إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث الخامس

عهدا السلطان حسين كامل والملك أحمد فؤاد الأول

(1914 – 1936)

تُعَدّ هذه المرحلة، من التاريخ الحديث، واحدة من أهم المراحل، التي مرت بها مصر. فقد اتسمت بمتغيرات، بدلت، نُظُم الحكم والسياسة المصرية، سيان في الداخل والخارج. وتعاقب فيها على الحكم عاهلان شقيقان: السلطان حسين كامل، ثم الملك أحمد فؤاد الأول. والاثنان ابنا الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي.

أولاً: عهد السلطان حسين كامل

1. ظروف توليته

ولد السلطان حسين كامل في عام 1853. وصاحب والده، الخديوي إسماعيل، في منفاه. وعاد إلى مصر، في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. وفي 18 ديسمبر 1914، وبعد يوم واحد من إعلان الإنجليز الحماية على مصر، عزلت الحكومة البريطانية الخديوي الأخير. ومنعت عودته من رحلته في الآستانة إلى مصر. واستبدلت به أكبر أبناء الأسْرة العلوية سناً، حسين كامل؛ من دون الالتفات إلى فرمان 1873، الذي يجعل وراثة العرش لأكبر أبناء الخديوي سناً. وقد أصبح هو أول سلطان على مصر، بعد أن ألغت وزارة الخارجية البريطانية لقب الخديوي، بكلّ دلالاته العثمانية.

لاقى تعيين الإنجليز السلطان حسين كامل رفضاً شعبياً، على شعبيته، وتسميته: "صديق الفلاح". وقد حفلت سنوات حكمه (1914 – 1917) بعدم الاستقرار، الذي أسفر عن رفض الشعب المصري لأسلوب ولايته، على حساب الخديوي المعزول، الذي كان المصريون يستشعرون ولاءه لبلده؛ أو الناجم عن تطور المعارك الحربية، في الحرب العالمية الأولى، والتي حاول فيها الجيش العثماني طرد الإنجليز من مصر؛ ما حمل المصريين على الاستبشار، وترديدهم شعاراً، يقول: "الله حي؛ عباس جيَّ".

لقد عمدت الحركة الوطنية، في مصر، خلال حكم السلطان حسين كامل، إلى العمل السري. واعتمدت العنف. فتعددت محاولات اغتيال الوزراء والمسؤولين؛ بل السلطان نفسه.

ويمكن القول إن السيطرة البريطانية على مصر، أصبحت كاملة، إبّان عهد السلطان حسين كامل. فقد أمست مصر هي القاعدة البريطانية الرئيسية، التي تنطلق منها العمليات الحربية، لمواجهة القوات العثمانية، في مختلف الاتجاهات. واستطراداً، فقد رُهنت السياسة الداخلية المصرية بالمصالح البريطانية. أمّا سياسة مصر الخارجية، فقد تحكمت فيها بريطانيا تحكماً كاملاً.

2. الحرب العالمية الأولى، والإسهام المصري فيها

تطاير شرر الحرب العالمية الأولى من استفحال النزعة القومية في أوروبا، مطلع القرن العشرين؛ والصراع: السياسي والاستعماري، ما بين الإمبراطوريات: الألمانية، والنمساوية ـ المجرية، والعثمانية، وروسيا القيصرية؛ إضافة إلى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. ويمكن اختصار أسباب الحرب في سببَين رئيسيَّين، هما:

- التحالفات السرية، التي قسمت أوروبا فريقَين، يتربص كلّ منهما بالآخر.

- شَرَه الاستعمار الاقتصادي، الناشئ عن الثورة الصناعية؛ وتنافس القوى في الاستئثار بالخامات، وحرصها على تسويق منتجاتها الصناعية.

أ. المعسكران الأوروبيان المتناحران

(1) المعسكر الأول: تألف من ألمانيا والنمسا ـ المجر وإيطاليا. وانضمت إليه الدولة العثمانية، منذ 30 أكتوبر 1914؛ وبلغاريا، في 5 أكتوبر 1915. وخرجت منه إيطاليا، لتنضم إلى الفريق الآخر، في 23 مايو 1915.

(2) المعسكر الثاني: يتكون من إنجلترا وفرنسا وروسيا. وانضمت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، منذ 6 أبريل 1917.

السبب المباشر لاشتعال الحرب، كان اغتيال ولي عهد النمسا، فرانز فرديناند، وزوجته، في 18 يونيه 1914، في مدينة سرايفو، على يد طالب صربي، يدعى غافريلو برنسيب. أعقبه توجيه إنذار نمساوي إلى صربيا، في 23 يوليه 1914، ثم إعلان الحرب، في 31 منه. ثم توالى إعلان دول المعسكرَين الحرب بعضهما على بعض، مثل إعلان الدولة العثمانية الحرب على بريطانيا، في 30 أكتوبر 1914.

ب. المشاركة المصرية في الحرب العالمية الأولى

عند اشتعال الحرب العالمية الأولى، كانت مصر تابعة للدولة العثمانية؛ ولكنها خاضعة للاحتلال البريطاني. وتحريرها كان أحد الأهداف الرئيسية لإعلان الدولة العثمانية الحرب على بريطانيا. وهكذا أمست مصر بين حَجَرَي رحى.

أعلنت بريطانيا، في الثاني من نوفمبر 1914، أنها سوف تتكفل بكل أعباء الدفاع عن مصر، حيث فُرضت الأحكام العرفية. وسارعت بريطانيا، في السادس من الشهر نفسه، إلى إعلان الحرب على الدولة العثمانية. وفرضت بريطانيا الحماية على مصر، في 18 ديسمبر 1914، من دون مشورة الحكومة المصرية. وهو ما أثار حفيظة الشعب المصري، وخاصة بعد أن ألغيت وزارة الخارجية المصرية، وعُهد بمهامها إلى المندوب السامي البريطاني. وسرعان ما أصبحت مصر قاعدة للعمليات الحربية، في البحر الأبيض المتوسط؛ آوت 13 فرقة عسكرية بريطانية.

تعددت مشاركات مصر في الحرب العالمية الأولى، كالآتي:

(1) المشاركة في الدفاع عن الإسماعيلية، بقوات من المشاة والمدفعية.

(2) الاشتراك في صد الهجوم العثماني، في منطقة مريم، جنوب الإسماعيلية، بقوات من المشاة والمدفعية.

(3) حراسة خطوط المواصلات بين مصر وفلسطين، عبر سيناء.

(4) تجهيز مسرح العمليات، في سيناء. وإسهام قوات المهندسين العسكريين المصريين في تجهيز مسرح عمليات الصحراء الغربية.

(5) إرسال وحدات مصرية (مشاة ـ مدفعية) لمساندة ثورة الحجاز على العثمانيين، عام 1916.

(6) التلبية القسرية لمطالبة القوات البريطانية، بتسخير العمال والفلاحين لخدمة المهام البريطانية في مصر، وإنشاء خط السكة الحديد ما بين الزقازيق والإسماعيلية؛ وتوفير المؤن للقوات البريطانية، دون الشعب المصري.

ج. أثر الحرب العالمية في مصر ومنطقة الشرق الأوسط

(1) تقسيم العالم العربي، بما فيه مصر. واقتسام الدول الاستعمارية السيطرة عليه، باسم: الانتداب. وقد بدأ ذلك بمعاهدة بطرسبرج، في 4 مارس 1915؛ ثم اتفاقية سايكس ـ بيكو، في 16 مارس 1916، والتي عُدلت في اتفاق لندن، في 15 سبتمبر 1919. وأُقر التقسيم نهائياً في مؤتمر سان ريمو، في 23 أبريل 1920.

(2) صدور وعد بلفور، عام 1917، والذي مهد لنشوء دولة إسرائيل.

(3) اشتعال الثورة الاشتراكية، في روسيا القيصرية، وتحولها إلى دولة ماركسية شيوعية؛ وإعداء الدول العربية بتلك النظرية الجديدة.

3. أثر الحماية البريطانية في سلطات السلطان حسين كامل

استأثر المندوب السامي البريطاني بالسلطات كافة. واقتصر السلطان حسين كامل على تصريف الأمور الثانوية، وتوقيع ما تمليه عليه السلطات البريطانية؛ بل كاد يفقد سلطاته. ولم يكن قادراً على أيّ اعتراض إيجابي؛ لمرضه من ناحية، وإمكان إقدام السلطات البريطانية على خلعه من ناحية ثانية.

4. توجهات السلطان حسين كامل: الخارجية والداخلية

حالت السيطرة البريطانية على مصر دون أيّ توجهات للسلطان حسين كامل، سيما في الداخل والخارج. ولكن، لا يُنْكَر تميُّزه بوطنية جارفة؛ ومحاولته إنجاز ما كان يرتئيه، قبل تسلطنه، ولا سيما الاهتمام بالزراعة، وتحسين الأحوال الاجتماعية في الريف المصري، حتى سُمِّي، آنئذٍ: "صديق الفلاح". ولا شك أن له برنامجاً، لم يتمكن من تنفيذه؛ ومصداق ذلك ترديده في خطبة القول: "اعملوا. وجدوا. وتعلموا. وتهذبوا. فإنكم لا تبلغون قصداً، ولا تصلون إلى غرض، بغير العلم. هذبوا المرأة. وارفعوها إلى مقام سام. وانسوا، وتناسوا ما بينكم من منافسات طفيفة؛ فجميع من تظله سماء مصر هم مصريون".

5. نهاية حكم السلطان حسين كامل

لم يدم حكم السلطان حسين كامل سوى سنتَين وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، قبل أن يودي المرض بحياته، في 4 أكتوبر 1917. ودفن في مسجد الرفاعي، بالقاهرة.

ثانياً: عهد السلطان أحمد فؤاد الأول

هو: الابن السادس للخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا. كانت والدته، فريال، أمَة في قصر أبيه، الذي اضطر إلى تزوجها، بأمر من الباب العالي، بعد أن ولدت الأمير أحمد فؤاد. ولد في أبريل 1868. وتلقى تعليمه في القاهرة، حتى سن الثامنة. ثم التحق بكلية تورين الدولية، بين عامَي 1874 و1880. واستكمل تعليمه في المدرسة العسكرية، في المدينة عينها. وبقي مع والده المعزول، خارج مصر، حتى عام 1892، حين عرض عليه الخديوي عباس حلمي الثاني قيادة قسم من الجيش، برتبة لواء. وبعد عودته، أصبح ياوراً لابن أخيه، الخديوي الآنف، طيلة ثلاث سنوات، قبل أن يستقيل.

أَلِف الأمير أحمد فؤاد الحياة في مصر. وأصبح حديث المجتمع، وخاصة بعد أن أطلق عليه النار، في 7 مايو 1898، شقيق زوجته الأولى، المطلقة، شيوه كار. وتفرّغ، بعد ذلك للخدمة الاجتماعية. فترأس مجلس إدارة الجامعة الأهلية، التي افتتحت أبوابها، في 20 ديسمبر 1908؛ وكان لشقيقته، فاطمة، الفضل الكبير في التبرع لإنشائها. وترك اختياره لهذا المنصب ارتياحاً شعبياً وثقافياً؛ لما عرف عنه من تشجيع للمشروعات: العلمية والعمرانية؛ فضلاً عن حزمه الإداري. واستمر مديراً للجامعة، حتى عام 1913. ولكن، لم يفتر إسهامه في الحياة العامة. فكان له الفضل في إنشاء معهد الأحياء المائية، بالإسكندرية؛ وإقامة مشروع ترقية مصر، الذي استهدف استمالة السياح؛ إضافة إلى رئاسته لجمعية الإسعاف الأهلية.

تميز السلطان أحمد فؤاد الأول بشغفه بالسلطة، وحنكته، وخبرته بتوقع الأمور وتقدير الأحداث؛ وهما خَصِيصَتان، اقتضاهما عهده الحافل بالعديد من العوامل المؤثرة، ولا سيما الهيمنة البريطانية على مصر، واستشراء السخط على الاحتلال، والمتغيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تزوج السلطان أحمد فؤاد الأول شيوه كار. وسرعان ما طلقها، ليتزوج فتاة جميلة، صغيرة السن، إنها نازلي ابنة عبدالرحيم صبري باشا، وزير الزراعة، وصديق سعد زغلول. وجدها محمد شريف باشا، المتزوج ابنة سليمان باشا الفرنساوي. وقد أنجبت وليّ العهد، الأمير فاروق.

1. ظروف توليته

تداركت بريطانيا مرض السلطان حسين كامل بإيجادها من يخلفه. واختارت لذلك الأمير أحمد فؤاد. وأوعزت إلى الأمير كمال الدين بن حسين كامل، الوارث القانوني للعرش، بالنزول عن حقه فيه. ووجهت كتاباً إلى الأمير المختار، وقعه السير ريجنلد وينجت، المندوب السامي البريطاني في مصر، يبلغ فيه الأمير، "أنه لما كان نظام الوراثة على عرش السلطنة المصرية، لم يوضع، للآن؛ وكنت عظمتكم، من طبقة البنين، الوارث الشرعي المتعين، تبعاً لوراثة العرش؛ فإن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية، تعرض على عظمتكم تبوؤ العرش السامي؛ على أن يكون لورثتكم، من بعدكم، حسب النظام الوراثي، الذي سيوضع، بالاتفاق مع الحكومة البريطانية".

وفي يوم الأربعاء 10 أكتوبر 1917، وقبل أن يمضي 24 ساعة على تشييع جثمان السلطان حسين كامل، كان السلطان أحمد فؤاد الأول يمارس مهامه، بتوقيع مرسوم تأليف الوزارة الجديدة، برئاسة حسين رشدي باشا. وجرى احتفال التتويج، في 11 أكتوبر 1917. ومنذ اللحظة الأولى لتوليه العرش، ظهرت شخصية السلطان الجديد الحاسمة، وخاصة أن الحرب العالمية الأولى، قد لاحت نهايتها، إيذاناً بعهد جديد.

2. التوجهات السياسية للسلطان أحمد فؤاد الأول

انبثقت توجهات السلطان الجديد السياسية من تاريخه. فهو ابن الخديوي إسماعيل، صاحب النهضة الحديثة في مصر. ناهيك بتربيته ومعيشته الأوروبيتَين. زِد على ذلك متابعته لمتغيرات المنطقة والعالم، ووقوفه على المطالب الشعبية الاستقلالية في مصر من أجل الاستقلال. وقد انحصرت تلك التوجهات في الآتي:

أ. السعي إلى استقلال مصر؛ تنفيذاً لمبادئ الرئيس الأمريكي، ويلسون؛ ورغبة في تحقيق آمال الشعب المصري.

ب. بعث النهضة في ربوع مصر. والاقتداء بنهج والده، في إنشاء مشروع حضاري، يستند إلى العلوم الحديثة.

ج. ضبْط تفاقم الحركة الوطنية في مصر ضبطاً، يحُول دون مصادمتها الاستعمار.

ومصداق توجهاته هو مطالبته بتعديل صيغة الخطاب، الموجه إليه من المندوب السامي البريطاني، لينص على "أن العرش، قد عرض عليه، بحكم الوراثة"؛ وليس كما جاء في الأصل، "نتيجة اختيار الحكومة البريطانية له". كما أبدى رغبته في أن يشتمل أمره السلطاني إلى رئيس الوزراء على عبارة، تدل على طمعه في توسيع الحكم الذاتي.

لا، بل ناهض السلطان سلطات الاحتلال، منذ اللحظة الأولى لتوليه العرش. فقد اعترض على عدم موافقتها على ترشيح سعد زغلول وعبد العزيز فهمي للانضمام إلى الوزارة. وبدأ السلطان الجديد محاولات التصدي للسلطات البريطانية، وتجميع القوى الوطنية حوله؛ وهو ما أسمته تلك السلطات: "التجمع الليلي"؛ إشارة إلى سِرِّيته، وبُعده عن الرقابة البريطانية.

3. ثورة 1919

ما إن أعلنت الهدنة بين الدول المتحاربة، في 11 نوفمبر 1918، حتى شرع الساسة المصريون يتشاورون في مصير البلاد. واتفقوا على إرسال وفد، يمثل الشعب المصري، إلى مؤتمر الصلح. وشجعهم على ذلك صدور التصريح البريطاني ـ الفرنسي، في أوائل نوفمبر 1918، بأن الدولتَين تنويان تحرير الشعوب، التي أنقذت من الظلم العثماني، تحريراً تاماً؛ والشعب المصري، الذي أعان بريطانيا على حربها، واحد من تلك الشعوب. وكانت مسألة إرسال ذلك الوفد هي شرارة ثورة، توافرت أسبابها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أ. الأسباب السياسية

تتمثل في امتعاض الشعب من حالته السياسية، واستمرار احتلال أرضه، وتدخل سلطات الاحتلال في شؤون الدولة؛ حتى إنها وقفت موقف الخصومة والتحدي من مطالب الشعب؛ على الرغم من مبادئ الرئيس الأمريكي، ويلسون، والخاصة بحكم الشعوب وتقرير العدل العالمي، والتي كادت تصبح دستوراً عالمياً، يحق لكلّ دولة التمسك به. ثم كان إلقاء القبض على سعد زغلول، ورفاقه، أعضاء الوفد إلى مؤتمر الصلح، هو الدافع المباشر إلى الثورة.

ب. الأسباب الاقتصادية

أسهمت الحرب العالمية الأولى في تردي الحالة الاقتصادية. فانخفضت الأجور. وسيطرت القوات البريطانية على الانتاج المصري: الزراعي والصناعي؛ وسخَّرته لخدمة العمليات العسكرية. وهو ما أسفر عنه ارتفاعات حادة في الأسعار، وقِلة المعروض في الأسواق.

ج. الأسباب الاجتماعية

تأثرت الحالة الاجتماعية في مصر بالحركات الوطنية، التي قادها مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول. كما كان للصحافة إسهام رئيسي في تحريك الجماهير. وكلّ ذلك جمع فئات الشعب على هدف واحد، هو تأييد الثورة.

د. أحداث الثورة

بادر سعد زغلول وعلي شعراوي وعبدالعزيز فهمي، في 13 نوفمبر 1918، إلى مقابلة المندوب السامي البريطاني، السير ريجنلد وينجت. وطالبوا باعتراف بريطانيا باستقلال مصر. إلا أنه لم يعترف بصفتهم. فانقلبوا إلى الأمة، يطلبون توكيلاً منها، لمتابعة السعي إلى الاستقلال، بالوسائل السلمية. وأرسلت نسخ التوكيل إلى شتى أرجاء مصر، ليوقعها المواطنون جميعاً. وتأججت المشاعر الوطنية، إثر رفض السلطات البريطانية التصريح لذلك الوفد بالسفر. وزادتها احتداماً استقالة حسين رشدي باشا، رئيس الوزراء؛ اعتراضاً على الموقف البريطاني.

وفي 6 مارس 1919، استدعى قائد القوات البريطانية في مصر رئيس الوفد وأعضاءه. وحذَّرهم من الاستمرار في تأجيج الشعور الوطني، وإرسال الاحتجاجات إلى مختلف الدول. وفي 8 منه، قبضت سلطات الاحتلال على سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل، ونفتهم إلى جزيرة مالطا.

وسرعان ما ألهبت الاعتقالات ثورة، استمرت إلى 18 مارس 1919، في جميع أنحاء البلاد. ونجم عنها خسائر جسيمة، سواء في وسائل المواصلات أو قتل الجنود الإنجليز؛ ما حمل القائد الإنجليزي على الإنذار بإعدام كلّ مَن يتلف الخطوط الهاتفية أو السكك الحديدية. وعجزت الغارات الجوية البريطانية على المتظاهرين عن إخماد الثورة، التي ظلت تتجدد، بين حين وآخر، حتى نهاية العام. وناهزت خسائر المصريين فيها ألفَي شهيد، و1600 جريح. كما حُكم على 3700 شخص بإحكام مختلفة.

طاحت الثورة المندوب السامي البريطاني. واستُبدل به السير أدموند اللنبي، الذي تسلم مهامه في مصر، في 25 مارس 1919، وحاول السيطرة على الموقف، في 7 أبريل، بقوله: "إن سعد زغلول ورفاقه، سيفرج عنهم. وسوف يسمح لهم بتقديم مطالبهم إلى الجهة، التي يريدونها". فقرر الوفد السفر إلى باريس. وما إن وصلها، حتى فوجئ باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا بالحماية البريطانية على مصر؛ فَسُقِطَ في أيدي أعضائه.

أرسلت بريطانيا لجنة ملنر إلى مصر؛ للتحقيق في أسباب الاضطرابات، ومعالجتها. وقد وصلت اللجنة إلى القاهرة، في ديسمبر 1919. ولكنها فوجئت برفض جميع المسؤولين الاتصال بها؛ مطالبين بقصْر نقاشها على الوفد، في باريس. فعادت لجنة ملنر إلى بريطانيا، حيث اجتمعت بالوفد المصري. وتوصل الطرفان إلى مشروع معاهدة، أُرسلت إلى القاهرة؛ لتصديقها. إلا أن الحزب الوطني، طلب تعديلها. ولكن لجنة ملنر، رفضت تعديلاته المزْمَعَة. وخلال ذلك، نجح الإنجليز في التفريق بين طوائف الشعب؛ بل بين أعضاء الوفد أنفسهم؛ فانتكست حركة مصر الوطنية.

خشيت بريطانيا تجدد الاضطرابات؛ فأبلغت السلطان أحمد فؤاد الأول، في 26 فبراير 1921، رغبتها في الحديث بمعاهدة، تحل محل الحماية، وتضمن المصالح البريطانية في مصر. وتولى رئيس الوزراء، عدلي يكن، هذه المهمة، التي فشلت فشلاً ذريعاً. ونجم عن ذلك اشتداد الخلافات داخل مصر، واستقالة الوزارة المصرية؛ واعتقال السلطات الإنجليزية، في 29 ديسمبر 1921، سعد زغلول وبعض رفاقه، ونفيهم إلى عدن، ومنها إلى جزيرة سيشل.

وظلت مصر من دون حكومة، مدة شهرَين كاملَين، قبل أن يوافق عبدالخالق ثروت على تأليف الوزارة؛ مشترطاً اعتراف بريطانيا بمصر دولة مستقلة، وإنشاء برلمان، واستبدال موظفين مصريين بالموظفين الأجانب، ورفع الأحكام العرفية، وبدء مفاوضات جديدة في مسألة السودان، بعد تكوين البرلمان.

وما لبثت بريطانيا أن أصدرت تصريح 28 فبراير 1922، والقائل: "حيث إن حكومة جلالة الملك، وطبقاً للنيات، التي أعلنتها، ترغب في الاعتراف، فوراً، بمصر دولة مستقلة، ذات سيادة. وحيث إن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك ومصر أهمية عظمى للإمبراطورية؛ لذلك، تعلن المبادئ الآتية:

(1) انتهاء الحماية البريطانية على مصر، وتعلن مصر دولة مستقلة، ذات سيادة.

(2) إنهاء الأحكام العرفية، التي أعلنت في 2 نوفمبر 1914.

(3) وإلى أن يحين الوقت، الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقيات، بين حكومة جلالة الملك والحكومة المصرية، في الأمور الآتي بيانها، بالمفاوضات الودية بين الفريقَين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بتوليها الأمور الآتية، بصورة مطلقة (وهى التي يشار إليها بالتحفظات الأربعة)، وهي:

(أ) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.

(ب) الدفاع عن مصر ضد أيّ عدوان أجنبي، أو التدخل المباشر وغير المباشر.

(ج) حماية المصالح الأجنبية، وحماية الأقليات.

(د) مسؤولية السـودان".

وقد أُفرج عن سعد زغلول ورفاقه، في أبريل 1923.

هـ. موقف السلطان أحمد فؤاد الأول من ثورة 1919

أحس السير وينجت، المندوب السامي البريطاني من السلطان المصري تحيُّزه إلى الحركة الوطنية؛ فسعى إلى أن يفتنه عنها. ووسوس له بأن سبب المشاعر المعادية للحماية البريطانية، هو نشاط ما أسماه: "الحزب التركي"، بإيعاز من الخديوي السابق، عباس حلمي. وقد رَكَنَ السلطان إلى الوساوس الإنجليزية. وخشي أن يستعيد الخديوي المخلوع عرش مصر. وما لبث أن أنكر على الحركة الوطنية تصرفاتها؛ بل تهددها بإجراءاته السلبية. كما اعترض على اختيار أعضاء الوفد؛ بل فضّل أن تختارهم السلطات المصرية الرسمية.

وما إن انفجرت الثورة، في 9 مارس 1919، إثر نفي الزعماء الأربعة، حتى اعتزلها السلطان أحمد فؤاد الأول؛ تاركاً للسلطات البريطانية معالجة الموقف. حتى إن المدة الممتدة بين تفجر الثورة وتصريح 28 فبراير 1922، تُعَدّ مرحلة كمون، في تاريخه، إذ حرص على تجنُّب التورط في أحداثها. ولم يُخرجه من كمونه إلا مولد الأمير فاروق، في 11 فبراير 1920. فقد سارع السلطان إلى إثارة وراثة العرش، الذي يطمح إليه كثير من أبناء الأسْرة الحاكمة. واستجابت له لندن رغبته في أن يخلفه على عرش مصر ابنه، الأمير فاروق.

4. إعلان الملكية في مصر

في 14 مارس 1922 (15 رجب 1340)، صدر أمر سلطاني، موجه إلى الشعب المصري، نص على الآتي: "لقد منّ الله علينا، بأن جعل استقلال البلاد على يدنا. وإنا لنبتهل إلى الله بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك. ونعلن على ملأ العالم، أن مصر، منذ اليوم، دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال. ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة، ملك مصر؛ ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها، من مظاهر الشخصية الدولية، وأسباب العزة القومية". وبذلك أعلنت الملكية في مصر. وأصبح السلطان أحمد فؤاد الأول هو أول ملوك مصر.

5. الإنجازات في عهد الملك أحمد فؤاد الأول

أ. في المستوى السياسي

(1) وضْع أُسُس الحكم في مصر

في أعقاب إعلان الملكية، نشط القصر في تنظيم أمور البلاد الداخلية، بدءاً بنظام الوراثة في بيت محمد علي، والذي ينتقل الحكم بموجبه إلى الأمير فاروق. وينص النظام على تعيين مجلس وصاية، يشرف عليه، إن آل إليه العرش، ولَمّا يبلغ 18 عاماً (هلالياً). كما نُظِّم مجلس البلاط لأسْرة محمد علي.

(2) تجدُّد وزارة الخارجية المصرية

استعادت وزارة الخارجية المصرية مهامها، التي كان المندوب السامي البريطاني قد استأثر بها، إثر إعلان الحماية على مصر. وأعلن قرار تنظيمها، في الرابع من أغسطس 1923. وعُيِّن أول دبلوماسيين مصريين في الخارج، في 18 سبتمبر 1923. وكان القصر يتدخل في أعمال الوزارة، وخاصة تعيين السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي.

(3) مولد الدستور المصري (19 أبريل 1923)

طالما عارض الملك أحمد فؤاد الأول صدور الدستور. ولكنه اضطر إلى توقيعه، تحت ضغط الحوادث. ونصت أولى المواد الدستورية على "أن مصر دولة ذات سيادة. وهي حرة، مستقلة. وملْكها لا يتجزأ. ولا ينزل عن شيء منه. وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي". كما حددت المادة 32، "أن عرش المملكة المصرية وراثي من أسْرة محمد علي. وتكون وراثة العرش وفق النظام المقرر بالأمر الكريم، الصادر في 15 شعبان سنة 1340 (13 أبريل 1922)".

كما حتم الدستور بأن الأمة هي مصدر السلطات. وقرر العديد من المبادئ، ولا سيما تَساوي المصريين، وقصْر تولِّي المناصب عليهم. وكفل الدستور الحريات: الشخصية والدينية، وحرية الرأي، وحرية الصحافة. وحظر نفي أيّ مصري من الديار المصرية. وضمن مجانية التعليم، واستقلال القضاء. ووضع أُسُس الحياة النيابية، من خلال مجلسَي النواب والشيوخ.

ولم يَخْلُ الدستور من الثغرات، التي تخوِّل الملك الهيمنة، والانفراد بالقرار. بيد أنه كان خطوة إلى الأمام، في الحياة الديموقراطية، في مصر.

وفي أعقاب صدور الدستور، أُفرج عن المعتقلين السياسيين. وصدر قانون الانتخابات. وألغيت الأحكام العرفية. وأجريت الانتخابات البرلمانية؛ ففاز حزب الوفد بأغلبية كبيرة. وألَّف سعد زغلول الوزارة. وافتتح البرلمان، في 15 مارس 1924.

(4) وفاة الزعيم "سعد زغلول"

توفى الزعيم "سعد زغلول"، في أغسطس 1927، وحل محله "مصطفى النحاس باشا"، وسار على نهج "سعد زغلول" نفسه، وبما أدى إلى استمرار الصدام بين الوفد والقصر.

(5) تعديل الدستور، وصدور دستور 1930 (دستور صدقي)

بعد إقالة وزارة النحاس باشا، عُهد بتأليف الحكومة الجديدة إلى إسماعيل صدقي باشا، الذي حظيّ بتأييد الملك والمندوب السامي البريطاني. ولم يتردد في تعديل الدستور تعديلاً، يجعل مواده المتعلقة بالانتخابات ونظام البرلمان خاصة، تحقق رغبات الملك في الهيمنة، وتحرم نواب الوفد أغلبيتهم في البرلمان. وقد أنكر المصريون هذا التعديل. واستخفوا به وبرئيس الوزارة، إذ أسموه: "دستور صدقي".

وأمعن الملك أحمد فؤاد الأول في موقفه. وأوحى بتكوين حزب جديد، "حزب الأحرار"، وفق نُظُم غربية؛ واختيار أعضائه من الصفوة؛ عسى أن ينافس حزب الوفد.

ب. في المستوى الاقتصادي

انبثق اهتمام الملك أحمد فؤاد الأول بهذا المجال من نشأته الأوروبية، ومشابهته والده، الخديوي إسماعيل. زِد على ذلك أنه اعتلى عرش مصر، وهي دولة مستقلة، وفقاً لتصريح 28 فبراير 1922، الذي حسر تدخّل الإنجليز في الشأن الداخلي. واللافت أن أغلب المنشآت: الاقتصادية والثقافية، أُنجزت إبّان إحكام قبضته على السلطة؛ عله يكتسب شعبية من جهة، ويشغل المصريين، من جهة أخرى؛ فضلاً عن حرصه على أن يؤكد لهم، أن للحكم الأوتوقراطي حسناته، على امتعاضهم منه.

أهم الإنجازات الاقتصادية

(1) بنك مصر: أنشئ بموجب مرسوم سلطاني، صدر في 5 أبريل 1920. ولبى أحد مطالب ثورة 1919، التي استعاضت عن البنك الأهلي المصري ذي الرأسمال الأوروبي، والمطروح معظم أسهمه في بورصة لندن. أمّا البنك الجديد، فإن المساهمين فيه، وأسهمه الخاصة، مصريون صرف. ولئن كان رأسماله محدوداً، في البداية، فإنه تزايد تباعاً، وخلال مُدَد قصيرة. وتولَّى بنك مصر، الذي يرأسه طلعت حرب بك، إنجاز المرافق الآتية:

شركة مصر للطيران: أُنشئت في 12 يناير 1931. وسُخِّرت لها البعثات التدريبية، التي أرسلتها الحكومة للتدرب على الطيران، في السنوات السابقة. وأُنشئت كذلك هيئة الطيران المدني، عام 1924. واستُحدث مطارا القاهرة (ألماظة) والإسكندرية (الدخيلة)؛ وشُقَّت الطرق العظمى إليهما. أضف إلى ذلك إنشاء العديد من الشركات، ولا سيما في مجالات النسيج، والسينما، والملاحة البحرية؛ وكلّها تحمل اسم مصر.

ولم يفت السلطات الاستعمارية نشاط بنك مصر، في بداية إنشائه، برئاسة طلعت حرب، لتحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية متقدمة. ولذلك، عمدت إلى عرقلة خطواته، ومنعه من استكمال مسيرته. وقد وافق ذلك نرجسية الملك أحمد فؤاد الأول. وانتهى الأمر إلى إقصاء طلعت حرب عن منصبه.

(2) بنك التسليف الزراعي: أنشئ في 20 أبريل 1931، في أعقاب انخفاض عالمي كبير في أسعار القطن، أرهق الفلاحين. وعُهد إلى البنك منحهم قروضاً، تساعدهم على الزراعة؛ إضافة إلى إيجاده الأسواق لمنتجاتهم وقد بدأ البنك نشاطه، في 20 أغسطس 1931.

(3) مدينة بورفؤاد: وضع حجر أساسها الملك أحمد فؤاد الأول، في 21 ديسمبر 1926. وقد مست الحاجة إليها، إثر تراكم البضائع في بورسعيد، الميناء الرئيسي، الذي يصل قناة السويس بالبحر الأبيض المتوسط. وكان الملك راغباً في تخليد اسمه، على غرار والده، الذي أنشأ مدينة الإسماعيلية؛ وأخيه توفيق، الذي أنشأ مدينة بورتوفيق؛ علاوة على رغبته في إيضاح أن قناة السويس، ليست حدوداً للمدن، إذ يمكن المدينة  أن تمتد غرب القناة وشرقها؛ على أن تتاح وسيلة النقل الملائمة بينهما.

(4) تقليص أراضي شركة قناة السويس: من خلال اتفاقية بين الحكومة رأي الملك أحمد فؤاد الأول، أن شركة  قناة السويس، تستولي على مساحات شاسعة من الأراضي، ارتفع سعرها، فبدأت ببيعها. ولذلك، أوحى للحكومة بمفاوضة الشركة في تخليها عن بعض تلك الأراضي، للمنفعة العامة، وإنشاء تجمعات جديدة: سكانية وزراعية، تخدم المنطقة؛ من دون المساس بمساكن عمال الشركة أو منشآتها الملاحية. ولئن أمكن الملك هذا الإنجاز، فإنه أعيا والده، الخديوي إسماعيل.

ج. في المجالَين: الثقافي والفني

انماز الملك أحمد فؤاد الأول بمطمعه في إنشاء عدة مؤسسات ثقافية، أكسبت مصر السبق الثقافي على المنطقة العربية. وتولَّى إدارتها مصريون. وأهمها:

(1) الجامعة الأميرية

وهي نفسها الجامعة الأهلية، التي تولى رئاستها الأمير أحمد فؤاد، عام 1907؛ وتركها، عام 1913. ثم اعترتها أزمة، كادت تغلق أبوابها، لولا تداركها السلطان أحمد فؤاد الأول، حينما تولى العرش، عام 1917. فذلل مشاكلها. وبدأ التخطيط لتحويلها إلى جامعة غير أهلية، وضمها إلى جامعة، كانت الحكومة تنوي إنشاءها.

بيد أن تحويل الجامعة، لم ينجها من عراقيل شتى، ولا سيما رغبة المندوب السامي البريطاني عن التوسع في الارتقاء بالتعليم، وتخوُّفه من اتسام الجامعة بالسمات التبشيرية. وزادها عرقلة إنشاء الجامعة الأمريكية في القاهرة، عام 1920؛ وتغلب الثقافة الأمريكية على نظيرتها الإنجليزية. ولم يُقَرّ إنشاؤها، حتى 12 ديسمبر 1923، بكليات أربع: الآداب، والحقوق، والطب، والعلوم. وافتتحت الجامعة، بنظامها الجديد، في أوائل عام 1925.

(2) مجمع اللغة العربية: أنشئ بموجب مرسوم ملكي، صدر في 13 ديسمبر 1932. أمّا غايته، فهي اللغة العربية، ومواكبتها لتطور العلوم والفنون، وملاءمتها لحاجات الحياة العصرية. تألف المجمع من 20 عضواً يختارون من العلماء، المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، من دون التقيد بالجنسية.

(3) الإذاعة الحكومية: بدأت البث، في 31 مايو 1934، من "عمارة التليفونات الكبرى". ثم تعاقدت الحكومة المصرية وشركة ماركوني على تشييد صرح لهذه الإذاعة؛ وإنشاء محطات أخرى؛ وتوسيع نطاق الخدمة، لتشمل أرجاء المملكة.

(4) إحياء الموسيقى العربية: أولى الملك أحمد فؤاد الأول اهتمامه نادي الموسيقى الشرقية، من خلال نشر الموسيقى العربية، وتوافر حفلاتها؛ خوفاً عليها من غزو الموسيقى الغربية، الذي لاحت نُذُره، آنئذٍ. كما رغب في نشيد وطني مصري، بلحن شرقي. واختير نشيد أمير الشعراء، أحمد شوقي.

(5) نهضة التمثيل العربي: تمثلت في تمصير المسرح، وتشجيع الروايات المستوحاة من المجتمع المصري. وأجرت وزارة الأشغال بإيعاز من الملك، المسابقات بين الفِرق، عام 1924؛ لتقييم المسرحيات. وقد سارع ذلك على تكاثر الفِرق المسرحية الجادة، مثل: فِرقة رمسيس، برئاسة الفنان يوسف وهبي؛ وفِرقة جورج أبيض.

(6) العناية بالسينما (السينما توغراف): بدأت صناعة السينما في مصر، عام 1927، بشركة "إيزيس فيلم"، التي أنشأتها السيدة عزيزة أمير، في القاهرة؛ وشركة "كوندروفيلم"، التي أسسها الشقيقان: إبراهيم وبدر لاما، في الإسكندرية. ثم كانت شركة "رمسيس فيلم"، التي أنشأها يوسف وهبي. وتوالت الشركات، بعد ذلك. وتُعَدّ الأفلام، التي أنتجت في بدايات السينما المصرية، أفلاماً رائدة، ما برحت تلقى إقبالاً عليها، مثل فيلم: ليلى وزينب.

(7) معهد التمثيل: أقتضته النهضة: المسرحية والسينمائية. وافتتح في 3 نوفمبر 1930، تشدَّد في اعتماد المدرسين وقبول الطلبة؛ لكي يصبح للفن المصري ميزته، في المستوى العربي. فاشترط على الطالب حيازة شهادة "البكالوريا" أيْ الثانوية العامة حالياً؛ إضافة إلى فوزه في امتحان القبول. واستعان بمعلمين أجانب، في بداية افتتاحه؛ لنقْل الخبرة إلى المصريين.

(8) تمثال نهضة مصر: أبدعه، في أعقاب ثورة 1919، النحات المصري، محمود مختار؛ وكانت التماثيل، في ما قبْل، قصراً على نحاتين أجانب. ويعبر التمثال عن ازدواج نهضة الأمة وقوة أبي الهول، وهو يستيقظ من رقوده. أمّا المرأة المصرية، فقد رسم تفاصيلها بكلّ دقة واعتناء؛ لتشِفّ عن الشخصية المصرية، سواء في الرهافة والتمسك بالحق، والكرم. وقد وضع التمثال على قاعدته، بحضور الملك أحمد فؤاد الأول، في 20 مايو 1928.

6. تطور الجيش المصري، في عهد الملك أحمد فؤاد الأول

في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922، ونيل مصر استقلالها، دأبت حكوماتها على إعادة بناء الجيش؛ ليكون قادراً على مواجهة التحديات المحتملة، ولا سيما الوجود البريطاني في مصر. وكانت بريطانيا، مصدر التسليح الرئيسي للجيش المصري، تعلم ذلك؛ وتحاول أن تعرقله باستمرار، وخاصة بعد اغتيال السردار لي ستاك، عام 1924، وصدور أمر بريطاني بإخلاء الجيش المصري من السودان؛ لينفرد الاحتلال البريطاني بذلك البلد. وقد تكاثر عديد الجيش المصري، عام 1927، فناهز خمسة أمثال ما عليه، عام 1914.

إلا أن عديده وتدريبه، لم يكونا كافيَين لمواجهة أيّ أخطار، تُحدِق بمصر. زِد على ذلك، أن القيادات البريطانية، المتغلغلة في الجيش، كانت تسعى إلى الاستئثار، دون مصر، بولاء الجنود. وهو ما حاول العديد من وزراء الحربية علاجه.

وقد أنشئ سلاح الطيران المصري (القوات الجوية)، عام 1932، بمساعدة بريطانية. كما خفضت مدة التجنيد الإجباري، منذ عام 1925؛ لتصبح ثلاث سنوات، بدلاً من خمس.

7. أزمة الجيش المصري (عام 1927)

غضب المصريون لجيشهم. وخرجوا، عام 1927، شعباً ونواباً وجنوداً، مطالبين بجيش مصري قوي، وتسليحه بأسلحة حديثة، ووضع برامج تدريب لوحداته، وتخليصه من السردارية والمفتشية العامة الإنجليزيتَين، ووقف إِمرة القيادة البريطانية عن مصلحة حرس الحدود. ونشطت إنجلترا لتدارك تلك الفورة، والحؤول دون غايتها. فقدم الإنجليز مطالب إلى الحكومة، تقيد سيطرتها عليه، وتكبّل حركته. وأصرت على تنفيذ مطالبها. وهددت بخطوات تضر بمصر. فبادر سعد زغلول، رئيس الأغلبية البرلمانية، إلى اقتراح، يلغي منصب السردار، ويستبدل به هيئة أركان حرب للجيش المصري، يرأسها ضابط بريطاني. كان اقتراحه حلاً وسطاً ما بين المطالب: البريطانية والمصرية.

وقد قدم رئيس الوزراء المصري، عبدالخالق ثروت باشا، رد الحكومة المصرية على المطالب البريطانية، والمتضمن النقاط الآتية:

أ. الجيش المصري، لا يدخل ضمن أيّ من التحفظات الأربعة، الواردة في تصريح 28 فبراير 1922. ولمصر حرية العمل المطلقة في هذا القطاع.

ب. توصيات لجنة الضباط خاضعة لموافقة وزير الحربية.

ج. اقتراح رئيس الوزراء تعيين رئيس لهيئة أركان حرب الجيش المصري، اقتراح نابع من الرغبة في تلبية احتياجات الجيش وإبعاده عن أيّ أعمال، لها طبيعة سياسية.

وقد عمد المندوب السامي البريطاني إلى مقابلة الملك أحمد فؤاد الأول، وأبلغه رد رئيس الوزراء؛ فأبدى الملك انزعاجه الشديد، وخاصة أنه كان ينوى السفر إلى لندن؛ ولكنه تعهد تلبية المطالب البريطانية.

وطلب رئيس الوزراء البريطاني، تشمبرلن، أن لا يغادر الملك إلى لندن، قبل أن يحل الأزمة. وسُلِّمَت مذكرة من الحكومة البريطانية إلى الحكومة المصرية، في 30 مايو 1927، تضمنت العديد من الإجراءات القمعية. فاضطرت الحكومة والبرلمان المصريان إلى إبقاء سلاح الحدود تحت السيطرة البريطانية، واستمرار السردار والمفتش العام الإنجليزيين في الجيش المصري.

8. مصر وتطور الحركة القومية العربية

أسهم النشاط: الثقافي والأدبي، في مصر، أواخر القرن التاسع عشر، في تبلور الفكرة القومية، أوائل القرن العشرين، حين انطلقت من القاهرة أنشطة سياسية، لاقت استحساناً عربياً، وكانت إيذاناً بانطلاق حركة سياسية عربية.

فقد قوبل إعلان الدستور، عام 1908، في مصر، بحماس عربي بالغ. وتفاقمت المعارضة لاستبداد السلطان العثماني، عام 1911. وتمخضت بفكرة اللامركزية، التي نمَّت على الاتجاه المستقل للحركة العربية.

وسرعان ما تداخلت، بين عامَي 1911 و1914، فكرتا القومية العربية والقومية الإسلامية، أو العربية الإسلامية؛ لتكوين قيادة عربية، مركزها مكة، وليس إسطنبول.

واتسمت الحركة القومية، خلال هذه المرحلة، بتعاونها مع الأوروبيين، والتكتل في جمعيات سرية، أهمها:

أ. الجمعية العربية

تكونت من المثقفين المدنيين العرب، في باريس، عام 1911. استهدفت استقلال البلاد العربية عن الاحتلالَين: العثماني والأوروبي. واستمر نشاطها عامَين، في فرنسا. ثم انتقل مركزها إلى بيروت. وتميزت بمساهماتها الواسعة، إبّان الحرب العالمية الأولى.

ب. الجمعية القحطانية

ظهرت عام 1908. وتكونت من ضباط عرب في الجيش العثماني. اعتزمت إقامة إمبراطورية عربية، داخل الدولة العثمانية.

ج. جمعية اللامركزية

تكونت عام 1912، في القاهرة؛ لحشد قوى المعارضة، التي تتوزَّعها في جمعيات مختلفة، في مصر والبلاد العربية. توخت الجمعية إنشاء نظام لامركزي في حكم الولايات العربية، داخل الدولة العثمانية. وكان لها مجلس إدارة، قوامه عشرون عضواً. وانتشرت فروعها في معظم المدن: المصرية والسورية والعراقية.

ظلت علاقة المعتمد البريطاني، كتشنر بالجمعية علاقة طيبة، ما دام نشاطها موجهاً ضد الدولة العثمانية، وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى.

د. التجمع العربي

نشأ في باريس، عام 1913. وكان أعضاؤه من المسلمين والمسيحيين. انضم إلى جمعية اللامركزية، واعتمد خطابها السياسي. بيد أن العثمانيين، نجحوا في تفكيكه، أوائل عام 1914، بإغراء بعض أعضائه بالمناصب السياسية.

إن رفض بعض التيارات السياسية، في مصر والعالم العربي، الاستعمار العثماني، أذكى الوعي العربي، إبّان الحرب العالمية الأولى. وبدا ذلك في محادثات الشريف حسين ومكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر (1915-1916)؛ إضافة إلى الاتصالات، بين الجمعيات العربية، الوطنية، في الشام، والقنصل الفرنسي، في بيروت.

طمح الشريف حسين إلى دولة إسلامية، مستقلة عن الخلافة العثمانية. تضم الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية. وقد أنكرت بريطانيا ذلك الطموح.

وما لبثت اتفاقية سايكس ـ بيكو، عام 1916، أن فجعت الشام والعراق، إذ قسمتهما بين إنجلترا وفرنسا؛ ما أحنق القوميين العرب على الاستعمار الأوروبي. وانفجرت ثورة الحجاز، عام 1916، على العثمانيين. وثارت سورية، في العام نفسه، على العثمانيين والفرنسيين.

تطورت الحركة الوطنية الاستقلالية في مصر؛ فكانت ثورة 1919، التي ألبت المشاعر العربية على الاستعمار. زِد على ذلك الثورة على الفرنسيين، في سورية، عام 1925؛ وفي المغرب العربي، عام 1921.

واشتدت الحركة الوطنية المصرية، بين عامَي 1919 و1936. وأمكنها الفوز بتصريح 28 فبراير 1922، الذي أسقط الحماية عن مصر، واعترف باستقلالها. إلا أنه لم يتعدَّ كونه تصريحاً؛ فاستمرت المفاوضات، ووصلت إلى عقد معاهدة عام 1936. كما جهدتْ في تعديل الدستور، الذي صدر في 19 أبريل 1923؛ ولكنه لم يخل من نصوص، تعارض جعْل الأمة مصدراً للسلطات.

9. هَنَات الملك أحمد فؤاد الأول

أهم ما شان الملك هو شعوره بأنه فوق الجميع، ودأْبه في الظهور بأنه الحاكم القوي. كما يُنْعَى عليه:

أ. مطمعه أن يصبح خليفة للمسلمين، بعد إلغاء نظام الخلافة في تركيا؛ على الرغم من أنه هو الذي أصدر دستور 1923.

ب. مساعدته على إشعال الفتنة، عام 1925، بين طلبة جامعة الأزهر والجامعة الأميرية.

ج. معاداته للوفد عداء مطلقاً، على فوز الحزب في جميع الانتخابات الحرة. لا، بل كان الملك يسعى إلى إسقاط وزارة الوفديين، ليؤلفها سواهم؛ ما جعل الصدام دائماً، بينه وبين سعد زغلول تارة، وبينه وبين النحاس باشا تارة أخرى.

د. محالفته إسماعيل صدقي باشا، حليف الاستعمار، وبغيض الشعب.

هـ. محاولاته المتكررة للتدخل في شؤون الجامعة الأميرية، وهو نفسه الموقِّع مرسوم إنشائها، والقائل بأنها جامعة مستقلة، تدير شؤونها ذاتياً. ناهيك باضطهاده أحد أهم أدباء مصر، الدكتور طه حسين.

و. دؤوبه في أن يعلو على الدستور، إذ ما هو إلا منحة من الحاكم للشعب، وليس منهجاً قومياً، يحكم الأمة.

ز. تدخُّله في الدبلوماسية المصرية، بعد عودة وزارة الخارجية، في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922. فكان حريصاً على تعيين سفراء موالينه. وأشد ما كان يخشاه، هو نجاح الخديوي عباس حلمي، الذي نفي، عام 1914، في العودة إلى البلاد، وتولِّي الحكم، أو التأثير في البعثات الدبلوماسية في الخارج واستمالتها.

ح. موقفه السلبي من أزمة عام 1924، في أعقاب اغتيال لي ستاك، سردار الجيش المصري في السودان، في نوفمبر من العام الآنف؛ وطلب بريطانيا إخلاء السودان من الجيش المذكور. وقد تصدى سعد زغلول، بشجاعة، لتلك الأزمة. إلا أنه افتقد مساندة القصر، فقدم استقالة حكومته، والتي قبلت فوراً.

ط. انهماكه في تعطيل الدستور، وحل البرلمان، والحكم حكما مطلقاً؛ ما اضطره إلى الاعتماد على أحزاب الأقليات، التي لم يمكنها خدمته إلا بتعطيل البرلمان، أولاً مدة شهر؛ ثم بإصدار قرار حل مجلس النواب، فور انتهاء مدة التعطيل.