إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث الأول

بناء الدولة المصرية الحديثة

لم يكد الفرنسيون يخرجون من مصر، حتى عاد الصراع على الحكم لِيَسِم العلاقات بين القوى العسكرية الثلاث، في مصر، إلا وهي: العثمانيون والمماليك والإنجليز. إلا أن الصراع الرئيسي، الواضح، والظاهر للعيان، كان بين الطرفَين الأولَين. وسرعان ما انبرت تشارك في الصراع شخصية طموح، امتد أثرها في مصر، قرابة القرن ونصف القرن، ألا وهي شخصية محمد علي، الذي أسس الأسْرة العلوية، التي حكمتها، منذ عام 1805 حتى عام 1952.

وكان محمد علي قد جاء إلى مصر، في حملة القبطان حسين باشا، التي أعدتها الدولة العثمانية، بإيعاز إنجلترا ومشاركتها؛ لإخراج الفرنسيين من ذلك البلد. وقد أوقفته محاربتهم على أصول الحرب الحديثة. وكانت له مواقف مهمة، في تلك الحرب، مكنته من الترقي السريع، فبلغ رتبة الأميرالاي. وتولى قيادة أحد الألوية، عام 1801، وهو العام الذي انحسر فيه ظل الفرنسيين عن مصر، وأعيدت إلى الحكم العثماني.

وبخروج الفرنسيين من مصر، تكون مهمة محمد علي، في مصر، قد انتهت. ولكنه لم يبارح البلاد؛ فلقد وجد أمامه أمة ذات تاريخ، وقد حيل بينها وبين النهوض؛ تتنازع أمورها قوى مختلفة، وتذهب بقوتها الأحقاد والفتن. فدفعه طمعه وطموحه إلى الاستئثار بها، هو وذريته من بعده. فشرع يخطط لمواجهة منافسيه: العثمانيين والمماليك والتدخل الأجنبي. وكان لا بدّ أن يتخلص من كلّ هؤلاء، ليمكنه الاستقلال بمصر.

ساد مصر، منذ بدء انسحاب الفرنسيين وحتى أكتوبر 1801، التوتر وعدم الاستقرار. وكانت الكلمة الأولى في البلاد للقبطان حسين باشا، قائد الحملة العثمانية عليها. وقد أثنى القبطان على محمد علي لدى خسرو باشا، والي مصر، وأوصى به خيراً. إلا أن الخلاف، ما لبث أن دَبّ بين الأميرالاي والوالي؛ على الرغم من أن هذا الأخير، كان قد رقى الأول إلى رتبة لواء، ليصبح ثاني القادة الألبانيين، بعد ظاهر باشا الأرناؤوطي.

كان محمد علي محبَّباً من جنوده. وحظى بولائهم وإخلاصهم. وكانوا يَعُدونه حامياً لحقوقهم. ويرون فيه الوسيط الوحيد، بينهم وبين ولاة الأمور. وحينما لقي ظاهر باشا حتفه، في 25 مايو 1803، أصبح محمد علي هو قائد الألبانيين.

وإثر التخلص من خسرو باشا، والي مصر، عَّين الباب العالي والياً جديداً على مصر، خلفاً له، هو علي باشا؛ ولكنه اغتيل، وهو في الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة. وفي الوقت نفسه، سَرَى الصراع بين زعماء المماليك؛ فتصدعوا.

وما إن حاول عمال الحكومة، بمساعدة فرسان المماليك، في مارس 1804، جمْع ضريبة جديدة؛ لدفع رواتب الجند، حتى اشتد سخط الشعب، وامتعاض رجال الدين. وانتهز محمد علي الفرصة، فانضم إلى العلماء والمشايخ. وأوعز إلى جنوده أن يعلنوا تبرّمهم بالضرائب. وبعد أن اطمأن إلى تفاقم الشعب على المماليك، دفع بجنوده، في 11 مايو 1804، لكي يحيطوا بمنزلَي عثمان بك البرديسي وإبراهيم بك؛ ويواجهوا المماليك، الذين اندحروا، ولاذوا بالفرار، وهَرَبَ زعماؤهم إلى الصعيد.

صدر فرمان عن الباب العالي، في أوائل عام 1805، بتعيين خورشيد باشا، الذي كان حاكماً للإسكندرية، والياً على مصر، في الوقت الذي كان فيه محمد علي يطارد المماليك، في الصعيد. وما إن عاد، حتى فاجأه الوالي الجديد، في مايو 1805، بتعيينه والياً على جدة، وهو أمر، دبّره الباب العالي، ووالي مصر، للتخلص من محمد علي.

وسرعان ما تبدلت الأمور. فقد حاول خورشيد باشا جباية ضرائب جديدة. فاستنصر عليه أهل الرأي من رجال مصر، في 12 مايو 1805، محمد علي، طالبين منه عزل الوالي، وأن يتقلد هو ولاية مصر. كما أرسلوا إلى السلطان العثماني، مطالبين بتولي محمد علي بدلاً من خورشيد باشا.

وإزاء الضغوط، التي تعرّض لها والي مصر، ومحاصرة محمد علي القلعة، مركز الولاية، أُجبر الوالي على مغادرتها، في 7 أغسطس 1805، إلى الإسكندرية.

وهكذا نجح محمد علي في استمالة زعماء الشعب المصري. وأرسل نحو ألفَي كيس من المال، لتوزع على أصحاب النفوذ، في الآستانة. وأرسل ابنه إبراهيم بالهدايا الثمينة إلى السلطان وحاشيته؛ ووعده بإرسال أربعة ألاف كيس، هدية، إلى العاصمة العثمانية. فكان ذلك كلّه حافزاً للباب العالي إلى تعيين محمد علي والياً على مصر. ومن ثَم، وصل، في نوفمبر 1806، فرمان تثبيته في ولايتها؛ ليبدأ حكم أسْرته لذلك البلد (اُنظر ملحق حكام مصر من أسرة محمد علي).

وما إن تولى محمد علي أمور مصر، حتى انبرى لمواجهة المماليك. فأَعَدَّ حملة، قوامها ثلاثة آلاف جندي من المشاة، ومثلهم من الفرسان؛ إضافة إلى ست سفن مسلحة، توجهوا، في 12 فبراير 1807، نحو المنيا، حيث انقضوا على المماليك، فجأة، فهزموهم، وسيطروا على قواعدهم في المنيا وأسيوط. ثم عاد محمد علي ليعرِض عليهم الصلح، حينما علم بحملة إنجليزية على الإسكندرية، عرفت باسم: "حملة فريزر"، في مارس 1807.

أولاً: المساهمة المصرية

لم يقتصر الصراع، في مصر، بعد خروج الفرنسيين منها، على القوى: العثمانية والإنجليزية والمملوكية؛ بل كان هناك قوة رابعة، مصرية، لم تكن تسعى إلى السلطة. تمخض بها صراع القوى الثلاث السالفة الذكر. وتكونت من زعامات مصرية، عُرفت منذ الغزو الفرنسي ومقاومته.

أسهمت القوة المصرية في جميع الأحداث ولاحت فيها شخصيات مهمة من الأشراف والعلماء والتجار، مثل: عمر مكرم، نقيب الأشراف؛ ومحمد السادات، من قيادات الطرق الصوفية؛ والشيخ عبدالله الشرقاوي، من العلماء؛ والشيخ محمد المهدي، من العلماء؛ وأحمد المحروقي، من كبار التجار.

وساعدت هذه القوة المصرية على التخلص من الفرنسيين والمماليك والإنجليز. وشاركت في تعيين محمد علي حاكماً على مصر. وسعت في تحقيق الوفاق الوطني، بين محمد علي والقوى الشعبية، أو مع المماليك.

ثانياً: الحملة الإنجليزية على مصر، عام 1807 (حملة فريزر)

احتدم الصراع بين الدولة العثمانية وروسيا. وتوثق التحالف بين الآستانة وباريس. واستغلت إنجلترا هذه الظروف الدولية المتفاقمة، فأطلقت، عام 1807، حملة على مصر، بذريعة المساعدة العسكرية لروسيا، إذ قررت إرسال جزء من أسطولها لاحتلال الإسكندرية؛ مستهدفة ضرب الدولة العثمانية ضرباً غير مباشر، في مصر.

أبحرت الحملة الإنجليزية، من صقلية، في السادس من مارس 1807، متجهة إلى الإسكندرية. وفي 16 منه، وصل ألفا جندي، بقيادة الجنرال فريزر إلى شواطئها. ثم وصل الباقون، في 30 من الشهر عينه. وتمكن الإنجليز من دخول الإسكندرية، ليلة 21 مارس، من دون قتال، إثر خيانة واليها، أمين أغا، الذي أغراه قنصل إنجلترا بالمال.

فاق قوام الحملة الإنجليزية ستة آلاف جندي، بقيادة فريزر. توزعتهم فرقتان: إحداهما بقيادة الجنرال ستوارت Stuart، والأخرى بقيادة الجنرال ويكوب Wacop. والبريطانيون مطمئنين إلى تأييد قوات المماليك. فاعتمدت خطة فريزر على زحف هؤلاء من الصعيد إلى القاهرة؛ في حين يبادر هو إلى السيطرة على الموانئ المصرية، أولاً؛ ثم يتوجه إلى العاصمة المصرية، حيث يلتقي حلفاءه، المماليك، الذين سبقوه إلى السيطرة عليها.

1. معركة رشيد

اعتزم الجنرال فريزر، بعد احتلال الإسكندرية، فتح طريق لإمداداتها. فكلَّف ويكوب بالزحف إلى رشيد، ومعه ألف وأربعمائة جندي إنجليزي، مزودين بمدفعَين ستة أرطال، ومدفعَي هاوتزر. وبدأ تحرك هذه القوة، يوم 29 مارس 1807. وقرر قائدها اقتحام رشيد، في 31 منه.

كانت حامية رشيد مكونة من سبعمائة جندي. وقرر محافظ المدينة، علي بك السلانكلي، أن يخدع الإنجليز ويفاجئهم. فعمد إلى إبعاد سفنه إلى الشاطئ الشمالي للنيل. وأمر الحامية بالتراجع إلى داخل المدينة، وبقاء الجنود والأهالي في المنازل، مستعدين لإطلاق النار، حينما تصدر الأوامر بذلك. كما أمر بإغلاق أبواب البيوت ونوافذها.

تقدم الإنجليز، في 31 مارس. ولم يجدوا أثراً لمقاومة. فحسبوا أن الحامية قد أخلت المدينة، وأن هذه سوف تستسلم. فدخلوا شوارعها مطمئنين. وما إن توغلوا فيها، حتى صدرت الأوامر بإطلاق النار عليهم، من الاتجاهات كافة. فبلغت خسائرهم 170 قتيلاً، و250 جريحاً، و120 أسيراً. وكان بين القتلى الجنرال ويكوب. وتقهقر الباقون إلى الإسكندرية. وقد اهتزت البلاد لأخبار هذه المعركة، التي أججت حماسة المصريين، وحفزتهم إلى الاستمرار في المقاومة. أمّا أسباب هزيمة الإنجليز هذه، فعديدة. يتلخص أهمها في نقص المعلومات عن مدى استعداد المدينة للدفاع، وضعف القوة التي كلفت الاستيلاء عليها.

2. معركة الحماد

أراد فريزر أن يزيل آثار الهزيمة الإنجليزية، في رشيد. فأرسل الجنرال ستوارت في أربعة آلاف جندي، مزودين بأحد عشر مدفعاً، إلى رشيد. وفي الثالث من أبريل 1807، زحفت القوة إلى المدينة. واحتلت بلدة الحماد، في جنوبها، بين النيل وبحيرة إدكو. ثم حاصرت رشيد، وضربتها بالمدفعية. واستمر حصارها اثني عشر يوماً؛ لمنع وصول الإمداد إليها، من القاهرة.

وفي 12 من الشهر عينه، أعد محمد علي أربعة آلاف مقاتل من المشاة، وألف وخمسمائة من الفرسان، بقيادة طبوز أغلى؛ لمواجهة الغزو الإنجليزي. وانقسمت القوة قسمَين، سارا على جانبَي النيل، من القاهرة إلى رشيد.

وفي 20 أبريل، تمكنت قوة الفرسان، بقيادة حسن باشا، من الضغط على المواقع الإنجليزية، في الحماد، وكبدتها بعض الخسائر؛ ما أعزى طبوز أغلى بعبور النيل بقواته، ليلاً. وانضم إلى الفرسان، استعداداً للهجوم على الحماد، صباحاً. بدأت المعركة في السابعة صباحاً. وتمكن الفرسان من التسرب خلف المواقع الإنجليزية، وقطع المواصلات بين الحماد ورشيد. أمّا المشاة، فقد احتلوا بلدة الحماد، حيث كبدوا القوات الإنجليزية 416 قتيلاً، و400 أسير.

واضطر باقي القوات الإنجليزية إلى التراجع، بحراً، من أبى قير إلى الإسكندرية. أمّا فريزر، فقد تخلى عنه المماليك. وأيقن خيبة الحملة. واستصوب الجلاء عن مصر.

توجه محمد علي، في 12 أغسطس 1807، على رأس أربعة آلاف جندي، إلى دمنهور، حيث التقى الجنرال شريون، مندوب الجنرال فريزر. طلب الإنجليز الإفراج عن الأسرى. فاشترط والي مصر جلاءهم عن الإسكندرية. وقِّع، في 14 سبتمبر 1807، اتفاق، أخلى الإنجليز بمقتضاه الإسكندرية، في 19 سبتمبر1807. وبذلك، تحررت الإسكندرية، بعد احتلال بريطاني، ناهز ستة أشهر.

3. ويُعزى فشل الحملة البريطانية على مصر إلى الأسباب التالية:

أ. ضعف قوة الحملة، وخاصة بعد أن تخلى عنها المماليك.

ب. شدة المقاومة الشعبية، التي لم تكن منتظرة.

ج. كثرة الخسائر البريطانية، في معركتَي رشيد والحماد.

د. الحالة السياسية في أوروبا، والتي لم تمكن الحملة من الاستمرار في القتال، بعد عقد الصلح بين فرنسا وروسيا، وتفرغ باريس لمواجهة لندن.

4. رُبَّ ضارة نافعة

تمخضت الحملة الإنجليزية بتدعيم مكانة محمد علي في مصر، وهوان البريطانيين على المصريين؛ فضلاً عن نمو الوعي القومي لدى الشعب المصري.

ولقد كان لنجاح محمد علي في التصدي لحملة فريزر، من دون معونة السلطان العثماني، وجلاء تلك الحملة، في النهاية، أكبر الأثر في موقف الباشا ومشروعاته المستقبلية. كما عزز ذلك مركزه، في مواجهة المماليك، والقوى المعادية، في مصر؛ بل السلطان كذلك. وازداد قوة، بعد جلاء الحملة، حين ضم الإسكندرية إلى باشويته، بعد أن كان السلطان يعين لها حاكماً مستقلاً عن باشا القاهرة. وبذلك، أصبحت مصر كلّها تحت حكم محمد علي.

النجاح المتواصل، في عامَي 1806 و1807، زاد الباشا قوة وثقة بنفسه؛ فعمد إلى سياسة ذات خطَّين متوازيَين: الانفراد بالحكم أو الحكم المطلق، وتدعيم سلطانه؛ وجعل الحكم وراثياً لأسْرته، في مصر، على غرار جاراته، من ولايات الدولة العثمانية، في شمالي إفريقيا: ليبيا وتونس والجزائر.

وبذلك، بدأ حكم محمد علي، في مصر، مرحلة أخرى، امتدت من عام 1807 إلى عام 1811. وهي مرحلة تدعيم أركان ولايته؛ تمهيداً لبناء الدولة المصرية الحديثة في مصر. فقد شُغل بإرساء قواعد حكمه المطلق؛ للقضاء على مناوئي سلطانه، والانفراد بالحكم، وهدم دعائم النظام شبه الإقطاعي، القائم. وبذلك انفتح أمامه الطريق إلى البناء الجديد، بناء الدولة الحديثة في مصر.

ثالثاً: رسوخ الولاية، واستقرار الحكم (1807 – 1811)

أصبحت الإسكندرية، بعد فشل حملة فريزر، جزءاً من باشوية محمد علي؛ما حَرَم الباب العالي إحدى ذرائعه للتآمر على الوالي، والاتصال بمناوئيه. كما أن إلحاق الإسكندرية بولاية محمد علي، مهد لاستقرار سلطانه، في الوجه البحري، حيث حرِم الأعراب والمماليك مساعدة الإنجليز أو الباب العالي. وهكذا أمكن الوالي أن يتفرغ لتثبيت سلطانه، وتعزيز نفوذه، في القاهرة، حيث كانت تتهدده ثورات الجند، وطموح المماليك إلى استعادة سطوتهم، وطمع المشايخ في إحكام رقابتهم على حكومة محمد علي. ثم تسخير قواه لطرد المماليك من الصعيد، حيث حشدوا قواتهم، وفرضوا سلطانهم.

أدرك محمد علي، أن بسط سلطانه بسطاً كاملاً على ولايته، ودعم حكمه، وإقامة باشوية وراثية في مصر، لن يتأتَّى ما لم يتوافر المال، لإعداد قوة عسكرية، يقضي بها على خصومه؛ وإلاّ فإن جنده المرتزقة، سيعمدون إلى النهب. ومست الحاجة إلى المال كذلك، لتلبية نفقات الإدارة الطائلة، وما يستنفقه استقبال رُسُل الآستانة؛ فضلاً عن الخراج السنوي (المسرى)، الذي يدفعه محمد علي إلى الباب العالي؛ حتى يبقى في منصبه. واشتدت حاجة الباشا إلى المال، بعد أن عهد إليه السلطان العثماني، عام 1807 باسترجاع الحرمَين الشريفَين. كما طلب منه، في العام التالي، الخروج بجيشه إلى ينبع وجدة.

فلا بدّ، إذاً، والحالة هذه، أن يكون للباشا، في القاهرة، من السلطان والنفوذ، ما يمكنه من جمع المال، اللازم لتحقيق الخطوة الأساسية في مشروعه الطموح، وهي العمل على استقرار حكومته، تمهيداً، لتقرير الحكم الوراثي. فسعى، بين عامَي 1807 و1811، الانفراد بالحكم. فقد بادر إلى تطويع الجند، والقضاء على ما يثيرونه من قلاقل. ثم عمد إلى القضاء على نفوذ المشايخ، وزعماء الشغب، في القاهرة. ثم اعتزم القضاء على المماليك، في مذبحة القلعة الشهيرة.

1. إهماد فتن الجنود

كان ميل الجند الألبانيين إلى التمرد، هو إحدى الصعاب، التي واجهت محمد علي، بعد حملة فريزر. فقد حاولوا الاعتداء عليه، في القاهرة، في 16 أكتوبر 1807. وفي 26 منه، تمردوا، احتجاجاً على تأخر رواتبهم. فَعَجِل الباشا إلى استمالة الجند، وتأليب صغار الضباط على كبارهم. وتدارك رؤساء القاهرة مصالحهم، بعد أن رأوا أن استمرار الفتنة ضار بها؛ فدعموا الباشا بألفَي كيس، ليدفع رواتب جنوده. ومكر محمد علي بالضابط ياسين بك الأرناؤوطي، الذي أعلن تمرده عليه؛ فمنّاه بباشوية جدة، واستدعاه إلى القاهرة، حيث قبض عليه، ورحله إلى خارج البلاد.

وأجمع المؤرخون على أن محمد علي، كان يخطط للتخلص من الجيش العثماني، الموجود بمصر؛ وذلك لسببَين: أولهما، أن الجنود العثمانيين، قد جُبلوا على الفوضى وإثارة الاضطرابات، فطالما أَعْيَوا كلّ الولاة العثمانيين السابقين على مصر. والسبب الثاني هو رغبة محمد علي في إنشاء جيش جديد، منظم، ومدرب على الأعمال الحربية الحديثة، التي عاينها بنفسه، حينما شارك في المعارك، من أجل إخراج الحملة الفرنسية من مصر. كما حتم المؤرخون بأن دوافع حملتَي الحجاز والسودان، كان من أهمها التخلص من الجيش العثماني؛ بل إبعاد جنوده عن مصر.

2. إخماد نفوذ المشايخ

بعد المناداة بمحمد علي واليا على مصر، في 13 مايو 1805، زُهِيَ المشايخ، "زعماء الشعب"، باستفحال نفوذهم، ولا سيما بعد أن داخلهم الباشا بينه وبين القاهريين والجند والمماليك. كما استعان بهم على إلغاء نقله إلى سالونيك، عام 1806، الذي قرره السلطان العثماني؛ لإبعاده عن مصر. كذلك اعتمدت الحكومة على جهودهم في تهيئة أهل القاهرة للدفاع عن البلد، دون حملة فريزر. وأمعن محمد علي في مداخلتهم بينه وبين المماليك؛ للحؤول دون انضمام هؤلاء إلى الإنجليز، وأن يزينوا لهم مصالحته. وأسفر عن ذلك نتيجتان، لم تكونا في مصلحة مشايخ القاهرة.

الأولى: أغرى المشايخ نفوذهم بتنمية ثرواتهم، بوسائل غير سليمة. فاشتروا حصص الالتزام بأثمان بخسة، من أصحابها، الذين عجزوا عن الاحتفاظ بها، نتيجة تهديد المشايخ، أو لأسباب أخرى. غير أن المشايخ، استمروا في جمع الفروض والإتاوات من الفلاحين؛ على الرغم من إعفاء أنصبتهم منها. كما عمد المشايخ إلى شراء المنازل والعبيد. وعاشوا في بذخ. وانصرفوا عن شؤون الدين. وتمادوا في استغلال نفوذهم؛ حتى إن الجبرتي، يسميهم: "مشايخ الوقت"، أيْ الانتهازيين، المستغلين لمراكزهم الدينية. وكلّ ذلك، فَضَّ الناس من حولهم.

أمّا النتيجة الثانية، فهي أن المشايخ، وخاصة عمر مكرم، اعتقدوا أن في وسعهم، أن يلزموا الباشا مشاورتهم، وأن يستجيب لهم ما يشيرون به عليه. فإذا أبى، هددوه بإثارة القاهرة عليه؛ تمهيداً لطرده؛ كما طردوا خورشيد باشا، من قبل.

حملت محمد علي حاجته إلى المال على إلغاء "مسموح المشايخ"، منذ أوائل يوليه 1807؛ فكان ذلك إيذاناً بمصادمتهم. كما أنه لم يشاورهم في تدبُّر المال. ففوجئ القاهريون، في أغسطس 1808، بضريبة 4% على الحبوب والمأكولات في القاهرة. ثم ازداد جزعهم واستياؤهم، حين انخفض النيل، في الشهر نفسه، ولاح شبح المجاعة. فاشتد الامتعاض. عندئذٍ، عمد المشايخ إلى مراودة الباشا على إلغاء الضريبة الجديدة. فنصحهم بأداء صلاة استسقاء، بدلاً من ذلك. ولم يتردد الناس في أدائها، طيلة الأيام الثلاثة التالية. وارتفع الماء في النهر. وانتهت الجولة الأولى بين محمد علي والمشايخ إلى هزيمة هؤلاء، الذين أغفلوا استغلال نفوذهم في إرهاق فلاحيهم، والإثراء على حسابهم.

وفى يونيه 1809، قرر محمد علي فرض الضرائب على أراضي الرزق الأحباسية (المحبوسة)، أيْ الأوقاف المخصصة بها المساجد وغيرها. وأمر بتحصيل المال منها، والتفحص عن حججها، ثم فرض ضريبة على أطيان "الوسية"، وأمر بفرض فائض الالتزام[1].

استشعر المشايخ، وطائفة كبيرة من الناس، الذين اعتمد معاشهم على أراضي الأوقاف، أنهم حُرِموا مورد رزق، طالما نعموا به. واحتشد الكثيرون منهم، في 30 يونيه 1809، في الجامع الأزهر، يشكون حرمانهم. وطلب المشايخ من عمر مكرم، نقيب الأشراف، أن يُداخل الباشا في ذلك؛ فاغتنم هذا الفرصة لإحياء زعامته، والاضطلاع بالمدافعة عن حقوق الناس، والقوامين على الدين. فعقد مجلس المشايخ، في الأول من يوليه. وأعد فيه عرضحال، لتقديمه إلى الباشا، يتضمن إلغاء المقاسمة في فائض الالتزام. كما تعاهد المشايخ على الاتحاد، وترك المناقرة. وأوفد محمد علي سكرتيره إليهم، أثناء انعقاد مجلسهم؛ يطلبهم لمقابلته ومباحثته في الأمر. ولكنهم رفضوا. وكان ذلك إعلاناً بمقاطعته، وتأليب المقاومة السلبية عليه.

وأدرك محمد علي خطر حركة المشايخ. فسعى إلى تهدئة الفتنة. واجتهد في تفريقهم. ونجح في استمالة بعضهم بعد أن أكد لهم أنه لا يرد شفاعة للمشايخ، ولا يقطع لهم رجاء.

وحاول الباشا استمالة عمر مكرم؛ لكن الأخير، رفض مقابلته. ونعى على المشايخ نقضهم العهد، الذي قطعوه على أنفسهم، بالاتحاد في وجه محمد علي. وحلف، كما يقول الجبرتي: "أنه لا يطلع إليه، ولا يجتمع به، ولا يرى له وجهاً، إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات". لا، بل هدده برفع الأمر إلى الباب العالي، وتثوير الناس عليه؛ بل حذّره من أنه مثلما أصعده إلى الحكم، فهو قادر على إنزاله منه.

بلغ الباشا ما أعلنه عمر مكرم. فكان ردّه: "إن ما تفعلونه، من التشنج والاجتماع بالأزهر، لتحريض الناس، فهذا ما لا يناسب منكم. وكأنكم تخوفونني بهذا الاجتماع، وتهييج الشعور، وقيام الرعية؛ كما كنتم تفعلون، من قبل. فأنا لا أفزع من ذلك. وإن حصل من الرعية أمر، فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام". كما لام الباشا عمر مكرم على تعنته، وامتناعه عن الحضور إلى القلعة، لمقابلته. بيد أن الباشا، دأب على استمالته، وطلب الاجتماع به، طوال يوليه 1809. ولكن عمر مكرم، تشبث بتمنُّعه.

استند عمر مكرم، في موقفه المتشدد، إلى قدرته على تثوير القاهريين على الباشا. كما اطمأن بنصرة المشايخ. ولكنه كان مخطئاً في تقديره؛ لاختلاف المواقف، بين عامَي 1805 و1809، إذ تبدَّد نفوذه، هو والعلماء والمشايخ، وفقدوا تأثيرهم في الناس؛ على احترامهم إياهم؛ وذلك لأمرَين:

الأول: انتصار محمد علي على الإنجليز، وإهماده فتنة الجند، وطرده ياسين بك الأرناؤوطي؛ ورضاء الباب العالي عنه، بعد طرد الإنجليز؛ وما بدا من تخاذل المماليك وضعفهم، كلّ ذلك أقنع المصريين بسيادة الباشا والخضوع له.

الثاني: انصراف "مشايخ الوقت" ـ كما دعاهم الجبرتي ـ عن شؤون الدين، وانشغالهم بالدنيا، واكتنازهم الثروات، وانهماكهم في حياتهم الخاصة ـ كلّها عوامل حملت المصريين على التنكر لهم.

وأيقن محمد علي تلك الحقيقة. ولذلك، أهمل مطالب المشايخ، ولم يرد عليهم؛ بل لم يكد يعبأ بموقفهم، لولا تحذيره إياهم من الاجتماع في الأزهر، واهتمامه بعمر مكرم ورغبته في مقابلته.

واطمأن الباشا إلى أن تنافُس المشايخ في مشيخة الأزهر ونظارة الأوقاف، سيفرق وحدتهم، لا محالة. ومصداق ذلك عداء محمد الدواخلي وعمر مكرم للشيخ عبدالله الشرقاوي؛ ومنافسة المهدي والدواخلي لعمر مكرم.

واشتدت الأزمة، بين محمد علي وعمر مكرم، في يوليه 1809، حينما رفض هذا الأخير توقيع مذكرة، في شأن عدم قدرة مصر على دفع أربعة آلاف كيس إلى الباب العالي، بعد أن استنفقت أموالاً طائلة على مواجهة حملة فريزر، وقمع المماليك وفتن الجند. لا، بل إن عمر مكرم، رفض أن يدخل القلعة لمقابلة محمد علي؛ بل طالبه بأن يخرج هو منها لمقابلته. وكان ذلك فاصلاً بين الرجُلين. إلا أن الباشا، تغاضى عن هذه الإهانة، وبادر، في 9 أغسطس 1809، حينما كان في منزل ابنه، إبراهيم بك إلى استدعاء عمر مكرم؛ ليتشاورا، فتمنّع. فقرر محمد علي عزله عن نقابة الأشراف. ونفاه إلى دمياط.

وحين خرج عمر مكرم للسفر إلى دمياط، شيعه ـ كما يقول الجبرتي ـ "الكثير من المتعممين وغيرهم، وهم يتباكون حوله حزناً على فراقه"؛ ولكن أحداً من المشايخ، لم يحرك ساكناً. ولم يثر القاهريون، ليحولوا دون خروجه. وربما توقع هو ذلك. أمّا المشايخ، فاستبقوا إلى اقتسام وظائفه. فحظي الشيخ محمد السادات بنقابة الأشراف. وتولى الشيخ المهدي النظارة على بعض الأوقاف المهمة. ونال الدواخلي نقابة الأشراف، بعد وفاة السادات.

أمّا عمر مكرم، فقد بقي في منفاه، حتى عام 1812، حين سمح له الباشا بالانتقال إلى طنطا. ثم انتقل إلى القاهرة، في عام 1819. ولكن الباشا أعاده إلى طنطا، عام 1822؛ لاعتقاده أن له يداً في فتنة، بالقاهرة، بسبب ضريبة، فرضها الباشا على المنازل. وظل عمر مكرم بطنطا، حتى توفي، عام 1822.

3. القضاء على المماليك

كادت مذبحة القلعة، في الأول من مارس 1811، تبيد المماليك. وقد اختُلف في تدبيرها. فقيل إن رؤساء الجند الألبانيين هم الذين دبروا الغدر بالمماليك. وألزموا محمد علي بالموافقة. وهذا غير صحيح. فالباشا هو مدبر المكيدة والمسؤول عنها. وقيل إن غدر الوالي بمن استأمن إليه منهم، إنما هو لوقوفه على مكاتبتهم مناوئيه، بكوات المماليك، في الصعيد؛ إضافة إلى سليمان باشا الكرجي، والي الشام، وعدو الباشا، الذي دأب على تحريض المماليك عليه. وكان قد صادر المكاتبات الآنفة من المغدورين أنفسهم.

وقيل إن محرضي والي مصر على مذبحته، إنما هم الوكلاء الإنجليز، الذين تنكروا للماليك، لأن هؤلاء تقاعسوا عن مساعدة حملة فريزر. وهناك من يرى، أن محمد علي، دبر مذبحة القلعة، بناءً على أوامر الباب العالي. ولكن الثابت، أنه لم يفكر في الغدر بالمماليك، إلا في عام 1811. واجتهد، قبل ذلك، في محاولة الاتفاق معهم، بإدارة مفاوضات عدة بينه وبينهم، انتهت إلى اتفاقات، طالما نقضوها. ولئن كانت غاية اتفاقه معهم هي تأمين حكمه واستقراره في مصر، فإنه استهدف كذلك أن يستخدم فرسانهم الأكفاء في الجيش المتوجه إلى الحجاز؛ وذلك لضعف سلاح فرسانه.

أَوْلَى محمد علي حملة الحجاز اهتماماً فائقاً، إذ كان هو آخر الدواء في يد الباب العالي، بعد فشل ولاة بغداد والشام في القضاء على الفتنة. وعُهد إليه بتلك المهمة، منذ عام 1807. وأخذ يراوغ في تنفيذها، متذرعاً بنقص المال. وطالب بتنحية سليمان باشا عن ولاية الشام، لمؤامرته المماليك؛ وذلك تمهيداً لاطمئنان محمد علي إلى وضعه في مصر، بعد إرساله الجيش إلى الحجاز. لا، بل طلب أن يعهد بولاية الشام إلى ابنه، طوسون. كما تذرع بعصيان المماليك ومفاوضته إياهم، لإعادتهم إلى الطاعة.

وحاول الباب العالي إغراء محمد علي بالخروج بجيشه إلى الحجاز؛ مقابل جعل باشوية مصر وراثية في أسْرته، على غرار "وجاقات الغرب". وبذلك احتدم الصراع بينه وبين المماليك، وفق ما رسمه، منذ عام 1807؛ لتقرير الباشوية الوراثية لأسْرته في مصر. وهو ما أقلق الباشا، الساعي إلى بسط سلطانه في جميع أنحاء ولايته، وتوطيد حكومته؛ لكونهما الدعامتَين، الواجب إرساؤهما، قبل الحصول على الباشوية الوراثية؛ إضافة إلى رغبته في الانفراد بحكم مصر؛ لأنه الوسيلة لإرساء الدعامتَين الآنفتَين.

طالما استهدف محمد علي اعتراف المماليك بسلطانه، سيان في محاربته إياهم ومفاوضتهم، نظير ما يقطعهم من أملاك، ومساواتهم بكبار قادته، وانضوائهم إلى جيشه لتعزيز سلاح فرسانه؛ على يقينه. باستحالة الثقة بهم، واقتناعه بغدرهم ومؤامرة خصومه عليه، ونقضهم لكلّ الاتفاقات. بيد أنه صمم على القضاء عليهم، إثر إلحاح الباب العالي عليه بإرسال الجيش إلى الحجاز، وتلويحه له بالباشوية الوراثية.

وفي نوفمبر عام 1809، وبعد هجوم محمد علي على المماليك، في الصعيد، خضع هؤلاء لشروط صلح يقضي بأن يدفعوا المسرى، وكلّ الإتاوات والفروض الاستثنائية، ويغادروا الصعيد، ليقيموا بالقاهرة. ولكنهم سرعان ما نقضوا هذا الصلح. فأخذوا يماطلون في تنفيذه، ويطلبون مهلة بعد أخرى، حتى يسووا شؤونهم في الصعيد. وما لبث الباشا أن ارتاب بهم، إذ بلغه أن هناك اتصالات بينهم وبين الحكومة الفرنسية؛ بل بين شاهين الألفي والإنجليز. وكان الألفي قد طلب إرسال جيش إلى مصر، ووعد بالانضمام إليه. وإذا تعذر ذلك، فلترسَل إليه أموال، يستخدمها في تحريض الجند والناس على محمد علي، ليتمكن شاهين هذا من الاستيلاء على الحكم.

لذلك، هدد محمد علي بإرسال جيشه، لمواجهة المماليك، إذا لم ينفذوا الاتفاق، ويحضروا إلى القاهرة. فاضطروا إلى الحضور إلى الجيزة، في مايو 1810. ولكنهم لم يركنوا إلى الباشا. فأخذ إبراهيم بك يسوِّل لشاهين الألفي نكثْ عهده مع الباشا؛ بل أغرى كبار رجال محمد علي بالخروج عليه. واستجاب له شاهين، فانضم إليه بمماليكه، في مقابل حصوله على رئاسة بيت مراد بك؛ وبذلك تتأتّى له رئاسة المماليك كلّهم. وهكذا أصبح محمد علي يواجه، للمرة الأولى، خطر اجتماع المماليك ضده. ساءت العلاقات بين الفريقَين. وتأهبا للحرب. لكن الباشا آثر الانتظار ريثما يحل الفيضان، فتعمر المياه الأراضي؛ فيتعذر على المماليك القتال في سهول منبسطة، تظهر فيها ميزة فرسانهم. وحتى يحين ذلك الوقت، أرسل حملة تطهير للوجه القبلي من المماليك، الذين قد تخلفوا فيه.

وفى الوقت نفسه، نشط رسله في تفريق معسكر المماليك، المتجمعين ضده في الجيزة. ونجحوا في إقناع فريق منهم بقبول الصلح مع الباشا. وتوجه إليه بعض الأمراء، بمماليكهم، مستأمنين. وتزايد الشقاق بين الباقين.

وما إن ارتفعت مياه الفيضان في النهر، حتى بدأ الاستعداد للمعارك الحاسمة، التي دارت عند الهوارة واللاهون، في مديرية الفيوم، في يوليه وأغسطس 1810. وانتهت إلى هزيمة المماليك، ومقتل الكثيرين منهم، وأَسْر آخرين، وفرار فلولهم إلى أعالي الصعيد. كما انضم الكثيرون منهم إلى الباشا، وبينهم زعيمهم الجديد، شاهين الألفي، الذي حضر إلى القاهرة، مستأمناً، للمرة الثانية؛ فأكرمه الباشا، ووعد بإعادته إلى مناصبه السابقة؛ إذ إن محمد علي، لم يكن قد غير سياسته تجاه المماليك، وهي الترحيب بمن يحضر إليه، معترفاً بسلطانه؛ وضمهم إلى قادته، وإلحاق فرسانهم بجيشه، الذي يزمع إرساله إلى الحجاز. وفي الوقت نفسه، كان يعتزم تعقب البكوات الآخرين، المخالفين، لتشريدهم، وإجبارهم على الاعتراف بسلطانه. ولكن تآمر الفريقَين من المماليك: المخالفين والمستأمنين، حمله على تغيير تلك السياسة، والعمل للقضاء عليهم جميعاً.

أَمْلَى على الباشا، في أوائل 1811، سحق المماليك عاملان: أولهما، وعد الباب العالي بجعل باشوية مصر وراثية في أسْرة محمد علي، إن هو أرسل جيشه إلى الحجاز، لقتال الوهابيين؛ وهي أمنيته، التي طالما طمع فيها. وثانيهما، وقوف الباشا على تآمر المستأمنين، في فبراير 1811، على الفتك به، أثناء عودته، في الصحراء، إلى القاهرة من السويس، حيث كان يشرف على إعداد السفن، اللازمة لنقل جيشه إلى الحجاز. وقد أفسد محمد علي تلك المؤامرة، بالعودة، بسرعة، إلى القاهرة، قبل الموعد المتوقع. لكن تلك المؤامرة، كانت حاسمة في إقناعه، أنه لا يمكن أن يأمن جانب المماليك إطلاقاً. وهكذا، تكون فكرة الإيقاع بهم، في مذبحة القلعة، في الأول من مارس 1811، قد بدأت تختمر في ذهنه، خلال شهرَي يناير وفبراير من ذلك العام.

وقد اختلفت الآراء في مذبحة القلعة. فرأى مستنكروها، أن محمد علي، قد أخذ البريء بدم المذنب، وأهلك المستأمنين؛ وكان ينبغي أن يقابلهم في ميدان الحرب والسياسة، ولا يغدر بهم. كما رأوا أن ضرر المذبحة، من الناحية القومية، كان شديداً؛ لأنها أفزعت الناس، ففقدوا شجاعتهم، فلا يجرؤ أيّ منهم على معارضة الباشا وانتقاده؛ فقضي على أيّ نزعة ديموقراطية.

ولا شك أن القِيم الأخلاقية، تدين مذبحة القلعة. وقد يسوِّغها نكْث البكوات المماليك الدائم بعهودهم، ومؤامرتهم الإنجليز، وسليمان باشا، على حكومة محمد علي؛ بل تآمروا على اغتياله، يستوي في ذلك المخالفون منهم والمستأمنون. ويضاف إلى ذلك أن الباشا، استنفذ كلّ الوسائل للاتفاق معهم. أمّا من الناحيتين: القومية والديموقراطية، فإن المماليك طائفة غريبة عن البلاد، لا همّ لهم إلا استنزاف مواردها. ولا يفقهون معنى لقومية ولا وطن مفهوم أو اعتبار بينهم، إذ كانوا يسعون إلى السلطة، ويستعدون، في سبيل ذلك، ولو أرهنوا البلاد الجماعة الفرنسية أو الإنجليزية! زِد على ذلك تمرد المصريين، حين أبهظتهم الضرائب، وأرهقهم التجنيد؛ فوقعت الاضطرابات في القاهرة، عام 1822؛ وفي جهات متفرقة من الوجهَين: البحري والقبلي، أعوام 1823 و1838 و1839. وتمكن الباشا من القضاء على تلك الاضطرابات، بسهولة.

يُراعَى، في الحكم على تصرف محمد علي، أن القضاء على المماليك قضاءً كاملاً، كان هو الوسيلة الوحيدة إلى وضع حد للحروب الأهلية، والتفرغ لشؤون الحكم، وتأليف حكومة مستقرة، منظمة؛ وتنفيذ مشروعات كبرى: داخلية وخارجية، أيْ أنه كان الوسيلة الوحيدة إلى القضاء على النظام الإقطاعي القديم، المتخلف، وبناء الدولة الحديثة في مصر.

رابعاً: بناء الدولة الحديثة في مصر

أدرك محمد علي تأثُّر مصر بوقائع السياسة الأوروبية. وجزم أن قوة السلطان وحدها، لا تكفى للدفاع عن مصر، أو لإنقاذها من احتلال أوروبي؛ بل لا بدّ لها من قوة ذاتية، تدافع بها عن نفسها، دون أيّ غزو خارجي. وقطع في أن وجود عصبيات مسلحة، تقاسم الحكومة سلطانها، يضعف السلطة الحاكمة، ويعرض البلاد للتدخل الأجنبي.

ولم يغفل الباشا، أن بقاءه في مصر كان إرغاماً للسلطان العثماني الذي قد ينتهز أيّ فرصة لعزله. وقد صمم على البقاء في حكم مصر، منتهجاً خطة عامة، تنحصر في الآتي:

1. داخلياً: القضاء على مناوئيه. وبسط سلطانه وتوطيده، من خلال سلطة عامة، أو ما يُسمَّى بالحكومة المركزية المنظمة، التي بنيت على أساسها الدولة المصرية الحديثة. وتقوية البلاد بإصلاحات، شملت مختلف مرافقها ونواحي الحياة فيها.

2. خارجياً: مقاومة الاستعمار الأوروبي، الذي بدأ زحفه إلى العالم الإسلامي. وحشْد المشرق العربي حول مصر، تحت حكمه، على أساس استقلال داخلي، في نطاق الدولة العثمانية؛ وإن تحول ذلك، في ما بعد، إلى محاولة الانفصال عن تلك الدولة، تجنباً للمصير، الذي كانت سائرة إليه، وهو الوقوع في أيدي دول أوروبا. يضاف إلى ذلك، أنه استهدف إحياء طريق التجارة القديم؛ ما دفعه إلى السيطرة على البحر الأحمر والبلاد المطلة عليه. بيد أن بعض المؤرخين، يرى أن محمد علي، لم يكن انفصالياً؛ فبعد تشييد إمبراطوريته، أراد ضم الدولة العثمانية إليها.

خامساً: سياسة محمد علي الداخلية

ما كان لمحمد علي أن ينفذ سياسته الداخلية، ويبسط سلطانه، ويقيم حكومته المركزية، لو لم يَقْضِ على النظام الإقطاعي، الذي شتت ولاء المصريين، وقسم السلطة بين العصبيات المسلحة، من المماليك وقواد الجند ومشايخ القبائل العربية؛ إضافة إلى المشايخ والعلماء، بما لهم من نفوذ ديني؛ والملتزمين، بما لهم من سلطان على الفلاحين. أمّا الباشا العثماني، فكاد يُجَرَّد من السلطة.

وكان الجيش القديم خليطاً من الجند الأتراك والأكراد والمغاربة والألبانيين. وقد نغصت فِرقه محمد علي، بكثرة تمردها، وإعراضها عن الطاعة والنظام، وأطماع بعض رؤسائها في السلطة. ولم يكن للباشا بدّ من الاعتماد على ذلك الجيش في حروبه للمماليك، وفي بلاد العرب، ريثما يكوّن جيشاً جديداً، على النظام الأوروبي الحديث.

1. نظام الدولة السياسي

أ. السلطتان: التنفيذية والتشريعية

(1) استند النظام السياسي، في عهد محمد علي، إلى الحكم الفردي المطلق. غير أنه اعتمد الدواوين الاستشارية، التي استحدثتها الحملة الفرنسية، في آخر عهدها، برئاسة جاك مينو. ولا بدّ من التنويه بأن الباشا، لم يفرق بين مسلم وقبطي ويهودي، في وظائف الدولة.

(2) لم يُفصل بين السلطتَين: التنفيذية والتشريعية؛ فاختلطت الاستشارة بالتشريع، في الدواوين، حيث سيطر الحكم الفردي على النظام السياسي.

(3) شملت السلطتان: التنفيذية والتشريعية، العديد من الدواوين والمجالس:

(أ) الديوان العالي: تتركز مهامه في تداول أعضائه الشؤون المتعلقة بالحكومة، قبل الشروع في تنفيذها. ورئيس الديوان هو نائب محمد علي. وله سلطة واسعة في شؤون الحكومة كافة.

(ب) سائر الدواوين: أسس محمد علي ديوان الحربية، وديوان التجارة، وديوان المدارس، وديوان البحرية.

(ج) المجلس العالي: استحدثه محمد علي، عام 1834؛ نتيجة لتوسع شؤون الحكومة (ويماثل مجلس الوزراء حالياً). ويتألف من نظار الدواوين، ورؤساء المصالح؛ إضافة إلى اثنَين من العلماء، يختارهما شيخ الأزهر؛ وآخرَين من التجار، يختارهما نقيب تجار القاهرة؛ واثنين من الأعيان، عن كلّ مديرية؛ وآخرَين لشؤون الحسابات.

(د) مجلس المشورة (الشورى): كوّنه محمد علي، عام 1829. وهو أشبه بجمعية عمومية، تنوب عن الدولة. قوامه 156 عضواً، منهم 33، من كبار موظفين الحكومة والعلماء؛ و24، من مأموري الأقاليم؛ و99، من كبار أعيان القطر. وكانت سلطته استشارية، في قضايا الإدارة والتعليم والأشغال العمومية.

(هـ) أصدر الباشا، عام 1837، قانوناً أساسياً (السياستناقة)، ينظم العلاقة بين الدواوين الحكومية السبعة واختصاصاتها: الديوان الخديوي؛ المسؤول عن شؤون الحكومة: الداخلية والعامة؛ وديوان الإيرادات، وديوان الجهادية، وديوان البحر للأسطول، وديوان المدارس، وديوان الأمور الأفرنكية والتجارة المصرية، وديوان الفابريقات.

(و) وفي أواخر حكم محمد علي، عام 1847، أَلَّف ثلاثة مجالس جديدة:

·   المجلس المخصوص: ويختص بالنظر في الشؤون الكبرى للحكومة، وتشريع اللوائح والقوانين، وإصدار تعليمات لجميع المصالح.

·   المجلس العمومي، والجمعية العمومية: للنظر في شؤون الحكومة العمومية، التي تُحال إلى كلّ منهما.

(ز) ليست المجالس والدواوين، التي استحدثها محمد علي، إلا هيئات تنفيذية لإدارته في الحكم؛ ولا تعني إنشاء نظام دستوري نيابي. وأثار بعض المؤرخين، أن الحكم المطلق، الفردي، الذي اعتمده الباشا، حقق له المشروعات التي خطط لها. وأن الظروف الموضوعية للمجتمع المصري، ومرحلة الاضطرابات الأمنية، والصراع على السلطة حينها، لا تسمح بغير هذا النوع من الحكم. كما أن الحكومات، في الشرق والغرب، باستثناء إنجلترا، وفرنسا، بعد الثورة ـ كانت تطبق هذا النوع من الحكم.

ب. التقسيم الإداري

(1) كانت مصر، في العهد العثماني، مقسمة بين 16 مديرية. وأعاد محمد علي تقسيمها بين سبع مديريات (محافظات)، متساوية المساحة؛ تتمشى مع تساوي الأعباء المالية المفروضة على الأهالي. وعيَّن لكلّ منها مديراً.

(2) قُسمت كلّ مديرية بين عدة مراكز. يرأس كلاًّ منها مأمور. والمركز يضم عدة أقسام، على كلّ قسم ناظر. والقسم يضم نواحي وقرى؛ والقرية عليها شيخ بلد وعمدة، ومعه خولي، ومهمته مسح الأطيان؛ وصراف لجمع الأموال الأميرية، وشاهد ومأذون.

(3) تولى الأتراك كلّ الوظائف الإدارية، عدا وظيفة العمدة وشيخ البلد، والوظائف المالية. واقتصرت سياسة استبدل المصريين بالأتراك على الوظائف الصغرى فقط، مثل وظيفة ناظر القسم، في أواخر حكم محمد علي. وارتفعت، في عهد سعيد باشا، إلى 25% في الوظيفة نفسها، وليس أكثر.

ج. السلطة القضائية

(1) استمر محمد علي في تطبيق النظام القضائي، المعمول به منذ الحكم العثماني والحملة الفرنسية. إلا أنه أضاف إلى الديوان الخديوي (العالي) بعض الاختصاصات القضائية.

(2) كوَّن محمد علي، عام 1842، هيئة قضائية جديدة، باسم: "جمعية الحقانية"، تختص بمحاكمة كبار الموظفين؛ وكانت محكمة جنايات وجنح. وأنشأ محكمة تجارية، باسم: "مجلس التجارة". تختص بالمنازعات التجارية بين الأهالي، أو مع الأجانب، إذ يدخل في تكوينها ممثلون أجانب.

(3) استمرت المحاكم الشرعية في رعاية الأحوال الشخصية، وانتقال الملكية. كما أُلِّفت مجالس أقاليم، تفصل في المسائل: المدنية والتجارية.

2. إنشاء الجيش المصري النظامي وتطويره

كان لا بدّ من قوة، تحمي النظام الجديد، وتكفل له الاستقرار وتدافع عن الأقاليم، التي كوّن منها محمد علي إمبراطوريته، في بلاد العرب والسودان والشام. فأنشأ الباشا جيشاً وطنياً، مدرباً وفقاً للنظام الأوروبي الحديث. وعرف الجيش الجديد باسم: "النظام الجديد".

وواجه محمد علي، في محاولاته تكوين الجيش الجديد، عدة عقبات. فقد حاول، عام 1815، تدريب الجنود المرتزقة على النظُم الحديثة للجيوش. ولكن، فشلت محاولته. وكررها، بنجاح، عام 1820، حين استخدم عدداً من الضباط الفرنسيين، الذين أصبحوا بلا عمل، بعد انتهاء الحروب الفرنسية في أوروبا. كما استخدم بعض الضباط: الإيطاليين والأسبان والبرتغاليين، في تدريب جنود "النظام الجديد"؛ وكان أشهرهم سليمان باشا الفرنساوي، الذي عرف باسم: سيف، وتولى إدارة مدرسة المشاة العسكرية، التي أنشئت عام 1820.

وقصر محمد علي الانتماء إليها على أبناء أسْرته، وأبناء موظفيه، وبعض المماليك الموالين له؛ ليكونوا ضباط الجيش الجديد. وبدأ تدريبهم، أولاً، في القاهرة، ثم في أسوان؛ لتكون قريبة من السودان، مركز التجنيد في الجيش الجديد، الذي قلّما رُغِب في الانضمام إليه. وأنشئت للجنود ثكناتهم، عدا مستشفى، يرعاهم صحياً. ولكن فشلت تجربة تجنيد السودانيين، بسبب الأمراض، التي انتابتهم، وكثرة وفياتهم؛ ومن ثَم، اضطر محمد علي إلى تجنيد الفلاحين[2]، الذين لجأوا، في أول الأمر، التملص من الجندية. لكنهم سرعان ما اندمجوا فيها، وأحرزوا انتصارات، أعلت مكانة الفلاح الجندي.

وفى 17 فبراير 1822، صدر أمر محمد علي لأحمد باشا طاهر، بانضمام أربعة آلاف مصري، من الوجه القبلي، إلى فخر بك لاظ أوغلي، ناظر النظام العسكري؛ ليدرَّبوا في أسوان. وبعد خدمة ثلاث سنوات، يعادون إلى الحياة المدنية.

لئن استاء المصريون بتجنيدهم، ونزعوا إلى الهياج، في جهات متعددة؛ فإنهم بدأوا ينتظمون في تدريب الجيش الحديث، الذي تألَّفت قواته، في يناير 1823، من ست أورط (تعادل كتيبة)، تتكون كلّ منها من ثمانمائة جندي. ثم ارتفع حجم هذه الوحدات إلى ستة آلايات، يشتمل كلّ منها على خمس أورط. وبلغوا، في نهاية العام، مرحلة جيدة من التدريب.

وبعد انتهاء تدريب الآلايات الستة، أمر محمد علي بتوزيعهم على ميادين القتال. فأرسل الآلاي الأول إلى السودان، والآلاي الثاني إلى الجزيرة العربية. أمّا الآلايات الأربعة، فأرسلت إلى اليونان. وأمر الباشا بتكوين ثلاثة آلايات جديدة. كما تألفت المدفعية النظامية، ثم الفرسان (الخيالة) النظامية. وهكذا استمر تطور الجيش، إلى أن بلغ، 130.300 ألف عسكري، عام 1839.

أ. ديوان الجهادية، ونظام التجنيد

لم يكن لمحمد علي مجلس للنظار أو الوزراء؛ بل كان لكلّ فرع من فروع الإدارة الحكومية ديوان أو هيئة؛ وعلى رأس كلّ ديوان ناظر، ينفذ أوامر الباشا، من دون تحوير أو تعديل. وكانت الدواوين سبعة، هي: الديوان العالي، وديوان الإيرادات، وديوان الجهادية، وديوان البحرية، وديوان المدارس، وديوان الأمور الأجنبية، وديوان الفابريقات (المصانع). وجعل محمد علي لكل منها مجلساً فنياً، مؤلفا من الإخصائيين. وأولى اهتمامه ديوان الجهادية، أو الجهاز المتخصص بالشؤون العسكرية كافة، الذي يشرف على شؤون الجنود البرية وتعليمهم، وضبط حركاتهم، وبناء الثكنات والمستشفيات، وإعداد المهمات، وخدمة الصحة، والأسلحة، ومخازن تعيينات الجنود وغيرها.

كان أول من تولى ناظر الجهادية هو محمد بك لاظ أوغلي. ثم خلفه محمود بك عزت. ثم أحمد باشا يكن. ثم خورشيد باشا. ولم يضطلع ديوان الجهادية بإدارة أعمال القتال أو التخطيط للحرب؛ وإنما تولاها جهاز، يشابه "هيئة أركان الحرب"، حالياً. في شأن التجنيد، كان من المهم التأكيد للجنود المصريين انتماءهم إلى هذا المجتمع، حتى يشجعهم على التجنيد. كما كان يختص المجندين بالعديد من الميزات، من طعام وكساء وراتب شهري. ومدة الخدمة ثلاث سنوات. وبعد انتهائها، تسلم لكل منهم وثيقة مختومة، تتيح له الإقامة بقريته، مُعْفَى من التكاليف.

ب. التدريب

ابتعث محمد علي بعثات شتّى، في المجالات العسكرية كافة إلى إيطاليا وإنجلترا والنمسا وفرنسا. كانت أولاها، عام 1813، للتخصص بالشؤون الحربية. وكانت ثانيتها، عام 1818. كما استقدم الخبراء والبعثات الأجنبية. واهتم بإنشاء المعسكرات، لإقامة الجنود وتدريبهم؛ فضلاً عن المدارس العسكرية المتخصصة بتدريب الضباط وضباط الصف وتخريجهم. وأنشأ المدرسة الحربية، عام 1822، والتي سميت، في ما بعد: "مدرسة الجهادية". واستحدث معسكر تدريب جديداً، عام 1824، في مصر القديمة، بدلاً من أسوان، حتى يكون قريباً منه؛ ثم نقل إلى منطقة "أبي زعبل"؛ وسُمِّي: "مدينة الجهاد".

وتوالت المدارس. فكانت مدرسة أركان الحرب، عام 1825؛ ومدرسة الموسيقى العسكرية، ومدرسة البحرية، ومدرسة الطب، عام 1827؛ ومدرسة الطب البيطري، عام 1828، ومدرسة الفرسان (السواري)، عام 1831؛ ومدرسة المدفعية، ومدرسة المشاة، عام 1823؛ ومدرسة المهندسين العسكريين، وغيرها.

وازداد عدد الجيش الجديد، فارتفع من ستة آلايات مشاة، عام 1824، قوامها أربعة وعشرون ألف مقاتل، ليبلغ، عام 1828، اثنَي عشر آلاياً للمشاة، وبعض وحدات المدفعية والمهندسين؛ إضافة إلى المدارس الحربية؛ ناهز عمادها جميعاً 55144 عسكرياً.

واطرد تزايد عديد الجيش الجديد، فبلغ، عام 1831، ستة عشر آلاياً للمشاة، منها آلاي حرس، وثمانية آلايات للسواري؛ إضافة إلى وحدات المدفعية والمهندسين؛ طاول قِوامها كلّها 57200 عسكري. وزخر الجيش، عام 1833، فضم 22 آلاياً للمشاة، و13 آلاياً للسواري، وثلاثة آلايات للمدفعية؛ إضافة إلى وحدات مهندسين، وعدة مدارس؛ قارب عديدها 91048 عسكرياً. وجاش الجيش الجديد، عام 1837، فاحتضن 35 آلاياً للمشاة، منها آلايَا حرس؛ و15 آلاياً للسواري، منها آلايَا حرس وثلاثة آلايات مدفعية حرس، وثلاثة آلايات مدفعية مشاة، وآلايَا مدفعية فرسان؛ إضافة إلى عدد من أورط بلوكات المدفعية، ووحدات مهندسين، ووحدات أخرى؛ قدِّر عديدها جميعاً بزهاء 123225 عسكرياً.

ج. المصانع الحربية

اهتم محمد علي بإنشاء مصانع، لإنتاج أسلحة الجيش وذخائره ومعداته. فنظَّم داراً للصناعة، في قلعة القاهرة، كانت تنتج الخيام والسروج ولوازم الحرب. وأنشأ مصانع الأدوات الحربية، كسبك المدافع والقنابل والعربات، ولا سيما معمل المدافع من عيار أربعة وثمانية أرطال، ومدافع الهاون من عيار ثماني بوصات، ومدافع قطرها 24 بوصة. كما صُنعت البندقيات والسيوف والرماح، وحقائب الجنود، وحمائل السيوف، وحلية الخيل من اللُّجُم والسروج.

زِد مصنعاً للبارود، وآخر لصنع ألواح النحاس، المستخدمة في وقاية السفن الحربية؛ إضافة إلى مصانع، يحتاج إلى إنتاجها الجيش أو البحرية أو القطاع المدني، كمصنع الحبال، ومصنع الجوخ والطرابيش، ومصانع غزل ونسج القطن والكتان والحرير، والتي انتشرت في أنحاء مصر.

د. إنشاء البحرية المصرية

لم يكن لمحمد علي، المحتكر تجارة مصر الخارجية، والطامع في الاستئثار بكلّ أو معظم مكاسب نقْلها، بحراً، أن يستغني عن بحرية، تدعم رغباته، وتلبي حاجة جيشه، في حروبه الخارجية؛ فأنشأ البحرية المصرية، خلال ثلاث مراحل.

(1) المرحلة الأولى (1810 – 1821): أنشأ محمد علي أسطولَين: أحدهما في البحر الأحمر، والآخر في البحر الأبيض المتوسط. وكانت أسباب إنشاء الأول سياسية، استجابة لطلب السلطان العثماني إليه إرسال حملة إلى الحجاز؛ فاحتاج إلى أسطول، ينقل الجند والمؤن والإمدادات، وتوفر مدافعه التغطية النيرانية، عند نزول الجند إلى البر. ولذلك، أنشأ، في بولاق، "ترسانة وورش". جمع لها مهرة الصناع: المصريين والأوروبيين. ومنها كانت تنقل أجزاء السفن إلى السويس، حيث أقيمت منشآت لتركيبها، وإنزالها إلى البحر. وأبحر الأسطول إلى بلاد العرب، في سبتمبر 1811. أمّا أسطول البحر الأبيض المتوسط، فقد أنشئ لأغراض اقتصادية، إذ سُخِّر لنقل تجارة الصادر.

(2) المرحلة الثانية (1821 – 1827): احتاج محمد علي إلى أسطول حربي، في البحر الأبيض المتوسط؛ ليلبي طلب السلطان العثماني، إخضاع الثورات، في جزيرتَي كريت وقبرص، والأرخبيل اليوناني، وبلاد المورا. وكان للثوار اليونانيين سفن، تمتاز بسرعة حركتها، وكفاءة ملاحيها؛ ما استدعى أسطولاً مصرياً قوياً، قادراً على مواجهتها؛ اضطر الوالي إلى بنائه في مصر وفرنسا وإيطاليا. وهكذا، ولد أسطول مصري، قِوامه 51 قطعة حربية، و146 ناقلة جند. واشترك معظمه، في 20 أكتوبر 1827، في موقعة "نوارين" (البحرين)، حيث دُمِّر أغلبه[3].

(3) المرحلة الثالثة (1827 – 1848): أنشأت مصر دار صناعة، أو ترسانة كبرى، في الإسكندرية، بمعاونة بعض المهندسين البحريين الفرنسيين. ضمت 105 مرافق، من الورش والمصانع، عدا ورش الذخائر والأدوات الحربية. واستجلبت لها الخشب من آسيا الصغرى ورودس وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا. وتمخضت تلك الترسانة، عام 1829، بأسطول مصري، في البحر الأبيض المتوسط، عماده 59 مركباً حربياً، و782 مدفعاً.

صارت ترسانة الإسكندرية واحدة من أعظم المنشآت: الحربية والبحرية. كما أمست معهداً لتعليم الشبان بناء السفن وترميمها، وصناعة ما يلزمها من الآلات. فكانوا يوزعون على أقسامها؛ لتختص كلّ جماعة بفرع من فروع هذه الصناعة. وأنشئ فيها خمس مزلقانات، لبناء السفن عليها. واتسعت أعمالها. وكثر عمالها، حتى بلغ عددهم ثمانية آلاف عامل؛ ومن ثَم، استغنت مصر عن شراء السفن من الخارج. واضطلعت الترسانة ببناء العديد من السفن الحربية، بأنواعها المختلفة؛ إضافة إلى السفن التجارية، وعدد من سفن النقل.

كما اجتهد محمد علي في توسيع ميناء الإسكندرية وتعميقه. واستعان على ذلك بالكراكات الأوروبية. فصارت السفن ترسو على الشاطئ، بعد أن كانت ترسو بعيدة عنه. كما أنشأ رصيفاً، داخل الميناء، لرسو السفن. وأَعَدّ للميناء ما يحتاج إليه، من مخازن وأبنية الجمرك ومساكن الموظفين. كذلك وضع علامات في خليج الإسكندرية، كي يهتدي بها ربابنة السفن، عند دخولهم إلى الميناء وخروجهم منه. وأنشأ حوضاً، لترميم السفن، في الترسانة، مزوداً بالمهندسين الفرنسيين. ونصب فنار الإسكندرية، في شبه جزيرة رأس التين؛ لإرشاد السفن.

3. الأوضاع الاقتصادية

تسلّم محمد علي حكم مصر، وهي تعاني اقتصاداً إقطاعياً راكداً. فالأرض موزعة بين التزام وإقطاعات مملوكية وأوقاف. والتجارة مضمحلة. والصناعة راكدة. فعمد إلى تركيز كلّ شيء في يده. وبادر إلى فرض ما عرف باسم: نظام "الاحتكار"، المستند، أساساً، إلى تنحية الطوائف كافة، التي كانت تقف واسطة بين الدولة، التي هي الباشا، وفئات المنتجين والمستهلكين؛ فألغى "نظام الالتزام"، في المجال الزراعي، والجمارك، وبعض الصناعات. واستولى على إقطاعات المماليك، بعد القضاء عليهم.

وأخذ محمد علي، في سياسته الاقتصادية، بمبدأ "الاكتفاء الذاتي". وخلاصة هذا النظام، أن الدولة يجب أن تصدر أكثر ما تستورد منها؛ لأن دخْلها يزيد بقدر الفرْق، الناتج من زيادة الصادرات على الواردات. ويُعَدّ هذا الفرق ربحاً للدولة المصدرة، وخسارة لتلك المستوردة؛ ودليلاً على أن الميزان التجاري هو في مصلحة الأولى، وضد مصلحة الثانية. إذاً، يشجع هذا النظام التصدير، بكلّ الوسائل. ويَحُدّ من الاستيراد، بشتى السبل؛ ولذلك، اقترن بإقامة الحواجز الجمركية العالية، وفرض المكوس وغير ذلك مما يقتضيه العمل بمبدأ حماية التجارة.

أ. الزراعة

كانت أراضى مصر، في مطلع القرن التاسع عشر، يتوزعها بكوات المماليك والملتزمون. لذلك، ألغى محمد علي نظام الالتزام، في الزراعة. فوضع حدّاً لنهب الملتزمين. كما استولى على أراضى بكوات المماليك، بعد أن قضى عليهم. فأصبح التعامل مباشراً، بين الفلاحين المنتجين والدولة، من خلال موظفيها، وغدا الفلاح، وجهاً لوجه، أمام الحكومة. وكانت هذه نقلة كبيرة، ومهمة، في علاقات الإنتاج، مهدت، في ما بعد، للتداول الحر، في مجال الأراضي الزراعية. ومسح محمد علي تلك الأراضي، عام 1813. وأعلن ضمها إلى الدولة. وأعاد توزيعها على الفلاحين، ملكية انتفاع، لا ملكية رقبة، ما داموا يحسنون استغلالها، ويؤدون الضرائب المقررة عليها؛ حتى إذا ما توانوا، انتزعها منهم، وأعطاها لمن يشاء.

وأعطى الوالي أبناء أسْرته، وبعض الفئات المقربة إليه، وبعض الأجانب القائمين بخدمته، مساحات شاسعة، شملت، في بعض الأحيان، قرى بكمالها. وأعفى مالكيها الجدد من الضرائب. وبذلك فتح محمد علي الباب أمام الملكية الزراعية، التي سيطرد نموها، لتصبح الأرض سلعة رأسمالية، تباع، وتشترى في السوق، ما سيولّد طبقة جديدة، هي طبقة كبار الملاك الزراعيين، الذين سيسهمون إسهاماً مهماً في تاريخ مصر الحديث، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

وقد أشرفت الدولة على الإنتاج الزراعي، طبقاً لسياسة زراعية عامة، قاعدتها هي قاعدة الدورة الزراعية، منذ إدخال مشروعات الري الكبرى ونظام الري الدائم. وهكذا، حُرم الفلاحون ثمرة عملهم، وأرهقوا بألوان شتى من الضرائب، التي استخدمت في تحصيلها وسائل العنف.

لقد عرفت مصر محاصيل زراعية، لا عهد لها بها، مثل: القطن وقصب السكر. كما أمكن التوسع في زراعة محاصيل أخرى، مثل الزيتون. واهتمت الحكومة بزراعة أشجار الفواكه، كالمانجو والموز، والنخيل والعنب. وعنيت بزراعة الكتان والحبوب مثل: الذرة والعدس والأرز والفول. واستصلحت بعض الأراضي الصحراوية؛ فاتسعت رقعة المساحات الزراعية.

وساعدت محمد علي على تحقيق ذلك سلسلة من المشروعات المائية، كحفر الترع في مختلف مديريات الوجهَين: القبلي والبحري، والمصارف والقنوات المائية، والجسور والسواقي، والخزانات لضبط المياه وحسن توزيعها. وقد أنشأ عدداً من القناطر، في القليوبية والفيوم والجيزة وأسيوط وجرجا وقنا، غير أن أشهرها، كانت القناطر الخيرية، ولو أنها لم تكتمل إلا في سنة 1861، في عصر سعيد باشا.

وقد أسخطت سياسة محمد علي الزراعية الكثير، من الفئات المختلفة، كالملتزمين القدامى، الذين خسروا مكاسبهم؛ وأصحاب الأراضي الموقوفة، نتيجة لفرض الضرائب عليها أولاً ثم لمصادرتها بعد ذلك. وفي مواجهة ذلك، أزرى الوالي بالعلماء والمشايخ، المشرفين على نظارة الأراضي الآنفة؛ فقضى على امتيازاتهم الاقتصادية. يضاف إلى ذلك سخط جموع الفلاحين على فرض الوالي زراعة معينة، وشرائه محاصيلها بأسعار، هو يحددها.

ب. الصناعة

استأثر محمد علي بالصناعات المصرية القائمة، وأكثر من المنشآت الصناعية الجديدة؛ حتى يرجح الميزان التجاري، في مصلحة الدولة، من خلال زيادة الصادرات على الواردات؛ إضافة إلى الاكتفاء الذاتي، الناجم عن إنتاج مصر حاجتها من السلع، لتستغني عن استيرادها. وما لبث الوالي أن استحدث صناعات ثقيلة، معتمدة، أساساً، على الإنتاج الزراعي؛ وتتعلق، بالجيش والأسطول خاصة، وما يحتاجان إليه، من سلاح وذخيرة وملابس. وعُهد بالإشراف على هذه الصناعات، إلى مسؤول في الجهادية، أو مدير تعيِّنه الحكومة.

ففي القلعة، أُنشئت مصانع ألواح النحاس، وسبك الحديد، والمدافع والسيوف والبندقيات. وفي بولاق، أنشئت مصانع الأسلحة النارية، ونسج الجوخ، ودبغ الجلود، وغير ذلك. واشتملت رشيد ودمياط على مصانع لضرب الأرز. وانتشرت مصانع غزل القطن ونسجه في المحلة الكبرى ودمنهور وبني سويف والمنيا وغيرها.

وقد بادرت الحكومة إلى استقدام بعض الصناع: الأوروبيين والمالطيين؛ لتعليم المصريين وسائل الصناعة الحديثة وأساليبها.

ارتابت إنجلترا من سياسة محمد علي الصناعية. وحاول مبعوثوها، مراراً، أن يقنعوه بالتخلي عنها، وقصْر اهتمامه على الزراعة، التي تكفلوا ببيع محاصيلها. ولكنه لم يستجب لهم.

غير أن إنجلترا، نجحت، أخيراً، في الكيد للصناعة المصرية، إذ وقّعت مع الدولة العثمانية معاهدة "بلطة ليمان"، عام 1838، والتي نصت على السماح للتجار الإنجليز بالاتصال المباشر برعايا الدولة العثمانية، بما فيها مصر وممتلكاتها. وقد ناهض محمد علي تلك المعاهدة، في حينها؛ ولكنه اضطر إلى التقيد بشروطها، منذ تسوية لندن، عام 1840، حينئذٍ، بدأ ينهار نظام الاستئثار، لمصلحة الفلاحين، والحرفيين، والتجار الأجانب، الذين انتهزوا افتقار المصريين إلى المال اللازم، والخبرة الفنية العالية، وروح المغامرة، فتغلغلوا في البلاد، وخاصة في الريف. وبذلك، انهارت التجربة الصناعية الأولى في مصر. وساعد على انهيارها، أنها عاصرت سعي الرأسمالية الصناعية، وخاصة في إنجلترا، إلى غزو العالم بمنتجاتها.

ج. التجارة

نشطت التجارة نشاطاً واسعاً، خلال حكم محمد علي، حين أصبحت الحكومة هي المستأثر الرئيسي بها، بعد أن كاد الوالي يقضي على التجار المحليين؛ إضافة إلى تحريمه على الفلاحين الاتصال بالتجار الأجانب. وبذلك، أصبحت التجارة مورداً ثابتاً من الموارد الأساسية، التي يعتمد عليها دخل حكومة محمد علي. واتخذ الاستئثار الحكومي بالتجارة سبيلَين:

(1) استئثار داخلي: وهو زراعي. قاسمت الحكومة الفلاحين، بمقتضاه، محاصيلهم الزراعية، من خلال إجبارهم على أن يبيعوها لها بأثمان، تحددها هي. وكانت الدولة تجمع تلك المحاصيل في مخازنها (شونها) لتصديرها إلى الخارج. وإذا احتاج الفلاح إلى شيء منها، ففي وسعه أن يشتريه بأثمان، تحددها الحكومة.

(2) استئثار خارجي: وهو تجاري. فقد أحكمت الحكومة قبضتها على التجارة الخارجية، من خلال الاستئثار الداخلي، الذي لم يترك لها شريكاً في التعامل مع التجار الأجانب. واستمرت سيطرتها التامة على التجارة الخارجية مدة طويلة. وكان القطن هو أهم السلع في تجارة الصادر، يليه القمح.

وأدى الاهتمام بالتجارة إلى العناية بوسائل النقل المختلفة. فتأسست، عام 1845، شركة للملاحة في البحر الأبيض المتوسط، بين الإسكندرية والآستانة، كما تأسست، عام 1846، شركة للملاحة في النيل. ولكن اتساع نفوذ مصر وأملاكها في آسيا وأفريقيا، وسيطرة محمد علي على طرق المواصلات الرئيسية، بين الشرق والغرب، عبر سورية والبحر الأحمر ـ أثار حفيظة إنجلترا، فسعت لتقويض نفوذه؛ خوفاً من نشوء دولة قوية، في الشرق الإسلامي، تهدد مصالحها الإمبراطورية. وقد نجحت في ذلك.

4. الأوضاع: التعليمية والثقافية

احتاجت الدولة الحديثة، التي أنشأها محمد علي، إلى توفير القيادات وقدرات، عجز التعليم الديني عن تخريجها. فلجأ الوالي إلى نظامه التعليمي الخاص، الذي اقترن، في عهده، بأهدافه العسكرية. فقد كان في حاجة إلى الضباط والفنيين، من أطباء وصيادلة ومهندسين وغيرهم، قدر حاجته إلى المرافق والمدارس والإدارات، اللازمة لتدريب أهل البلاد وتوجيههم الوجهة، التي تقتضيها الحياة الجديدة.

وآثر محمد علي أن يبتعد عن الأزهر كلية؛ خشية إثارة علمائه، واستثارة المشاعر الدينية. ولذلك، أنشأ، إلى جانب التعليم القديم، تعليماً حديثاً، يماشي النسق الأوروبي. وعاش النوعان معاً؛ بل ظل التعليم الديني بمعاهد الكتاتيب والأزهر، ودراساته ورجاله أحراراً، بعيداً عن رقابة الدولة وسلطانها.

وقصرت حكومة محمد علي اهتمامها على نظام التعليم الحديث. فأنشأت مدارسه. ورعت شؤونها. وبدأت بإنشاء المدارس الخصوصية (العالية)، التي تحتاج إليها البلاد. فأنشئت المدارس الجديدة لتخريج الضباط، ومدارس الطب: البشري والبيطري، والصيدلة، والزراعة، والمهندسخانة، والألسن وغيرها. ويضاف إلى ذلك إنشاؤها مدارس تجهيزية وابتدائية. وأكثرت من المكاتب الابتدائية، في الأقاليم؛ لنشر التعليم الابتدائي؛ وإعداد التلاميذ، الذين يراد إلحاقهم بالمدارس التجهيزية.

كما استقدم محمد علي المعلمين المتخصصين، من أوروبا. وأوفد، منذ عام 1813، البعثات إليها، من التلاميذ النابهين. وهم الذين سوف يكونون النواة الأساسية للمثقفين المصريين، الذين سيسهمون إسهاماً بارزاً، خلال حكم محمد علي، وما بعده، إذ سيلبون حاجة البلاد إلى القيادات، في شتى المجالات؛ لتنهض على أكتافهم مصر الحديثة.

كادت سياسة محمد علي التعليمية تقتصر على الإسراع في تلبية حاجة البلاد، وخاصة الجيش والأسطول والإدارة؛ حتى إن التعليم المصري الحديث، اتسم بأنه تعليم مهني، يخرّج موظفين، وليس دارسين وباحثين.

ورعى محمد علي الترجمة، حق رعايتها؛ لنقْل علوم الغرب وفنونه إلى لغات، يفهمها تلاميذ المدارس المصرية، أيْ العربية والتركية بخاصة. فراحت الحكومة تجمع الكتب من مختلف الدول، وتعهد بما يصلح منها للتدريس في المدارس المصرية إلى المترجمين.

بيد أن حركة الترجمة، اقتصرت على المواد العلمية. وحمل لواءها رفاعة رافع الطهطاوي. وهو مَن رشحه الشيخ حسن العطار إلى فرنسا، عام 1826. فأقبل، وهو في باريس، على تعلُّم الفرنسية. وعكف على دراسة الأدب والفنون. ولازم قراءة كتب العلوم وترجمتها. وما إن شاع اجتهاد هذا الإمام في الدرس والتحصيل، حتى ضمه محمد علي إلى أعضاء البعثة؛ طمعاً في درايته باللغات، وعشماً بجعْله مترجماً، ينقل إلى العربية ما تحتاج إليه البلاد، من علوم: عسكرية وهندسية، وطبيعية، وكيميائية وطبية، وجغرافية وتاريخية.

ويُعَدّ رفاعة الطهطاوي هو مؤسس مدرسة الألسن؛ ومعه نخبة ممتازة من المصريين، ممن تلقوا تعليماً حديثاً، في مصر والخارج. وقد أشرف على ترجمة 238 كتاباً، في مختلف العلوم. تولت طباعتها مطبعة بولاق، التي أنشأها محمد علي، عام 1822. وأنشأ كذلك مطبعة أخرى، في القلعة، كانت تطبع جريدة "الوقائع"، التي ظهرت عام 1828. وفي عام 1833، أصدر "الجريدة العسكرية"، عندما ضاقت جريدة "الوقائع" بمتابعة أخبار الجيش. كما صدرت، عام 1847، جريدة أخرى، "للتجارة والزراعة". وكان ذلك إيذاناً بنشأة الصحافة المصرية.

5. الأوضاع الاجتماعية

طاول التغيير، إبّان حكم محمد علي، في مصر، كلّ الأوضاع: السياسية والاقتصادية والفكرية. ففي المجال السياسي، تزايدت سلطة الوالي؛ حتى إنه استطال على السلطان العثماني؛ بل صادمه عندما تعارضت مصالحهما، وانتصر عليه. لا، بل كاد ينقُل عاصمة ملكه إلى الآستانة، نفسها، ويخلع سلطانها الشرعي، لولا تدخل الدول الأوروبية، وخاصة إنجلترا، التي ناصبت محمد علي العداء، طيلة حكمه، وسعت لتقويضه؛ حفاظاً على مصالحها في المنطقة.

لم تَحُلْ تبعية محمد علي الواهية للسلطان العثماني، ولا التزامه أساليب الحكم الإسلامي، دون تنكّره، للمرة الأولى، لبعض التنظيمات الإسلامية. فقد فرض الضرائب على أراضي الأوقاف؛ بل صادر معظمها؛ مستخفاً القائمين عليها، من العلماء ورجال الدين. لا، بل تخطّى قلعتهم الإسلامية العتيدة، الأزهر ومدارسه، إذ استحدث نظاماً تعليمياً مدنياً، يلبي حاجة الإدارة والمؤسسات الحديثة. وتجاوز المحاكم الشرعية، التي تستمد قوانينها من الشريعة الإسلامية؛ فأنشأ، للمرة الأولى، محكمتَين مدنيتَين: إحداهما في القاهرة، والأخرى في الإسكندرية. تتوليان فض المنازعات التجارية، وفق قوانين مدنية، استمدت من القوانين المدنية الفرنسية.

طالما بدا محمد علي حامياً للإسلام والمسلمين، وخاصة في قضائه على الفتنة، في الجزيرة العربية؛ ومعاوناته العسكرية للسلطان العثماني على حروبه الخارجية، وخاصة في اليونان وروسيا. إلاَّ أن سياسته هذه، لم تحُل دون انتهاجه نوعاً من المساواة بين الطوائف الدينية المختلفة؛ حتى إن المسيحيين واليهود، لاقوا ترحيباً واسعاً، لتعاونهم معه. فضمن لهم حقوقهم. وقلَّد كثيرين منهم مناصب مهمة.

وضبط محمد علي الإدارة بدواوين، أشرفت على مجالات العمل الحكومية المختلفة، وفق ما سنّه لها، من النظُم واللوائح والقوانين، مثل: ديوان الخديوي، وديوان الخارجية، وديوان الجهادية، وديوان المدارس. وعهد بإدارة أعمال كل تلك الدواوين إلى المصريين؛ وبذلك، أشركهم، أول مرة، في الحكم والإدارة. غير أنه لابدّ من القول إن الوالي كان مطلق السلطة. وله وحده كلّ القرارات.

وطاول القرية المصرية تغيُّر اقتصادي، من "الاكتفاء الذاتي" إلى اقتصاد جديد، متعلق بالنظام الرأسمالي؛ وهو ما سيجعلها، هي والمدينة، رهْن السوق العالمي. ويرجع ذلك، بالأساس، إلى التوسع في نظام الري الدائم، والدورة الزراعية، وتوافر محاصيل السوق، التي استحدثها محمد علي. أمّا الحرفيون والصناعيون، فلا شك أن أوضاعهم، قد تأثرت بالصناعة الحديثة، التي استجدها الوالي، سواء من حيث الإنتاج الصناعي ذاته، أو التحاق أعداد من الحرفيين بالمصانع الجديدة.

ولئن لم ينقرض الحرفيون، فإن صناعات محمد علي، خيّبت صناعاتهم، ولم تسمح لهم، ولا لغيرهم، بتراكم رأسمالي، يمهد لانتقالهم إلى مرحلة الصناعة الآلية الحديثة. وبعد انهيار نظام الوالي، عام 1840، نتيجة لتدخل الدول الأوروبية، لم يكن في وسع الصانع المصري، أن يصبح صاحب مصنع حديث؛ لافتقاده رأس المال اللازم، والخبرة والمهارة، وروح المغامرة؛ إضافة إلى عجزه عن منافسة الأجانب، الذين وفدوا إلى البلاد، حيث سمح لهم بالتعامل بحرية تامة، تحميهم امتيازاتهم وقناصلهم؛ فاستأثروا بالصناعة المصرية الحديثة.

ولا بدّ من التنويه بأن نظام محمد علي التعليمي، قد أوجد فئة من المتعلمين، الذين سيصبحون نواة الطبقة الوسطى، في مصر. ويضاف إلى ذلك، أن الوالي سمح للمرأة بالتعليم؛ بل الاشتغال بالحياة العامة؛ وهو ما كان جديداً تماماً، بالنسبة إلى المصريين.

 

 



[1] الوسية جزء من الالتزام. تعطى للملتزم. وتعفى من الضرائب. والفائض، هو المال المتبقي للملتزم، بعد دفع الضريبة إلى الحكومة. وكان يأخذه نظير دفعه المال عن أراضى الالتزام. وكان غرض محمد علي من ذلك هو الحصول على نصف فائض الالتزام. وقد تعمد عماله التفحص عن حجج الوقف، وسندات الالتزام، بدقة صارمة.

[2] تحفظ محمد علي من تجنيد المصريين، في أول الأمر، لعدة أسباب، منها الخوف من حرمان الزراعة الطبقة العاملة؛ ونفور الطبقة الأرستقراطية من نظام التجنيد.

[3] تُعَدّ معركة "نوارين" كارثة بحرية، أفقدت مصر أسطولاً، أنفقت عليه أموالاً طائلة. ولكن تلك الكارثة، كانت بداية القوة البحرية المصرية، الحقيقة لمصر، آنئذٍ، إذ اعتمدت مصر على نفسها، بعد "نوارين"، في بناء ما تريد من سفن.