إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود




الملك خالد بن عبدالعزيز





أسلوبه في الإدارة

أسلوبه في الإدارة

وإذا كانت للملك خالد، فلسفة واضحة للحكم جوهرها الانتصاف للمظلوم، فقد كانت له فلسفة إدارية واضحة مدارها التفويض، وتجنب الدخول في الجزئيات. بمجرد توليه الملك أصدر أمراً فوض بموجبه ولي عهده الأمير فهد بن عبدالعزيز إدارة كل شؤون البلاد. كانت العلاقة بين الملك وولي العهد نموذجية، مشوبة بكثير من الحب والاحترام المتبادلين.

كان ولي العهد حريصاً على أن لا يتم شي ذو بال إلا بعلم الملك وموافقته، وكان حريصاً على أن ينسب إلى الملك وحده الفضل في كل إنجاز تنموي يتحقق. وكان في الوقت نفسه يسعى إلى تجنيب الملك أعباء الإدارة اليومية. من جانبه لم يتخذ الملك أي قرار هام إلا بعد استشارة ولي العهد.

كانت توجيهات الأمير فهد للوزارة واضحة: أبلغوا الملك بكل الأمور الأساسية، ولكن لا تثقلوا عليه بالتفاصيل. وكان الملك خالد، بطبعه، لا يميل إلى التعامل مع قرارات يومية، خصوصاً عندما تكون ذات طبيعة فنية. كان يردد، دائماً: " الوزراء أدرى بعملهم".

خلال اجتماعه مع رؤساء الدول الأجنبية، ضيفاً أو مضيفاً، كان يتجنب اتخاذ قرارات فورية في أي موضوع يطرح للبحث. كان يقول: "ليجتمع الوزراء المعنيون أولاً، ثم نرى ما ينتهون إليه".

كان للبيروقراطيين نصيب وافر من تعليقات الملك خالد العفوية الصريحة. قال مرة: "الوزراء يرفضون، على الفور، أي دعوة تجيئهم من الحبشة أو الصومال أو بنجلاديش، أما إذا وصلت الدعوة من أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا، فما أسرع ما يبرقون مقترحين قبول الدعوة". وقال مرة: "المسؤولون يرددون في كل مناسبة: تعبنا من العمل ونريد الراحة، حتى إذا أعفى الواحد منهم من منصبه أنّ أنين الناقة التي فقدت صغارها".

وكثيراً ما سمعته يتندر من العقلية البيروقراطية التي تصر أن تكتب "سري جداً" على أشياء أبعد ما تكون عن السرية. قال مرة: "لم أر أعجب من هؤلاء الناس. يجمعون أشياء سبق أن نشرت في الصحف وأذيعت من الإذاعات ويعتبرونها أسراراً". ولم أخل أنا من نصيبي من هذه التعليقات، في بداية تكليفي بوزارة الصناعة والكهرباء أدليت بتصريح قلت فيه إن إصلاح الخدمات الكهربائية على نحو جذري شامل يحتاج إلى مدة زمنية لا تقل عن خمس سنوات. عندما رأيت الملك بادرني: "أعرف الهدف الحقيقي من التصريح، تريد أن تضمن لنفسك خمس سنوات في الوزارة".

هذا البعد عن القرارات اليومية لم يكن يقطعه إلا شعوره أن الضعفاء، الذي كان يعبر نفسه نصيرهم الأول، في حاجة إلى تدخله، في هذه الحالات، وحدها كان يحرص على أن يتلقى من الوزير المعني كل التفاصيل، وكانت هذه الحالات، في مجملها، تتعلق بحقوق من نوع أو آخر في ذمة الدولة للمواطنين، سواء كانت معونات أو قروضاً أو تعويضات. كان إيصال الخدمات العامة إلى المناطق النائية المحرومة منها أمراً من الأمور التي تستأثر باهتمامه. كان سروره بالغاً عندما يخبره الوزير المختص أن الهاتف وصل إلى تلك القرية، أو أن الكهرباء دخلت هذه الهجرة، أو أن مستشفى افتتح في هذه المدينة.

الذين عرفوا خالد بن عبدالعزيز قبل الملك، وعرفوه بعده، يجمعون على أنه لم يتغير بعد الملك على الإطلاق. ويجمعون على أنه تغير بعده تغيراً كبيراً. هذه الإشكالية تتضح عندما نذكر أن الإنسان لم يتغير قيد شعرة، إلا أن الملك ألقى على كاهل الإنسان مسؤوليات ضخمة تقبلها بجدية مطلقة. لم يتغير شيء في الإنسان العفوي البسيط الصريح المتواضع. إلا أن هذا الإنسان تقبل أعباء الملك الكثيرة، وتقبلها على علاتها. الرجل الذي لم يقم بزيارة رسمية واحدة خلال عقد من الزمان تولى أثناءه ولاية العهد، وجد نفسه بعد الملك مشغولاً بزيارة رسمية بعد أخرى، ضيفاً ومضيفاً. الرجل الذي كان قليل الجلد على الأوراق والتقارير، وجد نفسه بعد الملك يقضي الكثير من الوقت مع الأوراق والتقارير. الرجل الذي لم تستهوه المباحثات والمفاوضات، وجد نفسه بعد الملك في غمار المباحثات والمفاوضات. حتى عندما أخذت صحته تتدهور ظل حريصاً على أن يقوم بكل الواجبات الرسمية التي يفرضها منصب رئيس الدولة. سمعته مرة يقول: "لا ينبغي لإنسان عاقل أن يطلب الحكم، ولا ينبغي لإنسان عاقل يجيئه الحكم أن يفرط في تبعاته".

ويمضي سياق محاضرة القصيبي الذي يستعرض فيها جانباً من صفات الملك خالد، فيقول:

"أخبرني طبيب الملك خالد الخاص مرة، أنه لم ير في حياته كلها إنساناً أكثر جلداً على الألم، وأقل إظهاراً له من الملك. كان إيمانه العميق يقوده إلى تقبل كل ما قدره الله عليه برحابة صدر. لم يشعر قبل أي عملية من العمليات الجراحية الدقيقة الثلاث التي أجراها بأي قلق أو توجس. كان يقول: لا يموت الإنسان إلا في يومه، ولا داعي للخوف من المقدور. اذكر أنني زرته في لندن قبل العملية التي كانت ستجرى في مفصل الساق في اليوم التالي. عندما استأذنت في الخروج قال ببساطة متناهية: "اقترب لأودعك، قد لا أراك بعد العملية".

في مرضه الأخير نصحه أطباؤه بالبقاء في الرياض إلا أنه أصر على السفر في الموعد الذي حدد من قبل لانتقاله إلى المنطقة الغربية. عندما وصلت الطائرة إلى مطار الطائف نظر إلى الأطباء، وقال: "أرأيتم؟ سافرت ولم يحدث شيء". وأضاف يمازح الحاضرين: "الذين يستمعون إلى أوامر الأطباء لا يقلون جبناً عن الذين يستمعون إلى تعليمات زوجاتهم". شاءت إرادة الله عز وجل أن يموت صبيحة اليوم التالي لوصوله. استقبل الموت كما استقبل كل حدث في حياته باطمئنان عميق وإيمان أعمق.

ذات يوم، في مجلس الملك خالد بالرياض، تطرق الحديث إلى الضب. قلت: لا أعرف كيف يستطيع أحد أن يأكل حيواناً ينتمي إلى فصيلة الزواحف، ولا يكاد شكله يختلف عن التمساح. استمع الملك باستغراب ولم يقل شيئاً. بعد هذه الحادثة بعدة أسابيع كنت أزوره في مخيمه وهو في مقناص('أي رحلة للصيد والقنص في الصحراء.'). على مائدة العشاء وجدت أمامي طبقاً حرص الملك على أن أتذوقه. كان الطعام الذي يحتويه الطبق لذيذاً، وسرعان ما أتيت عليه. سألني الملك هل أعجبك؟ قلت: جداً. قال هل تعرف ما هو؟ قلت: طعام بحري، أعتقد أنه (لوبستر). ضحك الملك، وقال: لوبستر في البر؟ هذا هو الضب، الذي يشبه التمساح، والذي كنت تستغرب كيف يمكن لأحد أن يأكله. بعدها، كنت أرجو الملك قبل كل زيارة أن يكون طبق الضب ضمن أطباق المائدة. في النهاية قال لي: ليتني لم أدلك على لحم الضب، أنت تتمتع به وأنا أعاني في الحصول عليه من أجلك. أهم من الوجبات اللذيذة كان الدرس الذي لا ينسى: لا تذم شيئاً تجهله.

لم يكن الملك خالد يشعر بالسعادة الحقيقية إلاّ أثناء المقناص، في أعماق الصحراء. بعيداً عن الهموم والرسميات، كان يصحو قبيل الفجر، ويقطع النهار كله في القنص، ولا يعود إلا مع الغروب. كان يقطع في اليوم الواحد، أحياناً، أكثر من مائتي كيلو متر، في مناطق صعبة مليئة بالتلال والرمال، ومع ذلك لم يكن يحس بأي عناء. في الخيام، ونيران الموقد تبدد برد الليل، وفناجين القهوة تدار، كان خالد الإنسان ينطلق على سجيته مع إخوانه، وخاصته في مسامرات رائعة لا يمكن لمن حضرها أن ينساها مهما امتد به العمر.

والحديث عن المقناص يقودني إلى الحديث عن هوايات الملك الأخرى. أدت هذه الهوايات، دون قصد منه أو تخطيط، إلى نتائج تنموية غاية في الإيجابية. الناس، في كل زمان ومكان، على دين ملوكهم، وسرعان ما أصبحت هوايات الملك هوايات مجموعة متزايدة من المواطنين. اهتمام الملك بتربية الإبل أدى إلى انتشار اقتناء الإبل في كل مكان، ولعه بالخيل سرعان ما جعل من الفروسية هواية الكثيرين المفضلة. اهتمامه بالزراعة، وبالنخيل بالذات، حوّل أعداداً كبيرة من الناس إلى مزارعين. والجهود التي بذلها لجمع قطيع من المهاة العربية المنقرضة، الوضيحي، كانت نواة الجهد المنظم الذي بدأته الدولة لحماية الحياة الفطرية.

تولى الملك خالد أعباء الحكم سبع سنوات شهدت تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، وبداية الخطة الخمسية الثالثة. حققت المملكة في هذه الفترة منجزات تنموية مذهلة غيرت وجه الحياة. هذه الثورة التنموية حولت المملكة من مجتمع الأغلبية الفقيرة إلى مجتمع تمثل الطبقة الوسطى أغلبيته. وشهدت المنطقة العربية في هذه الفترة أحداثاً جساماً منها ما مضى، بخيره وشره، ومنها ما لا تزال آثاره معنا حتى الآن. عبر هذه التطورات الهائلة، في الداخل والخارج، ظل الملك خالد، يمثل، بملامحه الرضية، وابتسامته المشرقة، الرمز القريب إلى القلوب، الرمز الإسلامي، الرمز العربي، الرمز الإنساني".