إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث السادس

مصر من معاهدة 1936 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945

توالت، بين عامَي 1936 و1945، أحداث جسام، داخلياً وعربياً وعالمياً. كان في بدايتها تولي ملك جديد ـ هو الملك فاروق ـ عرش مصر، الذي يُعَدّ الملك أو الحاكم الأسوأ حظاً بين أبناء أسْرة محمد علي، من حيث الصورة التي استقرت له في الوجدان الوطني العام؛ على الرغم من أنه كان واعداً، بكلّ المقاييس. وربما كان من أكثر حكام تلك الأسْرة قبولاً، بل شعبية منذ اعتلى العرش وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد اشتد الجدل في الملك فاروق، بل اختُلِف فيه. وتركزت الكتابات في سلبيات شخصيته. وانهالت عليه معاول الهدم.

أولاً: حكم الملك فاروق (1936 – 1952)

هو: فاروق بن السلطان (الملك) أحمد فؤاد الأول. ولد في 11 فبراير1920. نشط والده لحيازة موافقة بريطانيا على وراثة الابن عرش أبيه. كما اجتهد في وضع نظام تلك الوراثة، الذي صدر في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922؛ ثم من خلال دستور 1923.

وقد حرص الملك أحمد فؤاد الأول على تنشئة ابنه تنشئة قاسية، تؤهله لإحكام السيطرة على الحكم، عند توليه العرش؛ فضلاً عن تنشئة أوروبية صارمة، عزلته عن المجتمع، بل كادت تحرمه عطف والدَيه. ونجم عن ذلك تمرد الطفل،  واستبداله التعامل مع خدم القصر بما يفتقده. كما فُرض على فاروق برنامج رياضي، استتبع برامج غذائية محددة؛ ما حمله على تلصص ما يحبه من الطعام، من طريق الخدم. وهكذا ازدوجت شخصيته، منذ الصغر، إذ ناهزت عزلته 12 عاماً متصلة.

كان أول ظهور لولى العهد الجديد، حينما اصطحبه الملك، في 7 أبريل 1932، لحضور الحفلة الرسمية، الخاصة بالمرشدات، في النادي الأهلي. ثم نُصب كشافاً أعظم، في 27 منه. ولقب بأمير الصعيد، في 12 ديسمبر من العام نفسه؛ استجابة لرغبة الملك في اتباع التقاليد العريقة، المتبعة في البيوت الملكية الأوروبية.

وأجبر اشتداد المرض الملك أحمد فؤاد الأول عام 1934، على استنابة ولي العهد، في الحفلة الرسمية لسلاح الطيران البريطاني، في مصر الجديدة، في 23 فبراير من العام الآنف. كذلك افتتح مؤتمر البريد الدولي، في العام نفسه. وفقاً لنظام السيطرة البريطاني على تنشئة ولي العهد، الذي كان أبواه يرفضان سفره إلى بريطانيا، أو تلقي تعليمه في مدرسة إنجليزية، فقد أصر المندوب السامي البريطاني، بإيعاز من حكومته، على إلحاق الأمير فاروق بأكاديمية وولتش الحربية "Woolwich"، ذات المستوى الراقي؛ وذلك لتصطبغ ثقافته بالصبغة الإنجليزية. وقد رافقه أحمد حسنين، ذو الصلة الوثيقة ببريطانيا. وفي المقابل، استمسك الملك بأن يصحب ولي العهد الفريق عزيز المصري، نائباً للرائد، ومرشداً عسكرياً، وكبيراً للمعلمين، الذين سيتولون مسؤولية تدريس الأمير.

وقد خُططت برامج إنجليزية دقيقة، تيسِّر للأمير اندماجه في الحياة الإنجليزية. وتزين له التفلت من عزلته؛ ما أغراه بالمتع، وخاصة بعد اعتلائه العرش. وعاد فاروق إلى مصر، إثر وفاة والده، في 28 أبريل 1936. وكان وداعه رسمياً، في بريطانيا، في 30 منه. كما أرسل برقية إلى القاهرة، يستنيب فيها الأمير محمد علي في تشييع الجنازة.

1. ظروف توليته

وصل فاروق إلى ميناء الإسكندرية، في 5 مايو 1936. وأصبح السادس منه هو العيد الرسمي لتسنُّمه العرش. وكان تنصيبه هو الأول في قصر رأس التين.

تولَّى فاروق العرش، ولَمّا يبلغ سن الرشد، وهي 18 عاماً. ولذلك، أقر البرلمان مجلس وصاية، برئاسة الأمير محمد علي، وعضوية علي عزت، وشريف صبري، خال الملك فاروق. ذلك، وقد تعددت الآراء في استكمال تعليم الملك الجديد، خلال مدة الوصاية، ولا سيما تلك التي أبداها أحمد حسنين، وأحمد ماهر، والملكة نازلي، والمندوب السامي البريطاني. وارتُئِيَ أن يُعطى جرعات ثقافية، تؤهله للمعرفة، ريثما يستكمل دائرة تكوينه. واستعاد سلطات العرش كاملة، في 29 يوليه 1937، بعد أن استكمل 18 عاماً هلالياً.

2. توجُّهه السياسي

حمل الملك فاروق صغر سنه على الاقتداء بوالده، والإصغاء إلى البطانة الجديدة؛ لتتسم سياسته بالآتي:

أ. السياسة الخارجية

(1) العمل على انتهاء الاحتلال البريطاني لمصر، من خلال عمل دبلوماسي.

(2) دعم العلاقات المصرية ـ الأوروبية دعماً، يجعل مصر قطعة من أوروبا.

ب. السياسة الداخلية

(1) تسخير الحب والتأييد، اللذَين أظهرهما الشعب المصري نحوه، لتطوير الحياة المصرية، من جميع الجوانب.

(2) تنظيم العلاقة بين القصر والأحزاب والمندوب السامي البريطاني تنظيماً، يسهم في استقرار الحكم.

3. صدام فاروق وحزب الوفد

كان لعزم الملك فاروق على الإصلاح، وإقباله على الحياة العصرية، أثرهما في توهجه والإيحاء باستيفائه مقومات القيادة. وساعد على ذلك تعدد زياراته لأقاليم مصر، حيث حظي بمحبة أهلها. بيد أنه صادم، منذ توليه العرش، حزب الوفد، الذي يمثل الأغلبية. وكان اصطدامهما استمراراً للتصادم بين أبيه وذلك الحزب نفسه؛ وبتحريض دائب من أحمد حسنين باشا، وعلي ماهر باشا. وتمخض ذلك باستحكام العداء بين الطرفَين. واشتد تنافسهما في إظهار شعبيتَيهما. واعتمد الملك على الطلبة والعمال. وتقاطرت الوفود إلى القصر. وفي إحدى مظاهرات الولاء، ازدحم العمال في ساحته، فاضطر الملك إلى ارتقاء سطحه؛ ليرد السلام والتحية على الجميع. وفي أثناء تدافعهم، قُتل 24 عاملاً، وأصيب كثيرون.

وصدر أمر ملكي بتشييع المتوفين، ودفع إعانات إلى أُسَرِهم. وزار الملك فاروق المصابين، في المستشفى. وأبلغ القصر رئيس الوزراء، مصطفى النحاس، عدم الاشتراك في الجنازة؛ ليستفحل بذلك خلافهما.

وأمعن الملك في مواجهة الوفد، إذ أصدر مرسوماً، يعفو عن الطلبة، الذين حوكموا تأديبياً. لا، بل أراد تدريب طلبة المدارس تدريباً عسكرياً؛ ليحملوا السلاح. وهو ما رفضته الحكومة، وأيدتها الخارجية البريطانية على ذلك. وشارك الأزهر في الصراع، بتأييده للملك. وتطورت المواجهة إلى ما يشبه الحرب النفسية؛ إذ إن الصحافة المعادية للوفد، سخّرت كتابها لذلك الغرض. ونجحت الدعاية تماماً في إكساب فاروق شعبية زائدة.

أمّا الوفد، فازداد نشاط أتباعه، من أصحاب "القمصان الزرق"، الذين كان يستعين بهم على دعم شعبيته بين الطلبة. وأذكى الصراع بين الملك والحزب تعيين رئيس الديوان الملكي، الوسيط بين الملك والسلطتَين: التشريعية والتنفيذية، إذ أراد النحاس باشا أن يكون ذلك الرئيس وفدياً؛ ولكن فاروق اعترض على ذلك، وعين علي ماهر باشا، الذي تجمعه الأواصر به، منذ الصغر.

4. فاروق ومعاهدة 1936

منذ أواخر عهد الملك أحمد فؤاد الأول، تفاوضت مصر وبريطانيا في معاهدة، تحدد علاقاتهما، وتلغي الاحتلال البريطاني لمصر. وقد تكونت هيئة المفاوضات المصرية من مصطفى النحاس، رئيساً؛ ومحمد محمود وإسماعيل صدقي، وآخرين، أعضاء. وألّف البريطانيون لجنة، برئاسة المندوب السامي البريطاني، السير مايلز لامبسون، وأعضاء: دبلوماسيين وعسكريين.

وتكثفت المفاوضات المصرية ـ البريطانية، منذ الثاني من مارس 1936، في عهد الوزارة الائتلافية، برئاسة علي ماهر باشا، بقصر الزعفران (مقر جامعة عين شمس حالياً). ثم توقفت، إثر وفاة الملك أحمد فؤاد الأول. ثم استؤنفت، مرة أخرى، في أواخر يوليه، بقصر أنطونيادس، في الإسكندرية، في عهد وزارة النحاس باشا، التي تولت الحكم في 10 مايو 1936. وانتهت المفاوضات إلى مشروع معاهدة، وقعت بمقر وزارة الخارجية البريطانية، في لندن، في 26 أغسطس 1936.

أ. وتكونت المعاهدة من 16 مادة، تتلخص في الآتي:

(1) ينتهي احتلال مصر عسكرياً.

(2) تتبادل مصر وبريطانيا التمثيل الدبلوماسي.

(3) تؤيد بريطانيا انضمام مصر إلى عصبة الأمم.

(4) يعقد تحالف بين مصر وبريطانيا، لتوطيد الصداقة، والتفاهم الودي، وحسن العلاقات بينهما.

(5) يتعهد الطرفان بعدم اتخاذ إجراءات، أو إبرام معاهدات مع دول أجنبية، تعارض هذه المعاهدة.

(6) يدعم كلّ طرف الطرف الآخر، في نزاعاته مع دول أجنبية. وتدعم بريطانيا مصر، عند نشوء صراع بينها وبين دول أخرى؛ على أن تقدم مصر التسهيلات الممكنة للقوات البريطانية.

(7) تضع بريطانيا قوات في منطقة قناة السويس، لتأمينها، وإلى حين بناء قدرات مصرية، تتمكن من أداء هذه المهمة.

(8) تتحدد الإعفاءات والمميزات، التي تنالها بريطانيا في مصر، والتي لا تمس بالسيادة المصرية، بموجب ملحق خاص، يرفق بالمعاهدة.

(9) يرجع الجيش المصري إلى السودان. وتعترف بريطانيا بالإدارة المشتركة مع مصر والسودان، وفقاً لاتفاقية 1899؛ مع بقاء سلطات الحاكم العام الإنجليزي في السودان، وعدم التمييز بين الرعايا البريطانيين والرعايا المصريين في ذلك البلد.

(10) يُلغي نظام امتيازات الأجانب في مصر. كما تُعَدّ مصر مسؤولة عن أرواح وأموال الأجانب، المقيمين بها.

(11) تلغي هذه المعاهدة جميع الاتفاقيات السابقة، التي تعارض بنودها. ويكون التفاوض هو الوسيلة للحكم بالخلافات بين مصر وبريطانيا.

ب. مساهممة الملك فاروق في إبرام المعاهدة

لم يكن للملك فاروق فيها إسهام يذكر، إذ بدأت المفاوضات، في عهد أبيه. ووقعت المعاهدة، وهو لَمّا يزل تحت الوصاية.

ج. تقييم معاهدة 1936

(1) تُعَدّ المعاهدة، الآن، إيجابية؛ على الرغم مما يُنْعَى عليها، أنها قايضت سيادة مصر، المنبثقة من عضويتها في عصبة الأمم، بالتحالف العسكري بينها وبين إنجلترا، واعترافها بالحكم الثنائي في السودان.

(2) كما أن المعاهدة انتصار للدبلوماسية المصرية؛ إذ إن وجود بريطانيا العسكري المكثف، سواء في مصر والمنطقة، يجعلها قادرة على رفض أيّ معاهدات أو اتفاقيات، اعتماداً على قواها العسكرية.

(3) أَوْهَمَ الزعماء الوفديون شعب مصر، بأن المعاهدة قد ضمنت له الشرف والاستقلال؛ فاسترخى مطمئناً؛ ولهذا، انحسر المد الوطني المتزايد، الذي كان ذخيرة مصر المعنوية، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولكن الحقيقة دحضت وهمه.

5. سياسة الملك فاروق الداخلية

في أعقاب معاهدة 1936، وبعد تولِّي فاروق سلطاته الدستورية، وبإيعاز من علي ماهر وأحمد حسنين، تفاقمت المواجهة بينه والوفد. وأقال الملك وزارة النحاس باشا. وسعى إلى الهيمنة على الحكم، من خلال وزارات، تخضع له، وتنفذ مشيئته؛ بلغ عددها بين 30 ديسمبر 1937 و4 فبراير 1942، ست وزارات. كما حُل البرلمان ذو الصبغة الوفدية. وزُورت الانتخابات، بناءً على إرادة ملكية؛ لاستبعاد الوفد.

وأسهم كلّ ذلك في أزمات دستورية، حملت أحد رؤساء الوزارات، محمد محمود باشا، على أن يشكو إلى السفير البريطاني تصرفات الملك فاروق.

في عام 1939، ارتأى الملك فاروق، أن يستعين بالقيادات الشابة على تصريف أمور البلاد، أيْ أنه نوى، أن يستبدل الشباب بالسياسيين القدامى؛ لتجديد الحياة السياسية. وأعلن ذلك في خطابه الملكي، في 21 فبراير1939، خلال الاحتفال برأس السنة الهجرية، إذ قال: "إني أؤمن؛ ومر الأيام يؤيد إيماني، أن شباب مصر المتوثبين للمجد، سيكتبون صفحة خالدة في تاريخ الوطن. وفي استطاعتهم أن يصنعوا من هذا الوطن العزيز مصر العزيزة المتحدة، التي هي آمالنا وأحلامنا. وعلى الشباب وحده تحقيق هذا الحلم". وقد ساء خطابه كبار السياسيين القدامى، الذين رأوا أن القصر، وليس الدستور، هو الذي يتحكم في أمور الدولة. أمّا السفير البريطاني، فبعث إلى حكومته، أن الغرور قد اعترى ملك مصر.

لم يتأتَّ للملك فاروق ما ارتآه، إلا أن رؤيته، أثارت عاصفتَين متضادتَين:

الأولى: أبطالها سياسيون قدامى، أحسوا من الملك أنه يستهدفهم، فطفقوا يدافعون عن أوضاعهم ومستقبلهم السياسي. وتمخض ذلك بشبه فتنة سياسية، وتحديات سافرة بين الأحزاب والقصر. وكان حزب الوفد هو محور تلك التحديات؛ ويؤيده بعض السياسيين القدامى.

زِد على ذلك أن السياسيين، اشتكوا إلى السفارة البريطانية تصرفات الملك؛ ما أوحى باختلال نظام الحكم، وزوال الثقة بين القصر والأحزاب. وهو ما أسهم في تكرار استقالة الوزارات، المنبئ بعدم الاستقرار في مصر.

الثانية: مظاهرات الشباب، المؤيدة للملك فاروق. وقِوامها الطلبة والعمال. وقد كانت تلك المظاهرات سبباً رئيسياً لحادث 4 فبراير 1942.

6. المتغيرات: الداخلية والدولية، بعد معاهدة 1936

تحولت علاقة مصر بالسودان، من علاقة احتلال إلى علاقة تحالف. وفضلت القاهرة محالفة لندن؛ تخوفاً من الخطرَين: الفاشي والنازي، في إيطاليا وألمانيا.

وظهرت قوى سياسية جديدة، في مصر، لا تدين بالمبادئ الليبرالية. وتمثلت في جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة مصر الفتاة، اللتَين حالفتا الملك فاروق على حزب الوفد. وكانتا تميلان إلى قوى المحور (ألمانيا وإيطاليا). وقد مارستا نشاطهما السياسي، من خلال ميليشيات مسلحة، سخِّرت لخدمة القصر، ومناهضة الحزب. وكانت ميليشيات الإخوان ترتدي قمصاناً صفراء. وارتدت ميليشيات مصر الفتاة قمصاناً خضراء.

وفي الوقت نفسه، ازداد نفوذ القصر، وسيطرة الملك فاروق. وعُيِّن علي ماهر باشا، ذو الميول المحورية، رئيساً للديوان الملكي. واستشرى نفوذ الخدم الإيطاليين في القصر الملكي؛ ما مكن الملك فاروق من إقالة وزارة مصطفى النحاس، في ديسمبر 1937؛ والعودة إلى حكومات الأقلية؛ منتهكاً بذلك الدستور وأحكامه.

تداولت حكم مصر، بين 30 ديسمبر 1937 و4 فبراير 1942، ست وزارات، منها أربع حكومات أقلية، أتاحت للملك فاروق حكم مصر حكماً ديكتاتورياً.

بعد أحداث فبراير 1942، تولَّى الحكومة المصرية حزب الوفد، الليبرالي، برئاسة مصطفى النحاس باشا، الذي عاون بريطانيا، خلال الحرب، على دفع الخطرَين: الألماني والإيطالي. وما إن كادت الحرب تنتهي، حتى سارعت بريطانيا إلى شغْل المصريين بتنازعهم في الدستور عن مناهضتهم إنجلترا؛ فسمحت للملك فاروق بإقالة حكومة الوفد، وتعيين حكومة من أحزاب الأقلية. وقد أُلِّفت، في 8 أكتوبر 1944، برئاسة أحمد ماهر باشا.

عاد الملك فاروق إلى تأليف الحكومات من أحزاب الأقلية، حتى تكون له الهيمنة عليها؛ وهو ما استمر حتى عام 1950. بيد أن تلك الحكومات، لم تَحْظَ بأيّ تأييد شعبي؛ بل انتشر، إبّان حكمها، الاضطراب وعدم الاستقرار: الأمني والسياسي، والاغتيالات السياسية.

7. تقرُّب فاروق إلى الشعب

طالما دأب الملك فاروق على استمالة الجماهير، بأيّ وسيلة؛ فبادر، مثلاً، إلى:

أ. زيارة المصالح والمصانع زيارة فجائية، يلتقي خلالها العمال.

ب. التردد إلى الأوبرا، وسط الجماهير. والتفقد المستمر للمستشفيات. والافتتاح المتواصل للمعارض والمؤتمرات.

ج. سخاء التبرع للفقراء. وتقديم الهدايا، في الاحتفالات المختلفة.

د. الرحلات المتكررة إلى أرجاء مصر، بما فيها الصعيد والصحراء الغربية، حيث يقدم الهدايا للمواطنين وشيوخ القبائل.

هـ. الاهتمام بالمشروعات القومية، مثل: تعلية خزان أسوان، وافتتاح المشروعات الجديدة.

و. التحدث المستمر، عبر الإذاعة، في الاحتفالات القومية، التي يركز خلالها في مسؤوليته تجاه شعبه المحبوب، ويشرح عبء تبعات المُلك عليه، والتضحيات التي يقدمها لأداء واجبه.

ز. تكرار مطالبته الجماهير بأن تتبرع للفقراء والمحتاجين بنفقات الزينة، احتفالاً بعيد جلوسه الملكي؛ لأن التبرع هو أهم عنده من الاحتفالات.

ح. تواصل تصريحاته بأنه يجب أن لا يتميز عن رعيته"؛ ما يدفع الصحافة إلى التنافس في الإشادة بديموقراطيته.

ط. المفاجأة بحضور جلسة البرلمان؛ للمشاركة في مناقشة تناقص المواد التموينية، إثر اشتعال الحرب العالمية الثانية؛ والتبرع باحتياطي محصولات الخاصة الملكية، لتوزيعه على الفقراء. والإكثار من موائد إفطار الفقراء، في رمضان؛ والإقلال من ألوان الطعام، على الموائد الملكية.

هكذا سطع الملك فاروق، وتزايدت شعبيته. ولكن، انفض من حوله قدامى السياسيين؛ ما دفعه إلى جمع ممثلي مختلف الأحزاب، عدا الوفد، في 27 يونيه 1940، مع بداية تولى وزارة حسن صبري الحكم؛ وقال لهم :"كونوا مصريين، ومصريين قبل كلّ شيء". وقد ذاع هذا الأمر بين المصريين؛ فازدادوا به حباً.

8. علاقة فاروق ببريطانيا

لم يكن فاروق شديد الصلة ببريطانيا؛ ولكنه كان يدرك مدى قدرتها على التأثير في عرشه، وخاصة أن الأمير محمد علي (الوصي السابق على العرش)، كان يستعد للانقضاض على الملْك، حينما تقرر لندن ذلك. واستطراداً، فقد اتسمت علاقات فاروق ببريطانيا بالآتي:

أ. تجنّب الصراعات واحتدام المواقف إلى درجة المواجهة؛ مع استمرار الملك في إعلان تحديه لِمَا يعارض المصلحة الوطنية أو مصلحته الشخصية.

ب. حث بريطانيا على تأكيد التزاماتها بتنفيذ معاهدة 1936، على أساس تبادل المصالح، من خلال تلك المعاهدة.

ج. الإيحاء المستمر لبريطانيا بأن شعبية الملك طاغية، وأن الشعب المصري متمسك بحكمه؛ لتتلاشى أيّ نية بريطانية في خلعه عن العرش.

د. تحييد بريطانيا، من خلال تغيير الحكومات، وتعيين رؤساء وزارات، علاقاتهم بلندن جيدة، كلّما استدعى الموقف ذلك، والعكس صحيح، وخاصة في أعقاب نشوب الحرب العالمية الثانية، وتخوف فاروق أن تتخذ بريطانيا خطوات كتلك التي اتخذتها، إبّان الحرب العالمية الأولى.

9. تأثُّر الملك فاروق

عايشت الملك فاروق، في قصره، شخصيات عدة، كان لها تأثيرها في حياته:

- أحمد حسنين، المشرف على تربيته. تأثر به الملك تأثراً شديداً. وعينه رئيساً لديوانه. فأسهم في توجيه سياسة فاروق الداخلية، وتكاثُر شعبيته، كما أثَّر في علاقته بالإنجليز، وكراهيته لحزب الوفد.

وصاهر أحمد حسنين الملك، إذ تزوج أمه، الملكة نازلي، زواجاً عرفياً، طالما أمَضَّ ابنها.

- علي باشا ماهر، الذي كلفه الملك أحمد فؤاد الأول الإشراف على تربية فاروق؛ فنشَّأه تنشئة، ما انفك الملك فاروق يرعاها؛ حتى إنه عهد إليه في منتصف عام 1940، بتأليف وزارة ائتلافية.

- الملكة نازلي، أمّ الملك فاروق. هي التي نسقت لقاءه صافيناز سعيد ذو الفقار، وأبوها أحد رجال السلك الدبلوماسي؛ وأمها زينب هانم، وصيفة الملكة. وقد تزوجها، في بداية عام 1938. وأنجبا ثلاث أميرات. وقد ساورت الملك خيانتها؛ فطلقها. وتزوج الملكة ناريمان. وأنجبا ولياً للعهد.

- مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد. وهو كريه لدى الملك، بل يمقته. طالما تنافسا، بل تواجها.

ثانياً: الحرب العالمية الثانية وإسهام مصر فيها

لئن أسفرت الحرب العالمية الثانية عن التصارع في أوروبا وجنوبي آسيا وشرقيها، فإن قلب الحرب، كان منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما مصر.

1. أسباب الحرب

أ. استفحال قدرة الأنظمة الفاشية، في أوروبا (ألمانيا – إيطاليا)، وفى آسيا (اليابان).

ب. عزم هتلر على محو هزيمة ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى.

ج. رغبة اليابان في التوسع والسيطرة، في منطقة جنوبي آسيا وشرقيها.

د. إخفاق عصبة الأمم في حل معظم المشاكل الدولية، التي كادت تشتعل حروباً.

هـ. غزو ألمانيا الأراضي البولندية، في الأول من سبتمبر 1939.

2. الدول المتحاربة

أ. الحلفاء: بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي. وانضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية، في 8 ديسمبر 1941.

ب. المحور: ألمانيا وإيطاليا. وانضمت إليهما اليابان، في 7 ديسمبر 1941.

ج. ضم كلّ من المعسكرَين دولاً، حاربت إلى جانبه، أو دعمته أثناء القتال.

3. مسار الحرب

أ. انحصرت الحرب، أولاً، في أوروبا، حيث اجتاحت ألمانيا العديد من الدول. ودخلت إلى باريس، في 14 يونيه 1940. واستهدفت لندن بغارات جوية قاسية. وشرعت، في 22 يونيه 1941، تغزو روسيا. ثم امتدت إلى آسيا، حيث احتلت اليابان أجزاء من الصين. وغزت الفيليبين، وهونج كونج، وشبه جزيرة الملايو، وسنغافورة، وبورما، وإندونيسيا. ودمر سلاحها الجوي الأسطول الأمريكي، في بيرل هاربر، في المحيط الهادي، في 7 ديسمبر 1941.

ب. الحرب في منطقة الشرق الأوسط

انضمت إيطاليا، في 10 يونيه 1940، إلى المحور. وبدأت عملياتها، في أوائل سبتمبر من العام نفسه، من مستعمراتها في ليبيا، ضد الصحراء الغربية، المصرية، حيث القوات البريطانية. وفات إيطاليا مدى تأثر مصالحها في المنطقة، إن لم تستطع أن تهزم تلك القوات. فنحو 86% من صادراتها، تمر بقناة السويس أو مضيق جبل طارق، اللذَين تسيطر عليهما بريطانيا، كما أن ثلاثة أرباع المستعمرات الإيطالية (الحبشة ـ الصومال ـ إريتريا)، يقتضي الوصول إليها عبور قناة السويس.

أمّا الهدف الرئيسي للتحالف الألماني ـ الإيطالي، فكان القضاء على الوجود البريطاني في مصر، والسيطرة على قناة السويس؛ تمهيداً لانحسار القدرات البريطانية.

ج. حرب الجبهة المصرية

عبرت القوات الإيطالية، بقيادة الجنرال جرازياني، الحدود الغربية لمصر، في 13 سبتمبر 1940. ونجحت، في 18 منه، في السيطرة على منطقة سيدي براني. وآثر جرازياني التوقف، من دون تأمين ملائم للقوات. فانتهز الموقف الجنرال الإنجليزي، ويفل "Weafel"، الذي عَجِل إلى هجوم خاطف، في نهاية العام، مكنه من تدمير وأسر القوات الإيطالية، التي ناهزت 80 ألف مقاتل.

قرر هتلر، إثر الهزيمة الإيطالية، أن يخوض حرب شمالي إفريقيا، إلى جانب القوات الإيطالية؛ للقضاء على القوات البريطانية، والسيطرة على قناة السويس. وأرسل، في 3 فبراير 1941، جيش البانزر، بقيادة الجنرال رومل "Romel"، ليعيد توازن المواقف، في الشمال الإفريقي، بِطَرْد الجيش الثامن البريطاني من الأراضي الليبية، وإجباره على التراجع إلى العلمَين.

ثم كان التحدي الأكبر في معركة العلمَين (25 أكتوبر ـ 4 نوفمبر 1942)، حيث اضطر رومل إلى التزام الدفاع، دون عقيدته القتالية الهجومية. وأجبره على ذلك قصور الإمدادات الإدارية، وخاصة الوقود؛ وهو ما نجم عن فتح الجبهة الروسية، وتوجه كلّ الإمدادات الألمانية إليها.

وقد نجح الجنرال مونتجمري "Montgomery"، قائد القوات البريطانية، في هزيمة القوات الألمانية هزيمة مريرة، أرغمتها على الارتداد، عبر الشمال الإفريقي، حتى تونس. وبذلك، انتهى الوجود الألماني ـ الإيطالي في الشمال الإفريقي ومصر، منذ 13 مايو 1943.

4. نهاية الحرب العالمية الثانية

كانت عمليات شمالي إفريقيا، التي دارت نهايتها على أرض مصر، هي بداية النهاية لهزيمة ألمانيا. فقد تمكن الجيش الروسي، في الثاني من فبراير 1943، من الانتصار انتصاراً مبيناً على الألمان، في معركة ستالينجراد Stalingrad، في 2 فبراير 1943. ثم كان الزحف إلى إيطاليا انطلاقاً، من الشمال الإفريقي، واحتلالها، في 8 سبتمبر 1943. ثم معارك نورماندي Normandy، التي بدأت في 6 يونيه 1944؛ وتحرير باريس، في 22 أغسطس من العام نفسه. ثم الهجوم على ألمانيا نفسها، واستسلامها في 7 مايو 1945. بعدها، توجهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى اليابان، حيث ألقت، في 6 أغسطس 1945، قنبلة ذرية على هيروشيما، وأخرى على ناجازاكي، في 9 منه؛ لتستسلم اليابان. وتنتهي الحرب العالمية الثانية.

5. الإسهام المصري في الحرب العالمية الثانية

التزمت مصر الحياد، في المراحل الأولى من الحرب. بيد أن الشعور الوطني المصري، كان معادياً للاحتلال البريطاني. ولم يتجاوز عديد الجيش المصري، آنئذٍ، 25 ألف مقاتل، وألف ضابط، و80 طياراً؛ إلا أنه شارك في العديد من المهام، التي خففت عن القوات البريطانية الكثير من الأعباء؛ لا، بل إن تلك القوات، قد تعجز عن إنجازها. ومن تلك المهام:

أ. اضطلعت البحرية المصرية، وقوات الأمن، بمنع السفن: الإيطالية والألمانية، من عبور قناة السويس، بعد إعلان دولتَيها الحرب؛ فطالت المواصلات بينهما وبين دول الاهتمام، جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي.

ب. شكلت مصر حلقة الاتصال الرئيسية بين دوائر الاهتمام، في الحرب العالمية الثانية. فقد انتقلت إليها قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط. وعقد فيها مؤتمر الحلفاء (في ميناهاوس، عام 1943). وأصبحت هي منطقة الحشد والتدريب الرئيسية للقوات البريطانية.

ج. تولَّى سلاح الحدود، بالتعاون مع سلاح الفرسان، مراقبة سواحل مصر وحدودها الغربية؛ فاضطلع بعمل جهاز استطلاع ومعلومات، لتبليغ أيّ تحركات ألمانية ـ إيطالية؛ بل مواجهتها، إذا لزم الأمر.

د. دافعت وحدات المدفعية المصرية عن الموانئ الرئيسية، التي تستخدمها قوات التحالف، بل جُعلت مدفعية ساحلية، في الإسكندرية، وبورسعيد، والسويس، ومرسى مطروح.

هـ. انتشرت وحدات المشاة في المناطق الرئيسية، حيث تتصدى للمظليين الألمان.

و. واجهت مدفعية الدفاع الجوي 186 غارة جوية ألمانية، قِوام كلّ منها عشرات الطائرات (منها  77 غارة على الإسكندرية).

ز. استنفدت القوات البريطانية كلّ المخزون المصري، من الأسلحة والذخيرة؛ للتعويض المباشر عن خسائرها.

ح. أنشأ سلاح المهندسين المصري العديد من المواقع الدفاعية؛ إضافة إلى تمديده وصيانته لخطوط المياه والوقود، والسكك الحديدية في الصحراء الغربية.

ط. رعى سلاح خدمة الجيش تموين القوات البريطانية، ونقله إلى ميادين القتال. كما تعهَّد استلام آلاف الأسرى: الإيطاليين والألمانيين، ونقْلهم إلى معسكرات خاصة، في القاهرة والإسكندرية.

ي. تعاون السلاح الجوي الملكي المصري وسلاح الجو البريطاني على الدفاع عن قناة السويس والقاهرة والإسكندرية، وتكثيف مراقبة السواحل المصرية، وحماية الأرتال: العسكرية والإدارية.

وقد أقرَّ القادة البريطانيون بقدرة العسكرية المصرية على إنجاز تلك المهام. وتمثلت أهم الاعترافات في الآتي:

(1) تصريحات السير أنتوني إيدن، وزير الخارجية البريطاني، في السفارة البريطانية، بالقاهرة، في 17 فبراير 1940، حين قال :"أودّ أن أقول لبني وطني، إن مصر إذا عاهدت صدقت. وإذا حالفت وفت. ولذلك، فإن لمصر استقلالاً، يجب أن يصان؛ وكرامة، يجب أن تحفظ".

(2) كتاب الجنرال ويفل، قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط، في 18 يناير 1941، إلى رئيس الحكومة المصرية: "في الوقت الذي انتهت فيه، بنجاح، مرحلة مهمة من مراحل أعمالنا، في شمالي إفريقيا، أودّ أن أعبِّر لكم عن شكري على المعاونة، التي تلقيتها من السلطات العسكرية المصرية، في أثناء حملتنا على ليبيا؛ ما سهّل على قواتي مهمة تأمين الدفاع عن مصر".

(3) قول السير ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، في مؤتمر صحفي، في الأول من فبراير 1943، أثناء اجتماعات الحلفاء في ميناهاوس: "إن مصر، وإن كانت لا تزال بلداً محايداً، إلا أنه ليس من الحق مطلقاً القول بأنها لم تقم بدور مهم، مشرف، له قيمته، ليس في دفاعها عن نفسها فقط، بل في الصراع العالمي، الذي يبدو، الآن، أنه يتقدم تقدماً كبيراً نحو منتهاه".

(4) ما ورد في تقرير تشرشل، المرفوع إلى البرلمان البريطاني، آخر عام 1945: "لقد اضطلع الجيش المصري بإسهام مهم، أثناء الحرب. فهو الذي حافظ على الأمن في الدلتا. وهو الذي أنجز إنشاء وحراسة المواقع الحصينة. وهو الذي ساعد، بكلّ الوسائل، على المجهود الحربي. وهو الذي تصدى للهجمات الجوية على الدلتا والساحل".

6. انعكاسات الحرب على المنطقة والعالم

شكلت الحرب العالمية الثانية إطاراً جديداً لعالم، تميز بِسِمات، أهمها:

أ. زوال قوى رئيسية، مثل: ألمانيا واليابان. وتراجُع بريطانيا وفرنسا إلى دولتَين متوسطتَي القوى. وظهور الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، قوتَين عالميتَين جديدتَين.

ب. اعتماد الأحلاف، المتمثل في نشوء حلف شمال الأطلسي، في 19 مارس 1949؛ ثم حلف وارسو، في 14 مايو 1955.

ج. استبدال منظمة الأمم المتحدة بعصبة الأمم، في 24 أكتوبر 1945، في مؤتمر سان فرانسيسكو، الذي شاركت فيه 51 دولة، من بينها مصر؛ وذلك من أجل تحقيق السلام والأمن العالميَّين.

د. إنشاء جامعة الدول العربية، في 23 مارس 1945. وضمت سبع دول مستقلة: مصر، وسورية، ولبنان، والأردن، والسعودية، واليمن، والعراق. ونص ميثاقها على أنها منظمة دولية، إقليمية، هدفها توثيق العلاقات بين الدول الأعضاء، وتنسيق خططها السياسية، وصيانة استقلالها وسيادتها.

هـ. تمخُّض العالم العربي. وكان أول إرهاصاته هو الانقلاب المصري، في 23 يوليه 1952، الذي كانت له انعكاسات قوية؛ بل عُدَّت هذه الحركة الانقلابية هي "أم الثورات". وأعقبتها ثورة المغرب، عام 1953؛ وثورة الجزائر، عام 1954؛ وانتفاضة لبنان، في فبراير 1958؛ وانقلاب العراق، في 14 يوليه 1958.

و. هيمنة الحرب الباردة على العالم، بعد الحرب العالمية الثانية.

7. حادث 4 فبراير

أثارت انتصارات القائد الألماني، رومل، على الإنجليز، في الصحراء الغربية، عواطف المصريين. فعجّت بمظاهراتهم، في الأول من فبراير 1942، الجامعة والأزهر؛ معربة عن رفضها لحكومة حسين سري، الذي استجاب للإنجليز مطالبتهم بتعليق العلاقات بحكومة فيشي. كما جَهَرَ المتظاهرون بميلهم إلى الألمان، وإعجابهم بثعلب الصحراء، إذ رددوا: "نحن جنودك، يا رومل. إلى الأمام، يا رومل. فاروق فوق رأسك، يا جورج. يسقط الإنجليز".

وتباينت الآراء في تلك المظاهرات. فقيل إنها رغبة بريطانية، غايتها هي إسقاط الوزارة المصرية. لا، بل قيل إنها مشيئة الوفد، للغرض نفسه. أمّا رئيس الوزراء، حسين سري، فقد عزاها، في مجلس الوزراء، إلى كَيْد علي ماهر والشيخ المراغي. وأعلن أن اجتماعات، عقدت في عوامة الشيخ الآنف، لهذا الغرض (بمعنى أن القصر هو المدبر الرئيسي لهذه المظاهرات).

وانتهى الأمر إلى استقالة رئيس الوزراء، حسين سري، في الثاني من فبراير 1942.

أ. بوادر الحادث

(1) عزم الملك فاروق: لم يَحُلِ التردي المستمر، والتبرم البريطاني بالتعنت فيه، دون تصميم الملك على تحدِّيه رئيس وزراء جديداً، من غير الوفد، الحزب المنكَر. وقد اعتمد على عدة تقديرات، أوحاها إليه معاونوه المقربون؛ وهي:

الأول: قد ينجح في إبعاد الوفد عن الحكم، إن تعاون القصر وباقي الأحزاب.

الثاني: لو فشل فاروق، وفرض الوفد نفسه، لانعكس ذلك على شعبية الحزب خاصة، والمصريين عامة؛ فلا بدّ للملك من توسيع الدائرة الملكية، لينضم إليها أولئك الذين ساءهم تصرف زعيم الوفد.

الثالث: يظهر الملك أمام المحور، بمظهر الحاكم المناوئ للوجود البريطاني؛ وهو ما يوافق ميوله.

(2) تكهن حزب الوفد: لا شك أن الحزب، بخبرة زعمائه، كان يتوقع الأحداث المقبلة، ولا سيما تدخُّل السفارة البريطانية، بعنف؛ حفاظاً على موقف بريطانيا ووضعها في مصر؛ إضافة إلى قمع مؤيدي المحور؛ لأنهم يضرون بوجودها فيها.

واللافت أن زعماء الوفد، حرصوا على التظاهر بأنهم غير راغبين في تأليف حكومة، في مثل هذه الظروف.

(3) بادرة السفارة البريطانية: كانت تستشعر خطر التأييد الشعبي لقوات المحور. ورأت أن الحكومة والقصر، ليسا قادرَين على تأمين الأوضاع البريطانية في مصر؛ ولذلك، باغتت القصر بفرض رأيها عليه.

وتسارعت المشاورات، في 3 فبراير، بين السفارة البريطانية والقصر، في تعيين النحاس باشا رئيساً لحكومة وفدية، يمكنها احتواء الجماهير المصرية، وكبْح تأييدها المحور؛ وتحقيق أمن البلاد بعامة وأمن الأوضاع البريطانية بخاصة.

وما إن تأخر الملك فاروق في تلك المشاورات؛ لرغبته في حكومة ائتلافية، حتى أحاطت الدبابات البريطانية بقصر عابدين، صباح 4 فبراير 1942، موجهة إليه مدافعها. وسلم السفير البريطاني إنذاراً إلى الملك، تضمن خيارَين:

- تكليف النحاس باشا تأليف الوزارة.

- التخلي عن العرش.

استبعد الملك فاروق التخلي عن العرش؛ لأنه يحبط طموحاته الشابة (22 عاماً)؛ إضافة إلى ما يقتضيه، من تضحيات غالية، لا يمكنه بذلها. ولذلك، فقد وافق على الخيار الأول.

ب. المواقف من حادث 4 فبراير

(1) أعلن أحمد ماهر باشا، لصيق القصر، "أن الوفد جاء إلى الحكم على أسنه الرماح البريطانية".

(2) تمثل موقف النحاس باشا، الذي قبل تأليف الحكومة، في عدة نقاط، أهمها:

(أ) خطر الوضع، يملي على الوفد التضحية، من خلال تسلم دفة الحكم، في أوقات عصيبة، من أجل مصر.

(ب) موقف الوفد من بريطانيا معروف. ولا تحالفات أو مؤامرات بينهما على حساب مصر.

(ج) الوفد ذو الشعبية الجارفة هو القادر، دون غيره، على تسيير الأمور، في مثل هذه المواقف الصعبة. وسوف يثبت ذلك للجماهير.

(3) رأي الملك أنه لم يكن هو وحده هدف هذا الحادث؛ وإنما مصر والشعب المصري هما هدفه الحق؛ وأن الصفعة، طاولت شعب مصر كلّه.

ونعى القصر على الوفد قبوله هذه الإهانة، بصدر رحب، من أجل الوصول إلى الحكم. وقد تدارك الملك هذا الوضع بالعديد من الخطوات، أهمها:

(أ) تأكيد شعبيته. والسعي إلى تمتين التلاحم بينه وبين شعبه، ولا سيما الطلبة والعمال. ولذلك ازداد نشاط الملك في الزيارات واللقاءات وافتتاح المشروعات: كبيرها وصغيرها، والاهتمام بالرياضة والرياضيين، وكثرة التبرعات، وتفقُّد الإسكندرية، بعد الغارات الألمانية عليها، والوقوف على أحوال المصابين في المستشفيات، وتقديم التبرعات لهم.

(ب) عدم الاعتراض على المطالب البريطانية، التي سببت حادث 4 فبراير؛ واستطراداً، فإن الملك لم يعترض على قرارات الوفد في هذا المجال.

(ج) تقييد حرية الوفد في تسيير الأمور؛ للحؤول دون طغيان شعبيته؛ وذلك بعرقلة مساره عليه، من خلال:

·   اختلاق ما يُزْري بقرارات الوفد، ولو أسفر عنه إقالة الوزارة أو إجبارها على الاستقالة. (وقد أقلق ذلك السفير البريطاني؛ فطلب إلى وزير خارجيته تحصين الوزارة المصرية مما يستهدفها).

·   محاولة اختراق الوفد، من الداخل. وكانت أزمة الكتاب الأسود[1]، الذي أصدره مكرم عبيد، هي وسيلة القصر إلى حملة دعائية قاسية على الوفد، استندت إلى تذكير الجماهير بسبيل الوفد إلى الحكم. وقد نجم عن ذلك شبه مقاطعة، بين الملك ورئيس الوزراء.

·   تسخير العديد من الجرائد والمجلات لمناوأة حكومة الوفد. وقد أثرت في الروح المعنوية للحزب، بل حملته على:

- النحاس باشا يؤامر السفير البريطاني في إسقاط فاروق عن عرشه؛ وإعلان الجمهورية، التي يكون زعيم الوفد رئيسها. (وربما كان إسقاط الملك يدور في ذاكرة الحكومة البريطانية، ولكنها كانت تفكر في بديله، وليس الحكم الجمهوري).

- حذر الحكومة الشديد، في اتخاذ قراراتها، حتى لا تعطي الملك أيّ ذريعة لإقالتها.

- اتخاذ إجراءات، ترضي الإنجليز؛ وربما لا توافق رغبة ملك مصر، مثل اعتراف الحكومة المصرية بالاتحاد السوفيتي، في 26 أغسطس 1943؛ وهو ما كَبُر مَقْتاً عند فاروق، لبغضه الشيوعية.

- حرص الوفد، بعد انتصار الحلفاء في معركة العلمَين، في نهاية أكتوبر 1942، والذي عُدّ انتصاراً له، على الموازنة بين شعور الجماهير وحقيقة الاحتلال وتحكم السفارة الإنجليزية في أمور مصر.

ولم يقتصر تنافس الملك والوفد على السياسيين، بل طاول السيدات الأُوَل. فتبارت، في الميدان الاجتماعي، الملكة فريدة والسيدة زينب الوكيل، زوجة النحاس باشا. كذلك أنعم الملك على السيدة هدى شعراوي المناوئة للإنجليز والوفد، بوسام الكمال؛ فاستنكر النحاس باشا تكريم سيدة من الطابور الخامس. كذلك استدام الملك اتصالاته بالسيدة صفية زغلول، زوجة الزعيم سعد زغلول. وقد كان وراء هذه الحملة، تخطيطاً وتنفيذاً، أحمد حسنين باشا؛ لذلك، نال قلادة فؤاد الأول، ليصبح "صاحب المقام الرفيع".

8. حادث القصاصين

في 15 نوفمبر 1943، وأثناء سفر الملك فاروق من القاهرة، في السيارة المرسيدس، التي أهداها له هتلر، إلى الإسماعيلية؛ ليتفقد يخته الجديد، الراسي في مينائها، صدمته إحدى شاحنات الجيش البريطاني. ونقل إلى المستشفى البريطاني، في القصاصين، حيث أُسعف. ولم تكن حالته تستدعى البقاء في المستشفى، إلا أنه بقي فيه، ليستنفر عواطف الشعب، الذي تقاطرت مظاهراته إلى قصر عابدين ومستشفى القصاصين، معلنة ولاءها للملك وتمنياتها شفاءه.

وأمعن الملك في حرصه على التأييد الشعبي، إذ غادر المستشفى إلى قصر القبة، حيث أقلته سيارة مكشوفة إلى قصر عابدين، أحيطت بهتافات الجماهير. كذلك نظمت الاحتفالات، التي شارك فيها الجيش. كما كثرت التبرعات وولائم إطعام الفقراء، وتعددت المهرجانات. وما لبث الملك أن ردّ التحية للمصريين، في كلمة إذاعية، اختار عباراتها بدقة، قال فيها: "وأنتم، يا أبناء شعبي، لكم، بعد الله، حمدي وحبي. إن الحادث، الذي وقع، علمني أن تعلقي بكم، لا يعادله إلا تعلقكم بي". بيد أن هذا الحادث، زاد من حدة الشقاق بين الملك والوفد.

9. الملاريا في يوم الزينة

تفشت الملاريا، في بداية عام 1944، صعيد مصر. وفشلت الحكومة في السيطرة على الوباء. فعمد الملك إلى الظهور بمظهر المخلِّص للمصريين من أزماتهم. واختار يوم ميلاده (11 فبراير)، ليفاجئ الوجه القبلي بزيارة، روجتها الصحافة: الموالية للقصر والمعتدلة. وأظهرت أن الملك هو الغيور على شعبه. وتتبعت خطواته في توزيع المعونات، وزيارة المرضى. ونوهت بمقولته الشهيرة: "لا أستطيع أن أحتفل بعيد ميلادي، وشعبي في الجنوب، يعاني ويتألم. وإن وجودي وسطكم خير عندي من أيّ احتفال".

10. الطموح إلى الزعامة الإسلامية

أراد الملك فاروق، أو أُريد له ألاّ يقتصر سطوعه على مصر؛ وإنما يطاول العالمَين: الإسلامي والعربي، اللذَين افتقدا، آنئذٍ، أيّ زعامة مؤثرة. ومُهد لذلك بعوامل شتى، أهمها:

أ. مبادرته، توليه العرش، وعملاً بنصائح على ماهر باشا، إلى رعاية الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة، المؤثرَين في الساحة؛ تمهيداً لتولِّي الخلافة الإسلامية. وكان أولهما يفوق الثاني إعداداً وتنظيماً وسلوكاً وقوة. وقد أسهم العداء للوفد في دعم الاتصالات بين الإخوان والملك. وتبارت أقلام الإخوان في عزو حب الجماهير الجارف للملك إلى غيرته على الدين؛ حتى إنه أصبح القدوة والمثل للشباب؛ فضلاً عن "أن ما يتمتع به، ينبئ بأن يظلل التاج المصري، يوماً، الأمم: العربية والأعجمية، ويستعيد به الإسلام مجده".

وشارك مرشد الأخوان العام، حسن البنا، في الإشادة بالملك المسلم، حامي المصحف، والمتنكر للمعتقدات البالية، والمتسلح بالقرآن الكريم. وبمسلكه القويم، "يضمن ولاء أربعمائة مليون مسلم، في آفاق الأرض، تشرئب أعناقهم، وتهفو أرواحهم إلى الملك، الذي يبايعهم على أن يكون حامي المصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه، جنوداً للمصحف".

لم يؤلِّف بين الملك والإخوان استنكارهما لبعض المظاهر الدينية في مصر، وإنما وفَّق بينهما تدخُّل علي ماهر، وإزالته لخلافتهما، وحرصه على ولاء الإخوان للقصر؛ وهو ما عبَّر عنه حسن البنا، في أعقاب حادث القصاصين.

أمّا حزب مصر الفتاة، فركز في التعايش بين الإسلام والملكية، وأن الدين والولاء للعرش ضروريان للحياة الصالحة في مصر.

ب. اهتمام القصر بالأزهر؛ لتأثيره في المستويَين: الداخلي والخارجي. وكان الشيخ المراغي، بشخصيته القوية والقيادية؛ يرى أنه حان الوقت، مع هذا العهد الجديد، أن تكون لمصر الزعامة الإسلامية.

ج. الفريق المخطط لزعامة فاروق الإسلامية، أتقن تلفيعه بمسوح، زادته جلالة: دينية ودنيوية. فطالما شارك في الاحتفالات الدينية، واستقبل وفود العلماء الدينيين. لا، بل إنه لم يتردد في الذهاب إلى المساجد، متخفياً، ليظهر في وسط المصلين، كإنسان عادى؛ ما يعلي من شأنه، عندما يكتشفونه. زِد على ذلك، أن كلماته الإذاعية، امتلأت بعبارات التقوى والفضيلة. وقد نجحت هذه الخطة في التنويه بالملك فاروق، في أوساط مسلمي العالم.

د. منح الملك فاروق المالية، في سبيل الله، طاولت الخارج واختص بها بناء المساجد وترميمها؛ حتى إنه أصبح محط أنظار العالم الإسلامي. لا، بل إن جرائد الغرب تناولت هذه القضية. ونبهت على أن ملك مصر، يمتاز بما يؤهله ليكون زعيماً للمسلمين.

هـ. إمامة الملك المصلين، بمن فيهم الأميران السعوديان: فيصل وخالد؛ وسيف الإسلام، اليمني؛ والضيوف، وكبار رجال الدولة، في مسجد قيصون، في 20 يناير 1939. وبعد الصلاة، ارتفعت الأدعية بطول حياة الملك، "إمام المسلمين".

و. توقُّف التمهيد للزعامة الدينية، استجابة لرغبة السفارة البريطانية، التي تذرعت بالحرب العالمية الثانية. ولكنه استؤنف، في أعقاب حادث 4 فبراير 1942، الذي أسخط الملك على بريطانيا والوفد معاً. فعاد نعت فاروق بالملك المؤمن، وخليفة المسلمين وحامي الإسلام. وتكثفت اتصالاته بالأزهر. وتكاثرت ولائمه للمساكين. وتزايدت زياراته للمساجد. وكلّ ذلك أعلاه، مصرياً وعربياً وإسلامياً.

11. نشوء جامعة الدول العربية

ما إن اعتمدت بريطانيا مشروع وحدة عربية، وتحدث وزير خارجيتها، أنتوني إيدن، في مجلس العموم البريطاني، في 24 فبراير 1943، بهذا الخصوص، حتى اقتنص فاروق الفرصة، ليعد عدته لذلك؛ على الرغم من معارضة زعيم الوفد، الذي نجح في أن تتولى الحكومات المحادثات، فقد عمد الملك إلى إرسال الوفود، والاعتراف بحكومة لبنان، والجود على الطلبة العرب، والتوسع في لقاءات الساسة العرب، والاستكثار من تصريحات، تهتم بالأمة العربية.

وما لبث الملك، إثر اجتماع اللجنة التحضيرية، التي تشرف عليها الحكومة، أن دعا الوفود العربية إلى مأدبة غداء، في 30 سبتمبر 1944. ولم يدعُ إليها رئيس وزرائه.

وقد وُقِّع بروتوكول الإسكندرية، الخاص بإنشاء الجامعة، في 7 أكتوبر 1944. وكانت هذه الخطوة هي آخر خطى حكومة الوفد، التي استمرت منذ حادث 4 فبراير 1942، إذ أقالها الملك، قبل ساعتَين فقط من تقديمها استقالتها؛ إذ إن كلّ الظروف، كانت مواتية لهذه الإقالة أو الاستقالة، بموافقة الإنجليز أنفسهم.

12. الملك فاروق والجيش المصري

أَتَّت معاهدة 1936 تطوير الجيش المصري. وتمثلت تباشيره في سماح الحكومة الوفدية لأبناء الطبقة الوسطى بالانتساب إليه؛ فلا يقتصر ضباطه على أبناء الطبقة العليا. وذلك من أجل التوسع في بنائه وزيادة قوّته، بعد تدهور أوضاعه، قبل توقيع المعاهدة، حين كانت بريطانيا هي المسؤولة عن الدفاع عن مصر.

نصت المعاهدة على إخلاء الموظفين البريطانيين من الجيش المصري، وأن تستعين مصر بمشورة بعثة بريطانية وخبرتها على بناء جيش مصري حديث؛ إضافة إلى إيفاد مصريين، لتلقي العلوم العسكرية في بريطانيا. وقد اختصت المعاهدة الجيش المصري بالعديد من الميزات، أهمها: التحرر من السيطرة البريطانية، والتوسع في بنائه برؤية مصرية، وعودته إلى السودان. كما تألَّف مجلس الجيش، ولجنة الضباط. وأمكن التوسع في التعليم العسكري. وأنشئت كلية أركان الحرب، عام 1940.

لقد شُغل الجيش المصري، منذ عام 1939، بالحرب العالمية الثانية. فسُخِّر لمصلحة القوات البريطانية في مصر. وعانى تخفيض الرواتب، الذي فرضته الأزمة الاقتصادية، التي صاحبت الحرب. وكابد المهام في الصحراء الغربية، و تأمين الأهداف الحيوية والطرق.

13. تنازع الملك والوفد ولاء الجيش

طالما حرص فاروق، ولَمّا يزل ولياً للعهد، على العناية بالجيش المصري. فكان ينتقل بين وحداته، ويحضر الاستعراضات العسكرية، ويوزع الجوائز على الفائقين. وأمعن في رعاية الجيش، بعد أن صار قائده الأعلى، إثر توليه الملك؛ عسى أن يكون الحامي الرئيسي لعرشه.

أمّا الوزارة الوفدية، فلم تَتَوَانَ في إضعاف ما بين الملك والجيش؛ للحيلولة دون التأثير في قراراتها. غير أن الملك، طفق يعمق علاقته بالجيش. وجعل الضباط ضيوف مائدته الدائمين. واستطراداً، فقد اطمأن بولاء الجيش.

وفي بداية عام 1938، وبعد إقالة الوزارة الوفدية، احتُفل، أول مرة، بعيد ولاء الجيش لقائده الأعلى، إذ أقسم الضباط على أن يهبوا حياتهم دفاعاً عن الوطن والملك. وافتتح فاروق نادي الضباط، بالزمالك. وجاد بإنعامات ملكية وترقيات على بعض ضباط الجيش والشرطة.

وتدخَّل فاروق في شؤون الجيش، وتمادى في السيطرة عليه، لأنه سبيله إلى الانتصار في معاركه السياسية. فازداد تردد الملك إلى وحدات الجيش، وحضور المناورات التدريبية، وتفقد الخطوط الدفاعية في الصحراء الغربية. وطلب من الحكومة العناية بالجيش، وتوفير الميزانيات الخاصة بإعداده وتسليحه. وقلّما فوت القول: "إذا أصبحت مصر في خطر، فإنه سيقود جيشه بنفسه إلى النصر"؛ متشبهاً بجدَّيه: محمد علي وإبراهيم، غير مدرك أنه غير مؤهل لذلك.

وأوغل الملك في التودد إلى الجيش. وجعل ضباطه الأقوياء حرساً خاصاً له، وضاعف مرتباتهم. وكثيراً ما زار الوحدات العسكرية وكلية أركان الحرب، سواء بصفة رسمية أو فجائية، حيث ناقش الضباط في أمور الجيش. وهو ما أثار حفيظة السلطات البريطانية، ولا سيما تعيينه صالح حرب وزيراً للحربية؛ وعزيز المصري رئيساً للأركان، وإنعامه عليه برتبة فريق. كما أنشأ جيشاً مرابطاً، تحت قيادة عبدالرحمن عزام، وزير الأوقاف.

وكلّ ذلك، أثار غضب لندن، بل كان أحد أسباب حادث 4 فبراير، إذ ضغطت بريطانيا، أولاً، لإقالة عزيز المصري، المؤيد للمحور؛ ثم إطاحة حكومة علي ماهر، المقرب جداً من فاروق؛ وفرض وزارة الوفد، المناوئة للملك؛ للحد من سلطاته في الجيش.

14. أثر حادث 4 فبراير في الجيش

أثر حادث 4 فبراير تأثيراً عميقاً في المشاعر الوطنية العسكرية؛ إذ إن الجيش، وهو المؤسسة، التي تحمي الملك، وتحافظ على عرشه، عجز عن الاضطلاع بتلك المهام. وقد تعددت صور امتعاضه، ومنها:

أ. قدّم محمد نجيب استقالته. وعلّلها بأنه أصبح يخجل من ارتداء زيه العسكري. ولكن الملك رفضها. وقد أثر هذا الموقف في الضباط الشبان تأثيراً طيباً.

ب. توجه عدد من الضباط، بعد اجتماعهم في نادي ضباط الزمالك، ومنهم عبداللطيف البغدادي، وصلاح سالم، وعبدالحميد الدغيدي، إلى قصر عابدين؛ للتعبير عن استعدادهم للثأر من المسؤولين (يقصدون النحاس باشا).

ج. أضمر كثير من الضباط رفضهم استسلام الملك للإنذار. ورأوا أنه كان عليه أن يقاوم.

د. استقبل الملك، بعد أسبوعَين على حادث 4 فبراير، شقيقته، الأميرة فوزية؛ وزوجها، شاه إيران. وفي المطار، تجاهل فاروق السفير البريطاني تجاهلاً تاماً، سرعان ما استثاره. فتدارك الضباط الأمر، إذ عجلوا إلى الإحاطة بالقصر، احتياطاً لإنذار جديد.

هـ. أصبح يوم 4 فبراير من كلّ عام، موعداً لالتقاء الملك والضباط، الذين يمثلون الجيش، بوحداته ورتبه المختلفة.

و. أسفر عن اصطراع الوفد والملك، وتطور الحرب العالمية الثانية، والموقف البريطاني، في 4 فبراير 1942، البدء بتكوين جماعات الضباط الأحرار، وهي نفسها التي نفذت انقلاب 23 يوليه 1952.

ز. نجم عن حادثة القصاصين تعرُّف الطبيب الشاب، يوسف رشاد إلى الملك، إذ كان ضمن البعثة الطبية، التي سافرت من القاهرة إلى القصاصين. وقد أعجب به فاروق. وعيّنه طبيبه الخاص. وأصبحت زوجته، ناهد شوقي (ناهد رشاد فيما بعد) من المقربين إلى الملك. وقد استُغل الزوجان، في بداية تكوين حرس حديدي، له هدفان:

- مشاركة الحرس الملكي في حماية الملك.

- الانتقام من أعداء الملك.

وهكذا وُلد الحرس الحديدي. ومهمته الأولى هي قَتْل كلّ من أراد الملك موته. وقد احتضن هذا التنظيم ضباطاً من الجيش، وبخاصة الشباب المتحمس، والجريء، مثل: مصطفى كمال صدقي، وأنور السادات، وكمال الدين رفعت.

لقد أمكن الملك الاضطلاع  بقيادة الجيش. وقد نجح في استغلال كثير من الفرص، وتحقيق الخطط المرسومة. ولكن ذلك لم يَحُلْ دون بعض صعوبات، إلا أنه كان قادراً على التغلب عليها، بما اكتسبه من شعبية في أوساط الجيش.

وبنهاية الحرب العالمية الثانية، انتهت المرحلة الأولى من حكم الملك فاروق. واتسمت المرحلة التالية، منذ عام 1945، بِسِمات، لا عهد له بها.

 



[1] الكتاب الأسود هو الوثائق، التي جمعها مكرم عبيد، إبّان توليه وزارة المالية في حكومة الوفد. ودب الخلاف بينه وبين رئيسها، إثر نجاح الملك فاروق في استمالة الوزير الوفدي. واشتمل هذا الكتاب على كلّ وثائق الفساد والتدخل في شؤون الحكومة اللذَين مارسهما كلّ من السيدة زينب الوكيل، زوجة رئيس الوزراء، وفؤاد باشا سراج الدين، وزير الزراعة. وهو ما أثر في مسار الحكم، وسبَّب أزمات، في مستوى الدولة. وقد سخَّر الملك فاروق هذا الكتاب لمصلحته في محاربة الوفد.