إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

الفصل التمهيدي

خلفية تاريخية: مصر تحت الحكم العثماني

(القرون 16 – 18)

في القرن الثالث عشر الميلادي، سيطر العديد من الإمبراطوريات والقوى على الدول، في العالم الوسيط. وكان أهمها، في منطقة الشرق الأوسط، ثلاث قوى رئيسية: الأتراك العثمانيون، في آسيا الصغرى والبلقان؛ والصفويون، في فارس؛ والمماليك، في مصر والشام والحجاز. أمّا أوروبا، فقد كان فيها إمبراطوريات: النمسا والمجر، وروسيا وبروسيا، والبندقية وفرنسا، وغيرها. ولم تكن، آنئذٍ، الخريطة السياسية للعالم مستقرة؛ ولذلك احتدمت الصراعات بين القوى، كلّ يريد التوسع أو السيطرة والهيمنة.

ففي القرن الرابع عشر، رفع العثمانيون لواء الجهاد؛ لنشر الإسلام في ربوع أوروبا، حيث وطئت أقدامهم منطقة البلقان. وتوسعوا بعدها في مقدونيا وصربيا وغيرهما. كما تصدوا لأحلاف أوروبية. وخاضوا معارك شرسة، في أواخر القرن الآنف، ضد إمبراطورية النمسا والمجر. كذلك فتحوا القسطنطينية، في 20 جمادى الأولى 857، الموافق 29 مايو 1453.

وفي السياق نفسه، فإن دولة المماليك، في مصر والشام والحجاز، كانت مسيطرة على طرق التجارة، بين الشرق والغرب، إلى أن اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، الذي سلكته التجارة. وأضر ذلك الاكتشاف بمصالح مصر؛ ما حمل دولة المماليك على دفع أساطيلها وقواتها العسكرية إلى البحر الأحمر واليمن؛ لكي تمنع استيلاء البرتغاليين على عدن، أو دخولهم البحر الأحمر، وتهديدهم موانئ الحجاز. وبذل السلطان الغوري كلّ ما في وسعه، إلا أنه لم يحقق نتائج ملموسة. وهكذا بسطت السيطرة البرتغالية على مياه الهند. وضعفت قدرات مصر الاقتصادية، وتدهورت تجارتها، وحرمت أحد أهم مواردها الاقتصادية.

وفى المشرق العربي، استولى الصفويون (الشيعة) على أقاليم العراق، عام 1508. وفرضوا عليها المذهب الشيعي؛ ما آثار حفيظة العثمانيين (السُّنة)، الذين اندفعوا إلى المنطقة العربية، عام 1514، بقيادة سليم الأول الذي هزم القوات الفارسية، في موقعة جالديران، ودخل عاصمتهم، تبريز.

أولاً: توسع الدولة العثمانية في المنطقة العربية، وفتح مصر

أغرى الانتصار على الفرس، السلطان سليماً الأول بالتوسع. وعَدّ المهمة الأولى للعثمانيين هي الدفاع عن العالم الإسلامي، دون الأخطار الخارجية. واعتقد أنهم أقدر من دولة المماليك على الدفاع عن المنطقة، وخاصة في مواجهة الغزو البرتغالي. وقرر توحيد الشرق الأوسط، بأقاليمه المختلفة، في دولة واحدة. وذلك يعنى مواجهة دولة المماليك. وكان لا بدّ للسلطان العثماني أن يرتكز، في هذه المواجهة، على استغلال أوجُه الضعف المصري، والمخادعة ما يمكنه الخداع، وتجنيد العملاء؛ حتى يتفادى القوة العسكرية الرئيسية للمماليك.

اندفع سليم الأول، على رأس قواته، نحو جنوبي سورية، التي كانت تابعة لدولة المماليك. وانتصر على السلطان الغوري (المملوكي)، في معركة مرج دابق، عام 1516. ثم توجهت الحملة إلى مصر، حيث انتصرت على المماليك، الذين لم يحسنوا خططهم العسكرية؛ بل اختلفوا في تنظيم الدفاع أكثر مما اتفقوا. وكان ذلك في معركة الريدانية (منطقة القصاصين، حالياً)، عام 1517. وكان السلطان طومانباي هو الضحية الأولى لهذا الغزو، إذ أُعدم، وعُلِّق رأسه على باب زويلة.

ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت مصر ولاية عثمانية، طيلة 281 عاماً (1517 – 1798). شهدت خلالها تدهوراً في أركان الدولة، لم يعهده تاريخها. بدأ بسلب قواها: الصناعية والفنية، في إحدى وخمسين حرفة، كانت قد اشتهرت بها؛ ووضع أنظمة، تنافي القيم المصرية؛ وفرض الجزية؛ وتمكين "بكوات" المماليك من السيطرة على مقدرات مصر؛ والتمهيد لسيطرة البدو على صحاريها. أمّا الشعب المصري، فبقي مطحوناً. وزالت قوة مصر وجيشها، الذي كانت له السيطرة على المنطقة، حيث بنى الإمبراطورية المصرية المتسعة الأرجاء، في عصر المماليك.

وهكذا، في وقت كانت فيه أوروبا، تعيش عصر النهضة، وتصل إلى قمة التقدم العلمي، ويصطرع حكامها وشعوبها، لإثبات الذات، كانت مصر، ذات الحضارة والإمكانيات الوافرة، تعاني استعماراً مزدوجاً عثمانياً ـ مملوكياً. وكان التدهور يزداد باطِّراد، لارتهانه بضعف الدولة العثمانية؛ إضافة إلى إحكام قبضة بكوات المماليك على مقدرات البلاد. وبمعنى آخر، كانت مصر، في بداية الاحتلال العثماني، أفضل منها في نهايته، حين تفاقمت معاناة بنيها.

ثانياً: الأوضاع في مصر، إبَّان الحكم العثماني

ما إن فتح السلطان سليم الأول مصر، حتى وضع نظاماً لحكم متعدد السلطات، يضمن إحكام قبضة الدولة العثمانية "على منبع الذهب، مصر"؛ ويكفل تدفق الجباية إلى السلطان العثماني. وناهز استمرار هذا النظام العثماني محكم السيطرة، طيلة قرن ونصف. ومع انتصاف القرن السابع عشر، واستشراء الضعف في الدولة العثمانية، قويت شوكة المماليك، في مصر، وأصبحوا هم الحكام الفعليين. وقد نُفذت، في مصر، عدة سياسات، حددها السلطان سليم الأول:

1. السياسة الداخلية

أ. السلطة العليا في الدولة

الوالي العثماني، ويلقب بالباشا. ومقر حكمه في قلعة القاهرة. وهو نائب السلطان العثماني، المسؤول عن حكم مصر، حيث يُبلغ أوامره، ويعمل على تنفيذها. وقد حرص سليم الأول، والسلاطين من بعده، أن يجعلوا مدة الولاية عاماً واحداً؛ خشية أن يستأثر الوالي بالحكم، ويستقل عن الدولة العثمانية.

ولقد تمتع الوالي بألقاب عديدة، منها: "الوزير المكرم، والمشير المفخم، وكافل المملكة الإسلامية بالديار المصرية والأقطار الحجازية".

وساعد الوالي على إدارة شؤون البلاد، تلاه في الترتيب الرئاسي، نائبه "الكتخدا"، أو الكخيا. وكان يشغل هذا المنصب شخص مهم، تزكيه دار السلطنة، ويكون عينها على الباشا. ويأتي في المرتبة الثالثة "القائمقام"، وهو الذي كان ينوب عن الباشا، في حالة العزل أو الوفاة أو العجز عن أداء المهام، ريثما يُعَيَّن باشا بديل. ويتولى هذا المنصب واحد من قادة عسكريين، يحددهم السلطان العثماني.

ب. السلطة الثانية (رؤساء الجند)

وهم قادة الفِرق العسكرية، حُماة الحكم العثماني في مصر. مرّ الجيش المصري، بعد الفتح العثماني، بثلاث مراحل رئيسية:

(1) المرحلة الأولى: بعد الفتح العثماني، تكوَّن الجيش من أربع فرق عسكرية (وجاقات): اثنتان من المشاة: فِرقة الإنكشارية، وفِرقة العزب. وفِرقتان من الفرسان. "الكومليه والتوفكجيه". وقد كلَّف السلطان سليم الأول فِرقتَي المشاة حراسة أسوار القاهرة، وتأمين القلعة. أما فِرقتا الفرسان، فقد عهد إليها بحفظ أحياء مدينة القاهرة. وينمّ ذلك على تركيز العثمانيين في حماية العاصمة، دون الأقاليم؛ وهو ما استغله المماليك في بسط سيطرتهم عليها.

وقد استحدث السلطان سليم الأول فرقة خامسة، من المماليك الجراكسة (الفرسان)؛ للإفادة من خبراتهم السابقة بحكم البلاد؛ واستجابة مطالب السلطان بإرسال الجند من مصر، لدعم الفتوحات العثمانية.

(2) المرحلة الثانية: بناء الجيش العثماني، في مصر، في عهد السلطان سليمان القانوني، إثر محاولة أحمد باشا، والي مصر، عام 1525، الانفصال بحكمها عن العثمانيين. فقد اِسْتَجَدّ السلطان المذكور فِرقة سادسة. وأصدر قانوناً، يحدد مهام الفِرق.

(3) المرحلة الثالثة: في عام 1554، أرسلت فِرقة من الآستانة، لتكون حرساً للباشا، على غرار الحرس السلطاني؛ فأصبحت الفِرق سبعاً، إحداها من الفرسان المماليك. واستمر هذا الوضع نحو قرن ونصف، قبل أن يبدأ العثمانيون الاستعانة بتلك القوات على حروبهم؛ حتى إن الوجود العثماني، كان محدوداً جداً، عند وصول الحملة الفرنسية إلى مصر.

وللحفاظ على أمن التحركات، وتوفير بيئة الزراعة، داخل مصر، اختار السلطان سليم الأول 40 أميراً جركسياً، وجعل لكلّّ منهم 40 جندياً عثمانياً، مهمتهم حراسة الجسور. وهم الذين كانوا يلقبون بالأمراء الجراكسـة. وكانت قواتهم مستقلة؛ لمنع تأثرها بأيّ أعمال لفريق ضد فريق آخر؛ وضمان سلامة الجسور، بصفتها أهدافاً رئيسية، تؤثر في الانتقالات، وتدفق المياه، في أنحاء البلاد.

أمّا الشق السياسي، في وظيفة الجيش، فيتمثل في اجتماع قادة الفِرق (الوجاقلية)، الذي يكون مجلس شورى الباشا، المسمى بالديوان. ولهذا الديوان سلطات كبيرة (هدف سليم الأول منها تقييد سلطة الوالي)؛ إذ إن قرارات الوالي، تعرض عليه. وإن اختُلف فيها، ترسل إلى الآستانة، حيث تُبَتّ.

ولكن السلطان سليمان القانوني، استبدل بالديوان الآنف ديوانَين:

(1) الديوان الكبير: ويؤلَّف من رؤساء الفِرق آغاواتها (قادتها)، ودفاتيرها (المسؤولين عن التموين)، وروزنامجيتها (المسؤولين عن التنظيم والإدارة)؛ إضافة إلى أمير الحج، وقاضي مصر، ورؤساء المشايخ والأشراف، ورؤساء المذاهب الأربعـة. وتنحصر سلطات هذا الديوان في بت شؤون الحكومة. وله حق نقض قرارات الوالي.

(2) الديوان الصغير: ويؤلَّف من كتخدا (نائب الباشا)، والدفتردار، والروزنامجي (في مستوى الولاية)، ومندوب كلّ وجاق؛ إضافة إلى كبار الضباط في الوجاقات. ويُعقد هذا الديوان، يومياً، في قصر الوالي. وله حق نقض قرارات الديوان الكبير.

ج. السلطة الثالثة (سلطة أمراء المماليك)

وقد أنشأها سليم الأول، لحفظ الموازين، بين السلطتَين: الأولى والثانية. وعهد بها إلى أمراء المماليك، الذين أبدوا له طاعتهم. وقد عينهم أمراء للأقاليم المصرية (24 إقليماً). وكلّ إقليم، يسمى: سنجقة؛ وأميره، يسمى: سنجقاً.

2. السياسة الخارجية

تنبثق من الوضع الداخلي لمصر، بصفتها ولاية عثمانية خاضعة للحكم العثماني، فليس لها أيّ اتصال سياسي بالعالم الخارجي، إلا من خلال واليه. والمحور الرباعي، الذي تتأثر به مصر، بحكم موقعها الإستراتيجي، كان قِوامه:

أ. الآستانة، حيث الوالي العثماني.

ب. إمارة مكة، التي يتعلق بها المسلمون، دينياً وروحانياً.

ج. المغرب العربي، الذي كانت قوافل حجيجه، تمرّ بمصر، حيث تنضم إلى قافلة الحجاج المصريين، في طريقها إلى إمارة مكة، والعكس.

د. الشام، التي كانت العلاقات بها مستمرة. وكان أمير حجها هو الذي يرأس قافلة حج المغرب ومصر، عند انضمام القوافل، في طريقها إلى مكة.

أمّا التمثيل القنصلي الأجنبي، في مصر، فكان أهمه قنصلية عامة لفرنسا، في القاهرة؛ علاوة على قنصليتَين، في الإسكندرية ورشيد. وكذلك قنصلية لإنجلترا، في القاهرة.

3. الأوضاع الاقتصادية

كانت الحالة الاقتصادية في مصر انعكاساً للحالة السياسية. وكان الاقتصاد المصري، يعتمد على ركيزتَين أساسيتَين: الزراعة والتجارة.

أ. الزراعة

كانت الموئل الرئيسي لليد العاملة المصرية. ولكنها بدأت تتضاءل، نتيجة للسياسات: العثمانية والمملوكية؛ إضافة إلى القوانين الظالمة، التي جعلت السلطان هو المالك الوحيد للأرض؛ أمّا الشخص القائم عليها، فينتفع بها في حياته، فإذا مات، آلت إلى الحكومة؛ وعلى ورثته إعادة شرائها، من جديد. وقد طور المماليك هذا النظام لمصلحتهم، بفرض نظام "الالتزام"، بمعنى أنهم يَعُدُّون أنفسهم مالكين للأرض، على أن يلتزموا دفع الضرائب إلى الحكومة؛ فالتزموا ثلاثة أرباع أرض مصر، وأذاقوا ملاكها الأصليين سوء العذاب، في جمع الضرائب والجباية. ويقدر علماء الحملة الفرنسية وضع النشاط الزراعي، في مصر، كالآتي:

(1) أساليب الزراعة، ظلت بدائية تماماً. ولم يفكر الولاة في أيّ إصلاح لنظام الري والصرف. وكان النيل هو المتحكم في حجم الأراضي الزراعية، طبقاً لحالة الفيضان.

(2) إجمالي الناتج الزراعي، كان يقدر، سنوياً، بنحو 63 مليون فرنك فرنسي، تدفع كلّها ضرائب إلى المماليك، طبقاً للنظام الآتي:

(أ) يدفع 30 مليون فرنك إلى الملتزمين (منها ستة ملايين فرنك ضرائب محلية، و6.4 ملايين فرنك "مال ميري للسلطان"، والباقي 17.6 مليون فرنك فرنسي، تكون من نصيب الملتزمين والجباة).

(ب) ستة ملايين فرنك ضرائب محلية إضافية.

(ج) ستة ملايين فرنك لشيوخ البلد (من المماليك كذلك).

(د) ثمانية ملايين فرنك للجباة الأقباط.

(هـ) أربعة ملايين فرنك، يجمعها حكام الأقاليم عيناً (منتجات ـ مواشٍ ـ خيل ـ دواب).

(و) تسعة ملايين فرنك للبدو، نظير عدم إغاراتهم على الفلاحين.

(ز) ابتداع المماليك عرفاً، لا نظير له، عماده أن يجمع "الجباة الملتزمون" الضرائب من الفلاحين، ثم يسلمون جزءاً منها إلى الجباة الأقباط، بعد استقطاع نصيبهم. ثم يقتطع هؤلاء نصيبهم كذلك، ويسلمون الباقي إلى الكشافين، الذين يسلمون جزءاً منه إلى البكوات. ويستأثر هؤلاء كذلك بمعظمه، ويسلمون الباقي (طبقاً لما حددته الآستانة) إلى الباشا الوالي، الذي يرسله إلى الباب العالي. واستطراداً، فإن سلسلة الجباية، تتعرض لسرقات ضخمـة، وكلّها على حساب الفلاحين المصريين.

(3) طبقة الفلاحين، التي كانت تقدر بثلثي الشعب المصري، كانت هي أفقر الطبقات في مصر.

ب. التجارة

مثلت التجارة حلقة الاتصال، بين مصر والعالم الخارجي. وكانت ذات اتجاهَين رئيسيَّين:

الأول: نحو إفريقيا، بواسطة تجار: مصريين وسودانيين.

الثاني: إلى أوروبا وآسيا، بواسطة تجار: فرنسيين وبريطانيين خاصة.

توزعت التجار المصريين ثلاث طبقات: الطبقة العليا، مثل السيد "أحمد المحروقي"، شاهبندر التجار؛ وكان ذا ثراء واسع، أكسبه سلطات عديدة في مسار المجتمع المصري. والطبقتان: الوسطى والسفلى.

أمّا التجار الأجانب، فكان قِوامهم الفرنسيون، الذين تراوح عددهم بين 50 و60 تاجراً، يمارسون نشاطهم في حجم تجارة، تقدر بنحو 5.5 ملايين فرنك فرنسي (تناهز 5.5% من الميزانية المصرية، وقتها)؛ إلى جانب بعض التجار البريطانيين والأوروبيين الآخرين. ولم يكن هؤلاء التجار آمنين على أنفسهم وحياتهم، من المماليك والبدو. وكانوا أداة لنقل المعلومات إلى السلطات الفرنسية عن مصر (لذلك كان أحد أسباب الحملة الفرنسية على مصر هو تأمين حياة التجار الفرنسيين).

ج. طبقة أرباب الحرف

إثر ترحيل السلطان سليم الأول أرباب الحِرف المصريين، والعمال المهرة، إلى الآستانة، نشأت طبقة حرفيين آخرين، انتشروا في أرجاء البلاد. واختلفت مستويات معيشتهم باختلاف إنتاجهم. وكان معظمهم من الفقراء.

4. الأوضاع الاجتماعية

تراوح سكان مصر، إبّان الحكم العثماني، بين 3 و4 ملايين نسمة، اتسمت تركيبتهم الاجتماعية بنظام فريد.

أ.  طبقة الحكام، تمثلت في سلطة الوالي العثماني، وسلطة المماليك. وكانت هذه الأخيرة تزداد قوة، منذ منتصف القرن السابع عشر.

ب. طبقة الشعب، عانت ظلماً بيّناً، حالت دون التمرد عليه سيطرة المماليك المُحكمة.

ج. طبقة خارجة عن القانون، تتمثل في البدو، الذين كانت لهم تنظيماتهم وأساليبهم في جمع الجباية.

د. تفاوت الطبقات: طبقة أصحاب الثراء الواسع، المتمثلة في أمراء المماليك وكبار التجار. وأصحاب الثراء المتوسط، وهم طبقة المماليك، ومداهنو السلطة، وبعض التجار. والفقراء، تحت مستوى الصفر، وهم جميع شعب مصر، من فلاحين، وأصحاب مهن أخرى.

هـ. التعليم: توزعته ثلاثة مستويات متباينة: العلماء والمشايخ، وهم فئة قليلة من المجتمع. والمماليك، الذين اقتصر تعليمهم على الحركات العسكرية والفروسية، دون الثقافة العامة والأدب. والسواد الأعظم للشعب غارق في مستنقع الأمية والجهل.

و. المستوى الصحي: اعترته بخاصة ثلاثة أمراض:

(1) الرمد: كان يصيب معظم أفراد الشعب، وخاصة في فصلَي الربيع والصيف؛ وأعمى كثيراً من شعب مصر.

(2) الطاعون: كان ينتشر، إبّان الخريف والشتاء، في صورة وباء، قضى على كثير من المصريين.

(3) أمراض الأطفال المختلفة: كانت تودي بكثير من المواليد.

ز. النظام القضائي: كان يخضع للأهواء الشخصية. ولم تكن هناك قواعد للتقاضي، ولا سيما أن كبير القضاة، كان عثمانياً، يعيّنه الوالي العثماني. وغالباً ما لم يكن يعلم عن اللغة العربية شيئاً. واستطراداً، فقد سادت شريعة الغاب.

ح. تنظيم المدن والقرى: كان سيئاً، حيث العشوائيات منتشرة، والمدن بلا تخطيط، والسكان مزدحمون في مناطق معينة؛ ما أدى إلى انتشار الأمراض: الصحية والمجتمعية. وكانت القرى أشد بؤساً من المدن. وهذه الصورة البائسة، تمخض بها الحكم العثماني ـ المملوكي المشترك؛ ولم تكن بهذا التعس، إبّان حكم المماليك، قبل الفتح العثماني.

5. القوات العسكرية

لم يكن لمصر جيش. وإنما كانت القوات العسكرية قوات عثمانية، تكلَّف مهام أمن العاصمة (القاهرة) فقط، دون الدفاع عن مصر. زِد على ذلك، أن الوالي العثماني، طالما كان يستعين ببعض تلك القوات على دعم الجيوش العثمانية، في حروبها الخارجية، سواء في القرم، وحوض البحر المتوسط، وفتح اليمن، وبسط السيادة على المغرب العربي، والحروب ضد الفرس. كما كان يُعهد إلى تلك القوات إدارة الجمارك والثغور، والمشاركة في الإدارة المحلية للأقاليم والولايات المصرية.

وقد فطن المماليك لاستعانة السلطة العثمانية بالعديد من تلك القوات، فبدأوا يكونون قواتهم العسكرية الخاصة. وأصبح لكلّ أمير مملوكي جيش خاص، يدربه، وينفق عليه، ويقاتل به منافسيه، من الأمراء المماليك، أو يلهب به ظهور الفلاحين، حينما يجمع الجزية. أمّا في حالة تعرض البلاد لأخطار، فإن هذه الجيوش المتفرقة، تتجمع في جيش موحد، تحت إمرة أقوى أولئك الأمراء. وقد استغل المماليك قوّتهم في محاولة الانفصال عن الدولة العثمانية. ومصداق ذلك ما فعله علي بك الكبير، إثر توليه منصب شيخ البلد (1760 – 1773)، إذ استغل اندلاع الحرب، بين روسيا والدولة العثمانية؛ محاولاً الانفصال؛ ولكنه أخفق.

وقُبَيْل الحملة الفرنسية على مصر، كان مراد بك، الأمير المملوكي، الذي اشترى السطوة والسلطة بقوّته، ومال زوجته (زوجة علي بك الكبير السابقة) ـ كان هو القائد، الذي تتجمع جيوش المماليك تحت إمرته؛ إلى جانب إبراهيم بك، الذي كان يليه قوةً وسطوة.

أمّا معدات المماليك وأسلحتهم، فكان كلّ فارس منهم، يُعَدّ خنجانه (مستودع سلاح) أو قلعة؛ فهو يركب حصاناً أصيلاً. ويرتدى أفخر الثياب. ويحمل ستة مسدسات أو أكثر؛ إلى جانب بندقية أو اثنتَين، وسيف مرصع بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وعدة سهام؛ فضلاً عن حمله جزءاً من ثروته: الذهبية والفضية. فهو، إذاً، يُعَدّ غنيمة، لو قُتل أو أُسِر.

وفي السياق نفسه، فإن اقتتال المماليك، لم يتجاوز المناوشات. وقد أغرى بهم مظهرهم جنود الحملة الفرنسية، فباتوا يطمعون فيهم أكثر من طموحهم إلى النصر. ولم يهتم العثمانيون، أو المماليك، بتجنيد المصريين، أو تكوين جيش مصري، في هذه المرحلة؛ حتى لا يتمردوا عليهم. كذلك لم تنشأ صناعات حربية، عدا معمل مراد بك لصناعة المدافع وذخيرتها، لحساب جيشه الخاص، في منطقة إمبابة. زِد على ذلك، أن المماليك، لم يعرفوا العلوم العسكرية؛ وإنما كانت حركاتهم العسكرية بالفطرة، نتيجة تدريبهم المتواصل، الذي يبدأ من عمر 8 – 10 سنوات.

ثالثاً: تأثير الحكم العثماني في مصر

1. التأثير السياسي

أصبحت مصر ولاية عثمانية، منذ عام 1517. ولم يتميز الحكم العثماني، في منهجه، عن حكم المماليك السابق عليه، إلا في استحداث أساليب التبعية وأدواتها، وخاصة جباية الضرائب. ومنذ عام 1600، بدأ يتزايد نفوذ القوى المحلية للمماليك، في مصر، مع تزايد درجة الاستقلال الذاتي، سياسياً واقتصادياً، حتى القرن الثامن عشر. فسادت ثقافة الحرب خارج مصر وداخلها، طوال ذلك القرن الثامن عشر؛ ما أسهم إسهاماً كبيراً في تدهور اقتصاد الدولة.

غداة الحملة الفرنسية، كان يتولى مشيخة البلد عثمان بك الطبل، الذي اعتزل الناس، في قلعة الجبل، بالقاهرة، بعد أن طاوله وباء الطاعون، الذي اعترى بالبلاد، وأودى بحياة ألف من سكانها. وتقلد حكم مصر حكومتان متصارعتان: إحداهما برئاسة إبراهيم بك، والأخرى برئاسة مراد بك، اللذَين اقتسما إيراداتها وسعيا فيها نهباً وسلباً واحتيالاً، حتى تردت حالتها الاقتصادية. أمّا جنودهما، فتراوح عددهم بين 800 وألف جندي مملوكي، أكثرهم من الفرسان، وقليل من المشاة.

2. التأثير الاقتصادي

أضر بمصر أيّما ضرر تحوّل النشاط التجاري، بين الشرق والغرب، إلى طريق رأس الرجاء الصالح، إذ اقتصرت صِلاتها التجارية على حوض البحر الأبيض المتوسط، والسودان والحبشة، وبلاد العرب.

وكان للنظام الضريبي أثره الواضح في المستوى المعيشي للطبقتَين: الوسطى والفقيرة؛ وانعكاس ذلك على الوضع الاقتصادي للدولة.

وتأثرت التجارة الداخلية باضطراب الأمن، واشتداد تنازع الفِرق العسكرية، والإغارات المتلاحقة لبدو الصحراء؛ إضافة إلى تقلُّب العملة المتبادلة، واختلاف المكاييل والموازين، بين مكان وآخر. زِد على ذلك سيطرة التجار الأجانب على سوق التجارة، بفضل انتظامهم، وامتيازاتهم التجارية، التي يقرّها الحكام العسكريون.

أشارت الإحصائيات، عام 1660، أن تعداد سكان القاهرة، كان يراوح بين 250 و300 ألف نسمة. يعمل 38% منهم في الإنتاج الحرفي، وخاصة المنسوجات، التي تمثل خُمس الصادرات؛ و33%  في التجارة؛ و20% في الأعمال الخدمية؛ و6% في الأنشطة الترفيهية.

أمّا الزراعة، فكانت الأرض ملكاً للدولة، ممثلة في السلطان. يزرعها الفلاحون، بمقتضى ما سمِّي: "حق الانتفاع"، أيْ يزرعونها لحساب الدولة والسلطان، وينتفعون بها، بعد دفع الضرائب. وأدى هذا النظام إلى إهمال المزارع للأرض. وزاده إهمالاً تراخي الدولة عن حفظ الأمن، وتوانيها في أمور الري وتقوية الجسور للوقاية من الفيضان.

واقتصرت الصناعة على الصناعات اليدوية البسيطة ولم تبلغ ما بلغته أوروبا، من صناعة آلية. وكان الصناع ينتظمون في طوائف، ترعى علاقتهم بالحكومة، من حيث جمع الضرائب، والإشراف على الإنتاج. وكان لكلّ مهنة طائفتها، ولكلّ شخص طائفة، ولكلّ طائفة شيخها؛ وهذا يفسر جانباً من مقاومة القاهرة للفرنسيين.

3. التأثير الاجتماعي

كان المجتمع المصري منقسماً بين فئتَين متميزتَين، هما: الحكام والمحكومون. قِوام الأولين الطبقة الأرستقراطية التركية، والبكوات المماليك. امتلكوا السلطة والنفوذ والمال. واعتزلوا الآخرين، مترفعين عن معايشتهم.

أمّا المحكومون، فمنهم المشايخ والعلماء والتجار، ويمثلون الشريحة الوسطى؛ والفلاحون وصغار الحرفيين، وعامة الناس، ويمثلون الشريحة الدنيا.

4. التأثير الثقافي

تمخضت الحالتان: السياسية والاقتصادية، خلال القرن الثامن عشر، بوعي جديد، خامر الطبقة الوسطى، حيث خرج بعض الكتاب المتميزين. إلا أنه لم يبلغ مستوى الظاهرة، المؤثرة ثقافياً في المجتمع.

وأسهم انتشار الأمية، وضعف مستوى التعليم، في اقتصار المشهد الثقافي على الأكاديميين: العلماء والطلاب، المنتمين إلى الطبقة الوسطى، وقلّما طاولوا الطبقة الدنيا. وأصبحت مدوناتهم مرجعاً أساسياً لهذه المرحلة؛ كمؤلَّفات الشيخ عبدالرحمن الجبرتي.

اقترن التعليم في مصر بالمدارس الدينية، التي كانت تعاني قِلة مدرسيها، قَصْر نشاطها على البُعدَين: الديني والأخلاقي، وتزيينها الفضائل، في المجالَين: الديني والاجتماعي. فكانت، استطراداً تحض على التشبث بتقاليد المجتمع.

وخلال العهد العثماني، احتل شيخ الأزهر مركزاً بارزاً بين العلماء. وتمتع ذلك الجامع باستقلالية كبيرة، أبعدته عن تدخل الدولة. واضطلع بالتحريض على ضبط السلوك، من خلال مواعظه.

5. الأوضاع في مصر، غداة الحملة الفرنسية عليها

بِئْسَ ما كانت عليه مصر، إبّان الحكم العثماني، وخاصة بعد النصف الثاني من القرن السابع عشر. فقد أصبح قادة المماليك هم حكامها الفعليين؛ بل إنهم تحكموا في الباشا العثماني نفسه، ورتبوا له مهمة تقليدية. فإذا عين الباب العالي والياً جديداً على مصر، ودخل القاهرة، ذهب بكوات المماليك لاستقباله، في الميناء النهري. وحيوه في موكب مهيب. ثم قادوه إلى القلعة، حيث يظل سجيناً سجناً كريماً، مدة ولايته؛ حتى إذا انتهت، قادوه من القلعة إلى الميناء الآنف، بالأبهة عينها.

واتسمت الحياة الداخلية بصراع شبه متواصل؛ إذ إن الحكام عسكر مسلحون. لكلّ منهم جيشه الخاص. وأهدافهم الرئيسية هي الغنى وجمع المال. ولكن اقتتالهم، كان عارضاً مقتصراً على مناوشات، وكر وفر؛ حتى إذا استشعر أحد المتنافسَين ضعفاً، تراجع، أو هرب إلى الصعيد. وطالما حاصر أمراء المماليك القلعة، لإجبار الباشا على إصدار مراسيم لمصلحتهم.

أمّا المقهور، فكان دائماً شعب مصر. وعاشت البلاد، سنوات طويلة، في هذا البؤس؛ حتى إن لغتها أغفلت كلمات، كالحق والحرية والقانون والكرامة، لتتداول أخرى، كالابتزاز والسرقة والمكر والاحتيال. تلك كانت الصورة في المدن. أمّا في الصحراء، فكان البدو والأعراب هم القوة الرئيسية، المناوئة لسلطة المماليك والعثمانيين معاً. لقد كانوا خارجين عن القانون، يقلدون المماليك، في سطوتهم ونفوذهم، تقليداً همجياً قاسياً، حتى أمسوا خطراً محْدقاً بالمماليك والشعب كلَيهما.

زِد على ذلك، أن عقيدة الدفاع عن مصر، أو وسائل تحصينها، أو وجود جيش عثماني للدفاع عنها، كلّ أولئك، لم يكن محققاً على وجه الإطلاق؛ وهو ما استغله الفرنسيون في تخطيط حمْلتهم على مصر.

رابعاً: الحملة الفرنسية على مصر

انفجرت الثورة الفرنسية، عام 1789، حين كانت أوروبا غارقة في صراعات دامية وحروب متصلة، شاركت في بعضها فرنسا، حيث سطع نجم القائد بونابرت، الذي أحرز انتصارات باهرة على القوات النمساوية، المحتلة للدوقيات الإيطالية، عام 1796. وسرعان ما عزمت فرنسا على التصدي لعدوها التقليدي، إنجلترا؛ فاستجابت لبونابرت رغبته في الاستيلاء على مصر؛ ما يقطع شريان الحياة، بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند. وقد وافقت تلك الرغبة طمعاً فرنسياً دفيناً في احتلال مصر، طالما انتهز الفرصـة الملائمة للقفز عليها. وكان ضعف الدولة العثمانية عاملاً مدعماً لقرار الإدارة الفرنسية.

وقد سوَّل لنابليون تلك الرغبة إعجابه بالإسكندر الأكبر، غازي الشرق. ونوَّه بذلك في مذكراته، حيث قال: "ليست أوروبا سوى تل صغير. كلّ شيء، هنا، يبلى. لقد انقضى ما كسبت من مجد. وأوروبا الصغيرة هذه، لا تتيح مجالاً كافياً للأمجاد. فلا بدّ، إذاً، من الذهاب إلى الشرق؛ لأن كلّ مجد عظيم، لم يظفر به أصحابه إلا في الشرق".

ولدعم جهود الحملة على مصر، عمدت الإدارة الفرنسية إلى إرسال وزير خارجيتها إلى الآستانة، لتبليغ الباب العالي، أن الغزو ليس موجهاً ضدها. كذلك بادر الفرنسيون إلى الاتصال بزعيم الثوار، المناهضين للاستعمار الإنجليزي في الهند؛ لتنسيق المقاومة وتأجيجها.

1. أهداف الحملة

لئن أوضح مهام الحملة التوجيه السياسي العسكري الفرنسي، فإنه لم يبين الأهداف الرئيسية بالإدارة الفرنسية بعامة، والجنرال بونابرت بخاصة. وآية ذلك ما تدل عليه المقدمة التاريخية لكتاب "وصف مصر"، والتي تقول: "ومن جهة أخرى، فإن لمصر ثروات من الزراعة والتجارة ومزايا أخرى؛ كأنها تتجمع فيها عمداً! وهي ثروات، لا يمكن أن تتوافر مطلقاً في أيّ مستعمرة أخرى، ولو بعيدة. ومصر لا يفصلها عن فرنسا سوى بحر قليل الاتساع. وتبدو الملاحة فيه، كما لو كانت حكراً لهذه القوة ولحلفائها الطبيعيين. كما أن مصر تدخل ضمن نطاق نظام الدفاع المشترك عن الجزر المجاورة لإيطاليا، ولتلك الواقعة في البحر الأدرياتيك وأرخبيله؛ إضافة إلى أنها لا تتعرض لغزو مفاجئ، ولا يمكن أن تغزوها إلا قوات هائلة. أضف إلى كلّ ذلك، أن تلك البلادـ تضمن للفرنسيين ميزة بالغة الأهمية، هي حصولهم على موقع متوسط. فحين يجد الفرنسيون أنفسهم على أبواب آسيا، فسيغدو في إمكانهم أن يهددوا، على الدوام، ثروات وممتلكات أيّ قوة معادية هناك (إنجلترا)؛ وأن ينقلوا الحروب والقلاقل إلى مصادر ثرائها".

وفي السياق نفسه، يقول بونابرت في مذكراته، في منفاه، في سانت هيلانة: "ما الذي يمكن عمله في هذا البلد الجميل، مصر، خلال خمسين عاماً، من الرخاء والعمل الصالح؟ إن ألف بوابة من بوابات الري، ستضبط فيضان النيل، وتوزع مياهه على كل بقاعها. وستشق القنوات، لتحمل البلايين الثمانية أو العشرة، من ياردات المياه، التي تضيع، كلّ سنة، في البحر. وسيتضاعف السكان إلى أربعة أمثال، بفعل الهجرات إلى مصر. وتعود التجارة إلى عهدها القديم مع الهند. وتسود فرنسا الهند بسيادتها مصر".

إذاً، فالأهداف، التي أرادت أن تحققها فرنسا، بحملتها على مصر، تتحدد في الآتي:

أ. سياسياً

(1) جعل مصر منطقة ارتكاز فرنسية، للسيطرة على الشرق برمّته، والبحر الأبيض المتوسط، الذي سيغدو بحيرة فرنسية.

(2) التهديد الدائم لإنجلترا، ونقل ميدان محاربتها إلى مصادر ثرواتها في الهند.

(3) السبق إلى الاستيلاء على ممتلكات الدولة العثمانية، التي بدأت تضعف.

ب. اقتصادياً

(1) تنظيم استغلال ثروات مصر، وتنميتها في المجالات المختلفة؛ لتكون بديلاً من المستعمرات الفرنسية في القارة الأمريكية.

(2) إنشاء قناة، تصل بين البحرَين: الأبيض المتوسط والأحمر.

(3) السيطرة على طريق التجارة، بين أوروبا والهند؛ ما يدر عليها ثروات هائلة، كانت تستأثر بها إنجلترا.

ج. حضارياً: نقل علوم وفنون حضارة مصر القديمة إلى فرنسا وأوروبا.

د. وهناك سببان غير مباشرَين، ذوا تأثير في قرار الحملة، هما:

(1) طموح بونابرت، وطمعه بانتهاج نهج الإسكندر الأكبر في الشرق، لتوسعة إمبراطوريته.

(2) حماية التجارة والرعايا الفرنسيين، في مصر، من بطش المماليك.

هـ. أما الأسباب  المعلنة للحملة، والتي درست بعناية فائقة؛ بهدف تأمينها، وتقليل معاداتها لها، فتتلخص في الآتي:

(1) تخليص الشعب المصري من حكم المماليك الظالم.

(2) إعادة تنظيم الحياة في مصر تنظيماً عصرياً؛ لتعويض المصريين عن ظلم المماليك إياهم.

(3) دعم إجراءات الباب العالي، لقمع تسلط المماليك على مصر، وإحباط الأطماع البريطانية فيها.

و. في السياق عينه، كان هناك سبب آخر، تضمره الإدارة الفرنسية، وهو إبعاد بونابرت عن فرنسا، حيث كان نجمه يسطع بشدة بعد حملة إيطاليا. لذلك، ساعدته الإدارة على التوجه إلى مصر؛ عملاً بالمبدأ، الذي سبق أن أعلنه بنفسه، وهو: "إن ترك الأبطال العاطلين يتسكعون خطر، وأيّ خطر!".

2. تجهيز الحملة وإبحارها

اجتهد بونابرت في تجهيز الحملة، والمخادعة في أنها على بريطانيا، وليس على مصر. فاختيار لقادة فِرقه الجنرالات: كليبر، وديزييه، ومينو، ورينيه، وبون، وألكسندر ديماس. كما انتقى خيرة علماء فرنسا وفنييها، وعددهم 175 عالماً، لمصاحبة الحملة، وإنشاء المجمع العلمي في مصر. وكان هذا الاختيار دليلاً على اهتمام فرنسا بالبقاء في مصر؛ بل جعْله هدفاً رئيسياً من أهدافها. كذلك اصطحب بونابرت أول آلة طباعة عربية؛ كانت اللبنة الأولى في نشر الثقافة في الربوع المصرية بعد ذلك.

وبعد اكتمال تجهيز الحملة، أبحرت، في سرية تامة، سعت 600، في 19 مايو 1798، من أربعة موانئ فرنسية: طولون، وجنوا، وأجاكسيو، وشفيتافيكيا. وكان قوامها:

أ. القوات البرية: 34 ألف رجل، تتوزعهم خمس فِرق مشاة، وفِرقة فرسان؛ وألف مدفع، و700 حصان، و567 عربة؛ إضافة إلى القوى: الإدارية والفنية.

ب. القوات البحرية: 21 ألف رجل، و13 بارجة، وتسع فرقاطات، و33 مركباً خفيفاً مسلحاً، و345 ناقلة جنود متنوعة، و1374 مدفعاً.

واستمرت رحلة الإبحار مدة 20 يوماً، حتى الوصول إلى مالطا والاستيلاء عليها. أقام الفرنسيون بها تسعة أيام، ثم غادروها، في 18 و19 يونيه، إلى الإسكندرية؛ فاستشرفوها، في 29 من الشهر عينه. وبدأ الإنزال في الأول من يوليه 1798، في جو عاصف، وأمواج عالية.

سارع الأسطول الإنجليزي إلى اللحاق بالحملة، عازماً على تدميرها في البحر، وخاصة أن مراكبها مكتظة بالجنود، فلا يمكنها المناورة. ولكن خاب مسعاه، إذ لم يدركها إلا بعد نزول جنودها في الإسكندرية، حيث خاض الأسطولان: الإنجليزي والفرنسي، في الأول من 1798، معركة أبو قير، التي انجلت عن تدمير الأسطول الفرنسي، وهو خالٍ من الجنود، اللذين كانوا قد وصلوا إلى القاهرة.

3. معارك الفرنسيين الرئيسية (اُنظر خريطة الحملة الفرنسية على مصر)

أمل بونابرت، أن يسيطر على مصر، من دون قتال؛ إذ إنها خالية من قوات عثمانية فاعلة. وسرعان ما اضمحل أمله، إذ واجهته مقاومات شعبية؛ وتصدت له جيوش المماليك، سواء بدافع وطني، أو بالوكالة عن العثمانيين. وكانت أهم المعارك، التي خاضتها الحملة:

أ. الاستيلاء على الإسكندرية: قرر بونابرت أن يحتل الفرنسيون المدينة، من فور إنزالهم إليها؛ كي يفوت عليها الفرصة لأي استعدادات دفاعية. وقد نجح في الاستيلاء عليها، خلال ثلاثة أيام؛ على الرغم من مدافعة الزعيم الوطني، محمد كريم، الذي تخلص منه بونابرت، بعد ذلك، بذريعة خيانة الحملة.

ب. معركة شبراخيت (13 يونيه 1798): تصدى المماليك، بقيادة مراد بك، لبونابرت، وهو في طريقه إلى القاهرة؛ فهزمهم، في شبراخيت.

ج. معركة إمبابة، والاستيلاء على القاهرة (21 يوليه 1798): وهي المعركة الحاسمة، التي جمع لها المماليك نحو 78 ألف مقاتل وفارس. إلا أنهم انهاروا، بعد ساعتَين فقط من المعركة. فتقهقر مراد بك، بقواته، إلى الصعيد. وتراجع إبراهيم بك، بقواته، إلى سيناء. فأصبحت طريق القاهرة مفتوحة أمام الفرنسيين.

د. السيطرة على أقاليم مصر: بعد إحكام السيطرة على القاهرة، في 23 يوليه 1798، دفع بونابرت حاميات مسلحة إلى اتجاه الدلتا، وصحراء مصر الشرقية، وسيناء، والصعيد؛ من أجل ضمان الإمداد الإداري لقواته، والقضاء على بؤر المماليك. واستغرق ذلك النصف الثاني من عام 1798 بكماله.

هـ. حملة نابليون على إقليم سورية (13 فبراير – 21 يونيه 1799): وهي استكمال لمهمة الحملة الفرنسية على مصر. وقد أعد لها بونابرت إعداداً جيداً؛ على الرغم من قِلة إمكانياته، الناجمة عن سيطرة الأسطول البريطاني على البحر المتوسط؛ وتوقف الإمدادات إلى مصر، من القاعدة الرئيسية، في فرنسا, ولئن حقق القائد الفرنسي العديد من الانتصارات، فإنه لم يتمكن من الاستيلاء على عكا. وحَمَلته قِلة الإمدادات، وكثرة الأمراض والإصابات، على العودة إلى القاهرة؛ ممهداً لذلك بخطة إعلامية، توحي بانتصاره، تضمنت استقباله باحتفالات كبرى، في العاصمة المصرية.

و. معركة أبو قير البرية (25 يوليه 1799): وهي آخر معارك بونابرت، في مصر. سحق فيها حملة السلطان العثماني، بقيادة مصطفى باشا، قائد الرملية. لقد نزلت القوات العثمانية في أبو قير، في 15 يوليه، حيث أعملت القتل والذبح في الحاميات الفرنسية. وهو اليوم نفسه، الذي تحركت فيه فِرق الحملة الفرنسية، من القاهرة إلى أبو قير. وأسفر عن المعركة القضاء على الحملة العثمانية قضاء تاماً؛ وأسر 3 آلاف جندي عثماني، بمن فيهم قائد الحملة نفسه.

ز. رحيل بونابرت عن مصر: في أعقاب انتصار بونابرت في معركة أبو قير البرية، عاد إلى القاهرة؛ عازماً على مغادرة مصر، وأحاط بعزمه سِرية تامة، فغادر الإسكندرية في سفينة بريد، في 22 أغسطس 1799، تاركاً أمراً كتابياً، بأن يتولى الجنرال كليبر قيادة الحملة، من دون أن يُعْلمه بذلك. وكان السبب الرئيسي لمغادرته هو سعيه إلى مناصب أعلى، في فرنسا.

ح. المعارك الحربية، في عهد الجنرال كليبر (22 أغسطس 1799 – 14 يونيه 1800): استاء كليبر برحيل بونابرت فجأة، من دون أن يُعْلمه بذلك. إلا أنه نهض بالمسؤولية، منذ اللحظة الأولى؛ لتصحيح مسار الحملة، طبقاً لرؤيته، المعارضة للرؤية البونابرتية، وخاصة في علاقة الحملة بالسلطان العثماني. فقد كان كليبر يرى ضرورة موادعة الدولة العثمانية، والتخلي عن الحملة على مصر. وبدأ محادثات ثلاثية بذلك، منذ 17 سبتمبر 1799، مع الإنجليز والعثمانيين. إلا أن الآستانة، استغلت الفرصة للقضاء على الحملة الفرنسية، عسكرياً، ووجهت هجوماً على حامية دمياط الفرنسية، يراوح قوامه بين ألفَين و3 آلاف رجل؛ أمكن صدهم. ثم عمدت إلى هجوم آخر، يناهز عديده 80 ألف رجل، من اتجاه الشرق. ولكنهم توقفوا عند العريش، إثر تمخض المفاوضات باتفاقية، في 13 يناير 1800، تقضي بتراجع الحملة الفرنسية، في أمان كامل، عن مصر.

وسرعان ما ضعضع بونابرت تلك الاتفاقية، إثر توليه منصب القنصل الأول، في باريس (رئيس الدولة)؛ ومعارضته للتراجع عن مصر. وساعده على ضعضعتها تنكُّر بريطانيا والدولة العثمانية لها؛ بل إن العثمانيين، دفعوا جيشهم المتوقف في العريش إلى الهجوم على مصر، حيث كانت معركة عين شمس، في 20 مارس 1800؛ كتب فيها النصر المبين للجنرال كليبر؛ على الرغم من أن ميزان القوى، كان 4 : 1، لمصلحة العثمانيين.

نهاية كليبر: كانت في 14 يونيه 1800، بطعنة من سكين سليمان الحلبي، الطالب السوري، الذي كان يدرس في الأزهر. وقد حكم عليه، وعلى ثلاثة من رفاقه، بالإعدام.

ط. قيادة مينو (17 يونيه 1800 – 14 سبتمبر 1801)، ونهاية الحملة الفرنسية: مشى الجنرال مينو في ركاب الإدارة الفرنسية، بقيادة بونابرت. فتنكَّر لنهج سلفه، باتخاذ إجراءات، تدعم بقاء الحملة الفرنسية في مصر. ولكن هذا التوجه، لم يَقْوَ على مواجهة تحالف الدولة العثمانية والإنجليز والمماليك، في مصر، واعتزامهم القضاء على الحملة الفرنسية. وأسهمت قرارات مينو المرتبكة في نجاح التحالف في تحقيق ذلك. وبدأت المعارك، في الأول من مارس 1801، واستمرت حتى نهاية أغسطس، حين اتُّفق على تسليم القاهرة أولاً، ثم الإسكندرية. ثم دارت مفاوضات، انتهت، في الثاني من سبتمبر 1801، إلى اتفاق على تراجع الحملة الفرنسية عن مصر، منذ 14 من الشهر الآنف؛ مستخدمة ميناء أبو قير. وكان تسليم الفرنسيين حجر رشيد للقيادة البريطانية شرطاً من الشروط الإنجليزية لخروج الفرنسيين من مصر سالمين.

خامساً: الثورات على الفرنسيين

1. ثورة القاهرة الأولى (21-22 أكتوبر 1798)

أ. سببتها ضرائب فادحة، أرهقت التجار والملاك وأصحاب الصناعات بخاصة؛ وتجاوزات فرنسية في تفتيش المنازل والمحلات، بحثاً عن الأموال؛ وانتزاع أبواب الحارات والدروب، لتسهيل اقتحامها ومطاردة المقاومين؛ وهدم الكثير، من المباني والمساجد والآثار، لتحصين القاهرة.

ب. قاد الأزهر الثورة. ونظم قبول المتطوعين بأسلحتهم. وأسهم في تفشي التمرد إلى الأقاليم المجاورة.

ج. تمخضت الثورة بمقتل 20 جندياً فرنسياً، ونحو ألفَي مصري. أخمدها القمع والإرهاب الشديدان؛ حتى إن القوات الفرنسية دخلت الجامع الأزهر، بخيولها؛ الأمر الذي أثار الشعور الديني المصري.

 2. ثورة القاهرة الثانية (مارس ـ أبريل 1800)

أ. اشتعلت الثورة، في عهد الجنرال كليبر، بعد سماحه للقوات العثمانية بدخول مصر، حيث أخذت تجمع الضرائب والمعونات، قسراً؛ ولذلك، يشير بعض المصادر التاريخية إلى تحريض عثماني ـ مملوكي على تلك الثورة. لا، لم تكن إلا ثورة على الاستعمار، نجح الشعب المصري خلالها في حصار المعسكرات الفرنسية والهجوم عليها.

ب. أخمدت القوات الفرنسية الثورة في القاهرة، وبعض مناطق الوجه البحري. أمّا الوجه القبلي، فأخضعته باتفاق مع مراد بك على أن يحكم صعيد مصر، تحت الحكم الفرنسي.

سادساً: تأثير الفرنسيين في مصر

لئن عُدَّت الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801) حملة تقليدية، للغزو والاحتلال، وضرب المصالح البريطانية في الهند؛ فإنها اتسمت كذلك بمحاولة نقْل الحضارة الفرنسية إلى مصر، وتنظيم الدولة على غرار تنظيم فرنسا، بعد الثورة، من خلال نقْل السلطة إلى الطبقة الوسطى، لو من ناحية الشكل فقط.

1. الآثار السياسية

أ. دواوين الحكم

لجأ بونابرت إلى الاتصال المباشر بطبقة العلماء والأعيان؛ لما لهم من نفوذ ومكانة مرموقة بين الأهالي. ومن خلالهم، وبواسطتهم، يمكن تعرُّف طبيعة المجتمع المصري، وتخطيط سياسة الحكم في مصر. وبمشاركتهم، تمخضت فكرة دواوين العاصمة والأقاليم، ثم الديوان العام؛ مع تغيير سلطاتها مصالح الفرنسيين.

(1) ديوان القاهرة: يتكون من تسعة أعضاء، من المشايخ والوجهاء؛ يتداولون أحوال العاصمة.

(2) دواوين الأقاليم: تتألف في كلّ مديرية من المديريات (المحافظات حالياً). وكلّ ديوان، قِوامه أعضاء، يبحثون المصالح والشكاوى، ويعملون على منع المشاحنات، ويرعون جباية الضرائب.

(3) الديوان العام

وهو مجلس عام. وسلطة مركزية عليا. يضم تسعة مندوبين، من أعضاء دواوين كلّ مديرية: ثلاثة علماء، وثلاثة تجار، وثلاثة من مشايخ القرى ورؤساء العربان.

كان الهدف من الديوان العام المركزي، هو تدريب الأعيان المصريين على نظام مجلس الشورى، وتأهيلهم للاستشارة وتلقي الآراء؛ ما يعود على الأهالي بالنفع، في مجالات القضاء والمواريث، والملكية العقارية والضرائب.

ترأس هذا الديوان الشيخ عبدالله الشرقاوي، أحد علماء الأزهر. وقد اختير، بالاقتراع السري، من بين جملة مرشحين.

ب. تطوير تنظيم الديوان العام

على أثر الثورة المصرية الأولى على الفرنسيين، في أكتوبر 1798، عمد بونابرت إلى تعطيل أعمال الديوان العام. وبعد انتهائها، وضع له نظاماً جديداً أوسع نطاقاً؛ ليكون قادراً على ممارسة مهامه.

وقسم النظام الجديد الديوان بين هيئتَين أو ديوانَين:

(1) الديوان العمومي: قوامه ستون عضواً. تعيّنهم السلطات الفرنسية من ممثلين عن الأعيان والعلماء، والمشايخ والعسكر، والتجار والصناع، والأقباط والأجانب، الذين يختارون بالاقتراع رئيساً للديوان من بينهم.

(2) الديوان الخصوصي: عماده أربعة عشر عضواً. يُنْتَخَبون من أعضاء الديوان العمومي. ويجتمعون يومياً، للنظر في مصالح الناس.

غير أن مينو، أدمج الديوانَين، مرة أخرى، في ديوان واحد، وحدَّد له اختصاصات عمله الواضحة.

وبذلك، فإن بونابرت، أسس نظاماً سياسياً ديموقراطياً غير كامل، يتميز عن سياسة الحكم السابقة في مصر.

2. الآثار: الاقتصادية والاجتماعية

أ. حال عدم الاستقرار الأمني، في عهدَي بونابرت وكليبر، دون تنفيذ سياسات خاصة بالمجالات: الاقتصادية والاجتماعية. فقد شغلتهما ثورات المصريين، ومطاردة المماليك، ومواجهة الإنجليز والعثمانيين، عن دراسة الواقع المصري؛ للتوسع في المشروعات.

ب. أُنشئت مطاحن هواء، ومطاحن ماء، في القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط؛ ومعامل (ورش) للأسلحة والنجارة والأقفال؛ وأخرى للمدافع والآلات الهندسية والورق والأقمشة، وسائر احتياجات البلاد؛ ومراكز للأرصاد الفلكية. وبُنيت الجسور والقناطر.

ج. أُعيد التخطيط العمراني للقاهرة، حتى ضاهت أحياء باريس. فقد شُقَّت شبكة من الطرق المتسعة، وصلت الضواحي بالمركز؛ ما أثر في تغيير معالم العاصمة المصرية وخريطتها السكانية. إلا أن الفرص، ضاقت عن استكمال هذا المشروع.

د. تولى مينو الحملة الفرنسية، عام 1800، بعد مقتل كليبر, فقرر البقاء في مصر. وأشهر إسلامه. وتزوج مصرية، من رشيد. وخطط لتحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية متميزة. ووضع، عام 1801، خطة إصلاحية، في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة، والصحة، والنظام القضائي، أسماها: "المشروع العظيم" الذي أُعِدّ على الأسس التالية:

(1) المساواة بين المصريين، في الضرائب.

(2) منع الملتزمين من ممارسة شؤون القضاء والإدارة، التي كان يجيزها لهم نظام الالتزام في مصر.

(3) إلغاء الضرائب كافة، التي فرضها الملتزمون والبكوات المماليك، مثل: الميري والبراني والفايض. وتقرر وضع ضريبة واحدة، تستند إلى عدد أفدنة الحيازة، ودرجة الجودة. وأُلفت لجنة لتحديدهما، بعد مسح الأراضي.

(4) إبطال قانون حق الانتفاع للفلاح. وتحريره من جميع القيود: المالية والقضائية. وإقرار قانون، يملِّكه الأرض، التي في حيازته، وحق التصرف فيها، وحريته في زراعتها بما يشاء. ولكن جلاء الفرنسيين عن مصر، حرمها هذا المشروع.

هـ. حقق مينو إنجازات عظيمة، ومختلفة، على الساحة المصرية:

(1) في مجال الزراعة: انتعشت الزراعة في مصر، بعد اضطلاع علماء الحملة بدراسة مجرى نهر النيل، وفحص القنوات والجسور؛ وتخصيص جزء من الأراضي الزراعية العامة بإنتاج الغلات، التي تحتاج إليها فرنسا. وقد أجريت تجارب لزراعة البن وقصب السكر. وأُنشئت حديقة لزراعة النباتات والفواكه المصرية، مثل: الخوخ، والمشمش، والكمثرى، والتفاح. ولم تعدم الاهتمام زراعة مصر التقليدية، من أرز وقمح وذرة.

(2) في مجال الصناعة: شهدت الصناعات المصرية تطوراً، طاول عدة مجالات: النسيج والحدادة، وصناعة الساعات، والدباغة، وصناعة حروف الطباعة. واقتُرح إنشاء مصنع للنسيج، عماله فرنسيون فقط؛ لتبقى أسرار هذه الصناعة خفية على العمال المصريين. كما أُنشئت طواحين هواء. وأُصلحت دار الصناعة (الترسانة)، التي أنشأها مراد بك، في الجيزة.

(3) في مجال التجارة: تعافت التجارة، بعد ركود، سببه الحصار الإنجليزي للشواطئ المصرية، ووجود الجيش العثماني في سورية. فقد افتتحت مصر، في بلاد البحر الأحمر، أسواقاً، سارت إليها المراكب التجارية المصرية، محملة بالأنسجة: القطنية والصوفية والحريرية، والبن. ولم يستطع مينو استكمال مشروعه بعلاقات تجارية بالسودان والحبشة، وبلدان شمالي إفريقيا.

(4) في مجال الصحة العامة: أُنشئت محاجر صحية، في القاهرة، والإسكندرية، ودمياط، ورشيد. وأُنشئ مستشفى عسكري.

(5) في مجال القضاء: عدَّل بونابرت، بعد عودته من عكا، نظام القضاء الشرعي. فجعل منصبه للعلماء المصريين، بالانتخاب فيما بينهم، بدلاً من القضاة الأتراك. وحدَّد رسوم التقاضي بنسبة 2% من قِيمة المتنازع فيه، والتي كانت متروكة للأهواء.

وأضاف مينو إصلاحات أخرى، مثل إلغاء مبدأ الدية. وترك الأمر للقضاء وأحكامه في المنازعات. وأنشأ محكمة لكلّ طائفة، مثل: القبط، والشوام، واليهود، وغيرهم. وكان يمكن عرض الأمر على القضاء الإسلامي (المحكمة الشرعية) إذا رغب أحد طرفَي النزاع، من غير المسلمين، أو كِلاهما معاً.

حدِّدت ضريبة التركات والأموال المنقولة بنسبة 5%. وهي لم تكن محدَّدة، أيام المماليك. وعُمِّمت على جميع المقيمين بمصر، أيّاً كانت جنسيتهم أو ديانتهم.

توحيد الضريبة العامة على الأراضي الزراعية، وتعميمها على المصريين والأجانب، بمن فيهم الفرنسيون.

3. الآثار الثقافية

ناهز عدد العلماء الفرنسيين، الذين رافقوا الحملة الفرنسية، 175 عالماً، في مختلف فروع العلوم والثقافة، وخاصة المصورين والرسامين والنحاتين والموسيقيين. وقد تأثرت بهم الساحة الثقافية المصرية، ولا سيما بعد تشكيل المجمع العلمي.

المجمع العلمي

·   استحدث بونابرت مجلساً ذا صفة علمية، أسماه: "المجمع العلمي المصري"، على غرار المجمع العلمي الفرنسي، في باريس. واختار لعضويته خلاصة علماء الحملة، في التخصصات المختلفة، إلى جانب كبار القادة والضباط العسكريين، من أولي العلم.

·   تكوَّن المجمع من أربعة أقسام رئيسية. قوام كلّ منها 12 عضواً. قسم للرياضيات. وآخر للطبيعيات. وثالث للاقتصاد السياسي. وقسم للآداب والفنون.

·   تركزت مهمة المجمع في تطوير العلوم والمعارف، في مصر؛ ودراسة القضايا: الطبيعية والصناعية والتاريخية، ونشرها؛ وتقديم المشورة العلمية للحكومة، في القضايا التي تطلب الاستشارة فيها، أيْ قرن العلم بالسياسة.

·   كان من أبرز إنجازات المجمع العلمي إيجاد مطبعة عربية، وأخرى فرنسية؛ وإنشاء مكتبة عامة، ومدرسة فرنسية؛ وإصدار جريدتَين فرنسيتَين: إحداهما سياسية، باسم "الجوائب المصرية"؛ والأخرى اقتصادية، باسم "العشرية المصرية"، التي تصدر كلّ عشرة أيام. وأصدر مينو، في عهده، جريدة عربية، باسم: "التنبيه"؛ لنشر الأوامر والقرارات الإدارية للحكومة المصرية، وتحذير الناس من الاستماع إلى الدعاية المعادية لفرنسا.

4. الانجازات الكبرى لعلماء الحملة

أ. محاولة شق قناة، تصل ما بين البحرَين: الأحمر والأبيض المتوسط. ولم تنجح المحاولة، لخطأ في حسابات مستوى مياههما.

ب. جمع معلومات وافرة عن مصر، في مختلف المجالات، صدرت في كتاب "وصف مصر"؛ كان هو أول موسوعاتها الحديثة.

ج. اكتشاف حجر رشيد؛ ما مكن شامبليون من قراءة اللغة المصرية القديمة؛ واستطراداً اكتشاف التاريخ المصري القديم.

خلاصة القول، إن الحملة الفرنسية، حملت إلى مصر أفكاراً: سياسية واقتصادية وثقافية، وصفها بعض المؤرخين بأنها كانت صدمة: حضارية وثقافية، للشعب المصري، وخاصة الطبقة الوسطى. فقد نبهت فكرة الدواوين الشعب المصري على فكرة المشاركة في الحكم، بدلاً من فكرة الحكم المطلق المستبد. وفكرة المجمع العلمي، كانت نافذة، أطل منها المصريون على ما يدور في أوروبا، من تقدم وحضارة في العلوم. كما أن حياة الفرنسيين: الثقافية والاجتماعية، أبهرت المصريين بأنماط من الحياة والعلاقات، في أوروبا، تخالف تقاليد المجتمع المصري، الشرقي. وكان محمد علي باشا من أكثر المتأثرين بالثقافة والحضارة الفرنسيتَين. وعمل على نقلهما إلى مصر. وبنى من خلالهما مصر الحديثة.