمكن أن يصل فيه إلى الرياض. وفي صباح اليوم التالي مشى حتى بلغ أسوار المدينة قبل الميعاد الذي حدده بخمس وأربعين دقيقة. ولم يشأ أن يدخل المدينة حتى بعث يستأذنه مرة أخرى. وقصد بيت أبيه، فسأل عنه، فقيل له إنه لم يجلس بعد. فجلس في فناء الدار ما يقرب من عشر دقائق. ولما نزل الإمام عبدالرحمن إلى مجلسه، جاء الخادم، وأخبر الملك بإذن والده بالدخول عليه، فدخل، وقبّل رأس أبيه، وجلس على الأرض، ووالده على أريكة، ويده على ركبة أبيه. قال المتحدث: لم يكن عبدالعزيز في ذلك الموقف ملكاً، وإنما كان في مظهر المتأدب المخلص المطيع. شأنه معه في سائر المواقف، طاعة وحباً".

وكان يرجع إلى أبيه، في كل ما يهم من أمور الدولة. وقلما يعقد أمراً ذا بال، إلاّ بعد استشارته واستئذانه. وكلما وردت عليه رسالة، لها أهمية خاصة، أرسلها إلى والده ليطلع عليها، أو ليبدي فيها رأيه.

وعندما أراد عبدالعزيز السفر من الرياض إلى الحجاز، في أواخر سنة 1346هـ/ 1927م، دخل على أبيه يودعه. وكان يخشى أن يكون الوداع الأخير، فكان يقبل يديه ويسأله: هل أنت راض عني؟  فيجيبه الإمام، وهو جلد صبور: "لا شك". فيعود إلى يديه يقبلهما، ويعيد السؤال: والدي هل أنت راضٍ عني؟  فيجيبه: لا شك في ذلك. وما زال يكرر السؤال، ووالده يجيبه من صميم قلبه برضاه؛ حتى شفى نفسه. وكان ذلك آخر لقاء له بأبيه، وصوت رضاه الأبوي يرن في أذنه، حتى هذه الساعة.

اعتاد الملك عبدالعزيز، أن يطلع أباه على كل ما يريد توجيهه إلى حكام العرب، والأجانب، من الرسائل، لمعرفة رأيه، ولإحاطته علماً بما فيها. ولكن أباه كان يردها مع الرسول كما هي.

قال حافظ وهبة: لاحظت ذلك في إحدى زياراتي للإمام عبدالرحمن، فقلت له: إن عبدالعزيز أرسلها إليكم، لترشدوه برأيكم، إذا رأيتم فيها خطأ. فقال: "عبدالعزيز موفق، خالفناه في آرائه كثيراً، ولكن ظهر لنا بعد ذلك أنه هو المصيب، ونحن المخطئون. إن نيته مع ربه طيبة لا يريد إلا الخير للبلاد وأهلها، فالله يوفقه ويأخذ بيده، و إن تنصروا الله ينصركم".

أشار سانت جون فيلبي إلى المرة الأولى التي رأى فيها الأمير عبدالعزيز سنة 1333هـ/1915م، فقال ما خلاصته:

دخلت الرياض، ومعي الكولونيل كانليف أوين، وجندي من الخدمة، وقد ارتدينا الملابس العربية، وكان في استقبالنا إبراهيم بن جميعة، فدخل بنا القصر، إلى غرفة كان فيها شيخ ضئيل الجسم، في نحو السبعين من عمره. سلمنا عليه، ودعانا إلى الجلوس، وجيء بالقهوة، وهو يسأل عن أحوالنا ويلاطفنا.

قال فيلبي: وبينما كنت أقول في نفسي: من هذا؟ وأين ابن سعود؟ إذا بالشيخ ينهض متمهلاً، ويقول: مرحباً بكم، حديثكم مع الابن عبدالعزيز وما كاد يتوارى، حتى انتصب من زاوية المجلس عملاق أقبل علينا، فعرفناه أنه سيد الجزيرة. وكان منطوياً على نفسه تأدباً، في حضور أبيه، فكأن عيني لم تقع عليه.

قال أحمد حمدي الطاهر صاحب كتاب (الحجاز مهبط الوحي):

"حدثني شيخ كبير من علماء مكة، قال:

لما استقرت الأمور للملك عبدالعزيز في الحجاز، حضر والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود من الرياض، ليؤدي فريضة الحج، فدخل المسجد الحرام يطوف بالبيت العتيق، ومعه ابنه الملك عبدالعزيز. فطاف الوالد والولد. ولكن الأب كان قد جاوز المئة (؟) من العمر، ضعيفاً لا يقوى على المشي والتعب، فأدركه الإعياء فهبط على الأرض بعد ثلاثة أشواط من الطواف. فما كان من ابنه الملك، الذي يمكنه أن يصدر الأوامر إلى خدمه وعبيده بأن يحملوه على أكف الراحة، إلاّ أن حمل والده على مرأى من الناس جميعاً ! وأتم بقية الأشواط.

وكان الملك عبدالعزيز بعد وفاة أبيه، لا يذكر اسمه إلا ترحم عليه، وطلب له الغفران. ولا تكاد تعرض مناسبة، إلا أشاد بما كان لوالده ووالدته من فضل في تربيته وتوجيهه. وكان يكثر من زيارة قبر أبيه، الزيارة الشرعية، حينما يكون في الرياض.

وإلى جانب بر الملك عبدالعزيز بأبيه، كان عظيم البر بأسرته، يسأل يومياً عن الجميع. ومن لم يتيسر له أن يزوره منهم، يحدثه بالهاتف، وله مجالس خاصة بالأسرة، لا يحضرها إلاّ أفرادها.

وكانت تلك المجالس أعظم مسرات الملك الخاصة. فكان يحب أن يحيط به أكبر عدد من أقربائه. وكان يعقد في الساعة السابعة صباحاً في أغلب الأيام مجلساً خاصاً يحضره كبار العائلة وأبناؤه وأقاربه، ويتناقشون في أية مشكلة من مشاكلهم، أو يكتفون بالسلام عليه. وكان يجتمع كل أسبوع بكل رجال أسرته، ويجتمع كل أسبوعين تقريباً بكل نسائها على انفراد. وكن يأتين بحجابهن الشرعي، إلا النساء من محارمه فيأتين بغير حجاب. وكان، غالباً، ما يوصي وكلاءه في بومباي ودمشق بشراء أشياء ثمينة ليهديها إلى أفراد أسرته. وكان شغوفاً بأبنائه الصغار، الذين كانوا يجرون في القصر بحرية تامة، ويزورونه في أي مجلس من دون إذن خاص.

5. أعمال البر والإحسان ومبراته الرسمية والخفية

كان الملك عبدالعزيز ينفق من ماله الخاص، على أصحاب الحاجات، ومن يمرون بضائقة، أو المنقطعين، وأبناء السبيل. ويخصص لذلك أموالاً وأرزاقاً تصرف خفية. وقد تناثرت الأخبار في جريدة أم القرى، عن دعمه للمجاهدين في الشام وفلسطين والحجاج، الذين تحول الظروف المادية دون عودتهم إلى ديارهم. ومن ذلك خبر عن قيام الملك عبدالعزيز بتأمين عودة 200 فرد من الحجاج الأفغان والهنود والبخاريين، نفد ما معهم من مال، ورحلوا بالباخرة على نفقة خزينته الخاصة.

وكان في الميزانية العامة للدولة السعودية، باب خاص بأُعطيات الملك ومبراته، مقسم إلى خمسة أقسام: إعانة المؤسسات الخيرية، وأعطيات ملكية مقررة، وأعطيات ملكية غير مقررة، وبدل كساوي، وصدقات.

وفيما يلي نموذج  من هذا الباب، وأقسامه الخمسة، مما صرف في خلال ثلاث سنوات، هي 1366، و1367، و1368هـ /1947، و1948، و1949م، بالقرش السعودي. وكل 100 قرش سعودي تعادل دولاراً واحداً تقريباً:

المجموع

صدقات

أعطيات غير مقررة

بدل كساوي

أعطيات مقررة

المؤسسات الخيرية

السنة

80133507

22145602

32742115

3873315

18477569

2894906

1366

67883078

5668635

17251253

1743836

40781635

2437719

1367

122866626

5654563

22031623

1050210

91545324

2584906

1368

270883211

33468800

72024991

6667361

150804528

7917531

 

أما مبرته الخفية، فيقول عنها الزركلي:

وقع نظري عليها وأنا أقلب صفحات كتاب، طبع حديثاً، قدم لها مصنف الكتاب بما خلاصته أنه كان في سنة 1926، سكرتيراً عاماً لجمعية إعانة المنكوبين في البلاد السورية. سافر مع وفد، إلى الحج لجمع ما يتبرع به حجاج بيت الله الحرام. ثم يقول ما نصه:

في الوقت المعين 13 يونيه 1926م، تشرفنا بزيارة الملك عبدالعزيز آل سعود، ونقلنا لجلالته ما حل بالبلاد السّورية من النكبات، فرد علينا بكلمات ملؤها العطف والتأثر. وحبذ حصر التبرع بجلالته وبالمقيمين في مكة المكرمة من السوريين وغيرهم من المحسنين، من دون الحجاج. ثم قال: أنا رهين رغبتكم في ذلك، وأنا ألبس ما تفصلون. ولو شئت أن أستشير أحداً لما وجدت من هو أفضل منكم. وأنا مستعد لكل ما تريدون . فشكرناه وضاعفنا الثناء على لطفه. وأجبناه: إن الأمر يعود لجلالتكم، وسنكون من الشاكرين، قل ما تجودون به أو كثر. ولما لم يعفنا من أن نقترح، راعينا ظروفه وكانت صعبة، وذلك لأن جلالته لم يضم الحجاز إلاّ منذ سنتين فقط، وكانت النفقات التي يتكبدها في الظرف الحاضر غير قليلة. فوفود المؤتمر الإسلامي المنعقد في مكة ضيوف على جلالته، ومثلهم الصحفيون العديدون، الذين وفدوا لحضور المؤتمر، وأهله وذووه الذين قدموا إلى مكة، لأداء فريضة الحج، يبلغون مع أسر ابن رشيد وابن عائض، الذين كان قد ضم بلادهم، يبلغون ألفي نسمة، حتى إن الإبل التي كانت تنقل النساء تزيد على الأربعمائة، وكل ذلك على حساب جلالته. ولهذا رأينا ألا نثقل عليه بأكثر من ألف ليرة عثمانية ذهباً، ولكن كم أكبرنا روح جلالته عندما قال: طيب! هذا باسمي وأما باسم نجد؟ فسررنا لهذا العطف بمثل هذا اللطف وأجبناه: وكذلك نجد. فقال: الحقيقة إن هذا قليل، وهذا قليل. فليكن المبلغ ألفين وألفين. ولو كان الظرف مساعداً لما اكتفيت بذلك. ثم أردف يقول: وعلى كل حال، من المستحسن أن يشار إلى أن هذا المبلغ جمع من المحسنين على يد الشيخ عبدالله الفضل ـ وكان حاضراً ـ وأمره بدفع المبلغ.

هذه نتف من أخباره في الكرم، شهدت بعضها. أما عطاياه للوافدين عليه، ولبعض خاصته في المناسبات، فلو كان من المفيد جمعها لجاءت أخبارها في كتاب. وناهيك بما كان يكرم به زعماء القبائل وشيوخها، من مال ومبرة وأكسية، لهم ولأفراد قبائلهم. وما من أحد منهم دخل قصر عبدالعزيز، أو أدى له خدمة، أو أكل على مائدته، إلا انتظر (الشرهة) وهي ( العطية) في لغة البادية.

6. شجاعته ومعاركه

لم يخلد عبدالعزيز بن عبدالرحمن إلى الدعة والسكينة منذ أن أصبح قادراً على تقلد الحسـام وامتطاء الجواد. فقد أمضى ثلاثين عاماً يخوض المعارك، في أرجاء نجد كلها، حتى أصبح محارباً وقائداً، لا يجاريه أحد في معارك الصحراء. ونفخت فيه تلك المعارك روحاً من الجرأة والشجاعة والإقدام، وصهرته أهوال القتال.

كانت الشجاعة أبرز صفات الملك عبدالعزيز. فقد اشتهر بالجرأة والبسالة في الحروب، وكان دائماً في طليعة جيشه. وتروى قصص كثيرة عن شجاعته. ويتحدث الناس عن شجاعته في تحمل آلام الجراح، التي حدثت له في معاركه. فذات مرة تحمل جرحاً خطيراً في معدته، طوال مدة الحملة التي استمرت ستة شهور، قبل أن يُعالج علاجاً طبياً وافياً.

ويُروى عنه قوله: "لو كانت الحروب العربية كالحروب، التي نسمع عنها في البلاد الأجنبية، ملوكها وقادتها يرتبون خطة الحرب،وهم جلوس في منازلهم، والناس ينفذون أوامرهم، لهانت الحرب. ولكني في حروبي على خلاف ذلك، لقد كنت في أكثر المعارك في طليعة القوة المهاجمة. وبهذا كنت أرى استبسال من معي في القتال غير بسالتهم لو كنت وراءهم".

و لم تكن شجاعة الملك عبدالعزيز اندفاعاً أو تهوراً، يعميه عن الأخطار المحيطة به، بل كانت لديه، بجانب الشجاعة، صلابة هادئة، لرجل يدرك بوضوح الخطر المحدق في خضم الحدث، فيواجهه مواجهة صحيحة. فشجاعته مبصرة وليست عمياء. ولعله في موقفه هذا ما يذكِّر بقول المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان         هو أول وهي المحل الثاني

ولم يفتخر ابن سعود يوماً من الأيام ببطولته، بل لم يكن يرى في نفسه أنه بطل من الأبطال. يقول الزركلي: قال (الملك) لي مرة: "إن ما وهبني الله لم يكن بسبب قوتي، بل بسبب ضعفي، وحاجتي إلى قوته سبحانه". وكان شعوره بذلك هو الذي حثه على ما تحلى به من شجاعة وإقدام. ولم يكن يشعر أنه أشجع من الآخرين. لكن الله منحه موهبة خاصة؛ إذ كانت ردود فعله في الأوقات الحرجة، من السرعة والذكاء بحيث تمكنه من التصرف بطريقة أفضل من غيره. وكان يؤمن أن الله قد أنعم عليه بحظ عظيم. ويقال أن سعود بن عبدالعزيز بن سعود، ابن عم الملك وزوج شقيقته، الذي كان معارضاً له، افتخر ذات مرة، في لحظة من لحظات غضبه، بأنه أشجع كثيراً من الملك. وحين بلغ الملك ذلك لم ينزعج، وإنما ابتسم ابتسامة عريضة وقال: "إن ما ذكره سعود صحيح. فهو أشجع مني، لكني أعظم حظاً منه". وقال مرة: "إن أنعم الله على أولادي بحظ، مثل الذي أنعم به عليّ، فسيكونون قادرين على حكم العالم العربي كله".

قاتل قبيلة العجمان، وقتلوا أخاه سعداً، وجرح هو في تلك الوقعة، وفي غيرها حتى صارت الندوب في جسمه دلالة واضحة على شجاعته. ولم يكن يخشى اغتياله، حتى أنه كان يطوف في الحرم من دون حراسة مشددة، فتعرض لاعتداء من بعض اليمينيين، كما سيأتي.

وكان يتندر بالمواقف، التي اضطر فيها للنجاة بنفسه، فقد رُوي عنه أنه كان مع اثنين من أصحابه، أحدهما فيصل الدويش، وخرجت عليهم الخيل، فهلع قلبه، ولكنه تجلد مخافة العار. وعندما رأى صاحبيه قد لويا عنان فرسيهما، تبعهما (منحاشاً) أي فاراً، مبتعداً. ويقول: لو فررت قبلهما لفضحاني بين العرب.

وعندما آخذه قادة الإخوان على طول انتظارهم، وهم يحاصرون جدة، بقولهم: ما هذه الجبانة يا عبدالعزيز؟  أجابهم: الرأي، الرأي، الأناة، الأناة.

المعارك التي شارك فيها

خاض الأمير عبدالعزيز بن عبدالرحمن أول معركة، عندما اشترك مع والده الإمام عبدالرحمن، في الحملة التي أعدها الشيخ مبارك بن صباح، لقتال ابن رشيد المسيطر على نجد، والتقت قواته في الصريف، قرب الطرفية بالقصيم في26 ذي القعدة عام 1318هـ/ 17 مارس 1901م. ولكن عبدالعزيز ترك الحملة، ومعه فرقة من جنوده، واتجه إلى الرياض، وهاجم البلدة في مجازفة خطيرة، ودخلها. واضطر لترك البلدة بعد أن وجد مقاومة عنيفة ممن تحصنوا بالحصن. كان ابن رشيد قد هزم قوات ابن صباح في تلك الموقعة المسماة: "الصريف".

وخاض الملك عبدالعزيز بعد ذلك غمار معارك وغزوات عديدة، وغارات خاطفة، حقق في أغلبها انتصارات حاسمة، ومن هذه المعارك والغزوات:

     1.   استرداد الرياض من يد ابن الرشيد (1319هـ/ 1902م ).

     2.   الدلم والسالمية قرب الخرج: ضد عبدالعزيز بن متعب ابن رشيد (ربيع الأول 1320هـ/ يونيه 1902م).

     3.   غزوة "جوّ لبن": ضد قبيلة مطير (1321هـ/ 1903م ).

     4.   السر (وقعة حسين بن جراد): ضد قوات ابن رشيد (18 ذي الحجة 1321هـ/ 5 مارس 1904م).

     5.   البكيرية: ضد ابن رشيد والأتراك (ربيع الثاني 1322هـ/ 15 يونيه 1904م).

     6.   الشنانة: ضد ابن رشيد والأتراك (18 رجب 1322هـ/ 29 سبتمبر 1904م).

     7.   روضة مهنا: ومقتل خصمه عبدالعزيز بن رشيد فيها (18 صفر 1324هـ/14 أبريل 1906م).

     8.   الطرفية: ضد ابن رشيد (5 شعبان 1325هـ/ 14 سبتمبر 1907م). وفيها كبا جواد الأمير عبدالعزيز فوقع على الأرض، وجرح، وكسر عظم في كتفه الأيسر، فأغمي عليه.

     9.   الصباخ: ضد ابن رشيد ( شعبان 1325هـ/ سبتمبر 1907م ).

    10.  هاجم بريدة للمرة الثانية، واستولى عليها، وأخرج منها محمد أبا الخيل (20 ربيع الثاني 1326هـ/21 مايو 1908م.

    11.  الأشعلي قرب حائل: ضد حمود بن سلطان بن رشيد (5 ربيع الأول 1327هـ/ 28 مارس 1909م).

    12.  هدية: مع ابن صباح ضد ابن سعدون شيخ المنتفق ( ربيع الأول 1328هـ/ مارس 1910م).

    13.  وقعة الحريق: عندما ثار الهزازنة مناصرين العرائف، وهم حفدة سعود بن فيصل (1328هـ/1910م ).

    14.  فتح الأحساء: وتخليصها من الأتراك (أواخر جمادى الأولى 1331هـ/ مايو 1913م).

    15.  جراب: ضد ابن رشيد (7 ربيع الأول 1333هـ/ 24 يناير 1915م).

    16.  كنزان: قرب الهفوف ضد العجمان (14 شعبان 1333هـ/ 28 يونيه 1915م). هُزم فيها، وجُرح، وقُتل أخوه سعد.

    17.  حاصره العجمان في الكوت: بالأحساء في ( رمضان 1331هـ/ يوليه 1915م).

    18.  معركة ياطب، بالقرب من حائل ضد ابن رشيد، وانتصاره فيها (1336هـ/ 1917م ).

    19.  فتح حائل: واستخلاصها من يد ابن الرشيد (29 صفر 1340هـ/ 3 نوفمبر 1921م).

    20.  حصار جدة وفتحها: بعد موقعة الرغامة ضد الأشراف ( استمر الحصار قرابة سنة، بدأ من جمادى الآخرة 1343هـ حتى جمادى الأولى 1344هـ/ يناير 1926م).

    21.  معركة السبلة: ضد زعماء الإخوان (19 شوال 1347هـ/30 مارس 1929م).

    22.  حشوده ضد تمرد الدويش في سهل الدبدبة: تعد معركته ضد تمرد زعماء الأخوان، آخر المعارك التي خاضها الملك عبدالعزيز بنفسه. وقد حشد قواته ضد فيصل الدويش ورفاقه، الذين تجمعوا عند الحدود بين نجد والعراق. ولكن لم يقع قتال، بل انتهت بتسليم الإنجليز فيصل الدويش واثنين من رفاقه إلى الملك عبدالعزيز في شعبان 1348هـ/ يناير 1930م. وما بين المعركة الأولى والأخيرة مضت ثلاثون عاماً خاض فيها غمار معارك عدة، وجرح في القتال حتى امتلأ جسمه بالندوب.

7. كرمه وسخاؤه

كان لا يضيق صدر الملك عبدالعزيز، إلا حين يقل المال في يده، ولا يجد في خزينته ما يلبي به حاجات قاصديه، فلا يستطيع إغاثة الملهوف، وسد حاجة المحتاجين الطامعين في رفده من البادية والحاضرة. ولم يكن يرى في الدراهم إلاّ أنها وسيلة للزلفي عند الله، أو لبناء مجد أو حسن الذكرى. فقلما يرد سائلاً أو محتاجاً يقصد بابه. وكان يعد كرمه هذا منة من الله ويقول: إني لم أحصل على هذه الأموال بمجهودي، بل هي رزق من الله قدره لي.

وكان سخاؤه طبيعياً لا يتكلف فيه. وكان يعطي بلا تقتير، حتى وإن كانت خزينته فارغة. وذلك ما كان يحزن عبدالله بن سليمان، وزير ماليته، حزناً شديداً؛ إذ كان عليه أن يغير ميزانيته باستمرار. ويذكر المانع أنه سمع جلالته يقول مازحاً: إنه كثيراً ما شعر بأنه الجزور (الناقة المذبوحة) التي يستطيع كل إنسان ذي يد ماهرة أن يقتطع منها ما يريد.

وكان يسخر من الادخار، وإذا قيل له: إن المستقبل علمه عند الله، والرخاء ليس بدائم. يجيب: إن كنز المال لا ينفع، هل أفادت (السلطان) عبدالحميد خزائنه وما ادخره من مال؟ وهل أفادت خزائن ابن الرشيد؟.

كان الكرم صفة أصلية فيه، يرى من العيب أن يأتي إنسان إلى قصره، ثم ينصرف صفر اليدين. وكان يشعر بالسعادة البالغة في ممارسته لهذا الكرم، ويحقق به، من ناحية أخرى، أهدافاً سياسية من استمالة القلوب إليه، والمرؤ يحب من يعطيه، خاصة البدو. ويقال إنه كان مسافراً ذات مرة، فغرز عدد من سيارات حاشيته في الرمال. ورفض، كعادته، أن يترك مكانه حتى يتأكد من أن جميع السيارات قد خرجت من الرمل. وفي أثناء ذلك نزل من سيارته، وجلس في ظل شجرة. وفجأة وقف أمامه بدوي لم يعرف أنه الملك، لأنه كان يلبس ثوباً بسيطاً وغترة. ثم جلس بجانبه وقال له: أين الشيوخ؟ (أي أين الملك). فأجابه متبسماً: لا بد أنه مع الرجال الذين تراهم. وانتظر البدوي أن تسنح له فرصة لرؤية الملك. وحين أُخرجت جميع السيارات من الرمل، استعد الملك لترك المكان، وأخذ حفنة من الريالات وأعطاها إياه. وحينئذ مد البدوي يده، وقال: السلام عليك يا عبدالعزيز. فسأله الملك: كيف عرفت أني عبدالعزيز؟  فقال: لا أحد يعطي بكرم مثلك".

كانت وفود العربان تقصده حينما يكون في نجد، يصافحه كل يوم عدد منها، فينزلون في دار الضيافة. وبعد أن يقضي القادمون أيام الضيافة الثلاثة، يرفع وكيل المال إلى الملك كشفاً بأسمائهم ليأمر لهم بأعطياتهم. ويعطي كل واحد حسب حالته ومقامه. ولم يحدث أن أحداً من هؤلاء ذهب صفر اليدين.

ومن العادة أن يعطي كل زائر، عدا العطاء،كسوة، مكونة من عباءة وثوب. ومنهم من يعود إلى أهله ومعه فوق الكسوة والمال، حمل أو حملان من التمر والسمن والتمن (الأرز) والسكر والبن.

كان البدو يغتنمون فرصة خروجه من مكان إلى آخر فيلحقون به، فيدنوا أحدهم منه ويهمس في أذنه من الوراء أنه بحاجة إلى المال ليتزوج، فيقول الملك لمن يكون خلفه من رجاله: أعطوه عشرة ريالات مثلاً، وهي كافية آنذاك للزواج. ثم يأتي غيره ويقول: يا طويل العمر أنا في حاجة إلى "بشت"، أي عباءة، فيأمر الملك له به، أو يقصده من يطلب ناقة فيأخذها.

وما كان في تلك العطايا ، غالباً، شيء أكثر من الكرم. فقد كان من العادة أن يأتي جميع البدو، الذين حاربوا مع الملك إلى مجلسه العام مرة كل سنة، وإذا احتاجوا إلى سكن ليلة مجيئهم إلى الرياض، هُيئ لهم ذلك مجاناً. أما الهدايا التي كانوا يتلقونها، فقد كانت في الواقع لقاء ما قاموا به من خدمة. وكان معدل ما يعطى لكل بدوي ثلاثة جنيهات ذهبية وثوب وغترة. وإذا كان من مشايخ البدو الصغار، أُعطي ستة جنيهات، وثوباً من النوع الممتاز. وكان جميع البدو لا يتركون الملك، إلا وقد منحوا أكياساً من الأرز، وسلالاً من التمر، وشيئاً من السكر والشاي والقهوة. وكان كل من أدى خدمة خاصة للملك، أو برز في معركة من معاركه، يُعطى هدايا إضافية. وكانت هذه الهبات الممنوحة لرجال القبائل، مصدراً مهماً من مصادر دخلهم السنوي. وكانت لذلك عاملاً كبيراً في ضمان ولائهم للملك.

ومهما كانت الحالة المالية للملك، فقد كان لا يدع زائراً أجنبياً يغادر ديوانه من دون هدية فاخرة. وكان يحتفظ في القصر بكمية، من اللؤلؤ والجواهر، والسيوف والخناجر، المرصعة بالأحجار الكريمة، لتقديمها إلى الضيوف البارزين.

زاره في عام 1928م، الجنرال كلايتون في جدة، وانتابه مرض جعله يغادر المدينة بسرعة. وكان من عادة الملك أن يقيم حفلة وداع عند مغادرة ضيوفه. وإذا كان الضيف متعجلاً، زوده بالطعام غير المطبوخ ليتناوله فيما بعد. وحين عرضت الحفلة المعتادة على كلايتون اعتذر عنها بلطف، وقال إنه لا يشعر بالرغبة في تناول أي طعام. وبناء على ذلك أخبر بأنه من المعتاد، أن يزود الضيوف المتعجلون بالوليمة غير المطبوخة، فقبل ذلك. وأمر الملك فوراً أن تزود باخرته بالتموين الكافي لإطعام طاقمها برمته، في رحلة عودتها إلى بريطانيا.

وفي مناسبة أخرى، بعد معركة السّبلة عام 1929م بقليل، وصل الرياض وفد من شيوخ الكويت، برئاسة الشيخ أحمد الجابر الصباح. لتهنئة الملك بانتصاره في تلك المعركة الحاسمة. ويذكر المانع أن موظفي الديوان كانوا ينتظرون بأنفاس محبوسة كيف سيعالج الملك الموقف الحرج، لأن الخزينة كانت مرهقة بعد الغزوة الطويلة. لكن دهشتهم تجاوزت الحدود، حين رأوا الضيوف يغادرون محملين بأسخى الهدايا. فقد استطاع الملك، بطريقة ما، أن يزودهم جميعاً بسيارات وسيوف مطلية بالذهب والفضة، ومبالغ من المال.

وربما كان أبرز مثال على سخاء الملك، غير المحدود، ما حدث سنة 1952م حين أمر ببناء قصر في الحجاز للملك فاروق الأول، ملك مصر، الذي كان ينوي زيارة المملكة. وقد سمي ذلك القصر "قصر الزعفران". وكان نسخة مطابقة لأحد قصور فاروق المسمى بهذا الاسم في مصر. وقد بني في مكان منعزل للغاية خارج مكة المكرمة. وكانت الاضطرابات في مصر، حينذاك، قد وصلت إلى قمتها. ومن المحتمل أن العاهلين قد اتفقا، على أنه قد لا يكون مأموناً أن يسكن الملك فاروق في وسط المدينة، التي تعج بالحركة. والواقع أن ذلك القصر لم يستعمل أبداً لأن ثورة 23 يوليه عام 1952م أطاحت بالملك فاروق قبل أن يقوم بزيارته للمملكة.

وعندما سافر إلى مصر للقاء الرئيس الأمريكي روزفلت، في قناة السويس عام 1945م، أراد أن يكرم الرئيس بلحم الخراف المذبوحة حسب الشريعة الإسلامية، فأمر وزير ماليته أن يسوق قطيعاً من الغنم إلى المدمرة الحربية الأمريكية، ومعها أكياس من الأرز والبرغل. ووزع هدايا على قائد السفينة والضباط المرافقين له.

وعندما التقى في الفيوم في الرحلة ذاتها، رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، أهدى له ولمرافقيه هدايا ثمينة، من السيوف المرصعة بالجواهر والماس، وملابس عربية فاخرة، وعطور وجوهرة ثمينة. وأنعم على موظفي الفندق بالإكراميات المجزية.

كان بابه مفتوحاً للضيف والمظلوم، وكيسه مفتوحاً للبذل والعطاء. وسيفه مسلولاً للبطش والتأديب. وقد ساد قومه بهذه المزايا الثلاث: العدل والكرم والشجاعة.

وكانت له دار للضيافة في حي "ثليم" بالرياض، أعدها للفقراء عموماً، ورجال البادية خصوصاً، وأُطلق عليها "المضيف"، يؤمها في اليوم أعداد غفيرة من الناس صباحاً ومساءً، ويقدم لهم الطعام المكون من الأرز والجريش، وهو نوع من الحنطة. وبالدار قدر عظيمة يطبخ فيها يومياً عشرة أكياس من الأرز، وعندما يراد غسل القدر ينزل إليها بدرج خاص.

يرسم الريحاني لوحة لذلك الكرم، في أوائل العشرينات من هذا القرن، بقوله:

"شاهدت معرض العطاء في الرياض، بل كنت أشاهده كل يوم مدة إقامتي هناك. وأعجب جداً لا لكرم هذا الرجل، بل لإيمانه وثقته بالله، مصدر الخير غير المتناهي، وولي النعم التي لا تزول. وإلا فكيف يؤمل بدوام حال، تمكنه من العطاء، في بلاد لا ثروة لها ثابتة دائمة؟ (كان ذلك قبل ظهور النفط).

يقدم إبراهيم بن جميعة، رئيس التشريفات للسلطان عبدالعزيز، قائمة بأسماء القاصدين قصره فيقول:

ـ هذه يا طويل العمر جريدة بمن نوّخوا اليوم.

فيقرأها السلطان، ويكتب إلى جانب كل اسم ما يجب أن يُعطى صاحبه يوم ارتحاله".

واطلع الريحاني على إحدى الجرائد، وفيها أكثر من مائة اسم، ونقل من رأس القائمة ووسطها وآخرها، ثلاثة أسماء كالتالي:

بخط رئيس التشريفات: حمود بن صويط معه فرسان وذلول (كان بعض الزائرين يجيئون بالهدايا من خيل وإبل).

بخط السلطان: ألفان روبية وبشت وبر معلّم (أي عباءة مقصبة) وزبون (قنباز) جوخ وسيف مذهب.

بخط رئيس التشريفات: سليمان بن علي من أهل حائل.

بخط السلطان: أربعمائة روبية وبشت وزبون.

بخط رئيس التشريفات: هزاع بن سلطان بن زايد (حاكم عمان) معه عشر ركائب (نوق) عمانيات (هدية).

بخط السلطان: ثمانية آلاف روبية وسبعون ليرة وعشرون بندقية وفرسان. ثم إلى رجاله الخمسة والعشرين كل واحد كسوة وكيس فيه من المائة إلى الخمسمائة روبية، حسب مقامه.

8. قبوله الهدية

كان زوار الملك عبدالعزيز يهدون إليه، أحياناً، هدايا مختلفة، حسب رتبهم وثرواتهم. كانوا يهدون إليه خيلاً وإبلاً وأغناماً، كما كانوا يهدون إليه أحياناً صقوراً، لأن حبه للصيد كان مشهوراً لدى الجميع. وقد تكون هذا الهدايا متواضعة أحياناً .

يقول المانع: لا زلت أذكر أن بدوياً فقيراً أتى إلى مجلس الملك، حاملاً هراوة، فرفعها فوق رأسه وصاح: "يا محفوظ. ما عندي ما أقدمه غير هذه". فسأله الملك أن يقترب منه، ومدحه ببضع كلمات وقبل هديته.

وكانت تصل إليه في المناسبات رزم من أصدقائه الأجانب والمعجبين به، وأولئك الذين يبحثون عن الحظوة لديه. وذات مرة وصلت إلى جدة، دون توقع، شحنة من الزيت بعثتها إليه الحكومة السوفيتية. وكان للروس قنصل تجاري في جدة منذ عهد الأشراف. وكانوا يأملون، بنوع من السذاجة، أن يقنعوا الملك بإنشاء علاقات دبلوماسية معهم. وكان ابن سعود سعيداً بتسلمه الزيت، لكنه رفض أن يتعامل، بأي شكل من الأشكال، مع الحكومة السوفيتية.

وقبل هدية الرئيس الأمريكي، الذي أهداه الكرسي المتحرك، ليساعده في التنقل، وأهداه طائرة. وعندما قدم هدايا لطاقم السفينة الأمريكية، التي أقلته إلى مصر، قبل منهم هداياهم، وهي نظارات ومسدسات. وقبل هدايا رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وهي عطورات اشتراها تشرشل خصيصاً له من مصر، وكذلك أرسل إليه سيارة رولزرايس مصممة بمواصفات أمنية، ولتلائم رحلات الصيد.

وكانت هناك هدايا أخرى، ذات طبيعة شخصية مثل تلك الرزمة الصغيرة، التي بعثها إليه طبيب ألماني، من المؤكد أنه قد أُعطى معلومات غير صحيحة عن الاحتياجات الطبية للملك. فقد كانت تحتوي علبة صغيرة فيها حبوب لتقوية الباءة.

9. تسامحه وصفحه

كانت تغلب على الملك عبدالعزيز الوداعة والمرونة، مع شدة، وقسوة عند الحاجة. وكان واسع الصدر، كريم اليد، فإذا جاء خصومه تائبين أو نادمين عفا عنهم، ورحب بهم وأجزل لهم العطايا، وأنزلهم أحسن المنازل.

ولم يلجأ الملك عبدالعزيز إلى الانتقام من خصومه، لأن ذلك يناقض الشرف والأخلاق العالية. فقد تسامح مع الذين ناصبوه العداء وحاربوه. واقتلع من نفوس أعدائه الحقد والكراهية بحسن معاملته لهم، وكان يصحبه بعضهم، أحياناً، في غدواته وروحاته. لأنه يعتقد أن العفو عن العدو مما يؤلف بين الناس. وكان يقول لمن يذكّره بماضي هؤلاء المحيطين به:

"لقد أعدت إليهم ضمائرهم، وإني أكاد أقرأ ما يجول في نفوسهم من أسف وندم على ما صدر منهم".

عاداه الأتراك، كما عادوا أجداده من آل سعود. ولكنه لما انتصر عليهم في الأحساء، أكرم قائدهم وعاملهم معاملة حسنة، فانسحبوا إلى البحر من دون أذى. وكذلك، أجلاهم من القصيم، ورحلوا إلى المدينة المنورة وإلى العراق في أمان، وعلى نفقته. ونال شكر السلطان العثماني لسماحه للقوات العثمانية الرحيل من القصيم سالمة.

لم ينتقم من العجمان، الذين قتلوا أخاه سعد بن عبدالرحمن، في موقعة كنزان عام 1333هـ/ 1915م، بعد أن أمكنه الله منهم.

عاداه أبناء عمومته، وهم حفدة عمه سعود بن فيصل ويلقبون بـ (العرائف)[2]، فصفح عنهم وقربهم منه، وأكرمهم. مع أنهم خرجوا عليه، ثم تحالفوا مع خصومه من الهزازنة، أصحاب بلدة الحريق بنجد، لإثارة الاضطراب في البلاد، وإضعاف قوته. وتعاونوا مع الشريف حسين، في حملته على عسير عام 1329هـ/1911م. وتحالفوا مع آل الرشيد.

سامح فيصل الدويش عندما تمرد عليه، ونايف بن هذال، عام 1325هـ/ 1907م، وتحالفا مع سلطان الحمود الرشيد ومحمد أبا الخيل. وخاضا معه معركة الطرفية ضد الأمير عبدالعزيز. كذلك سامح الدويش مرة أخرى بعد أن هزمه في معركة السبلة عام 1347هـ / 1929م. وبعد انتهاء معركة السبلة، لم يجهز عليه وهو جريح، وطلب من طبيبه الدكتور مدحت شيخ الأرض، أن يداويه.

ولم يقتله في المرة الثانية، عندما سلمه الإنجليز إليه، وأرسل يستقدم أسرته من الكويت، وعاشوا في الرياض، وعاملهم معاملة حسنة. ولكنه أبقى بالدويش في السجن حتى مات.

ونكث محمد أبا الخيل، أمير بريدة، عهده مع الأمير عبدالعزيز، وخرج عليه متمرداً، متحالفاً مع خصومه، في عام 1325هـ/1907م. ولما ظفر به الأمير عبدالعزيز، طلب منه الأمان، فأمّنه على حياته، وتركه يذهب حيث يشاء، فرحل إلى العراق.

ولما استولى السلطان عبدالعزيز على حائل، وقضى على إمارة آل الرشيد عام 1340هـ/1922م، عفا عن أسرة آل الرشيد، من حاربه ومن لم يحاربه منهم. واصطحب عدداً من أمرائهم الشبـاب معه إلى الريـاض، بما فيهم الأمير محمد بن طلال، وأنزلهم خير المنـازل، وصاهرهم، ورتب لهم المخصصات الشهرية، وتـزوج منهم وجعل بعضهم من حاشيتـه. وكان من أبنـاء بن رشيد وآل سبهان مرافقون له، عندما توجه للحجاز للمرة الأولى، في ربيع الآخر 1343هـ/ 11 نوفمبر 1924م، ومنهم: فهد وسلطان آل الرشيد، وإبراهيم ومحمد بن عبدالكريم وفهد العبدالله آل السبهان. وبمرور الزمن صاروا أوفياء للملك ومن خاصته. وكذلك من كبار رجال حائل من صاروا قادة وموظفين كبار، في ديوانه، من أمثال عبدالعزيز بن إبراهيم وإبراهيم بن جميعة وحمد الشويعر، ورشيد باشا الناصر بن ليلى وعبدالعزيز الزيد وغيرهم.

يقول محمد المانع: وقد تسنى لي، في العشرينات من هذا القرن، أن أتعرف على عبدالله بن متعب بن رشيد شخصياً. وكان يعيش في الرياض بمرتب ابن سعود. وكان يبدو سعيداً راضياً بحياته، وكان دائماً مستعداً للتحدث. أما محمد بن طلال فقد ظل تحت الحراسة في غرفة من غرف القصر مدة من الزمن. ثم وضع تحت الإقامة الجبرية في بيت خاص مع خدم وحرس شخصيين يعتنون به. وبعد فترة استطاع أن يتسلل من منزله متنكراً بملابس امرأة. ثم نفذ من أنظار حرس القصر الملكي بادعائه أنه امرأة فقيرة لديها استرحام للملك. وصعد الدرج إلى الطابق الأول، ووقف بإزاء الباب المفتوح على المجلس العام، المنعقد صباح ذلك اليوم. ومن هناك بدأ يشق طريقه بين جمهور من البدو الجالسين، وهو أمر من المستغرب أن تقوم به امرأة. وارتاب الملك عبدالعزيز فوراً في شأنه، فخفّ إليه ونزع منه سلاحه، وأوثقه بردن ثوبه. وبعد أن أقسم على موالاة الملك، وتعهد أن لا يكرر تصرفه ذاك، منح حرية أكثر من ذي قبل، لدرجة أنه جاء مع جيش ابن سعود في معركة السّبلة ضد زعماء الأخوان. وظل محمد بن طلال تحت الإقامة الجبرية بقية حياته. وكانت نهايته أن قتل بيد أحد خدامه الخاصين، الذي انتحر فور اغتياله له.

وانهزمت قوات آل عائض حكام عسير، أمام القوات السعودية، عام 1921م، ورأى حسن بن عائض وابن عمه محمد، أن لا مجال لهما في المقاومة فأعلنا الطاعة لابن سعود، وقدما إلى الرياض، ونزلا ضيفين كريمين عليه، وأحسن إليهما. وطلب حسن بن عائض من الملك عبدالعزيز العودة إلى عسير، فعاد يصحبه ابن عمه محمد، وزودهما الملك بالعطايا الجزيلة، ومنها النقد وبلغ خمسة وستين ألف ريال. وخصص لهما ولأسرتيهما مرتبات شهرية ضخمة. وعمل حسن بن عائض مساعداً للأمير السعودي في أبها. ثم نسي وابن عمه محمد ما لقيا من الصفح، وحسن المعاملة فأعلنا الثورة. ولما أطبقت عليه القوات السعودية، وتحصن ابن عائض ومن معه ببلدة حرملة، لم يجدِ ذلك نفعاً، ففرا وظلا مشردين، واشتد بهما الضيق على الرغم من مساعدة الشريف حسين لهما. وفي النهاية طلب ابن عائض ورفاقه الصلح، فوافقهم أمير أبها عبدالعزيز بن إبراهيم، فسلموا أنفسهم له وبعث بهم إلى الرياض معززين مكرمين. وقابلهم الملك عبدالعزيز مقابلة حسنة، جعلت حسن بن عائض وابن عمه يشعران بالحرج من سوء عملهما. وأجزل لهم الملك العطايا، وظلا معه في الرياض من بطانته ورفقته الأدنين.

وثار الأدارسة على الحكم السعودي في إمارتهم بجازان، بتحريض من حزب الأحرار الحجازي، ومن قوى خارجية أخرى عام 1351هـ/ 1932م، وتزعمهم السيد الحسن الإدريسي، الذي جعل من مقره في  صبيا مركزاً للمتآمرين ضد ابن سعود. ولما اكتسحت القوات السعودية الإمارة الإدريسية، فر الحسن بن علي الإدريسي وذووه، وبعض أقاربه إلى اليمن. وطلب إمام اليمن يحيى حميد الدين، من الملك عبدالعزيز، العفو عنهم، فعفا عنهم وكتب بذلك إلى الإمام ليزيد في اطمئنانه، وأمنهم على دمائهم ومالهم وشرفهم، بل خصص للسيد الحسن الإدريسي مبلغاً من المال، قدره 2500 ريال شهرياً، ليؤمن به معيشته.

ولما نكث الأدارسة عهدهم مرة أخرى وهُزموا، لجأوا إلى اليمن، ولكن شروط الصلح بين المملكة واليمن في صفر 1353هـ/ 1934م، اشترطت تسليم الأدارسة إلى الملك عبدالعزيز، فاستلمهم الأمير فيصل بن عبدالعزيز من الحكومة اليمنية في 14ربيع الأول 1353هـ، وأُحضروا إلى مكة، وعفا عنهم وعاشوا في مكة مكرمين معززين. ويقول أحمد عبدالغفور عطار: وقد لقيت السيد عبدالوهاب الإدريسي وغيره من الأدارسة، غير مرة، فوجدتهم مخلصين لابن سعود، ويكثرون الشكر والثناء عليه.

ومن أمثلة تسامحه وعفوه عن المعارضة، أن مجموعة من المثقفين وكبار الموظفين في الحكومة الهاشمية، شكلوا جبهات لمعارضة الملك عبدالعزيز، من الداخل والخارج، ومنهم عبدالحميد الخطيب، ومحمد طاهر الدباغ، وصالح الدباغ، والشيخ عبدالرؤوف الصبان، والقائمقام محمد عبدالله صادق. ولجّوا في خصومتهم ضد الحكم النجدي على الحجاز، وبذلوا الأموال الطائلة في نشر الدعاية ضد الملك من مصر وإندونيسيا والأردن والعراق وغيرها. وأيدوا الخارجين على الملك وحرضوهم، من أمثال ابن رفادة والإدريسي. وخير مثال لهؤلاء محمد طاهر الدباغ، كان أميناً للحزب الوطني الحجازي، الذي تأسس في مكة في عهد الشريف حسين، وهو الذي أقنع الشريف حسين بأن يتنازل عن الملك لابنه الشريف علي بن الحسين. ولما أسس المعارضون لحكم الملك عبدالعزيز للحجاز، حزب الأحرار الحجازي، بدعم من أمير شرق الأردن، عبدالله بن الحسين، أُسندت إلى محمد طاهر الدباغ رئاسة الحزب، وكان وقتها في جاوه (إندونيسيا). ثم استقر في عدن، وبعد ذلك سافر إلى العراق. ولمّا أصدر الملك عبدالعزيز العفو السياسي العام، عاد الدّباغ إلى الرياض في عام 1354هـ، فأكرمه الملك، وعينه من فوره مديراً للمعارف. وقدم خدمات جليلة لمسيرة التعليم في البلاد. وبعد تقاعده عام 1364هـ صدر أمر ملكي بتعيينه عضواً بمجلس الشورى. ويذكر كذلك عبدالحميد الخطيب الذي كان رئيساً لجمعية الشبان الحجازيين بمصر، أنه عاد إلى البلاد بعد أن شمله الملك عبدالعزيز بعفوه وعطفه، فعينه عضواً في مجلس الشورى، وصار من أنشط الأعضاء، وخدم بلاده سفيراً في جاكرتا وأفغانستان، وهو صاحب كتاب (الإمام العادل)، وعين الملك صالحاً الدباغ محاسباً في إدارة القصور الملكية، والشيخ عبدالرؤوف الصبان عضواً بمجلس الشورى، ثم مديراً للأوقاف العامة، وأميناً للعاصمة المقدسة مكة المكرمة، وعين القائمقام عبدالله صادق مديراً لإحصاء النفوس. وكما عين الملك، أيضاً، محمد سرور الصبان في عدد من المناصب، كان آخرها منصب وزير المالية في عهد الملك سعود.

تحسنت علاقات الملك عبدالعزيز بالملك فيصل، ملك العراق، بعد القطيعة بين آل سعود والأشراف، والتقيا في بارجة بريطانية في رمضان 1348هـ/ فبراير 1930م، في عرض الخليج العربي، وكان اللقاء حاراً، وكان الصفاء بعد الجفاء.

ثم التقى الملك عبدالعزيز مع الملك عبدالله بن الحسين، أمير شرق الأردن، وكان آخر الأشراف، الذين استمروا على عداوتهم لابن سعود، ونعت ابن سعود بأقذع أنواع السباب. ولكن الأمور اتجهت نحو الصفاء، عندما زار الأمير فيصل بن عبدالعزيز الأردن، واستقبل بحفاوة بالغة في ديسمبر عام 1946م، ثم زال الخلاف والجفاء بين الأسرتين السعودية والهاشمية، عندما زار الملك عبدالله بن الحسين الرياض، بدعوة من الملك عبدالعزيز، في 20 شعبان 1367هـ/ 26 يونيه 1948م، إبان حوادث فلسطين. ومحا ذلك اللقاء ما علق بالنفوس من أدران، وتعاهد العاهلان على الحب والمودة. وكان الملك عبدالله يبكي وهو يودع الملك عبدالعزيز في مطار الرياض متأثراً مما رأى وسمع. وأهم ما أسفر عنه اللقاء أن الملك عبدالله بن الحسين همس في أذن الملك عبدالعزيز، يوصيه على ابنه ووارث عرشه طلال بن عبدالله، وعلى الأسرة الهاشمية، وأنها أمانة في عنق الملك عبدالعزيز. وقام الملك عبدالعزيز وأبناؤه من بعده بحق هذه الوصية خير قيام. ولمّا اغتيل الملك عبدالله في المسجد الأقصى في 15 شوال 1370 هـ /21 يوليه 1951م، حزن عليه الملك عبدالعزيز حزناً شديداً. وجاء الملك طلال وزوجته الملكة زين الشرف، بعد توليه العرش، إلى الرياض في زيارة للملك عبدالعزيز في 9 صفر 1371هـ/ 10 نوفمبر 1951م. وبعد أن تولى الملك حسين بن طلال العرش بعد أبيه، قدم أيضاً إلى الرياض في 12 يوليه 1953م شعوراً منه بإحساس الأبوة، التي يكنها له الملك عبدالعزيز.

وكان من عادة الملك عبدالعزيز، أن يصفح عن المسيء إذا لمس منه توبة وندماً. وقد يعاد المعزول إلى منصبه أو يُرفع إلى أعلى منه، إذا بدر منه، بعد العزل، تصرف يُرضي. فقد حدث أن عزل أمير الطائف عام 1927م لشدته مع الناس، فلما حضر الأمير إلى مكة، قال له الملك: إننا لم نعزلك من منصبك لنقص في دينك أو شبهة في أمانتك، ولكننا نحيناك لشدتك. ونحن نريد اللين مع الناس. فقال له الأمير: الحمدلله، لقد ولاك الله على المسلمين وأنت أعلم بمصالحهم، ولئن حرمت من المنصب، فإني أتمتع برؤيتكم صباحاً ومساءً، وهذا لا يعدله شيء عندي في هذه الدنيا. فسرّ الملك لهذا الجواب اللطيف، وواظب هذا الأمير على الحضور إلى مجلس الملك كل يوم. فلم تمض بضعة أشهر على عزله من الطائف، حتى عين وكيلاً لأمير المدينة المنورة.

وكان عفو الملك عبدالعزيز يتسع ليشمل أولئك الذين تآمروا للنيل منه شخصياً. فحين كان في الطائف، عام 1930، وصلت إليه أنباء تفيد أن جماعة من الشباب، ينتمون إلى ناد لكرة قدم في تلك المنطقة، يخططون لاغتياله في المسجد المحلي. فألقي القبض على أولئك الشباب، لكنه اكتفى بسجنهم. ثم أطلقهم بعد ستة شهور إثر استرحام، وفد من أهالي جدة من أجلهم.

10. حرصه على الكتمان

تميز ابن سعود بقدرته على الكتمان والسرية. فكان، غالباً، ما يخفي خططه عن أقرب المقربين إليه، كأسرته ومستشاريه. وبذلك لم تتسرب خططه أبداً إلى أعدائه. ولا شك أن معسكر الملك كان، أحياناً، يوجد فيه الجواسيس. لكنهم كانوا يفشلون في مهمتهم، وفي بلاد كانت الإشاعة تنتشر فيها انتشار النار في الهشيم، كان تكتم الملك من أقوى أسلحته ضد خصومه.

11. وفاؤه

لم ينس الملك عبدالعزيز حياته في الكويت، التي كانت كلها شظف في العيش. وكان وفياً لأصدقائه، وللرجال الذين عملوا معه، وحافظ على ودهم، وكان يحرص على مكافأتهم، ويميل إلى استرضاء الناس وكسب مودتهم.

نقلت الصحف السورية، في 20 ذي القعدة 1354هـ/ 13 فبراير 1936م، من أخبار بغداد، أن الملك عبدالعزيز، لمّا وصل إلى الكويت زائراً، سمع أن معلماً له كان يقرأ عليه القرآن في أيام الطفولة، موجود بها، فاستدعاه، ولاطفه ومنحه ثلاثة آلاف روبية.

ولقد سبق للأمير محمد بن عبدالرحمن، شقيق الملك، أن ذهب للحج في زمن الأشراف، عام 1334هـ، مع رهط من أهل نجد. وعندما بلغوا حدود الحجاز، أبى عليهم الشريف حسين الدخول إلى بلاده بأسلحتهم، فاضطروا إلى تسليم سلاحهم، وتركوا بعض أموالهم ورجالهم، ودخلوا الحجاز محرمين ملبين. ومروا في طريقهم بقرية على مقربة من مكة، يقال لها (الزيمة)، وتعرفوا على شيخها (عبدالرحيم القناوي)، فعرض مساعدتهم، وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من الطعام والإبل بالثمن، فذهبوا إلى الحج. وفي طريق عودتهم أضافهم مرة أخرى، وقدم لهم التسهيلات اللازمة. ولما دخل الملك عبدالعزيز الحجاز، بعد هذا التاريخ بعشر سنوات، مر بالزيمة في طريقه إلى نجد، قابلهم عبدالرحيم القناوي، وعرض عليهم ضيافته، وذكر الأمير محمد بن عبدالرحمن لأخيه الملك ما كان من صنيع القناوي معهم، حيث لم يجدوا من يحفل بهم سواه. فشكر الملك لعبدالرحيم القناوي سابق جميله وقبل ضيافته، وأمر له بمبلغ من المال، وصارت عادة له أن يضيفه في كل عام، ويحصل على المبلغ المعلوم.ٍوعندما عدل الملك عن ركوب السيارات واختار الذهاب للحجاز بالطائرة، قال القناوي لجلالته: أرجو ألا تغيروا عادتكم، فقال الملك: لا بل أحضر لي ضيافتك إلى هنا، وأمر أن لا تقطع عادته بصرف المبلغ المذكور للقناوي، وصارت عادة سنوية.

وكان ابن مبيريك، أمير رابغ، صديقاً للملك عبدالعزيز قبل دخوله مكة. وعندما دخل الملك إليها، وضرب جيشه الحصار حول جدة، بادر ابن مبيريك إلى إمداد الملك بما يستطيع من الأرزاق والأموال، وسهل له سبيل الاتصال بالخارج من ميناء رابغ. فحفظ الملك عبدالعزيز له هذا الجميل، وأنزله لديه منزلة قصوى، وصار يقدم له كل ما يريد من المال.

ودعا رجل من قحطان الملك عبدالعزيز لزيارته، في قريته الواقعة بين الدوادمي وعفيف، في طريقه إلى الحج، فوعده الملك بهذه الزيارة، وحرص عليها. فما كان من القحطاني إلا أن ذبح للملك كل ما يملكه من الغنم، وكانت 110رأساً. فلما علم الملك بذلك، أمر له في مقابل كل رأس من الغنم بمائة رأس، أي ألف ومائة، مضيفاً إلى ذلك ثلاثين ألف ريال.

12. حِمْيته وشهامته

آوى الملك عبدالعزيز الفارين من نير الاستعمار، من مجاهدي العرب في الشام وفلسطين وليبيا وتونس والعراق، والتحقوا بخدمته. واستضاف الثعالبي، الزعيم التونسي، ردحاً من الزمن قبل أن ينتقل إلى القاهرة.

وآوى الملك عبدالعزيز رئيس وزراء العراق، رشيد عالي الكيلاني، في شوال 1364هـ/ سبتمبر 1945م، على الرغم مما كان بينهما من عدم اتفاق في الأمور السياسية. فقد فر الكيلاني إلى ألمانيا، بعد صدور الحكم عليه بالإعدام. ولما انقضت الحرب العالمية الثانية، عام 1945م، قصد فرنسا متخفياً، وساعده شابان دمشقيان على السفر إلى بيروت بجواز سفر مزور، ومنها انتقل إلى دمشق فالرياض. ودخل على الملك عبدالعزيز في أحد مساجد الرياض، وهو يصلي الصبح، استعداداً للسفر إلى الحجاز. وعرّفه بنفسه، فاستعاذ الملك بالله، وأبقاه في رعاية ولي العهد الأمير سعود. وتوجه بالطائرة إلى مصيفه في جوار الطائف، حيث أبرق إلى الأمير عبدالإله، الوصي على عرش العراق، يطلب منه العفو عن رشيد الكيلاني. وتزايدت على الملك الضغوط الإنجليزية، لإبعاده أو تسليمه لحكومة العراق، ولم يرضخ لها. وأبت حميته العربية تسليم أخيه العربي، الذي لجأ إلى حماه. واستمر رشيد الكيلاني ضمن مستشاري الملك، حتى توفي الملك عام 1953م، فغادر الكيلاني الرياض إلى القاهرة.

13. غضبه ورضاه

كان الملك عبدالعزيز سريع الانفعال من حيث لا يشعر، يتأثر بما يحسه من مرئيات. وإذا تمكن من نفسه خاطر، لهج به، وتحدث عنه في مجالسه، ومع نفسه. وكان يُرى أحياناً يتحدث منفرداً، بصوت مسموع. لا يكتفي بالتفكير، بل يزيد عليه التعبير.

يقول الريحاني: إن ابن سعود يتغير ساعة الغضب كل التغير، فيذهب العطف من ناظريه، ولون الورد من شفتيه. ثم في افتراره يستحيل النور ناراً بيضاء، فهو إذ ذاك رهيب. كان سريع الغضب سريع الرضى.

وكان على من يبلغه بالأخبار السيئة، أن يحتاط لئلا يتعرض لسوّرة غضبه. فكان محمد الدغيثر من موظفي الديوان الملكي، يقوم بمهمة إبلاغ الملك فوراً بأية أخبار مهمة، سواء كانت سارة أو سيئة. أما الأخبار المحزنة أو السيئة، فكانت تحتاج منه إلى لطف وحصافة لإبلاغ الملك بها، خشية التعرض لغضبه، الذي يمكن أن يكون مخيفاً.

أما الأخبار السارة، فكانت كثيراً ما توحي إلى جلالته بإظهار سخائه. وكان محمد الدغيثر هو الذي يتلقى الكثير من الهدايا، لأنه يبشر الملك بهذه الأخبار. وذات مرة، بعد أن بشر محمد الدغيثر الملك بسحق الجيش السعودي تمرداً صغيراً، منحه بضعة هكتارات من الأرض تقع خارج أسوار الرياض. وكانت الأرض حينذاك ذات قيمة طفيفة، لكن محمد تمسك بها بحكمة. وهي الآن تشكل جزءاً كبيراً من المركز التجاري بالرياض.

14. حَذَره

كان الحذر من أبرز خصال الملك عبدالعزيز، وكان لا يقدم على المعركة إلا وهو مضطر إليها، متخذاً الحيطة. ولم يكن يستهين بالأمر الصغير، ويقول: استعد للحصيني (الثعلب) مثل ما تستعد للأسد. فلما كانت حركة ابن رفادة، عام 1350هـ، جاءت الأخبار أن عدد المتمردين معه ألف وخمسمائة شخص، وهذا عدد قليل. ولكن الملك أرسل ثلاث فرق من قواته، منها فرقة بحرية، قدمت على المتمردين من جهات عدة فقضت عليهم. يقول فيلبي: كان الحذر من أبرز خصال الملك عبدالعزيز، مع أن المغامرات التي وصل بها إلى بعض النتائج الباهرة، تبدو كأنها تنفي هذا القول. وينقل فيلبي عن السير برسي كوكس قولاً فيه مبالغة، هو أن عبدالعزيز لم يرتكب في جميع أدوار حياته، خطأ واحداً.

15. بساطته

كان الملك عبدالعزيز بسيطاً في أوامره، وفي مفاوضاته، وفي ملابسه، وفي مأكله، ومسكنه. وعلى الرغم من الثروة التي جمعها في أواخر عهده، فقد كان يعيش عيشة تقشف وزهد، اتباعاً لآداب الشريعة. وكانت رغباته بسيطة، وأمكنة سكنه متواضعة.

فعندما قرر القبول بالشروط، التي توصل إليها وزير ماليته عبدالله بن سليمان، مع الشركة الأمريكية، التي ستتولى استخراج النفط عام 1933م، أصدر توجيهاته البسيطة والمباشرة للتوقيع على الاتفاق: "توكل على الله ووقع".

16. ترفعه عن القيل والقال

يذكر المانع: أنّ من الأمور التي لاحظتها في الملك، بصفة خاصة، أنه مهما كان الاستفزاز شديداً، لم يسهم أبداً في القيل والقال أو الإشاعات المغرضة. فقد يكون لقاؤه لبعض من لم يكن يستريح إليه لقاء فاتراً. وقد لا يتردد في استهجانه بأشد الكلام أمام وجهه. لكني لم أعهده يغتاب أحداً. ومما يوضح ذلك ما حدث لأسرة المنديل في العراق. فقد كانوا وكلاءه هناك، فأصبحوا أغنياء وذوي نفوذ بسبب ذلك. ثم أداروا ظهورهم لنجد، واختاروا أن يصبحوا عراقيين. وقد تألم كثيراً لما فعلوه، وأصبح يشعر بالمرارة إذا ذكرت أسماؤهم. وعلى الرغم من وجود قصص كثيرة عن نشاطهم في العراق، فإنه لم يذكرهم بسوء أبداً.

17. بشاشته ودعابته

قلما كان الملك عبدالعزيز يتحدث، إلا والبشاشة على وجهه. يكره العبوس، ويأبى أن يتسم بسمات الجبارين. ويحب النكتة، ويضحك لها إذا جاءت في وقتها، ويرويها.

والبشاشة لا يخص بها حاشيته وخاصته، بل كثيراً ما يتخلل مفاوضاته مع رجال السياسة، مَثَل يضربه لنكتة فيه، أو بيت شعر يتمثل به، فيتحول المجلس من تجهم وغموض وفتور، إلى حركة وصراحة وبشاشة.

يقول الريحاني في كتابه (ملوك العرب): إن في الرجل ضميراً حيّاً كحِلْمه، وسرعة خاطر تقارن التيقظ في ذهنه، يبدد بكلمة غيوم الانقباض في مجلسه، ويجلو أفقاً قد يكون الاضطراب فيه من كلامه. وهو خفيف الروح، حلو النكتة، لطيف التهكم. كان يحضر مجلسه أحد الثقلاء المتعجرفين، وهو من بيت معروف في نجد، فقال السلطان عبدالعزيز يصفه يوماً: هو رُبع الدنيا، ثم أردف كلمته بـ (الخالي). وقد أشار بذلك إلى الربع الخالي من بلاد العرب، الخالي من كل شيء غير الرمال.

وكان لدى الملك إحساس عميق بالدعابة، التي قد تكون حادة في بعض الأحيان. فيذكر محمد الدغيثر أن الملك عبدالعزيز راهن يوماً مستشاره يوسف ياسين أن يضع شيئاً على رأس جبل أبو مخروق، وكان يومئذ خارج نطاق الرياض. واشترط عليه أن يذهب في الليل ليحضره بنفسه. وفي الوقت نفسه أرسل الملك اثنين من الأخويا ينتظران يوسف ياسين هناك. فلما أقبل صرخا في وجهه: وش أنت يا هذا؟ فتملك الرجل الفزع، وأخذ يردد بصوت مرتفع: أنا يوسف ياسين، رجّال عبدالعزيز، أنا يوسف ياسين، رجّال عبدالعزيز. ورجع من دون إحضار أي شيء، وخسر الرهان.

على أن الملك لم يكن يسمح أبداً بالعبث علناً، خاصة إذا بدا له العبث منافياً للدين، بأي شكل من الأشكال. ففي بداية حكمه زار الكويت، وكان الناس مسرورين جداً لرؤيته، فاستقبلوه استقبالاً عظيماً، دعوا إليه شاباً ليغني فيه. ومن المعلوم أن الموسيقى والغناء من الأمور المحرمة لدى أتباع الدعوة الإصلاحية في نجد. وما أن بدأ الشاب يرفع صوته بالغناء، حتى استبد الغضب بالملك، ووقف شاهراً سيفه، وهو يقول: "أنا ابن فيصل"، معبراً عن استيائه الشديد لذلك العمل. فامتقع لون الشاب من الخوف وانسحب بسرعة. وحينئذ استعاد الملك هدوءه، وجلس كأن شيئاً لم يكن.

18. جاذبيته

كانت تحيط بشخصية الملك عبدالعزيز، هالة من النبل والحكمة، تواكبها قامته الفارعة، ومظهر رجولته، مما جعل له تأثيراً على كل من جلس لديه، مهما كانت درجة ذكائه. وكانت لديه عظمة وجاذبية سحرتا من رآه، وجعلتا منه قائداً طبيعياً. وكان له من قوة الإرادة ما مكنه من التأثير على عقول الناس، وجعلها تطيعه من دون مناقشة. وفي مناسبات كثيرة كان رؤساء القبائل المتكبرين يأتون إلى مجلسه في حالة من العداء الصريح، ثم لا تلبث شخصيته أن تطغى عليهم، فيكسبهم بابتسامته وجاذبيته الأخاذة.

ويروي المانع قائلاً: لم تكن جاذبية الملك مؤثرة في رعاياه فحسب. فحين امتدت شهرته إلى خارج مملكته، وأخذت قصصه تنتشر في العالم الإسلامي والصحافة الأجنبية، بدأ الديوان الملكي يتلقى رسائل غريبة من المعجبين به. وكثيراً ما كانت تلك الرسائل مصحوبة بصور فتيات جميلات في أوروبا وأمريكا، يطلبن أن يعملن في قصر ابن سعود. وكانت إحدى الرسائل من استراليا، وفيها صورة فتاة ساحرة حسنة الهندام. فأعطى الملك الصورة إلى رئيس قبيلة قحطان، فيصل بن حشر، وسأله عن رأيه فيها. فأجاب فيصل ـ وربما كان جوابه أقرب إلى الحقيقة مما كان يعتقد ـ "يا صاحب الجلالة، من الواضح أنها وقعت في حبك".

19. استقباله لزوّاره

يقول الرحالة إلدون روتر  Eldon Rutter، في وصف زيارته للسلطان عبدالعزيز، في يوليه 1925م/ 1343هـ:

إن هذا الأسد الذي خاض كثيراً من المعارك الصحراوية، والسيد الأعلى لأكثر من نصف سكان الجزيرة العربية، يتكرر نهوضه واقفاً لزواره، حين يتقدمون للسلام عليه، سواء أكانوا أمراء أم دراويش.

ويقول عبدالحميد الخطيب:

من عادة الملك أن يقف لزائريه، مبالغة في احترامهم وتكريمهم. إلا أنه أصبح، بعدما تقدم عمره، لا يستطيع ذلك، لألم في ركبته، اضطره إلى عدم المشي، إلا قليلاً.

20. اعتزاؤه ونخوته

النخوة في اللغة: الفخر والازدهار والاستنكاف. انتخى فلان: افتخر. وقد جرت مجرى الاعتزاء الذي هو الشعار في الحروب، والدعاء والانتساب، وكلاهما على الأكثر: اعتزاز بالنفس، واستفزاز لها في الحرب، أو عند الغضب في السلم، وفي حالي الانتفاض أو الفخر.

ولكل فريق من العرب مفخرة يسمونها عند الاعتزاء، بل لكل فرد منهم نخوة يعتزي إليها. وكثير من العرب يفخر بالاعتزاء إلى أكبر أخواته، يقول (أنا أخو فلانة).

وكان أكثر اعتزاء عبدالعزيز: أنا ابن فيصل ! وهو جده الأدنى الإمام فيصل بن تركي، أو يقول: أنا ابن مقرن!  جده الأعلى. وله نوع من الاعتزاء لا يسمع منه إلا في ساعة الغضب، وهو: أنا أخو نورة !. أو يقول: أنا أخو الأنور المعزّي! (أي عبدالعزيز). ونورة هي كبرى شقيقاته، فإذا قال هذه اللفظة، وهو يوجه شيئاً من اللوم أو الزجر أو التقريع لأحد، فرق قلب كل من حوله، وأصبح الشجاع فيهم الجبان الرعديد[3].

ويشارك عشيرته وأهل العارض، في قولهم: أهل العوجا!. إخوان من طاع الله!. والعوجا، من أسماء العارض، ينتخون بها من زمن طويل.



[1]  كان لأكثر أمراء العرب كلمة نداء خاصة بهم، ينادى بها عند خروج الأمير إلى الحرب أو الغزو. كان نداء الشريف حسين في الحجاز: يافرحان، وكان نداء ابن رشيد في جبل شمر: يا مرزوق.

[2] وهم تسعة أشخاص، منهم: سعود بن عبدالعزيز بن سعود بن فيصل ويسمى سعود الكبير، وهو زوج نورة بنت عبدالرحمن شقيقة الملك عبدالعزيز، وسعود بن محمد بن سعود بن فيصل، وفيصل بن سعد بن سعود بن فيصل.

[3]  شرح فهد المارك في كتابه "من شيم الملك عبدالعزيز"، مج1، معنى كلمة المعزّي أنه إذا اضطرت الظروف السياسية الملك عبدالعزيز إلى قتل إمريء، كان يقوم ببذل مالديه من العطف والرحمة والشفقة والسخاء لأبناء المقتول، أو على من يمت له بصلة قربى، حتى يشعر ذوو المقتول أن عبدالعزيز عزّاهم بمقتولهم، محا كل ما في نفوسهم من رواسب البغضاء والحقد.