إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود




الملك عبدالعزيز آل سعود
الملك عبدالعزيز وملك أفغانستان
الملك عبدالعزيز والملك حسين بن طلال
الملك عبدالعزيز والملك عبدالله بن الحسين
الملك عبدالعزيز والملك فاروق
الملك عبدالعزيز والملك فيصل بن الحسين
الملك عبدالعزيز وتشرشل
الملك عبدالعزيز يطالع جريدة





القسم السابع

القسم السابع

أسفاره ورحلاته

 

كان الملك عبدالعزيز يتنقل بين الرياض والطائف، ومكة المكرمة وجدة، ليرعى شؤون مملكته. ولمّا كانت الأمور بسيطة، في بداية تأسيسه المملكة، والجهاز الإداري ضئيل الحجم، كان ينقل معه الديوان ومستشاروه وحاشيته، في كل رحلاته أو حملاته.

يقول المانع: لم نكن نصحب الملك في ذهابه إلى الحج وعودته منه فحسب، بل نرافقه في كل حملاته العسكرية، وجولاته السياسية. وكان هذا شبيهاً، إلى حد ما، بوضع ملوك أوروبا في القرون الوسطى، الذين كان رجال بلاطهم يصحبونهم في كل رحلاتهم. وكان عدد من يسافرون مع الملك من رجال الديوان، حوالي اثني عشر كاتباً، وستة خدام. وكنا نأخذ معنا كل التجهيزات المطلوبة من طعام وسلاح، كما كنا نأخذ معنا كل السِّجلات والأضابير والمراسلات الموجودة في الديوان. وكانت هذه تشحن في صناديق كبيرة من الخشب، وتحمل على ظهور الإبل، ثم على السيارات في السنوات الأخيرة، عبر آلاف من الأميال، تتجه مع قافلة الملك أينما اتجهت. وكان محتماً أن تزداد صعوبة ترتيب هذه الكمية من الأوراق كل سنة، حتى صار حجمها أكبر من أن يُستطاع التصرف فيه. ونتيجة لذلك أصبحت الأضابير الأساسية فقط، هي التي تُحمل معنا. أما بقية الأوراق فتبقى في الرياض.

وكان يسافر مع الملك ثلاثة موظفين وثلاثة خدام، من قسم رئيس التشريفات في الديوان. كما يسافر معه ثلاثة من خدمه الخاصين، ليعتنوا بملابسه ومتطلباته الشخصية. إضافة إلى هؤلاء كان يسافر معه اثنان أو ثلاثة من الطباخين، الذين يساعدهم، عادة، عدد من الجنود. وكان يأخذ معه حرسه الخاص، ويبلغ عددهم خمسين أو ستين رجلاً، من أسر الرياض المشهورة بولائها له. وكان يأخذ معه جماعة مسلحة، مكونة من ثلاثين أو أربعين رجلاً من حرسه السّود الموثوق بهم. وإلى جانب هؤلاء وأولئك، كان يرافقه جنود آخرون. وبوجه عام، كانت حاشية الملك تشتمل على ما يقرب من مائتي رجل مسلح. وكان لا يصطحب معه أية امرأة في حملاته العسكرية، ولكنه كان يأخذ معه إلى الحج بعض زوجاته وبناته وخدمهن. في سنة 1926م  بدأ يستخدم السيارات كثيراً. وكانت هناك خمس عشرة أو عشرون سيارة تحمل الملك ورجال ديوانه وبعض حرسه الشخصيين. أما بقية من يسافرون معه، فيتبعونه على ظهور الإبل. وكان لديه سيارة مرسيدس رائعة، مخصصة لاستعماله الخاص. أما السيارات الأخرى، فكانت خليطاً من سيارات فورد وشفروليت وبويك وهدسون. وكانت هناك سيارتا فورد مخصصتين لموظفي الشعبة الخارجية في الديوان، إحداهما لرئيس الديوان واثنين من موظفيها، والأخرى لبقية الموظفين. وكان عدد السيارات يزداد كل سنة، حتى اختفت الإبل في عام 1935م، من قافلة أسفار الملك، وأصبحت كل القافلة تتكون مما يربو على خمسين ومائتي سيارة. ولم تكن هناك طريق معبدة بين الرياض ومكة المكرمة. بل لم تكن هناك طريق معبدة، في أي مكان من المملكة. وكان السفر يتم بمساعدة الأدلاء المحليين، الذين يعرفون أحسن الطرق عبر مناطقهم. وكثيراً ما كانت السيارة تصاب بعطل في تلك الظروف الصعبة، وكان يصحب القافلة حوالي عشرة من الهنود، أو الإندونيسيين، الذين يجيدون قيادة السيارات وهندستها. وقد أصبح هؤلاء خبراء، في الإصلاح المؤقت لها.

ويضيف المانع: كنا إذا توقف الركب ليلة في الصحراء، أقيمت خيمة كبيرة للملك، يستقبل فيها من كان يصاحبه من أسرته ومستشاريه. وكانت تقام بالقرب منها خيمة صغيرة، تستعمل لخدمه الشخصيين، كما تستعمل مخزناً للأطعمة التي يحتاج إلى طبخها. وكان من يسافرون معه ينامون فوق الأرض في العراء، على طريقة البدو. وكان الطباخون يعدون طعام الملك وحده. أما بقية من كانوا يسافرون معه، فكان كل واحد منهم يحمل طعامه الخاص، ويكمله باللحم وغيره مما يشتريه من البدو الموجودين في طريق القافلة. وكانت نيران المخيم تلمع في الصحراء، ولكن لا يسلم أحد من لدغات حشرات الصحراء، التي تجعل الحياة بالغة الصعوبة، لأؤلئك الذين لم يعتادوا على النوم في الهواء الطلق.

1. اصطيافه

وكان الملك عبدالعزيز يفضل الابتعاد عن الرياض، في الصيف، لشدة حرها، ولا يطيق حر مكة أو رطوبة جدة. يقول الزركلي: كتب إليّ يوسف ياسين في 27 محرم 1355هـ/ 21 أبريل 1936م، من جدة: "سافر الملك اليوم إلى عشيرة[1]، وسيقيم فيها مدة شهر، لأن مكة أصبح حرها لا يطاق. وهو لا يحب الطائف، لأن هواءها لا يروق له".

وسبب عدم ارتياحه لهواء الطائف، على الرغم من اعتداله صيفاً، أن ارتفاع البلدة فوق مستوى سطح البحر يؤثر فيه، خاصة وأنه لم يألف الحياة في قمم الجبال.

ويضيف الزركلي: وقد ألِف الاصطياف، بعد ذلك، في الحوية، على مقربة من الطائف. ويُلاحظ أن مناخ الطائف شديد الجفاف، والحَوية ألطف جواً منها[2]. وكان يذهب كذلك إلى سهل (ركبة) بجوار الطائف للصيد والقنص. وإلى عشيرة وسامودة، قرب الطائف.

وفي الطائف اتخذ الملك قصراً كبيراً، يُسمى شبرا. وكان هذا القصر للشريف عبدالله باشا، نسخة من بناية في مصر قد خلبت لبه.

وكان الملك عبدالعزيز ولوعاً بجدة، وفي ذلك يقول المانع: لا زلت أذكر رؤيته مرة أو مرتين، في لحظة نادرة من لحظات الانفراد والطمأنينة، وهو جالس في قاعة أحد أماكن إقامته، يتأمل ألوان البحر الأحمر المتغيرة دائماً تحت أشعة شمس الأصيل.

وكان من عادته بعد الانتهاء من اصطيافه في الحوية، أو في الطائف، أو خروجه من مكة لركوب الطائرة إلى الرياض، أن يجعل  (أم السّلم)  محطة له، قبل دخول جدة.

ويعلم أعيان جدة وكبار الموظفين فيها بسفره من مكة، فيسرعون إلى أم السّلم لاستقباله والسلام عليه. وقد يبطئ بعضهم، فيتكتلون جماعات، ويقفون في الطريق، فيراهم وهو قادم بموكبه، فتتوقف سيارته ويجيئونه يسلمون عليه واحداً فآخر.

ويقول الزركلي:

تأخرت عن إدراك الملك، قبل قيامه من أم السّلم. وكنت أقود سيارتي، فرأيت الموكب قادماً. فترجلت. ووقفت منفرداً. ورآني فاستوقف سيارته. والملك كعادته جالس إلى جانب السائق. ومن خلفه أخوه الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، ونجله النائب العام الأمير فيصل. وأسرعت فسلمت. وسألته عما يجب أن أعرفه، ولا سيما مقابلة السلك السياسي له، فأجاب، وضرب لهم وعداً ضحى الغد وانحرفت، فاستعرضت الموكب، وهو في نحو 200 سيارة  ".

ويشبه ما تقدم، ما أورده عبدالوهاب عزام، الذي عمل وزيراً مفوضاً لمصر في المملكة:

خرجنا ضحى الخميس 15جمادى الأولى 1367هـ/ 26 مارس 1948م، نؤم بعض البساتين، في الرياض. وبينما نحن نسير على الطريق، الذي يمر بالقصور الملكية، توقف السائق قائلاً: الشيوخ!. ورجع القهقرى. فعلمنا أن الملك عبدالعزيز مجتاز. وانحاز السائق عن الطريق، فنزلنا. ومر الملك فرآنا، فسلم. وأمر فوقفت السيارة، فأسرعت وسلمت عليه. فقال: من أين؟ قلت: من دار الضيافة إلى خارج البلد. فقال: اليوم الخميس، وهو يوم العلماء، وأنا ذاهب للقائهم. وقال: جولوا حول البلد، هذا بلدكم. وأمر من معنا أن يذهب بنا إلى بستان الأمير سعود، وبساتين أخرى.

وكان الملك عبدالعزيز، أثناء رحلاته في البادية، قبل اتخاذ السيارة والطائرة، ينام على الفراش والسجادة في الليل، ويضعهما تحته على الكور، في سفره على الراحلة. ولا يحمل في جيبه شيئاً، لا ساعة ولا قلماً ولا ذهباً ولا فضة. وقد لا يكون في ثيابه جيوب البتة.

إلا أنه يحمل ساعة في الخُرج عند السفر، ويضعها تحت الوسادة عندما يقيم في مكانه. وهي في صندوقها، الذي جاءت فيه من المصنع.

ويحمل ناظوراً كبيراً لا غني له عنه. فهو كثيراً ما يراقب من مجلسه حركات رجاله وخدامه وغيرهم. ولا تكاد تمر غيمة في الأفق، إلاّ رفع إليها الناظور متيقناً متثبتاً.

ثم كان من عادته ـ  بعد استعمال السيارة والطائرة ـ إذا ترك الرياض، أن يأمر بالإبراق إلى من لا يكون معه، من كبار أبنائه ومستشاريه وسفاراته، من أي مكان يستقر فيه. وإذا كانت رحلته إلى الصيد والقنص، صدرت البرقية من البر عن "الشنطة" أي حقيبة اللاسلكي.

وفي رحلته الأولى إلى الحجاز بعد فتحهـا، خرج موكبه من الرياض في ربيع الثاني 1343هـ/ 11 نوفمبر 1924م، وفيه عبدالله بن أحمد العجيري[3]، وهو راوية محاضر، نجدي من الحوطة. يحفظ كثيراً من الشعر، من دواوين فحول الشعراء، والنوادر والقصص من التراث العربي، من كتب الأغاني لأبو الفرج الأصفهاني، والكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ وديوان الحماسة لأبي تمّام وغيرها. وكان السلطان عبدالعزيز يطلبه في ساعة من الليل قائلاً: وين العجيري؟، ليقص عليه من القصص والروايات ما يسليه. وينشد ما قاله فيه شعراء نجد من فصيح أو عامي. وكان الملك ومن معه على ظهور الإبل، والعجيري على راحلته، يحاضرهم كل ليلة ساعة أو ساعتين. استمر على ذلك ثلاث وعشرين ليلة، لم يُعد العجيري في ليلة ما ذكر قبلها.

ومن عاداته في رحلاته أن يقف اثنان من رجاله، وبيد كل منهما بندقية، على درجة سيارته، هذا من اليمين وذاك من الشمال، خوف وقوع حادث مفاجئ. وتكون إلى جانبه في السيارة بندقية خاصة به. ويضع سائق سيارته، وهو هندي مضى على وجوده عنده سنوات عديدة، بندقية في جانبه.

ويسير، حيثما سار، شاب أسود اللون، تسلح بالبندقية والمسدس والجنبية والخنجر، فيرافقه في زياراته، وفي ذهابه إلى الولائم الخاصة، وإلى المسجد، وإلى كل مكان. ولا يتركه إلا بعد دخوله غرفته الخاصة في القصر. ويقف وراءه إذا صلى، ولا يصلى معه بل ينتظر ختامها ليصلي.

وقد انتقلت هذه العادة إليه من أمراء آل سعود السابقين، بعد مقتل الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود عام 1218هـ، وهو يصلي بمسجده في الدرعية.

2. رحلاته إلى النزهة والصيد

كان الملك عبدالعزيز يمارس الصيد ـ هوايته المفضلة ـ في فترات راحته القصيرة للغاية. وكان يذهب في الشتاء، أحياناً، مع عدد قليل من أصحابه ليصطاد أنواعاً من الصيد، خاصة الظباء. وكانت الحباري تطير خلال الشتاء فوق نجد متجهة نحو مأواها الشتوي في اليمن. وعندما يقترب الربيع تعود من هناك وتواصل طيرانها متجهة، فيما يبدو، إلى سيبيريا ومنشوريا. وكان عدد منها يقع ضحية بندقية الملك. وقد أصاب ذات مرة طيراً كان على عنقه طوق نحاسي، فيه كتابة صينية أو يابانية. وطلب من مترجمه محمد المانع أن يقرأ تلك الكتابة، لكنه مع الأسف لم يعرف لغتها.

وكان يذهب، أحياناً، إلى مكان خارج الرياض يسمى (الخفس). تجتمع فيه مياه الأمطار. وكان أكثر طراوة وخصباً من الصحراء المحيطة به. وكان يصحبه، أحياناً، كبار مستشاريه ورؤساء كتابه للنزهة هناك. وإذا وصلوا "الخفس"، نسوا كل ما يتعلق بأعمالهم المكتبية، وتمتعوا بالراحة والطعام اللذيذ. وكان معروفاً عن الملك أنه يستروح في تلك النزهات، فيأخذ معه خادماً لديه موهبة خاصة في الفكاهة. وكان مما يقوم به ذلك الخادم طرح أسئلة حمقاء على ضيوف الملك. وإذا لم يجب الضيف عنها فوراً إجابة في مستواها عوقب. وكان يستظرف عدداً من مرافقيه مثل ماجد الخثيلة، ومطلق الجعبا، وسلطان المنديل، لما يضفونه على مجلسه من المرح والدعابة.

وكانت هذه الدعابات تتم، بطبيعة الحال، بعيداً عن أعين العامة، لأن الملك كان من الحكمة بحيث لا يُسقط الحواجز بينه وبين رعاياه تماماً، بل يُبقي مسافة من الاحترام والتقدير قائمة.

3. أسفاره إلى الخارج

أ. زيارته الكويت والبصرة

سافر الأمير عبدالعزيز إلى البحرين في صباه، عندما كانت أسرته تبحث عن مأوى، وعاش عشر سنوات من صباه ومطلع شبابه، في الكويت.

وبعد فتح الرياض، وتوليه الأمر، سافر إلى البصرة في صفر 1335هـ/ نوفمبر 1916م، ماراً بالكويت، وقدم التعزية للشيخ جابر بن مبارك ولآل الصباح في وفاة كبيرهم الشيخ مبارك. وكان قدومه البصرة بدعوة من السير برسي كوكس، الذي كان يعمل آنذاك في وظيفة كبير الضباط السياسيين، في الحملة البريطانية في العراق. ونزل في ضيافة ذلك القائد. ويقول فيلبي: إن هذه أول مرة يسافر فيها الأمير عبدالعزيز إلى بلد أجنبي. وقد تأثر عند رؤيته العدد الوافر من المعدات الحربية الحديثة. وربما استخف بالإنجليز حين رأى أعظم مضيفيه مكانة بينهم، "امرأة"  تُدعى "جرترود بل".

ب. لقاؤه ملك العراق فيصل الأول، في عرض الخليج العربي

سافر الملك عبدالعزيز إلى خارج بلاده في رحلة بحرية، عندما ذهب للقاء الملك فيصل بن الحسين ملك العراق. وقد جرى اللقاء في عرض الخليج العربي، على ظهر البارجة البريطانية (لوبين)، في 27 فبراير 1930م. وكانت بريطانيا رتبت لقاء ودياً بين الزعيمين، لإزالة ما بينهما من عداء. واستقل الملك عبدالعزيز السفينة التابعة لشركة كيبل آند وايرلس، من ميناء رأس تنورة على الخليج العربي، ومخرت به إلى عرض الخليج، حيث كان الملك فيصل على ظهر السفينة (نرجس). واجتمعا بحضور القنصل البريطاني في العراق. وقد انفعل الملك فيصل لدى رؤيته الملك عبدالعزيز ورجاله وحراسه السعوديين، وتحركت فيه ذكريات حروبه مع لورنس في الصحراء، ولم يتمالك نفسه قائلاً: إني أشعر بالفخر والابتهاج أن أكون بين جنود عظماء كهؤلاء". فأجابه الملك عبدالعزيز بسرعة بديهته المعروفة قائلاً: "مادام بلدانا صديقين فإن هؤلاء الجنود جنودك، كما أنهم جنودي".

ومن طرائف هذه الرحلة، أنه خلال اجتماع الملكين، أراد الملك فيصل تأكيد أمر ما، فقال للملك عبدالعزيز: وحياة رأسك!. فنظر إليه الملك عبدالعزيز، وقال: قل والله. أي لا تقسم بغير الله.

ج. زيارته البحرين

وبعد اللقاء اتجهت السفينة، التي تقل الملك عبدالعزيز إلى الأحساء. ولكنه في طريقه قرر أن يزور صديقه القديم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (توفي في شعبان عام 1351هـ/ ديسمبر 1932م)، شيخ البحرين. وكان الشيخ عيسى قد نُحي، آنذاك، عن المشيخة لتقدمه في السن، وتولى مكانه ابنه الشيخ حمد بن عيسى[4]. وكان الشيخ عيسى قد بذل مساعدته وحمايته للإمام عبدالرحمن الفيصل وأسرته، حيث آواهم في فترة اغترابهم عن الرياض.

واتجهت السفينة إلى ميناء المنامة، وفي الصباح الباكر نزل الملك وحاشيته إلى الشاطئ، واستقبله أبناء الشيخ عيسى، الذي كان مريضاً. وقد سُرّ الشيخ عيسى برؤية الملك عبدالعزيز، بعد هذه السنوات التي مرت على آخر لقاء بينهما. وقال الملك للشيخ عيسى: "إنه ليس لدي من أستشيره، بعد وفاة والدي، سواك". وبعد عدة ساعات تناقشا فيها، فيما يخص بلديهما من شؤون، تناول الملك غداء خفيفاً مع الشيخ وأسرته، ثم زار بلدة الرفاع في جزيرة المحرق الصغيرة. وهناك تناول الملك طعام العشاء مع وكيله في البحرين، التاجر النجدي المشهور، عبدالرحمن القصيبي. وحين أراد الملك مغادرة البحرين، حضر الشيخ حمد بن عيسى إلى شاطئ الزلاق، حيث كانت سفينة الملك تنتظره، وودعه. وكان الشيخ حمد بن عيسى كبير السن، ولم يؤد فريضة الحج بسبب حدس منجم قال له أنه سيموت إذا أداها. وكان هذا نوعاً من الخرافات والاعتقادات الباطلة، التي تحاربها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. لذا، قال الملك عبدالعزيز للشيخ حمد: "إني لن أكون مسروراً ما لم أرك في مكة". وبعد سفر قصير وصل الملك إلى ميناء العقير على الشاطئ السعودي.

ثم زار الملك عبدالعزيز البحرين ثانية، وهي زيارة رسمية، بدعوة من أميرها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، في يوم الثلاثاء 12ربيع الأول 1358هـ/2 مايو 1939م. ورافقه فيها ولي العهد الأمير سعود وعدد من أبنائه، واستقبلوا من قبل شيوخها وأهلها أروع استقبال. وقد عاد الملك إلى الخبر فالظهران يوم الأحد 17ربيع الأول 1358هـ.

د. زيارتاه لمصر

لم يسافر الملك عبدالعزيز خارج شبه الجزيرة العربية، إلا مرتين إلى مصر؛ الأولى للاجتماع مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، على ظهر الطراد (كونيري) في البحيرات المرة، بقناة السويس، في2 ربيع الأول 1364هـ/ 15 فبراير 1945م، ولمقابلة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، في بلدة الفيوم، في 17 فبراير 1945م. وكانت تلك الزيارة عظيمة الفائدة، حيث أتاحت له الالتقاء بزعيمي دولتين، من الدول العظمى.

(1) الزيارة الأولى

رغب الرئيس الأمريكـي فرانكلين روزفلت، وهو في طريـق عودتـه من مؤتمر مالطـه، فـي يناير 1945م، في مقابلة الملك عبدالعزيز والاجتماع به في مياه قناة السويس. ووافق الملك على ذلك لِما فيه من مصلحة لبلاده، وللقضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين. وأرادت الحكومة الأمريكية أن تكون المقابلة سرية، وبالغت في طلبها كتمان خبر الرحلة، ووجهة الملك وغايته، حرصاً على سلامة الرئيس الأمريكي، وخوفاً من تسرب الأنباء، عن مكان الرئيس روزفلت، فيصبح طراده البحري عرضة للقصف من الطائرات الألمانية. وكان الرئيس الأمريكي لا يرغب، في أن يعلم رئيس الوزراء البريطاني بهذه المقابلة.

وأقبل الملك عبدالعزيز من الرياض إلى جدة بالسيارات، وكانت إحدى المدمرات الأمريكية، وتحمل اسم "مورفي"، تنتظره في جدة. وخرج أعيان الحجاز وكبار الموظفين إلى ميناء جدة، يحيطون بالملك عبدالعزيز، وهم يحسبونه سيقوم بزيارة للطراد الأمريكي. وفي 12 فبراير 1945م، ركب الملك، ومعه 48رجلاً، في مقدمتهم أخوه الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، وابناه الأمير محمد، والأمير منصور وزير الدفاع، ووزير المالية عبدالله السليمان الحمدان، ووزير الخارجية بالنيابة يوسف ياسين، والوزير المفوض بلندن حافظ وهبة، وطبيبه الخاص الدكتور رشاد فرعون، وبشير السعداوي مستشاره الخاص، ورئيس الخاصة الملكية عبدالرحمن الطبيشي، وماجد الخثيلة، من أتباع الملك. وركب معهم سانت جون فيلبي. كما رافقهم الوزير الأمريكي المفوض في جدة، وليم إدي. وهو يحسن التحدث باللغة العربية. وانطلق الطراد وغاب عن الأنظار. وسرى الذعر والتساؤل في الجموع بجدة: أين ذهب الطراد بالملك؟. على أن شخصين اثنين كانا، من دون سائر الناس، عالمين بالرحلة والغرض منها، هما الأمير سعود والأمير فيصل، رآهما المتسائلون مطمئنين، فخف ما بهم. ووصل الطراد إلى البحيرات المرة حيث كان الرئيس الأمريكي ينتظره على سطح الطراد "كونيري". ومد بين الطرادين جسر مشى عليه الملك وبعض ممن معه، فكان الاجتماع قبيل الظهر من يوم الخميس 2 ربيع الأول 1364هـ/ 15 فبراير 1945م[5]. ورحب الرئيس الأمريكي، الذي لم يكتم إعجابه، بالملك عبدالعزيز حين تلاقيا، وأبدى سروره بلقائه. وكان يترجم بينهما الكولونيل وليم إيدي، وإلى جانبه بعض العارفين بالإنجليزية من رجال الملك، مثل عبدالله بالخير. واستمر الحديث أربع ساعات، تناول الوفدان خلالها طعام الغداء. وكان الرئيس الأمريكي يتنقل بكرسيه المتحرك.

وأهدى الملك عبدالعزيز إلى الرئيس الأمريكي سيفين مرصعين، أحدهما مجوهراً والآخر ذهباً، وأهداه كذلك كسوة عربية مكونة من بشت وغترة وعقال، وثلاث كساوي يحتوي كل منها على بشت وعقال وغترة وخنجر ذهب. ثم أربع كساوي يشتمل كل منها على بشت وعقال وغترة وساعة جيب ذهبية. عدا صرتين كبيرتين، أعطيتا لمن كان مع الرئيس في المقابلة. كما أهدى الرئيس الأمريكي كرسيه المتحرك للملك عبدالعزيز، وصار يتنقل به في قصره وفي ديوانه ويطلق عليه اسم "الحصان". كما أمر الرئيس الأمريكي بإهداء الملك طائرة، من نوع دي سي.

(أ) لقاء تشرشل والملك عبدالعزيز في الفيوم

بعد انتهاء الملك عبدالعزيز من مقابلة روزفلت، على الطراد (كونيري)، انتقل إلى المدمرة التي كان عليها. وجاء دور مقابلته للمستر ونستون تشرشل، رئيس الوزارة البريطانية. ومازال موعد الاجتماع به، ومكانه مجهولين.

يروي الزركلي، الذي حضر تلك الزيارة، قائلاً:

كنت في ضحى ذلك اليوم، 2 ربيع الأول 1364هـ/ 15 فبراير 1945م، في مقر وزارة الخارجية المصرية بالقاهرة، أحضر اجتماعاً لمجلس جامعة الدول العربية. وكلمني متحدث بالهاتف يقول إنه من السفارة البريطانية، وأن في السفارة "شخصاً" يود أن يستقبلني بها في أقرب فرصة. ولم أهتم للأمر، ووعدت المتكلم بأن أزور السفارة بعد انقضاء الجلسة. وذهبت إليها بعد الظهر. فكان النبأ أخطر مما يمكن أن أتوقع. علمت من ذلك الشخص، أن الملك عبدالعزيز سيصل في هذا الصباح، وقد وصل، إلى قرب مياه الإسماعيلية، وأنه أمر بذهابي لمقابلته في الطراد الذي هو عليه، وألا يعلم بهذا الأمر أحد قط.

ومضيت في الحال. وبلغت الإسماعيلية، وقد أظلم الليل. وطال بحثي عن مكان الطراد. وبعد جهد وتعب، اهتديت إليه، وصعدته فسلمت على الملك، واستبشرت بأن رأيت إمارات الارتياح بادية على وجهه.

ولبثت بعض الوقت، أصغي إلى ما كان يتحدث به، ثم إلى ما أخذ يوجهه إليّ خاصة. وقد قرر المبيت تلك الليلة 2 ـ 3 ربيع الأول في منطقة البحيرات المرة، على الطراد، وعليّ أن أرجع، ثم أعود إليه في الصباح، بما يبني عليه خطته.

وبعد ساعة من وصولي، نهضت مسرعاً إلى القاهرة، أحمل منه رسالتين سريتين شفويتين: إحداهما إلى الوزير البريطاني المفوض بجدة (المستر جوردن)، وكان تلك الليلة في القاهرة. والثانية إلى الملك فاروق.

وبلغت القاهرة بعد الساعة الثانية بعد منصف الليل. وقابلت جوردن فأبلغته محتوى الرسالة، على لسان الملك عبدالعزيز. ونهضت لإبلاغ الرسالة الثانية إلى الملك فاروق الساعة الثالثة، بعد نصف الليل، فإذا هو قد خرج بعد انقضاء حفلة ساهرة أقيمت في قصره تلك الليلة، للترحيب برئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي، وكان قد حل مصر منذ يومين.

ولم يسعني إلا أن أترك للفاروق ـ في القصر ـ رسالة يقرأها عند العودة من سهرته، أخبرته فيها بأن الملك عبدالعزيز في المياه المصرية. ويود أن يراه في فرصة قريبة، وليكن هذا سراً، ما دام الرئيس الأمريكي في مياه البحر الأبيض المتوسط.

وعدت إلى البحيرات بما يهم الملك أن يعلم به. وبلغت الطراد بعد شروق الشمس، والملك عبدالعزيز جالس. وحدثته بما كان: لقد هيأ البريطانيون كل شيء، ليكون الاجتماع بين جلالتكم وتشرشل سراً، في فندق الفيوم. ووصل المندوب البريطاني، الذي أخبرت الملك بأنه سيعرض البرنامج. وتحرك الطراد، عند أذان الظهر يوم الجمعة 3 ربيع الأول، متجهاً إلى الإسماعيلية، فبلغها في أقل من ساعة، ونزل الملك ومن معه في مينائها، وقد أُخلي الميناء من كل إنسان، إلا من ينقلون الأمتعة، ولا أدري من أي نوع من رجال البوليس السري كانوا. وكلهم مصريون.

واصطف على مقربة من الشاطئ، رتل من السيارات الرملية اللون، أعدته القيادة العسكرية البريطانية، لركوب الملك وحاشيته.

وحول الساعة الثانية بعد الظهر، انطلقت السيارات على مهل، ودخلنا القاهرة ليلاً، فاخترقنا شوارعها إلى طريق الفيوم الصحراوي، ولا يعلم أحد بنا. وكان النزول والمبيت في فندق "الأوبرج"، على بحيرة قارون، وليس فيه إلا مديره والموظفون والخدم، فقد أخلي من نزلائه في صباح ذلك اليوم. وأحيط بحرس من رجال البوليس.

وفي الساعة الرابعة بعد الظهر، من يوم السبت 4 ربيع الأول 1364هـ/ 16 فبراير 1945م، أقبلت على الفندق بضع سيارات، تقل أولاها الملك فاروق والزعيم السوري شكري القوتلي. وتلقاهما الملك عبدالعزيز معانقاً، واستمر اجتماع الثلاثة قرابة خمس ساعات.

وفي ضحى الأحد 5 ربيع الأول، وصل إلى الفندق المستر ونستون تشرشل، يصحبه، المستر أنطوني إيدن وزير الخارجية، وآخرون من كبار السياسيين والقواد العسكريين. فاستقبلهم الملك عبدالعزيز. وانفرد بتشرشل نحو ساعة. وتناول الجميع طعام الغداء على مائدة الملك.

(ب) العودة إلى المملكة

في صباح الاثنين، أُبلغ الملك أن الرئيس الأمريكي روزفلت، قد اجتاز منطقة الخطر في عودته إلى بلاده. فرُفع حجاب الكتمان عن وجود الملك، في الديار المصرية، وأصبح في الإمكان أن يستمتع أياماً برؤية وادي النيل. غير أنه آثر الإسراع في العودة إلى بلاده، لتهدئة النفوس المضطربة، قلقاً عليه.

وغادرت السيارات فندق الأوبرج بالفيوم، صباح الاثنين 6 ربيع الأول، تقل الملك عبدالعزيز وحاشيته. ومر بالأهرام، فالجيزة، فميدان عابدين. وهنا توقف الركب قليلاً، وبعث الملك أحد مستشاريه "خالداً القرقني"، برسالة شخصية إلى الملك فاروق، يشكره بها ويودعه، ويعده بزيارة خاصة له ولمصر. وتابع الركب رحلته بالسيارات إلى الإسماعيلية، حيث كان الطراد الأمريكي قد عاد من رحلته، وأقبل ينتظر. وأبحر في اليوم نفسه إلى جدة.

(ج) من طرائف الرحلة

أورد خير الدين الزركلي، الذي كان ضمن الوفد السعودي المرافق للملك في مصر، طرائف من رحلة الملك عبدالعزيز. فينقل الزركلي عن الكولونيل وليم إدي، المفوض الأمريكي في بجدة، الذي رافق الملك على ظهر المدمرة "مورفي"، من جدة إلى البحيرات المرة، أنه أثناء الرحلة عُرض على الملك عبدالعزيز فيلم تعليمي، عن حاملة طائرات أمريكية وعن دورها في الحرب. فأُعجب جلالته به، ولكنه علق عليه قائلاً: إني أشك في إمكان السماح لشعبي برؤية هذه الأفلام المدهشة. لأنها قد تقوي فيهم الميل إلى اللهو، وقد تصرفهم عن ذكر الله، وعن واجباتهم الدينية.

(د) حقيبة العلاج

عندما وصل الركب الملكي إلى الفيوم، أخذت، مع وزير المالية عبدالله السليمان، نعمل في إحلال رجال الحاشية في غرفهم. إلى أن بلغت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فتناولنا قليلاً من الطعام، وذهب كل منا إلى غرفته للنوم. ولم يكن قد أغمض لي جفن في الليلة السابقة. ولكن لم يكد الكرى يأخذ بمعقد جفنيّ، حتى نهضت مذعوراً، على قرع عنيف لباب غرفتي. وكان على الباب عبدالله السليمان ويوسف ياسين.

وقبل أن أسألهما بادراني قائلين: يريدك (أي الملك). وأردت أن أضع شيئاً على رأسي، فقالا: كما أنت. وذهبت مسرعاً إلى غرفة الملك، وهو في سريره، فلما رآني قال: تكفى يا خيري! قلت: سمعاً. قال: حقيبة أدويتي. نسيها المهبول أمين، في المركب. ولا أعرف الراحة بدونها. قلت: أبشر. قال: لا يستطيع غيرك أن يعود إلى القاهرة، ما دمنا في كتمان سيرنا. قابل الأمريكي "الكولونيل إيدي" واحضر اجتماع مجلس الجامعة. قلت سأذهب حالاً. وخرجت، فقابلني طبيبه الدكتور رشاد فرعون. وقال: بينما تعاد الحقيبة، ائتنا بهذه الأنواع من العلاج في طريقك. وركبت سيارة عسكرية يقودها جندي بريطاني، وقلت: إلى القاهرة. وقبل طلوع الفجر أيقظت الأمريكي "وليم إدي" فقال: إن الطراد الذي كان عليه الملك في البحيرات المرة، قد أبحر. وسأبرق إلى أول شاطئ يمر به، فتحمل الحقيبة إلينا طائرة عسكرية، قبل سفر الملك. وكان ذلك. ووسائل الحرب تأتي بما يشبه المعجزات.

(هـ) سؤال عن الأهرام

وفي أثناء مرورنا بأهرام الجيزة وأبي الهول، في طريقنا من الفيوم إلى القاهرة، قال لي الملك عبدالعزيز، وكنت معه في سيارته: ترى ما كان رأي الصحابة الذين دخلوا مصر ورأوا هذه الآثار؟ قلت: كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولاسيما أبا الهول. وكان يظهر منها هرمان ينسب بناؤهما إلى النبي إدريس. قال: ومتى ظهر أنها قبور؟. قلت: من عهد قريب يا طويل العمر. فزال عجبه.

(و) إسراف

وقبل أن نصل إلى الأهرام صعد إلى إفريز السيارة الملكية، أحد تراجمة السياح، يشرح للملك شيئاً عن الأهرام وأبي الهول. وأشار إليّ الملك أن أكرمه بعشرين جنيهاً. فمددت يدي بها إليه. فامتنع عن قبولها ونزل. وكان على جانبي الطريق بعض رجال الأمن، والسيارة ماضية في سيرها. فألقيت العشرين جنيها إلى الرجل، وسقطت على الأرض فأسرع بعض من كان هناك إلى التقاطها. وما كدنا نجتاز القاهرة حتى كان أناس يقولون: الجنيهات ينثرها الملك عبدالعزيز على جانبي الطريق من الفيوم إلى قصر عابدين، يا له من إسراف!

(ز) على رافعة الأثقال

لم يتسع وقت الطراد لإقامة ممر ثابت متين، بينه وبين الميناء، في الإسماعيلية، فكنا نقفز على خشبات وضعت، لا يمكن أن تحمل الملك عبدالعزيز، ولا يمكن أن يسير عليها. فما العمل؟

جيء برافعة أثقال، وجلس الملك عبدالعزيز في شيء أشبه بصندوق كبير، فكانت أعيننا وقلوبنا معه، في صعود الرافعة ونزولها، إلى أن استقرت على الطراد.

(2) الزيارة الثانية لمصر

ألقى الملك عبدالعزيز نظرة خاطفة على ديار وادي النيل، عقب اجتماعه في البحيرات المرة بالرئيس الأمريكي روزفلت عام 1364هـ/ 1945م، فخص ذلك القطر بزيارة ثانية، لتكون خالصة للديار المصرية. وتلقى دعوة من الملك فاروق الأول لزيارتها. واستعدت مصر للقاء ضيفها، استعداداً منقطع النظير.

ووصلت إلى ميناء جدة ثلاث سفن مصرية، مزدانة بالأعلام والشارات، تحمل إحداها بعثة شرف، كان من ضمنها الأديب عباس محمود العقاد والأديب إبراهيم عبدالقادر المازني، أوفدت لمرافقة الملك عبدالعزيز، في قدومه إلى السويس.

ونزلت بعثة الشرف بجدة، فصحبت الملك عبدالعزيز إلى اليخت "المحروسة"، وتحرك اليخت، عصر الاثنين 4 صفر 1365هـ/ 6 يناير 1946م، تحرسه الطوافة "الأميرة فوزية" والطوافة "الأمير فاروق". ومر اليخت صباح الخميس 7 صفر أمام فنار "زينوبيا"، حيث كانت في انتظاره زوارق البوليس المصري، ومصلحة خفر السواحل، فأحاطت به للحراسة. وعلى مقربة من بورتوفيق بالسويس، حلق فوق اليخت سرب من طائرات سلاح الطيران المصري، وأطلقت قلعة السويس 21 طلقة مدفعية، ورسا اليخت بميناء بور توفيق، ضحى الخميس، وصعد ملك مصر، فاروق الأول، لمعانقة العاهل السعودي. وقدم الضيف إلى المضيف من كان معه من الأمراء والوزراء وكبار الحاشية. كما قدم المضيف رئيس وزرائه محمود النقراشي باشا، ورئيس ديوانه، ووزير خارجيته وبعض كبار موظفيه. وركب الملكان القطار الخاص من السويس إلى القاهرة. وازدحمت الجماهير على طول الخط الحديدي، وازدانت محطات القطار بالزينات والأعلام. وكان فرسان العرب يسابقون القطار على صهوات الجياد. وفي محطة القاهرة، وكان كبار الدولة في الاستقبال. وقدمهم المضيف إلى الضيف بأسمائهم. ثم ركب الملكان إلى قصر عابدين. وبعد استراحة فيه، انتقل الملك عبدالعزيز وحاشيته، إلى قصر الزعفران، المعد لإقامته.

وتتابعت في الأيام التالية، الولائم والرحلات والحفاوات. وزار الملك عبدالعزيز الهيئات العلمية، وجرى له احتفال في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وأنشد أمامه طلبة الكلية الحربية نشيد "حفظ الله الملك". وقدمت له الجامعة مداليتين تذكاريتين. وقدم له طلبة الشرطة المصرية درعاً، سرّ به الملك وقال عنه: "إنه درع يحمي مودة البلدين". وأقيم عرض عسكري ضخم على شرف الملك. وحضر سباق الخيل، وزار القناطر الخيرية، والبرلمان، والمتحف الزراعي، وحديقة الحيوانات، ومصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، ومزرعة أنشاص. وسافر بالقطار إلى الإسكندرية، يرافقه رئيس الوزراء محمود النقراشي باشا، فزار معالمها، وبات بها في قصر رأس التين. وعاد إلى القاهرة حيث نزل بقصر الزعفران. وأقام له أمين عام الجامعة العربية، عبدالرحمن عزام باشا، مأدبة في مبنى الجامعة العربية. واختتمت الزيارة بمأدبة غداء فاخرة في قصر عابدين، أقامها الملك عبدالعزيز للملك فاروق ورجالات مصر يوم الاثنين 18 صفر/ 21 يناير. وقيل إن نفقاتها بلغت 2500 جنيه مصري.

أمضى الملك عبدالعزيز اثنى عشر يوماً في وادي النيل، وما رُئي وجهه يطفح بالبشر، كما كان في أيامه هذه بمصر. زار وادي النيل. ورحب به الجميع من مختلف الأحزاب والطوائف.

وكان الملك عبدالعزيز يجلس للقادمين للسلام عليه، في قصر الزعفران، مجلساً عاماً. ويستقبل وفوداً من العلماء والأدباء ورجالات الدولة والسياسة في مصر، مرحبين به، يتشاورون معه، ويتحاورون.

وفي نهاية الزيارة، جرى وداع الملك عبدالعزيز في محطة مصر للقطارات بوسط القاهرة، يوم الثلاثاء 19 صفر 1365هـ/ 22 يناير 1946م، وكان الإبحار من ميناء بور توفيق، في أصيل اليوم نفسه، على اليخت "محروسة"، ووصل إلى جدة، في صباح الجمعة 22 صفر 1365هـ/ 25 يناير 1946م.

(أ) خطابه إلى الشعب السعودي بعد عودته من مصر

ما كاد الملك عبدالعزيز يبلغ ميناء جدة، حتى أذاع في شعبه كلمة، أشار بها إلى اجتماع (رضوى)، بينه وبين الملك فاروق، الذي جرى قبل ذلك، قرب ينبع في 10 صفر 1364هـ/ 25 يناير 1945م، وما أسفر عنه من وفاق، وإلى ما قدمته بلاد النيل، من حفاوة به وإكرام، ثم قال:

"شعبي العزيز!

من فضل الله علينا جميعاً، أن كانت كلمتنا في هذه الزيارة، والتي قبلها، مجتمعة، على مواصلة جهودنا في تأييد جامعة الدول العربية، وبذل كل مرتخص وغال في تأييد التضامن، بين سائر دول الجامعة، بالقلب والروح، لما فيه خير دول الجامعة، بل لما فيه الخير لسائر البلاد الإسلامية والعربية. وسنستمر على هذه السياسة، بمشيئة الله، ما حيينا، وسنورثها بنينا حتى يظل العربي يشعر، في كل موطن يمر به من بلاد العرب، بأنه يسير في موطنه، ويعتز في كل موطن من تلك المواطن، بما يعتز به في وطنه وبلاده".

"شعبي العزيز !

ليس البيان بمسعف في وصف ما لاقيت. ولكن اعتزازي أني كنت أشعر بأن جيش مصر العربي هو جيشكم، وجيشكم هو جيش مصر، وحضارة مصر هي حضارتكم، وحضارتكم هي حضارة مصر، والجيشان والحضارتان جند للعرب".

(ب) الملك يتحدث، والعقاد يروي

كان الأستاذ عباس محمود العقاد، من أعضاء وفد الشرف، الذي حضر من مصر إلى الحجاز، لمرافقة الملك عبدالعزيز في زيارته هذه، لبلاد وادي النيل.

ويذكر العقاد أن حديثاً دار في مجلس الملك عبدالعزيز، وهم متجهون من جدة إلى السويس، على يخت المحروسة. وكان الحديث عن الجامعة العربية، فقال الملك: "إنها منار لنا، لأنها تصدر في أعمالها عن بحوث مشتركة، بين ذوي الرأي والبصيرة، يرون في جملتهم ما لا يراه أهل كل بلد على انفراد. وإنها دريئة للدول العربية، لأن حجة الدولة، التي تحتج بقرار الجامعة قائمة، وعذرها، فيما ترضاه أو تأباه، مقبول.

قال العقاد: وشفع جلالته هذا البيان بمثل بليغ، كعادته في توضيح آرائه بالمواعظ والأمثال، فقال:

كان في مملكة من الممالك منار مغناطيس، يكشف البحار من حولها، وينتزع الحديد من السفينة التي تغير عليها، فلا يقدر أحد على فتحها. واشتدت شوكة هذه المملكة، فحسدها جيرانها، وأخذوا في تدبير المكايد لهدم منارها، فدسوا عليها جاسوساً من جواسيسهم يتزيا بزي النساك الصالحين، ثم تركوه يقيم فيها ردحاً من الزمن حتى يستجمع الثقة والمودة من أبنائها. وطفق هذا الجاسوس يصنع لهم الكرامات، ويدلهم على مخابئ الكنوز، ويمخرق عليهم بالعجائب حتى أنسوا به واطمأنوا إليه، فلما عرف مكانته عندهم، جاءهم في بعض الأيام برؤيا يزعم أنه رآها، ويزعم لهم أنه يخاف عقباها. وسألوه عما يخافه، فأحجم ثم أحجم، وهو يغريهم بالإلحاح عليه، كلمّا اصطنع لهم الإحجام وتردد في الجواب، فلما شوقهم غاية التشويق إلى استطلاع الخبر قال لهم: إني مطلعكم عليه والعهدة عليكم، وإن تحت هذا المنار كنزاً من الذهب والجوهر، يغنيكم عما في الأرض وما رحبت، من النفائس والخيرات، ولا تنالونه إلا بهدم المنار، ولكن حذار حذار من الإقدام على هدم المنار.

وكان الرجل كاذباً في نية التحذير، صادقاً في نية الإغراء، فما هو إلا أن سمعوا منه إغراءه بالنفائس والخيرات، حتى دكوا المنار دكاً، فعرفوا غفلتهم واستبيحت حوزتهم، وفقدوا الدريئة وفقدوا النور، فتمكن منهم من كان يتقيهم من الجيران والأعداء.

قال جلالته: "وكل عربي يمس هذا المنار، طمعاً في المال والحطام، إنما يصيب قومه بمثل ما أصاب أولئك الغافلين.

4. الزعماء والشخصيات، الذين التقاهم الملك عبدالعزيز

التقى الملك عبدالعزيز، خلال حياته المديدة، عدداً كبيراً من الشخصيات العربية والإسلامية والأجنبية البارزة. وبعض هذه الشخصيات ممن زاروه للمباحثات أو الوساطة أو للمجاملة، أو ممن جاءوا للحج ونزلوا في ضيافته، أو قابلهم في زياراته الخارجية إلى البحرين والبصرة ومصر. وفيما يلي قائمة بأهم الشخصيات العالمية والإسلامية والعربية، منها على وجه الخصوص:

1.    الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، في البحيرات المرة بقناة السويس بمصر عام 1945م.

2.    ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، ووزير خارجيته أنطوني إيدن، في الفيوم بمصر عام 1945م.

3.    الملك فاروق الأول، ملك مصر، ومحمود فهمي النقراشي باشا، رئيس وزرائه، في ينبع عام 1945م، وفي القاهرة، ثم في القاهرة مرة أخرى عام 1946م.

4.    الملك فيصل الأول ملك العراق في عرض الخليج العربي في فبراير 1930م.

5.           شكري القوتلي الرئيس السوري، الذي وصل إلى مكة المكرمة في رجب 1344هـ/ فبراير 1926م، لتهنئة الملك عبدالعزيز بفتح الحجاز. ثم التقاه مرات عديدة واحدة منها في مكة وأخرى في القاهرة عام 1945م.

6.    نوري السعيد رئيس وزراء العراق، ثم وزير الخارجية. التقاه عدة مرات آخرها في مخيم الملك بـ (روضة التنهات) شرقي نجد، في صفر 1359هـ/ أبريل 1940م.

7.    توفيق السويدي وزير الخارجية العراقي، التقاه عدة مرات.

8.    رشيد عالي الكيلاني رئيس وزراء العراق، الذي لجأ إلى الملك عبدالعزيز، وأقام في حماه ضيفاً أكثر من خمس سنوات.

9.    الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى.

10.   الأمير أحمد وحيدالدين، حفيد السلطان العثماني عبدالعزيز، أحد أمراء آل عثمان. وقد حلّ ضيفاً على الملك عبدالعزيز، في موسم الحج. وأشار إليه الملك في خطبته في ضيوفه في موسم الحج بقوله: لقد أوذينا في سبيل الدعوة إلى الله وقوتلنا قتالاً شديداً، ولكنا صبرنا وصمدنا.إن أظلم من حاربناهم أجداد هذا الرجل (وأشار إليه).

11.   السيد أحمد الشريف السنوسي، المجاهد الليبي (المولود في 1290هـ)، الذي وصل إلى مكة في 5 شعبان عام 1343هـ، وأدى فريضة الحج، ثم سافر إلى اليمن وعسير في أواخر شوال عام 1345هـ/ مايو 1927م. وبقي في الحجاز مجاوراً، في كنف الملك عبدالعزيز، وكان موضع عنايته، حتى توفي بالمدينة المنورة في 13 ذي القعدة 1351هـ/10مارس 1933م.

12.   أمان الله خان، ملك أفغانستان المخلوع، عندما جاء إلى الحج، عام 1349هـ/1931م، قادماً من نابولي بإيطاليا.

13.   شيوخ الكويت مثل الشيخ مبارك، والشيخ أحمد الجابر، والشيخ سلمان الحمود، والشيخ عبدالله السالم. وقدم وفد منهم إلى الرياض في 7 ذي القعدة 1350هـ/ أول أبريل 1932م، برئاسة الشيخ أحمد الجابر الصباح، وبقي وفد آخر توجه للحج ونزلوا ضيوفاً على الملك.

14.   شيوخ البحرين، مثل الشيخ عيسى بن علي، والشيخ حمد بن عيسى، ومحمد بن عيسى ومبارك بن عيسى وغيرهم.

15.   عبدالله بن قاسم بن ثاني، أمير قطر، الذي زار الرياض عام 1352هـ/ 1933م.

16.   الملك عبدالله بن الحسين، ملك الأردن، الذي زار الرياض من 20 إلى 23 شعبان 1367هـ/ 26 يونيه 1948م.

17.   الملك طلال بن عبدالله، ملك الأردن، الذي زار الرياض في صفر 1371هـ/ 10 نوفمبر  1951م.

18.   الملك حسين بن طلال، ملك الأردن، الذي زار الرياض في 12 يوليه عام 1952م.

19.   اللواء أركان حرب محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر، زار الملك أثناء موسم الحج عام 1372هـ/ سبتمبر 1953م.

20.   كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية، الذي وصل الرياض في 7  فبراير 1953م.

21.   أمين الريحاني، الأديب اللبناني المعروف، التقى السلطان عبدالعزيز عام 1340هـ، وكتب عنه فصلاً في كتابه (ملوك العرب)، ثم توسط بينه وبين الشريف علي بن الحسين عام 1925م. وكتب تاريخ الدولة السعودية في مؤلفه (تاريخ نجد الحديث).

22.   الأمير شكيب أرسلان، الأديب والداعية الإسلامي، المعروف بأديب البيان، وقد التقاه عندما قدم إلى الحج عام 1347هـ/ مايو 1929م.

23.   عبدالرحمن عزام باشا، أول أمين عام لجامعة الدول العربية. والتقاه قبل هذا المنصب مرات عديدة.

24.   د.عبدالوهاب عزام  التقى بالملك مراراً في مكة، وفي الرياض، ثم عمل سفيراً لمصر في المملكة.

25.   حمد باشا الباسل، الزعيم المصري المشهور، حين قدم إلى الحج.

26.   عباس محمود العقاد ، رافق الملك عبدالعزيز أثناء رحلته من جدة إلى مصر، حيث كان ضمن بعثة الشرف المرافقة.

27.   إبراهيم عبدالقادر المازني، الأديب المعروف، رافق الملك عبدالعزيز أثناء رحلته من جدة إلى مصر، ضمن بعثة الشرف المرافقة.

28.   السيد محمد رشيد رضـا، صاحب مجلة المنـار، الذي وصل إلى جدة في 26شوال1344هـ/ 9 مايو 1926م.

29.   أحمد زكي باشا شيخ العروبة.

30.   الشيخ مصطفى المراغي، رئيس المحكمة الشرعية العليا في مصر، قدم للوساطة بين ابن سعود والأشراف.

31.   الشيخ حسن البنا، زعيم جماعة الإخوان المسلمين بمصر، قابله في قصر الزعفران بالقاهرة عام 1946م.

32.   طالب النقيب، السياسي العراقي المشهور، التقاه عدة مرات في البصرة وفي القصيم وفي مكة، عندما جاء للوساطة بين السلطان عبدالعزيز والملك علي بن الحسين عام 1344هـ/ 1926م.

33.   سليمان باشا شفيق الكمالي، القائد العثماني، ومتصرف عسير، ووالي البصرة في أواخر عهد الدولة العثمانية. وصل إلى مكة في رجب 1344هـ/ فبراير 1926م، والتحق بخدمة الملك عبدالعزيز عام 1345هـ/1926م في وظيفة مفتش عام.

34.   جميل مردم، أحد رؤساء الوزرات السورية.

35.   طلعت باشا حرب، الاقتصادي المصري المعروف، ومؤسس بنك مصر. ذكر الزركلي أنه التقى الملك عبدالعزيز عند زيارته للمملكة عام 1935م، كما أوردت جريدة أم القرى خبراً بوصول طلعت حرب للمملكة في شعبان 1352هـ/ ديسمبر 1933م. وحضر الحج عام 1355هـ/ فبراير 1937م.

 



[1] عشيرة قرية على مقربة من الطائف، وهي المحطة الأولى للخارج من مكة على الطريق إلى نجد.

[2] وهي أقل ارتفاعاً من الطائف بألف قدم تقريباً.

[3]  عبدالله بن أحمد العجيري (1285-ربيع الأول 1352هـ / 1868-1933م) من أهل حوطة بني تميم في نجد. مولده ووفاته فيها. كان يحفظ الكثير من كتب الحديث والأدب والشعر، ويرويهـا في المناسبات. وكان مقلاً في شعره.

[4]  حمد بن عيسى بن عليّ، من آل خليفة، شيخ البحرين، وأميرها (1291-1361هـ / 1874-1942م) ولد في "المحرَّق"، وسماه الإنجليز شيخاً لها، بعد تنحيتهم أباه (سنة 1341هـ 1923م) فحفظ حق أبيه إلى أن توفي سنة 1351هـ، وفي الكتّاب من يجعل هذه السنة أول حكم صاحب الترجمة. ولم يكن في عهده ما يُذكر. أدى فريضة الحج عام 1356هـ/ 1938م، وحل ضيفاً على الملك عبدالعزيز بمكة. توفي بالسكتة القلبية في بلده. وهو والد الشيخ سلمان الذي ولي الإمارة بعد ذلك.

[5]  يذكر وليم إيدي أن اللقاء تم يوم 14فبراير 1945م.