إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث الثالث

عهود إبراهيم، عباس الأول، سعيد، إسماعيل

(1848 – 1879)

تُعَدّ العقود الثلاثة، التي تلت حكم محمد علي باشا وإبراهيم باشا؛ وتولى الحكم فيها كلّ من عباس الأول فسعيد فإسماعيل، هي أهم عهود التحول في حياة مصر. فأولئك الأحفاد الثلاثة، افتقدوا حماسة جدهم، محمد علي، لمشروعه القومي المصري، الذي قطع فيه شوطاً بعيداً؛ بل إنهم أعادوا المرتزقة (المشتروات) إلى الجيش المصري، وتوسعوا في إشراكه في الحروب العثمانية؛ وعارضوا الدولة العثمانية، ووافقوها؛ وتباينوا في تحالفاتهم ما بين فرنسا وبريطانيا. وشهدت مرحلتهم أهم المشروعات المصرية، التي ما برحت مصر تجني مصر ثمارها: قناة السويس، وخطوط السكك الحديدية.

وزاد في تعقيد مشكلات مصر الداخلية تعقيداً، في تلك العقود الثلاثة، ازدياد سطوة الإمبريالية الأوروبية، وتفاقم ضعف الدولة العثمانية. ويمكن القول، إن حكم عباس الأول، اتسم بتوقف التقدم والنهضة؛ وساء فيه حال الجيش. وامتاز حكم سعيد ببداية نهضة وطنية؛ ولكنه وُصِمَ بالتدخلات الأجنبية. وشاعت، في عهد إسماعيل، النهضة المصرية؛ إلا أنه ارتكب أخطاء، أدت إلى التدخل الأجنبي في السياسة المصرية.

أولاً: حكم عباس الأول (1848 – 1854)

هو: عباس حلمي بن طوسون بن محمد علي. اعتلى عرش مصر، وفقاً لفرمان عام 1841، الذي عَهِد بالحكم إلى أكبر أبناء الأسْرة العلوية سنّاً.

1. ظروف توليه الحكم

لم يكن فجأة اختيار عباس باشا، إذ كان شريكاً في الحكم، خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، من حكم جده، محمد علي؛ وعمه، إبراهيم باشا.

عانى محمد علي مرضاً شديداً. وأمسى خَرِفاً، في منتصف عام 1848. فكان ضرورة تولية إبراهيم باشا، الذي توجه إلى الآستانة، في أغسطس 1848، لتثبيته في ولاية مصر، خلفاً لأبيه. وسرعان ما باغته الإعياء والمرض. وتوفي في 10 نوفمبر 1848.

وكان عباس باشا غائباً، في مكة. وعاد إلى مصر، بعد أداء فريضة الحج، في 24 ديسمبر 1848؛ ليتقلَّد ولايتها؛ ويتلقى فرماناً عثمانياً بذلك.

بادر إلى زيارة الآستانة، حيث أنعم عليه السلطان العثماني برتبة الصدر الأعظم؛ وعلى كلّ واحد من حاشيته برتبة سَنية. وكان عباس باشا، بطبيعته، سيئ الظن بالناس. يهوى العزلة. ويبني قصوراً في الصحراء، يأوي إليها. وقد نُسِبَ حي العباسية، في القاهرة، إلى القصر الضخم، الذي بناه فيه؛ وكان ذلك الحي صحراء جرداء، في ذلك الوقت. وما لبثت الخلافات أن اشتعلت بينه وبين أمراء أسْرة محمد علي؛ لشكوكه في أنهم يأتمرون به؛ فاستغل الباب العالي ذلك، لزيادة الوقيعة بينهم، والإمعان في التدخل في حكم مصر.

2. التوجه السياسي للصدر الأعظم، عباس الأول

حدد عباس الأول توجهه السياسي (المعلن) بما يلي:

أ. تعزيز التفاهم بين مصر والباب العالي.

ب. حماية مصر من النفوذ الأوروبي، والفرنسي خاصة.

ج. انتهاج سياسة داخلية، تتألف الناس.

بيد أن الواقع، يشير إلى عكس هذا الاتجاه تماماً. فقد كان عباس الأول يرى أنه ورث حكماً، ينبغي له ألاّ يضيعه. فتنكر لسياسة محمد علي الإصلاحية؛ لأنه لا معنى لها في بلد، أرهقته الحروب. وعزم على توطيد نفوذ الحكومة، وإقرار سلطة القانون، وتعزيز سلطة الحاكم.  وكان شديد العنف على المصريين؛ حتى إنه عدَّل قانون العقوبات تعديلاً جعله قاسياً على الناس. ولذلك، فقد كان أبعد حكام أسْرة محمد علي عن عواطف المصريين، وأبغضهم إلى نفوسهم.

وكاد عهد عباس الأول يخلو من أعمال النهضة والعمران. وكانت أعماله المعمارية محدودة (اُنظر ملحق بيان الأعمال المعمارية لأسْرة محمد علي). وكان يرى أن تقدم الشعب المصري، ليس من مصلحة الوالي. فأغلق المدارس والمصانع. وقضى على معظم مظاهر النهضة. لا، بل تخلص من كبار العلماء المصريين، الذين نشأوا في عصر محمد علي، بإرسالهم إلى السودان، لكي يبنوا المدارس هناك. وفي سبيل توطيد حكمه، وتوريث الحكم لأولاده، من بعده، فانبرى ينافق السلطان العثماني، ويدعم حربه في القرم. ولكنه لم ينجح في ذلك.

ولكن، لا بدّ من التنويه بأن عباس الأول، لم يفتح على مصر أبواب التدخل الأجنبي. ولم يستدن، بل ترك خزانة مصر خالية من أعباء الديون الخارجية. ولم يحبذ منح الأوروبيين امتيازات باستثمار مرافق البلاد.

وأعاد عباس الأول، عام 1848، تأليف المجلس الخصوصي، الذي يرأسه الكتخدا (رئيس الوزراء). وقوامه كبار الذوات والأعيان والعلماء. ويختص بنظر المسائل العامة للحكومة، وسن اللوائح والقوانين، وترتيب النظُم العمومية، وتنصيب رؤساء المصالح الكبرى. فالوالي، إذاً، يسعى إلى تمصير الحكم؛ إذ إنه يكره الأجانب بعامة؛ حتى إنه لم يتعلم لغة أوروبية؛ ولم يتردد في عزل كثير من العاملين الأوروبيين في الحكومة المصرية، ولا سيما الفرنسيين.

3. موقفا إنجلترا وفرنسا من حكم عباس الأول

كانت العلاقات بين أوروبا ومصر، في هذا الوقت، متأثرة بالإملاءات، التي فرضها على مصر فرمان 1840. وكانت أهم الدول الأوروبية، الساعية إلى تحقيق مصالحها فيها، هما إنجلترا وفرنسا. ولا تسمحان بأيّ جهود مصرية داخلية، أو أيّ تقارب بين القاهرة والآستانة، على حساب تلك المصالح.

وفى السياق نفسه، فإن تنافسهما التقليدي، ظهر واضحاً في التأثير في عباس الأول، الذي كان، بطبيعته، يكره فرنسا، ويحاول تقليص مصالحها في مصر. ويحاول تطبيع العلاقات ببريطانيا، واستغلال نفوذها لدى الباب العالي، في تعديل فرمان السلطة المصرية؛ حتى يمكنه توريث ابنه، إلهامي باشا الحكم، من بعده. أمّا فرنسا، فعملت على إساءة العلاقات بين القاهرة والآستانة.

وأهم ما تمخضت به العلاقات ببريطانيا، كان الآتي:

أ. رَصْف الطريق بين القاهرة والسويس بالحجارة؛ ليكون صالحاً لسير العربات. وقد استهدفت بريطانيا من ذلك تسهيل سبل المواصلات، عبر مصر، إلى الهند.

ب. إنشاء خط السكك الحديدية، بين القاهرة والإسكندرية، ومنها إلى السويس؛ للغرض البريطاني السابق نفسه. وقد بُدِئ بإنشائه، عام 1852. ووصل إلى كفر الزيات، عام 1854. واستُكمل في عهد سعيد باشا، بعد مقتل عباس الأول.

4. موقف الباب العالي من حكم عباس الأول

أفسدت شكاوى فرنسا وبريطانيا، وبعض أبناء أسْرة محمد علي، العلاقات بين مصر والدولة العثمانية؛ ما دفع الباب العالي إلى محاولة النفاذ والتدخل في الشؤون المصرية، من خلال ثلاثة اتجاهات:

أ. الأول: اتهام عباس الأول بالعجز عن الحكم الرشيد؛ إضافة إلى تعريض الأنفس والأموال للخطر. واستند في ذلك إلى قانون التنظيمات: "وهو أول عهد دستوري، أصدره السلطان سليم الأول؛ لضمان تأمين الشعوب، الخاضعة للدولة العثمانية، على أرواحهم وممتلكاتهم، وكفالة حرياتهم، وتحقيق العدالة بينهم؛ بغض النظر عن أجناسهم ودياناتهم". كما تضمنت فرض وجباية الضرائب، وتحديد مدة الخدمة العسكرية وتنظيم التجنيد. يضاف إلى ذلك أنها نظمت الإدارة، على أساس تدعيم السلطة المركزية، في الآستانة، وتأكيد سيطرتها وإشرافها على إدارات الأقاليم والولايات.

ب. الثاني: دعم المعارضين لحكم عباس الأول، من أسرة محمد علي، وحمايتهم؛ ورفض طلب الوالي توريث الحكم.

ج. الثالث: محاولة إضعاف القوة الحربية المصرية؛ حتى لا يُعطى عباس الأول فرصة إعلان الانفصال من الدولة العثمانية. وتمثلت رغبة الباب العالي هذه في عدة محاولات، أهمها:

(1) طلب تخفيض عديد الجيش المصري، إلى 18 ألفاً وفقاً لفرمان 1840، من 30 إلى 18 ألفاً. غير أن الوالي المصري، رفض ذلك بشدة؛ لأن الجيش هو سنده الأساسي. وعلَّل رفضه بأن التزايد السكاني، يستدعي زيادة التعزيزات الأمنية؛ إضافة إلى أن حفظ الأمن في الصحراء، وعلى الحدود السودانية، يقتضي كثيراً من القوات. وقد جارت بريطانيا الباب العالي في هذا الطلب. ورفض طلبها كذلك.

(2) المطالبة بندب بعض الفِرق المصرية للخدمة خارج مصر، في الحجاز والآستانة. ولم يستجبها عباس الأول.

(3) طلب إرسال آلاي، من القوات البرية، إلى الآستانة، التي ستدفع رواتبه ومصاريفه كافة. ورفض هذا المطلب كذلك.

5. الجيش المصري، إبّان حكم عباس

لاقى الجيش المصري إهمالاً شديداً، سواء في الإعداد وإقامة التحصينات، والتصنيع العسكري؛ بل أُغلق العديد من مصانعه. وتدهورت البحرية المصرية. وثمة مَن يعزو تدهورها إلى كراهية عباس الأول لعمه، سعيد، الذي كانت نشأته في البحرية، وتولى قيادتها. وحملت الوالي شكوكه في مَن حوله على استقدام الأرناؤوط من تركيا والبلقان، وتجنيدهم في آلايَين، قِوامهما ستة آلاف رجل. وجعلهم خاصة جنده، بل رفعهم إلى مراتب، علوا فيها على نظرائهم المصريين. وبذلك، ألغى جهود جده في تمصير الجيش المصري، الذي حقق أعظم انتصارات، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

6. مشاركة مصر في حرب القرم

بوادر الحرب، بين روسيا والدولة العثمانية، أجبرت الباب العالي على تناسي خلافاته مع عباس الأول؛ طمعاً بأن يشارك في تلك الحرب الجيش المصري، المعروفة عظمته العسكرية. وقد نشطت بريطانيا لتحسين العلاقات المصرية ـ العثمانية تحسيناً، يرضي الوالي المصري. واللافت أن السبب المباشر لحرب القرم، يرجع إلى خلافات فرنسية ـ روسية في ملكية بعض الأديرة الأرثوذكسية، في القدس. وكان الحكم الرئيسي فيها هو الدولة العثمانية، صاحبة الولاية على المدينة!

استجاب عباس الأول طلب السلطان العثماني، مشاركة الجيش المصري في حرب القرم؛ إذ إن مصر، يقترن مصيرها بمصير الدولة العثمانية؛ ناهيك بالضغوط البريطانية  الشديدة، من أجل المشاركة المصرية في تلك الحرب.

أسهمت مصر في حرب القرم بجيش قِوامه 20 ألف مقاتل، يقودهم سليم باشا فتحي، أحد القادة، الذين حاربوا تحت لواء إبراهيم باشا، في سورية والأناضول. اندفع الجيش إلى نهر الدانوب. ورابط معظمه في "سلسريا". وصد جميع الهجمات الروسية، بشجاعة فائقة. وأقام حصناً في المنطقة، عرف باسم: "طابية العرب". واستمرت هذه الحرب إلى عام 1856 في عهد "سعيد باشا"، وشارك الأسطول المصري في تلك الحرب. ومُنِي بخسائر كبيرة؛ ولكنه استمر في المشاركة، ونقل القوات والعتاد، حتى نهاية الحرب.

7. نهاية حكم عباس الأول

يجمع المحللون على موت عباس الأول مقتولاً، في 14 يوليه 1854 (18 شوال 1270)، في قصره، في بنها. يختلفون في القاتل ومدبّر القتل. بيد أن المؤكد أن منفذي الجريمة هم من الأرناؤوط، الذين كان وثق بهم، وجعلهم الخط الأول لحراسته. أمّا مخططو الجريمة، فهُم من الأسْرة العلوية، الذين يرغبون في الانتقام من اضطهاده إياهم، ومحاولته إيثار أولاده بالحكم من بعده، وإلغاء النظام المعمول به، والذي أقره محمد علي باشا مع السلطان العثماني.

أحاط الكتمان بالجريمة، حتى وصل الجثمان إلى القاهرة. وبذلك انتهت خمس سنوات، شلت خلالها الحضارة المصرية؛ حتى يصح وصفها بأنها كانت عهد الرجعية والنكسة.

ثانياً: حكم سعيد باشا (1854 – 1863)

هو: سعيد بن محمد علي باشا. ولد عام 1822. وتولى الحكم وعمره 32 عاماً. وكان في نشأته مقرباً جداً من والده. ولذلك اعتنى بتربيته تربية عالية: عسكرية وثقافية. واختار له السلك البحري، حيث تدرج في مناصبه، حتى أمسى قائداً للأسطول، في أواخر عهد أبيه. وطبعته التربية العسكرية بالانضباط؛ فضلاً عن اقتدائه بمُثُل والده العليا؛ فاتسمت ميوله بنزعة وطنية، حَبَّبَت إليه المصريين، فحرص على تحريرهم من المظالم، واستنهاضهم، وتشجيعهم على تقلد المناصب العالية، في الجيش والإدارة، والتي كانت وقفاً على الترك والشراكسة.

عاب سعيد باشا ضعف إرادته، وكثرة تردده. ونُعِي عليه أنه أُذُن للأوروبيين، وخاصة الفرنسيين، الذين زينوا له شق قناة السويس. كما انتُقد عليه إسرافه الشديد في النفقات؛ ما أدى إلى كثرة الاستدانة من بيوت المال الأوروبية.

1. ظروف توليه الحكم

طالما اختلف الوالي عباس الأول وسعيد. ولذلك، آثر هذا البقاء في قصره، في الإسكندرية (منطقة القباري)، بعيداً عن العاصمة. وبعد مقتل  الوالي، بادر نصيره، إبراهيم باشا الألفي، إلى استدعاء إبراهيم إلهامي، ابن القتيل، والذي كان في إنجلترا، لتولي الحكم؛ مستبعداً سعيد باشا، وهو الأحق بالولاية، وفقاً للنظام المعمول به.

وطُلب سراً من محافظ الإسكندرية تعويق حضوره إلى العاصمة. إلا أن المحافظ، أنذر سعيد باشا بالموقف؛ فسارع إلى القاهرة، في صحبة أمراء الأسْرة الحاكمة، الذين كانوا مبتعدين عنها، لخلافهم مع عباس الأول. وذهب سعيد إلى القلعة، حيث تولى الحكم، في الثلث الأخير من يوليه 1854.

2. توجهات سعيد باشا

انتهج سعيد باشا منهاجاً، يساير النهضة، التي أسسها والده، محمد علي باشا؛ ويصلح ما أفسده أخوه، عباس الأول. وقِوام ذلك المنهاج:

أ. تفعيل سياسة مصر الخارجية، والانفتاح على الغرب، وتأكيد استقلالية القرار المصري.

ب. دفع النهضة التنموية، في مستوى الداخل.

ج. الاهتمام بالجيش وكفاءته القتالية، وبث روح الوطنية فيه.

د. نشر مظلة العدل والقانون في ربوع البلاد.

3. سياسة سعيد باشا الخارجية

أ. العلاقات بإنجلترا وفرنسا

مال سعيد باشا إلى التعاون مع فرنسا، وفقاً لنشأته ودراسته فيها، حيث اكتسب العديد من الصداقات فيها. وكان ذلك تغييراً حاداً في السياسة المصرية، التي انتهجها سلفه، عباس الأول، الذي آثر إنجلترا على الفرنسيين. وقد استثار المنهاج الجديد لندن، فوشت بمنتهجه إلى الباب العالي. واتخذت من الحرب في القرم مجالاً للشكوى، فادعت تهربه من إرسال نجدات جديدة، وعدم اهتمامه بأحوال الجنود المصريين، وغير ذلك مما يناقض الواقع.

لقد أنصف سعيد باشا الفرنسيين في الإدارة المصرية، حيث أهملهم سلفه. وتوطدت علاقته بالفرنسي فرديناند دليسيبس، فلم يضن عليه بشق قناة السويس. لا، بل إنه شارك بوحدة عسكرية مصرية في حرب المكسيك. كذلك كانت لوالي مصر علاقات حميمة بنابوليون الثالث، إمبراطور فرنسا.

ب. العلاقة بالباب العالي

بدأت العلاقات طبيعية، بين مصر والباب العالي. وكان سعيد باشا مخلصاً في معاونته للسلطان، وخاصة في حرب القرم. فما إن توجه إلى الآستانة، لتلقي فرمان توليه العرش، حتى أرسل من هناك أمراً إلى الكتخدا (رئيس الوزراء المصري) بتعزيز القوة المصرية في القرم، فوراً، بعشرة آلاف جندي، وست بطاريات مدفعية. إلا أن هناك عاملَين، أضرا بشدة بتلك العلاقات، هما:

(1) سعاية بريطانيا لدى الباب العالي بأن مصر تناهضه، ولا تعاونه.

(2) عزم سعيد باشا على توقيع اتفاق شق قناة السويس؛ الأمر الذي كان الباب العالي يَعُدّه خطراً، سوف يؤدي إلى تدخلات أجنبية في مصر، وضد مصلحة الآستانة.

إلا أن تلك العلاقات عادت إلى طبيعتها، بانتهاء حرب القرم، وإرسال السلطان نيشاناً إلى سعيد باشا؛ تعبيراً عن سروره. كذلك أرسلت الحكومة الإنجليزية 796 ميدالية إلى رجال الجيش المصري، أولي الأعمال البطولية في حرب القرم.

ج. دعم سعيد باشا للعلاقات بالدول التابعة للإدارة المصرية

استن سعيد سنة أبيه، محمد علي باشا، بالاهتمام بالأقاليم التابعة للحكم المصري والعناية بشعوبها. فزار السودان والحجاز، مصطحباً زمرة من المسؤولين المصريين، في المجالات كافة؛ لتوطيد العلاقات، وحل المشاكل السيادية؛ تأميناً لمصالح مصر فيهما وعلاقاتها بهما.

(1) زيارة السودان

وصل سعيد باشا، في 16 يناير 1857، إلى الخرطوم، حيث اطلع على أحوالها، وشكاوى المواطنين. وأصدر قراراته الفورية، في شأن تخفيض الضرائب، وإلغاء المتأخر منها على السودانيين. وأمر بتكوين المجالس المحلية من سودانيين، لتعويدهم حكم أنفسهم. وأمر مديري الأقاليم السودانية بحسن معاملة الجماهير، وإبعاد الجنود عن جمع الضرائب؛ لقسوتهم في جبايتها.

وفي المجال الإداري، أمر بتقسيم السودان بين خمس مديريات، مستقلة في إدارتها، شأن مديريات القطر المصري. ولكنه ألغى ذلك؛ لأن حكام المديريات، جنحوا إلى الاستبداد والظلم. وعاد إلى النظام السابق، وهو منصب حكمدار السودان؛ مع استحداث نظام الأقسام (مأموري المراكز)، ومعاونين، ومجالس محلية. كما استن قانوناً جديداً للضرائب.

وأمر سعيد باشا بإنشاء محطات في الصحراء؛ لتسهيل نقل البريد والمسافرين، بين مصر والسودان، وبين أنحاء السودان نفسه. وأنشأ نقاطاً عسكرية؛ للتصدي لتجارة الرقيق، ومطاردة النخاسين. كما شجع رحلات الاكتشافات الجغرافية، في الأرجاء السودانية، وأعالي النيل، والتي كانت مقتصرة على الأجانب.

(2) زيارة الحجاز

بدأ سعيد باشا هذه الزيارة، في 23 يناير 1861، براً. وصاحبه فيها تجريدة (قوة)، ناهزت ألفَي رجل، من المشاة والفرسان. ولم تكن في موسم الحج؛ لأن أهدافها سياسية، إذ تفقّد خلالها أحوال الحجاز. ثم عاد، بحراً، من جدة إلى السويس، التي وصلها في 28 فبراير 1861. ويذكر بعض المحللين، أنه تعلل بهذه الزيارة، حتى لا ينفذ استدعاء الباب العالي إياه إلى الآستانة.

د. حروب مصر، في عهد سعيد باشا

شاركت مصر في حربَين، إبّان عهد سعيد باشا، هما:

(1) حرب القرم: شاركت فيها مصر، في عهدَي عباس الأول وسعيد باشا. وعانى فيها المصريون مكاره عديدة، ولا سيما مناخ شديد البرودة، لم يتعودوه. بيد أنهم أبلوا فيها بلاءً حسناً؛ باعتراف القادة العثمانيين والإنجليز والروس أنفسهم. وقُتل خلالها سليم باشا فتحي قائد القوات المصرية فيها. وغرق حسن باشا الإسكندراني، قائد الأسطول المصري، أثناء عاصفة بحرية. وقد انتهت حرب القرم إلى نصر عثماني، وإبرام الصلح بين روسيا والدولة العثمانية، في مؤتمر باريس، عام 1856، الذي أقرت فيه موسكو بمطالب الحلفاء.

(2) حرب المكسيك: لم يُمْل على مصر مشاركتها في هذه الحرب إلا العلاقة الحميمة بين نابوليون الثالث، إمبراطور فرنسا وسعيد باشا. فقد استعان الأول بالثاني على الفتنة المستشرية في المكسيك، والتي عاقت طموح الإمبراطور إلى السيطرة على تلك البلاد؛ ما حمله على الاستنجاد بالجيش المصري ذي البأس. وقد استجاب له سعيد باشا. وسافرت كتيبة مصرية ـ سودانية، عام 1862، إلى المكسيك، حيث أبلت بلاءً حسناً، شهد به المارشال فوري Forey، قائد الجيش الفرنسي، بقوله: "إن هؤلاء ليسوا من الجنود، بل هم أسود".

وظلت الكتيبة في المكسيك، تقاوم الصراعات المشتعلة، حتى انسحاب الجيش الفرنسي، عام 1867. وعادت معه إلى باريس، حيث نال علم الكتيبة نيشاناً فرنسياً عالياً. وعادت الكتيبة إلى مصر، في مايو 1867، بعد أن فقدت أكثر من نصف رجالها.

4. سياسة سعيد باشا الداخلية

حاول سعيد باشا النهوض بمصر، ومحاكاة إنجازات والده. ولكن اختلاف إمكانيات الرجلَين وظروفهما، أسهم في نجاح الابن في العديد من الإنجازات الضخمة، إلى جانب بعض الإخفاقات. ويمكن تلخيص إنجازاته الرئيسية في الآتي:

أ. النظام السياسي للدولة: دعم سعيد باشا سلطات المجلس الخصوصي، الذي كان بمنزلة مجلس النظار؛ إضافة إلى دعمه السلطة التشريعية. كما أعاد، عام 1857، تنظيم الدواوين؛ فجعل منها أربع وزارات: الداخلية والمالية والحربية والخارجية.

ب. النظام القضائي:  ساند سعيد باشا مجلس الأحكام، الذي أنشئ عام 1849، ليكون هيئة استئنافية عليا للبلاد، وقِوامه تسعة أعضاء. وأيّد المحاكم الشرعية، المختصة بمسائل الأحوال الشخصية، وانتقال الملكية. وأنشأ مجالس، تفصل في المسائل: المدنية والتجارية؛ مع استمرار محاكم التجارة، المختصة بالفصل في قضايا التجار: المصريين والأجانب، والتي كان أنشأها محمد علي باشا. أمّا أهم الإنجازات القضائية، فكان تخويل السلطان العثماني والي مصر حق اختيار القضاة، الذين كان يختارهم قاضي القضاة، العثماني، الذي يعينه السلطان. وكان ذلك جزءاً رئيسياً من استقلال القضاء في مصر.

ج. نظام المعاشات: ابتدع سعيد باشا عملاً رائداً، إذ سن لائحة معاشات الموظفين المتقاعدين؛ وهي الأساس المستمر حتى الآن.

د. الإصلاح الزراعي: بدأ سعيد باشا إنجازاته، في المجال الزراعي، بإصدار قانون "اللائحة السعيدية"، في 5 أغسطس 1858 (24 ذي الحجة 1274). وتضمن أُسُس التشريع الخاص بملكية الأطيان، في القطر المصري؛ وتخويل الفلاحين حق ملكية الأراضي الزراعية وعقاراتها؛ وهو ما كانوا محرومينه.

وألغى نظام تحديد الحكومة للمحاصيل الزراعية. فصار الفلاح هو مَن يختار أنواع الزراعات، والتصرف في محاصيلها. وعدّل قانون الضرائب. وألغى المتأخرات على الفلاحين؛ علّ ذلك يدفعهم إلى الإنتاج. كما شجع الفلاحين على دفع الضرائب نقداً، لا عيناً؛ على الرغم من عدم امتلاكهم احتياطيات نقدية. واستطراداً، فقد أجاز سعيد باشا تأخير تحصيل الضرائب، ريثما يبيع الفلاحون محاصيلهم الزراعية.

هـ. الإصلاح في مجال النقل والمواصلات: تعددت الإصلاحات، في هذا المجال وفقاً لطبيعة العصر؛ فطاولت الترع الملاحية، والموانئ، والسكك الحديدية خاصة.

(1) استكمال مشروع السكك الحديدية: كان المشروع قد بدأ في عهد عباس الأول. واكتمل الخط ما بين الإسكندرية والقاهرة، عام 1856؛ والخط ما بين القاهرة والسويس، عام 1858. إلا أن الجسور، بين الإسكندرية والقاهرة، لم تستكمل. فكان القطار ينقل على مراكب خاصة به (معديات)، عند اجتيازه لفرعَي النيل، عند بنها وكفر الزيات. وقد ساعد اكتمال هذا الخط على ازدهار العمران، وخاصة في السويس والإسكندرية؛ما استدعى جهوداً إضافية من سعيد باشا، لمواكبة هذا الانفتاح التجاري العالمي على مصر.

(2) إنشاء خط تلغراف، بالنظُم الحديثة: على طول الخط الحديدي، بين الإسكندرية والسويس، مروراً بالقاهرة.

(3) إصلاح ميناء السويس: انبثق من وصْل السويس بالإسكندرية بخط حديدي. وقد عهد إلى شركة فرنسية بتطوير الميناء، وإنشاء حوض عائم لبناء السفن (وقد استمرت الشركة في تنفيذ مشروعها حتى عهد إسماعيل باشا).

(4) تطهير ترعة المحمودية: اقتضى ازدهار التجارة، عبر مصر، تشجيع النقل النهري. فأمر سعيد باشا المديريات بإرسال فلاحين، لتطهير ترعة المحمودية، التي كانت قد أهملت، وتراكم الطمي فيها. وقد حفز تطهيرها، في غضون ثلاثة أسابيع، فرديناند دليسيبس إلى إغراء سعيد باشا بحفر قناة السويس.

(5) إنشاء شركة الملاحة النيلية (الشركة المصرية للملاحة التجارية): استهدفت الشركة دعم النقل، من مختلف أرجاء الوادي إلى الإسكندرية والمديريات المختلفة، عبْر النيل وترعة المحمودية. وقد أسسها الأوروبيون، عام 1854، برؤوس أموال أوروبية (نظام الاستثمار). إلا أنها كانت تخضع للقوانين المصرية، وترفع العلم المصري.

(6) إنشاء شركة الملاحة البحرية (الشركة المجيدية): تأسست عام 1857، برئاسة الأمير فاضل بن إبراهيم باشا. ويتألف مجلس إدارتها من مصريين وأجانب. وسميت المجيدية، نسبة إلى السلطان العثماني، عبدالمجيد. واستهدفت وصْل السويس بموانئ البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي وخاصة الموانئ العربية. ولكن هذه الشركة، اضمحلت، في نهاية عهد سعيد باشا؛ لسوء إدارتها.

و. إصلاح نظام التعليم: ما كاد التعليم ينهض، في عهد سعيد باشا. وأوشك الإصلاح أن يقتصر على إنشاء مدرسة حربية، في القلعة (مدرسة أركان الحرب)، عام 1856؛ وإعادة فتح مدرسة المهندسخانة، عام 1858، وتحويلها إلى مدرسة حربية؛ إضافة إلى إعادة فتح مدرسة البحرية، في الإسكندرية؛ والمدرسة الطبية، في القصر العيني، عام 1856، وإنشاء مدرسة للقابلات. وقد شجع سعيد باشا حركة التعليم الديني الأجنبي، في مصر، بإنشاء مدارس عديدة للرهبان والراهبات، في الإسكندرية والقاهرة. فكان، إذاً، اهتمامه بنشر التعليم الأجنبي أكبر من عنايته بنشر التعليم الأهلي، في مصر.

ز. نفذ سعيد باشا العديد من المشروعات العمرانية، في القاهرة (اُنظر ملحق بيان الأعمال المعمارية لأسْرة محمد علي).

ح. حفر قناة السويس

وهو أكبر إنجازات سعيد باشا. ولئن اختلفت الآراء في المشروع، سلباً وإيجاباً، فإنه أثبت أهميته الفائقة، وخاصة في العصر الحالي.

(1) وقد انماز المشروع بأنه:

(أ) أكد أهمية مصر الإستراتيجية، في قلب العالم القديم.

(ب) وصل قارات العالم ودوله بعضها ببعض، من خلال أقصر طريق للتجارة، بين القارات القديمة: أوروبا وآسيا وإفريقيا.

(ج) جمع الأمنَين: الإقليمي والعالمي، بقيد واحد، يحكمه الاقتصاد العالمي.

(د) أجمع المؤرخون الغربيون على أن هذا المشروع، هو أكبر مفخرة لسعيد باشا؛ أفادت منها الإنسانية كلّها جمعاء.

(2) وكان لذلك المشروع سلبياته، وأهمها:

(أ) ناءت مصر بديون خارجية، سولتها لها إنجلترا وفرنسا؛ عسى أن تمكِّن أيّاً منهما من السيطرة الكاملة على قناة السويس، أهم مشروع، آنئذٍ، في العالم.

(ب) تمكنت الدول الاستعمارية من إرسال الحملات: التجارية والعسكرية، عبْر القناة، إلى آسيا وشرقي إفريقيا، حيث غزت العديد من الدول، واستعمرتها، في القرن التاسع عشر.

(ج) جعلت القناة مصر مطمعاً للاستعمار. وهو ما تحقق، فعلاً، عام 1882. واستمر حتى عام 1956. وكاد يعود من خلال العدوان الثلاثي، لولا الكفاح المصري، بدعم عربي ودولي.

(د) رهنت بريطانيا موافقتها على شق القناة بأن يكون لها وجود عسكري في السويس، وحق حماية القناة. وهذا يمثل مشروعاً استعمارياً، حققته، فعلاً، بعد ثلاثة عشر عاماً فقط من افتتاح القناة.

(هـ) توافر لدليسيبس، في اتفاقية شق القناة، امتيازات كثيرة، جعلت الهيئة، التي تدير القناة، حكومة ثانية، داخل الدولة المصرية.

(و) حُرمت مصر عائدات القناة، طيلة 87 عاماً، إذ كانت تستأثر بالأرباح الرئيسية فرنسا وبريطانيا. ولم تَعُدْ للمصريين فوائد قناتهم إلا بعد تأميمها، عام 1956، وتمخضه بالعدوان الثلاثي.

ومشروع حفر قناة السويس، لم يستجدّ في عهد سعيد باشا، إذ أثير، منذ القِدم، بدءاً بعصر الفراعنة، ومروراً بالعصر الإسلامي. وكان يقتصر على قناة، تصل النيل بالبحر الأحمر. وكذلك الحملة الفرنسية على مصر، استهدفت دراسة شق قناة، تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. وتجدد هذا المطمع، عام 1831، حينما عُين فرديناند دليسيبس مساعداً للقنصل الفرنسي في مصر. ورفضه محمد علي باشا، عام 1846، إثر استنتاج الدراسات، الفرنسية، أن البحر الأحمر، يعلو تسعة أمتار على نظيره.

وبادر دليسيبس إلى إيهام سعيد باشا، بعد توليه الحكم، أن شق قناة السويس، سيُدرج اسمه (أي الوالي) في قائمة أهم القادة في التاريخ. فسارع الباشا إلى استشارة الوزراء وقادة الجيش في المشروع. فأبدوا موافقة تامة عليه. فأصدر سعيد باشا المشروع بمقتضى الفرمان المؤرخ، في 30 نوفمبر 1854، فرماناً، يقضي بتأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس، واستثمارها 99 عاماً، من تاريخ افتتاح القناة، وقد افتتحت في 17 نوفمبر 1869.

(3) في أعقاب اكتمال الدراسات الفنية للمشروع، أصدر سعيد باشا، في 5 يناير 1856، فرماناً، ينص على الآتي:

(أ) منح الحكومة المصرية شركة قناة السوس امتياز إنشاء تلك القناة، بين خليج الطينة على البحر الأبيض المتوسط والسويس على البحر الأحمر. وإنشاء ترعة للمياه العذبة، صالحة للملاحة النيلية، تستقي من النيل، وتصب في ترعة الإسماعيلية حالياً. وإنشاء فرعَين: للري والشرب، يستمدان مياههما من الترعة الآنفة، ويصلان إلى السويس والطينة (بورسعيد).

(ب) تخلِّي الحكومة، مجاناً، عن جميع أراضيها، التي يقتضيها إنشاء القناة الملاحية وترعة المياه العذبة، وتوابعهما (بعرض كيلومترَين على جانبَي القناة). أمّا ملكيات المصريين، المملوكة للأفراد في منطقة الامتياز، فتدفع الشركة أثمانها إلى أصحابها.

(ج) تخويل الشركة فرض ما تشاء من رسوم على السفن، التي تمر بالقناة.

(د) حصول مصر على 15% من صافي الأرباح السنوية. وقد خسرت حصتها هذه، عام 1879، حينما باعتها إلى البنك العقاري الفرنسي؛ لتتمكن من دفع ما عليها، من ديون فرنسية.

(هـ) تكفُّل الحكومة بأن تجمع من المصريين أربعة أخماس العمال. وقد فسرت الشركة ذلك بتسخير هؤلاء لأعمال الحفر، وسائر أشغال الشركة. وهو ما سبب خسائر فادحة للاقتصاد والمجتمع المصريَّين.

(و) تولِّى فرديناند دليسيبس رئاسة الشركة. ولم يُحدَّد حق للمصريين في تولي إدارتها.

أجحف الفرمان، إذاً، بحق المصريين؛ فأمسى عاملاً سلبياً في عهد سعيد باشا، ومن بعده إسماعيل باشا.

وقد بُدِئَ بإنشاء قناة السويس، في 25 أبريل 1859، من البحر الأبيض المتوسط، حيث أنشئت مدينة بورسعيد. وأثار الشروع في شق القناة، ولَمّا يصدر الفرمان العثماني بالموافقة عليه، حفيظة بريطانيا؛ فانبرت تحرض الباب العالي على مصر. وأرسلت أسطولها إلى سواحل الإسكندرية، في يونيه 1859، حين نشأ نزاع دولي، وخاصة بعد إرسال الباب العالي أمراً إلى سعيد باشا بوقف أعمال الحفر؛ وسعى نابوليون الثالث الدائب لإلغاء الأمر السلطاني.

ط. الجيش المصري، في عهد سعيد باشا

أحاط سعيد باشا العسكري التربية، وقائد الأسطول المصري، بتردي الجيش، في عهد عباس الأول. فاجتهد في انتشاله من ورطته. ونشط لإعلاء شأنه، مادياً ومعنوياً، وخاصة في حرب القرم. وأعاد إليه صبغته الوطنية. وتأتَّى لذلك بما يلي:

(1) حل آلايات الشراكسة، التي كان عباس الأول قد استحدثها في الجيش.

(2) الاهتمام بالجندية عامة، من خلال:

(أ) تعديل قانون التجنيد، وجعله إجبارياً، شاملاً جميع الفئات، وليس مقتصراً على الفلاحين والفقراء فقط؛ مع تقصير مدة الخدمة الإلزامية (متوسط الخدمة سنة واحدة).

(ب) الاهتمام بالحياة في المعسكرات؛ ليحدِّث المجند أهله ومجتمعه بمميزات الجندية، ويغريهم بها.

(3) العناية بتأهيل الضباط المصريين وترقيتهم، وضمان حقوقهم في القيادة، التي كانت وقفاً على الضباط العثمانيين والجراكسة.

(4) إنشاء القلعة السعيدية، في القناطر الخيرية؛ للدفاع عن القاهرة دون أيّ تهديد، يتقدم عبْر النيل.

(5) إصلاح الأسطول، وتخليصه مما اعتراه إبّان عهد عباس الأول.

وقد أوحت بريطانيا للباب العالي، أن الإصلاح معناه ازدياد نفوذ مصر؛ فأنكر على سعيد باشا سعيه.

ي. أثر حفر قناة السويس في الجيش المصري

جُمع لحفر قناة السويس كثير من الفلاحين؛ ما انعكس، سلباً، على الاقتصاد القومي، المعتمد على الزراعة، التي أفقدتها القناة اليد العاملة. وتأثُّر التجنيد، كان هو الأشد، وخاصة أن حرب القرم، لمّا تزل مشتعلة؛ فضلاً عن هدف سعيد باشا، وهو الارتقاء بالجيش وزيادة عديده. وقد اضطرته القناة، عام 1856، إلى تخفيض ذلك العديد. ثم يعود فيرفعه، عام 1860 إلى 64 ألف جندي؛ بل قاد ذلك الجيش، في تدريبات، مدة ثلاثة أشهر، في مريوط؛ لكي يتأكد من كفاءته القتالية.

5. إخفاقات سعيد باشا

تتحدد الإخفاقات في الآتي:

أ. فتح باب الاستدانة من الدول الأوروبية، والتي ستتمخض بكوارث.

ب. إهدار حقوق مصر في القناة، جعل شركة قناة السويس دولة داخل الدولة.

ج. قبول التدخلات الأجنبية، وخاصة الفرنسية، في شؤون البلاد، أقحم مصر في صراع مع الباب العالي وإنجلترا.

د. دفع الجيش المصري إلى معارك، لا شأن فيها لأمن مصر القومي، مثل حرب المكسيك.

هـ. القصور عن النهوض بالتعليم إلى ما كان عليه في عصر محمد علي باشا.

6. وفاة سعيد باشا (18 يناير 1863)

عانى سعيد باشا، ولمّا يزل شاباً، مرضاً عضالاً، أَعْيَا أطباء أوروبا، التي سافر إليها الوالي المصري، عام 1862. فعاد، في نهاية العام نفسه، إلى مصر، حيث توفي، في 18 يناير 1863 (27 رجب 1279)، وله من العمر 41 عاماً، وبعد حكم، دام ثماني سنوات وتسعة أشهر وستة أيام. ودفن في الإسكندرية، بمسجد النبي دانيال، حيث ما برح قبره قائماً.

ثالثاً: حكم إسماعيل باشا (1863 – 1879)

هو: إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا. وهو ثاني أبناء أبيه. آلت إليه ولاية العهد، بعد حادث، ألم بشقيقه الأكبر، الأمير أحمد رفعت، عام 1858. ولد إسماعيل في 31 ديسمبر 1830. ونال قدراً من التعليم، في فرنسا. وكان أحد أعضاء البعثة الخامسة، التي أوفدها محمد علي باشا إلى باريس.

1. ظروف توليه الحكم

نأى إسماعيل عن الخلافات، بين عباس الأول والأسْرة العلوية؛ فارتحل إلى الآستانة، حيث عينَّه السلطان عبدالمجيد عضواً في مجلس أحكام الدولة العثمانية؛ وأنعم عليه بالباشوية، وبعد مقتل عباس الأول، عاد إلى مصر، حيث عينَّه سعيد باشا رئيساً لمجلس الأحكام (أعلى هيئة قضائية)، ثم عينه قائمقاماً (نائباً له)، بعد وفاة شقيقه، أحمد رفعت. وعَهِد إليه بالعديد من المهام الخارجية، التي نجح في إنجازها. وفي أعقاب وفاة سعيد باشا، آل الحكم إلى إسماعيل باشا، وفقاً للنظام العلوي. واعتلى عرش مصر، في 18 يناير 1863.

2. التوجه السياسي لإسماعيل باشا

لئن كان عصر محمد علي باشا هو عصر بناء مصر، فإن عصر إسماعيل باشا هو عصر تحديثها. فقد أوْلى بعث النهضة المصرية، واستكمال مشروعات جده، محمد علي باشا لبناء مصر الحديثة، أَوْلاهما عنايته الرئيسية. لا، بل ارتأى تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، وتأكيد استقلالها، واستعادة قوّتها في المجالات المختلفة. ولذلك، انتهج سياسة ذات خطَّّّين متوازيَين:

أ. السياسة الخارجية

(1) الإمعان في استقلال مصر عن الدولة العثمانية؛ وحيازة ما يمكن، من حقوق وميزات، من الحكومة العثمانية، في السعي إلى الاستقلال التام.

(2) توسيع التعاون المصري ـ الأوروبي، في جميع المجالات؛ لنقل الحضارة الأوروبية إلى مصر.

ب. السياسة الداخلية: تنفيذ مشروع مصري، حضاري، في جميع الميادين؛ للارتقاء بمصر، ونقلها إلى مصاف الدول الأوروبية.

ج. اقتضت تلك السياسة أموالاً وافرة، اضطرت إسماعيل باشا إلى الاستدانة من المرابين وبيوت المال الأجنبية؛ إضافة إلى الاستعانة بالخبراء الأجانب، في جميع المجالات. وأسفر عن ذلك تفاقم النفوذ الأجنبي في مصر، وهو ما سينجم عنه خلع إسماعيل باشا عن العرش.

3. سياسة إسماعيل باشا حيال الدولة العثمانية

استهدف إسماعيل باشا، منذ بداية توليه الحكم، تحرير مصر من السيادة العثمانية، التي فرضتها معاهدة لندن، عام 1840؛ وفرمان عام 1841. وتدرَّج إلى هدفه كالآتي:

أ. بادر، فور توليه الحكم إلى تَوَدُّد السلطان العثماني، عبدالعزيز. وزار الآستانة. ودعا سلطانها لزيارة مصر؛ فاستجاب دعوته، في أبريل 1863؛ واستُقبل بحفاوة عظيمة.

ب. سارع إسماعيل باشا إلى تغيير نظام توارث الحكم، والذي فرضه فرمان 1841، والقاضي بأن يؤول العرش إلى أكبر أبناء الأسْرة العلوية سناً، وليس إلى أكبر أبناء الوالي. وقد نجح في ذلك، من خلال إغداقه على السلطات العثمانية، وقبوله شرط زيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثماني إلى 750 ألفاً. وقد صدر فرمان عثماني، في 27 مايو 1866، يأمر بالآتي:

(1) انتقال حكم مصر (وتوابعها) إلى أكبر أبناء الوالي.

(2) إمكان زيادة الجيش إلى 30 ألفاً (وكان الجيش يزيد على ذلك).

(3) حق مصر في سك النقود.

ج. استمر إسماعيل باشا في إغداق الأموال على السلطات العثمانية، حتى حظي بفرمان 8 يونيه 1867، الذي يخلع على والي مصر لقب: خديوي (وهو لقب قريب من الملوك والسلاطين). كما أقر الفرمان باستقلال الحكومة المصرية في إدارة البلاد، وحقها في عقد المعاهدات الخاصة.

د. دعا الخديوي إسماعيل، عام 1869، ملوك أوروبا وأمراءها للاحتفال بافتتاح قناة السويس؛ ما أثار حفيظة السلطان العثماني، الذي عدّ توجيه الخديوي للدعوات استخفافاً بالولاء للسلطنة. وسرعان ما أصدر فرماناًً، في 29 نوفمبر 1869، يقيد فيه حرية مصر في الاستدانة الأجنبية. وقد جهد الخديوي في تودُّد الباب العالي، قبل أن يصدر فرمان 10 سبتمبر 1872، الذي يؤكد الامتيازات المصرية السابقة، بما فيها حق الاستدانة.

هـ. لم يكتف الخديوي إسماعيل بذلك، بل زار الآستانة، حاملاً معه كميات من الأموال، لإغداقها على الباب العالي؛ فأصدر له فرمان 8 يونيه 1873، الذي يشمل امتيازات الفرمانات السابقة، إلى جانب ميزات جديدة؛ وتتلخص في الآتي:

(1) عرش مصر، يرثه أكبر أبناء الخديوي.

(2) أملاك الخديوي وملحقاتها، تشمل السودان، مع ما أُلحق بها من قائمقاميتَي مصوع وسواكن وملحقاتهما.

(3) سن الحكومة المصرية القوانين والأنظمة الداخلية، على اختلاف أنواعها.

(4) عقد الاتفاقيات الجمركية، والمعاهدات التجارية.

(5) حق الاقتراض من الخارج، من غير استئذان الحكومة العثمانية.

(6) زيادة عديد الجيش ما شاء الخديوي الزيادة.

(7) حق بناء السفن الحربية، عدا المدرعات، التي يجب استئذان الباب العالي، قبل إنشائها.

و. قلّما وثقت الدولة العثمانية بحكم الخديوي إسماعيل وطالما أساء هو الظن بها. ومصداق ذلك انضمام السلطان العثماني إلى الدول الأوروبية، في قرار خلع والي مصر عن عرشها، عام 1879؛ وتولية ابنه، الخديوي توفيق.

4. سياسة الخديوي إسماعيل تجاه الدول الأوروبية

حسِب الخديوي إسماعيل، أن ثقته وحدها بالدول الأوروبية، هي كافية لبناء مصر الحديثة. ولم يدرك أن لتلك الدول مصالحها في مصر، ومطامعها بالإمكانيات المصرية، وخاصة قناة السويس، التي نشط الاستعماري الأوروبي للسيطرة عليها. والفارق كبيراً بين محمد علي باشا والخديوي إسماعيل؛ فالجد كان يقتبس من الحضارة الأوروبية وسائل النهضة والتقدم، ويستعين بخبرة العلماء الأوروبيين على تنفيذ مشروعاته. والحفيد فتح الباب على مصراعيه للاستدانة، والتدخل الأوروبي، والهجرات المتسعة، التي تستهدف الكسب والثراء؛ وكل ذلك، مهد لإطاحته. وقد تباينت علاقات الخديوي إسماعيل بكلّ من فرنسا وبريطانيا، اللتَين كانتا تتنافسان في النفوذ والسلطة في مصر.

أ. العلاقات بفرنسا

كان الخديوي إسماعيل متأثراً بالحضارة الفرنسية، بل كانت صلته وثيقة بنابوليون الثالث، إمبراطور فرنسا. وآية ذلك التكريم، الذي لقيته أوجيني الإمبراطورة الفرنسية، في افتتاح قناة السويس. زِد على ذلك أن معظم القروض، كانت فرنسية؛ وكادت الاستعانة تقتصر على الخبراء الفرنسيين. إلا أن هذه الصلات، تأثرت بسقوط  الإمبراطور الفرنسي، في أعقاب انتصار الألمان على فرنسا، في الحرب السبعينية (عام 1870 – 1871). وأخذ النفوذ البريطاني يحل محل الفرنسي.

ب. العلاقات ببريطانيا

سخّرت بريطانيا هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية، واضمحلال تأثيرها، لتنفيذ المآرب الإنجليزية الاستعمارية في مصر. وهي ما برحت، منذ افتتاح قناة السويس، تخطط لتثبيت نفوذها في تلك البلاد، تمهيداً لاحتلالها. ولم تغفل عن السودان.

وانتهزت بريطانيا ارتباك مصر المالي، فاشترت، عام 1875، الأسهم المصرية في قناة السويس. وأوحت إلى الخديوي، عام 1877، أن يُعَيِّن غردون باشا حكمداراً عاماً للسودان؛ وهي أول مرة، يسند فيها هذا المنصب الرفيع إلى أجنبي. ونشطت في عقد العديد من الاتفاقيات مع مصر، ودفع الشركات الإنجليزية إلى العمل في تلك البلاد. ولكي يستكمل البريطانيون إخضاع مصر، فقد سعوا إلى دعم مطالبة دائنيها بحقوقهم، وإنشاء صندوق الدين، الذي سيطر على الاقتصاد المصري. ثم سعوا إلى خلع الخديوي إسماعيل، بتنسيق كامل مع الآستانة وباريس.

5. سياسة الخديوي إسماعيل الداخلية

أ. نظام الحكم

كانت سلطة الخديوي إسماعيل مطلقة؛ على الرغم من مؤسسات للحكم، تدير النظام. وتشترع القوانين. وتتوزع السلطات كما يلي:

(1) السلطة التنفيذية: قِوامها "المجلس الخصوصي العالي"، الذي يضم الوزراء (النظار)، وبعض الباشوات، الذين يصطفيهم الخديوي. ينظر المجلس في شؤون الحكم. وقد استُبدل به، بموجب أمر الخديوي، في 28 أغسطس 1878، "مجلس النظار"، الذي يتولى شؤون الحكم، وكان هو الحكومة (الدواوين)؛ ويرأس كلّ ديوان ناظر (وزير).

(2) السلطة التشريعية: عمادها مجلس شورى النواب، الذي أصدر الخديوي أمراً بإنشائه، عام 1866. وكان هو البرلمان المصري. تكونت لائحته الأساسية، أيْ دستوره، من 18 مادة. وعِدَّته 75 عضواً؛ ينتخبهم عُمَد المديريات ومشايخها، وجماعات الأعيان، في القاهرة والإسكندرية ودمياط. ومدة عضويتهم ثلاث سنوات. ويجتمع المجلس مدة شهرَين، كلّ سنة (منتصف ديسمبر – منتصف فبراير).

(3) السلطة القضائية: أساسها النظام، الذي استنه سعيد باشا. ودعمه الخديوي إسماعيل بإنشاء ديوان للحقانية (وزارة العدل)؛ والتوسع في إنشاء محاكم، في المدن والقرى. زِد على ذلك إنشاء المحاكم المختلطة (محاكم الإصلاح)، عام 1875. واختصت بالفصل ما بين المصريين والأجانب؛ ما عُدَّ إهانة للمصريين في وطنهم.

طالما طمح الخديوي إسماعيل إلى بناء حضارة مصرية، تحاكي تلك الأوروبية؛ مع استكمال رؤية جده العظيم، محمد علي باشا، لبناء مصر القوية. وقد استتم مشروعات سلفه، سعيد باشا؛ إضافة إلى تحقيق رؤيته لبرنامجه القومي. وأهم إنجازاته:

ب. الزراعة والصناعة

استرشد الخديوي إسماعيل النمط الأوروبي، في تصنيع الإنتاج الزراعي. ولذلك، اهتم بزراعة القطن وتحسين جودته، من أجل الصناعة، داخل مصر، والتصدير إلى أوروبا، التي حرمتها الحرب الأهلية الأمريكية القطن الأمريكي. واعتنى بإصلاح مصانع السلاح، وإنشاء أخرى جديدة. ورَعَى زراعة قصب السكر، وأصلح مصانعه، واستجد أخرى، حتى بلغت 17 مصنعاً، في الوجه القبلي. ولم يغفل نظام الري والصرف، فأنشأ 112 ترعة جديدة في عموم القطر، منها ترعة الإسماعيلية، والترعة الإبراهيمية. واستوصى بالعاملين في الزراعة والصناعة، وشجعهم على الإنتاج.

ج. النقل والمواصلات

ركّز الخديوي إسماعيل في النقل والمواصلات؛ لأنهما سِمة حضارية، ووسيلة اقتصادية. وتبدى تركيزه في:

(1) إنشاء 430 جسراً، منها جسر قصر النيل.

(2) امتداد السكك الحديدية إلى 1085 ميلاً، وصلت ما بين المدن والموانئ الرئيسية.

د. الملاحة البحرية

(1) إنشاء 15 مناراً في موانئ البحرَين: الأبيض المتوسط والأحمر.

(2) إنشاء شركة مصرية للملاحة البحرية، عام 1863، تصل ما بين موانئ البحرَين: الأحمر والأبيض المتوسط. وقد تحولت هذه الشركة، عام 1870، إلى شركة "البوسته الخديوية".

هـ. البريد

نُظِّم البريد. وزيدت مكاتبه 210 مكاتب. كما بلغت أطوال خطوط التلغراف 5582 كم، تصل مصر بالسودان. وبلغ عدد مكاتب التلغراف 151 مكتباً.

و. العمران

(1) شُغف الخديوي إسماعيل بالعمران الأوروبي. فاجتهد في محاكاته، من خلال تحسين المدن، وخاصة القاهرة؛ وإنشاء الميادين الكبرى؛ وردْم البرك، حيث شِيدت القصور، وقامت البساتين؛ ورصْف الحجارة في الطرق. وأنشأ الخديوي حديقة الأزبكية، ودار الأوبرا. وشق طريق الهرم. ونشر شبكة لمياه الشرب في القاهرة. وأنار العاصمة المصرية بغاز الاستصباح. واستحدث نصْب تماثيل العظماء في الميادين، بدءاً بتمثالي محمد علي باشا وإبراهيم باشا. ولم تشغله القاهرة عن الإسكندرية، التي جعل منها مصيفاً للقطر المصري. وأنشأ فيها حديقة النزهة.

(2) دار الكتب المصرية

أنشأ محمد علي باشا مستودعاً، لبيع مطبوعات الحكومة، في بيت المال القديم، خلف مسجد الحسين. ثم أنشأ داراً للكتب مجاورة لذلك المسجد، وتابعة لديوان المدارس. أهملها عباس الأول. أمّا الخديوي إسماعيل، فأولاها اهتمامه. وأغناها بآلاف الكتب: العربية والتركية والفارسية. وما لبث أن أنشأ داراً عامة للكتب. وجعل مقرها في الطبقة السفلى لقصر مصطفى فاضل باشا، في درب الجماميز؛ وهو القصر الذي كانت تشغله نظارة المعارف. وجُمعت فيها الكتب والمخطوطات الوقفية، من المدارس والمساجد لتحفظ بها؛ إضافة إلى موجودات دار الكتب، حتى ناهز ما تحتضنه 30 ألفاً. وقد زارها الخديوي إسماعيل، في شهر أبريل 1870.

(اُنظر ملحق بيان الأعمال المعمارية لأسْرة محمد علي)

ز. التعليم

طمح الخديوي إسماعيل إلى نشر التعليم في مصر، وعدم اقتصاره على البعثات الدراسية. فاعتزم نشر التعليم الابتدائي، من خلال قانون، أصدره مجلس شورى النواب، عام 1867؛ ويشمل الآتي:

(1) التعليم الابتدائي واجب قومي. ويجب أن تتعاون قوى الحكومة والأمة على نشره.

(2) ضرورة إيجاد مصادر، خارج نطاق الدولة، لتمويل التعليم. والاعتراف بالكتاتيب الأهلية معاهد تعليمية. وسُميت المدارس، التي أنشئت بموجب هذا القانون: "المدارس الأهلية". ووضعت المدارس والكتاتيب تحت إشراف الحكومة.

وقدم علي باشا مبارك لائحة للخديوي (لائحة رجب، نسبة إلى شهر رجب) تضمنت تطوير التعليم ونشره. وعُين مبارك ناظراً للمعارف. وسعى ما وسعه السعي إلى نشر التعليم، وتنوعه ما بين الخاص والحكومي والأهلي.

أمّا تعليم البنات، فكان رائده هو رفاعة رافع الطهطاوي، الذي نشر كتابه: "المرشد الأمين للبنات والبنين"، عام 1872؛ فأمكنه إقناع الخديوي إسماعيل بأهمية تعليم البنات وتثقيفهن. وأنشئت أول مدرسة لهن، "مدرسة السيوفية"، في 3 أغسطس 1873.

ح. الصحافة

كان لا بدّ لوسائل الإعلام، التي اقتصرت، آنئذٍ، على الصحافة، أن تماشي النهضة في جميع الميادين. فتعددت الجرائد، في عهد الخديوي إسماعيل، ومنها "اليعسوب"، وهي مجلة طبية، أنشئت عام 1865. وتُعَدّ هي الثانية، بعد جريدة "الوقائع المصرية"، التي صدرت في عهد محمد علي باشا. ثم صدرت جريدتان أهليتان: "وادي النيل" و"نزهة الأفكار"، عام 1866. كما ارتأى علي باشا مبارك إنشاء مجلة، تهتم بشؤون التعليم. فأنشأ مجلة "روضة المدارس"، عام 1870.

6. الجيش المصري، في عهد الخديوي إسماعيل

نشط الخديوي إسماعيل لإعادة بناء الجيش المصري، كما كان في عهد جده، محمد علي باشا. وحرص على زيادة عديده، حتى بلغ 120 ألفاً. وعني بالتعليم العسكري. فأنشأ المدارس الحربية، على أرقى طُرُز العصر. واختار لها أكفأ المدرسين، وأفضل المناهج الدراسية. فكان التقدم في الجيش يسير باطراد مع تجديد الفكر العسكري. وتلافى السلبيات الإدارية للمؤسسات العسكرية، إذ أمر بتأسيس إدارة خاصة لتلك التعليمية منها، سُميت: "إدارة المدارس الحديثة". تشرف عليها. وتخضعها لنظام إداري موحد. وأُعيد، في عهد الخديوي إسماعيل، فتح مدارس، واستحدث أخرى؛ أهمها:

أ. مدرسة القيادة (المشاة): أنشئت عام 1864. وكان عدد طلابها، عند التأسيس، 490 طالباًً.

ب. مدرسة السواري (الفرسان): أنشئت عام 1865. وكان عدد طلبتها، عند التأسيس، 161 طالباًً.

ج. مدرسة الطوبجية (المدفعية)، والهندسة الحربية: أنشئت عام 1865. وكان عدد طلابها، عند التأسيس، 280 طالباً. وكان طلبة الطوبجية، يختارون من طلبة الهندسة الحربية.

د. مدرسة أركان الحرب: أنشئت في العباسية، عام 1865. وكان طلبتها يصطفون من نوابغ طلبة المدارس الحربية.

هـ. مدرسة الخطري (صف الضباط): أنشئت عام 1874؛ إلى جانب مدرسة أخرى، لضباط الصف وخرّجتا ضباط صف، استخدمتهم الحكومة في الاكتشافات الجغرافية، في السودان.

و. مدرسة الطب البيطري: أنشئت عام 1868. وانضمت إلى مدرسة السواري، عام 1870.

وحرص الخديوي إسماعيل على إيفاد البعثات العسكرية إلى الخارج. وابتعث أُولاها، من ضباط المدفعية، إلى فرنسا، عام 1869. وسافرت البعثة الثانية إلى فرنسا، عام 1867. وضمت طلبة أركان الحرب. أمّا بعثة البحرية، فقد توجهت إلى إنجلترا، عام 1868.

وقد استمر تطبيق نظام التجنيد، الذي وضعه سعيد باشا، في عهد الخديوي إسماعيل. ولكن، اكتنفته كثرة الإعفاءات لأبناء الأغنياء، الذين كان في إمكانهم دفع "البدل النقدي". وأسهم فرمان عام 1873، الذي أطلق عديد الجيش، في مناهزته المائة ألف.

وفي عهد الخديوي إسماعيل، أنشئت أول رئاسة هيئة أركان حرب الجيش المصري. وعُهد بتأسيسها إلى جماعة من الضباط الأمريكيين. وتألفت الهيئة من الضباط المصريين، العائدين من الدراسـة في فرنسا.

كما أنشئت، في عهد الخديوي إسماعيل جريدتان، للضباط والجنود: "جريدة أركان حرب الجيش المصري"، و"الجريدة الحربية المصرية".

وفي عصر الخديوي إسماعيل، عاد إلى الصناعات الحربية ازدهارها. ولم يبخل الخديوي على الجيش بالعديد من صفقات السلاح، التي أعانت على خوض كثير من المعارك. فأعاد إلى العسكرية المصرية بعض سطوعها في عهدَي جده، محمد علي؛ وأبيه، إبراهيم باشا.

بيد أن الخديوي إسماعيل، آثر الضباط والجنود: الأتراك والشراكسة، العاملين في الجيش المصري، برواتب، ناهزت ثلاثة أمثال معاشات نظرائهم المصريين. وهو ما سيكون أحد دوافع ثورة عرابي، في عهد الخديوي توفيق.

7. فتوحات الجيش المصري، في عهد الخديوي إسماعيل

عمد الخديوي إسماعيل إلى استكمال المشروع، الذي بدأه محمد علي باشا؛ وترامت بموجبه حدود السودان إلى كسلا (شرق نهر عطبرة). فوسع الخديوي تلك الحدود، لتشمل سواكن ومصوَّع (تقع مصوع داخل حدود إريتريا حالياً).

كما بسطت مصر نفوذها على مملكة أوغندا. وفتحت إقليم بحر الغزال، وإقليم دارفور. واتسعت أملاكها حتى باب المندب جنوباً، وخط الاستواء. كما ضمت محافظتَي زيلع وبربرة، الواقعتَين على خليج عدن. وفتحت سلطنة هرر، في جنوب شرقي الحبشة. فامتدت أملاكها من سواحل الصومال على المحيط الهندي، وبحيرة ألبرت وبحيرة فيكتوريا جنوباً، إلى البحر الأحمر وخليج عدن شرقاً، وغرباً إلى حدود واداي (تشاد حالياً) (اُنظر خريطة حدود الدولة المصرية، في عهد الخديوي إسماعيل).

ولم يَجِلّ الخديوي إسماعيل عن الخطأ، بل أخطأ مرتَين، بتعيينه كلاًّ من الإنجليزيَّين: صمويل بيكر، ثم الكولونيل غردون، في منصب مدير خط الاستواء؛ وهما اللذان أعانا إنجلترا، في ما بعد، على احتلال السودان.

ومن أهم نتائج فتح السودان القضاء على تجارة الرقيق، التي كان قد منعها فرمان، في عهد محمد علي باشا؛ إلا أنها استمرت حتى عهد الخديوي إسماعيل، الذي استخدم زهاء 30 ألف مقاتل مصري في الفتوحات السودانية.

8. الخديوي إسماعيل وقناة السويس

ارتأى الخديوي إسماعيل دعم مشروع قناة السويس. ولكن هاله ما نصّ عليه عقد الامتياز، من ميزات لشركة القناة؛ فجهد في اختزال ما أمكنه منها؛ وفقاً لمقولته: "أريد أن تكون القناة لمصر، لا أن تكون مصر للقناة". وقد ركز جهده في تعديل أربع ميزات، هي:

أ. تعهد الحكومة المصرية بأن توفر، باستمرار، العمال، الذين تحتاج إليهم الشركة (20 ألفاً). ولهذه أن تطالب الحكومة بتعويض، إن هي توانت في ذلك. والعدد الآنف، يعوق طموح الجيش، ويعرقل النهضة في أرجاء مصر. ولذلك، طالب الخديوي بتخفيضه إلى ستة آلاف فقط.

ب. ملكية الشركة لترعة المياه العذبة، التي كلفت حفرها، بمقتضى العقد، واستغلالها في ري الأراضي على جانبَيها، نظير أجر، أيْ سيطرتها على الأراضي الزراعية، في منطقة القناة. وهو ما يعارض قوانين الدولة العثمانية.

ج. ملكية الشركة للأراضي، التي ترى أنها في حاجة إليها؛ إضافة إلى ملكيتها لجميع الأراضي، التي تستصلحها وتستزرعها؛ وإعفاؤها من دفع أموالها، طيلة عشر سنوات. وفي ذلك انتقاص السيادة المصرية.

د. اضطرار الحكومة إلى انتزاع ملكية الأشخاص للأطيان، إذا احتاجت شركة القناة إلى استغلالها، أيْ إهدار حقوق المصريين.

وأسند التفاوض إلى نوبار باشا، ناظر النظار في الحكومة. وسرعان ما حُكِّم نابوليون الثالث، إمبراطور فرنسا، في النزاع. فأفتى بما أضر بالحكومة المصرية، إذ قضى بأن تدفع إلى الشركة الفرنسية 3.36 ملايين جنيه. وعقد اتفاق، في 30 يناير 1866، بين الطرفَين، وفقاً لهذا الحكم. وصدّقه السلطان العثماني، في 19 مارس 1866. أمّا نفقات احتفالات افتتاح القناة، فقدِّرت بنحو مليون و400 ألف جنيه. وكان الافتتاح، في 17 نوفمبر 1869، بدخول بواخر الرؤساء والملوك والأمراء إلى القناة، من بورسعيد.

أمّا خسائر مصر المالية، الناجمة عن إنشاء القناة، فتحدد بالآتي:

3.426 ملايين جنيه

قيمة أسهم مصر في القناة (والتي بيعت، بعد ذلك مقايضة بالديون).

3.36 ملايين جنية

قيمة التعويضات المحكوم بها للشركة.

400 ألف جنيه

ثمن أراضي (تفتيش الوادي)، التي أعادت الحكومة شراءها، بعد أن كانت الشركة قد اشترتها بمبلغ 68 ألفاً فقط؛ بمعنى أنها خسرت 332 ألف جنيه في هذه الصفقة.

مليون و200 ألف

تعويض مدفوع إلى الشركة، بمقتضى اتفاق 23 أبريل 1869.

مليون و200 ألف

نفقات شق الترعة العذبة، التي كان مفترضاً أن تنشئها الشركة، على نفقتها.

مليون و400 ألف

نفقات الافتتاح.

10.986 ملايين

الإجمالي.

5.814 ملايين

فوائد وسمسرة ونفقات التحكيم وخلافه.

16.8 مليوناً

الإجمالي العام.

9. الإخفاقات، في عهد الخديوي إسماعيل

أ. الإسراف في النفقات هو أحد أهم إخفاقات الخديوي إسماعيل. وكان يمكنه وضع نُظُم اقتصادية، تساير مطمعه في النهضة الكبرى.

ب. الضعف في مفاوضة الشركة الفرنسية، التي تولت شق القناة؛ والتهاون بحقوق مصر. لا، بل تشير التعويضات المصرية إلى تسلط الشركة، وعجز الحكومة عن مواجهتها. وكان ممكناً إلغاء عقد الشركة نفسه، لو صدقت الإرادة السياسية.

ج. مسارعة الخديوي إسماعيل إلى شراء موافقات السلطان العثماني بالأموال؛ ما أرهق مصر بإنفاق، لا لزوم له.

د. اهتمام الخديوي إسماعيل بالجيش، لم يدفعه إلى إلغاء ميزات الأتراك والشراكسة، على حساب المصريين.

10. نهاية الخديوي إسماعيل

تراكمت المشاكل، في أواخر عهد الخديوي إسماعيل، وخاصة استكثاره من الديون، التي ناهزت 98.748.930جنيهاً، عام 1879. بينما الميزانية المصرية، لم تتجاوز تسعة ملايين جنيه. وهو ما دفع أصحاب الديون، من البنوك الأوروبية والمرابين، إلى الاستنجاد بحكوماتهم؛ لاسترداد أموالهم.

التقفت بريطانيا تفاقم ديون مصر. وتعجلت التدخل في الشأن المصري. فأرسلت، في ديسمبر 1875، بعثة، قِوامها أربعة من خبرائها الماليين. أوصى تقريرهم بضرورة أن تنشئ الحكومة مصلحة، تراقب ماليتها، برئاسة خبير إنجليزي. وسارعت فرنسا، المنافسة لبريطانيا، إلى إرسال بعثة، قدمت تقريراً آخر. أمّا الخديوي، فقد ارتبك ارتباكاً شديداً، لما أحس خطر الأحوال المالية.

واضطر، في الثاني من مايو 1876، إلى قبول المشروع الفرنسي، القائل بإنشاء صندوق دين، يكون خزانة فرعية للخزانة العامة، تتسلم المبالغ المخصصة للديون من المصادر المحلية (المحليات والجمارك..ألخ) فذلك الصندوق، أصبح، إذاً، هو المسؤول عن جمع الأموال، والمتدخل في الشأن المصري. وطالما حاول الخديوي تقييد حركته. وانتهى الأمر إلى تعيين وزير بريطاني للمالية، ووزير فرنسي للأشغال، في الحكومة المصرية.

وسرعان ما ائتمرت بالخديوي إسماعيل بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية. وأسفر عن التآمر فرمان عثماني، وصل إلى القاهرة، في 26 يونيه 1879. وقضى بتخلي الخديوي عن العرش لابنه، توفيق باشا؛ على أن تحدد مخصصات ملائمة للمتنحي؛ ويبقى قانون توارث العرش لأبنائه كما هو. غادر إسماعيل مصر، في 30 يونيه 1879 إلى نابولي، بإيطاليا. وتردد إلى العواصم الأوروبية، قبل أن يستقر بالآستانة، عام 1888. ووافته المنية، في الثاني من مارس 1895؛ وله من العمر 65 عاماً. ونقل جثمانه إلى مصر، حيث دفن في مسجد الرفاعي، بالقاهرة؛ وفقاً لوصيته.