إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / التاريخ السياسي المصري الحديث: حكم أسْرة محمد علي في مصر (1805 ـ 1952)






الاحتلال البريطاني لمصر
الحملة الفرنسية على مصر
حدود مصر في عهد إسماعيل
حدود الدولة المصرية ومعاركها



الفصل الأول

المبحث السابع

مصر حتى قيام ثورة يوليه 1952

ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، حتى طمحت دول الشرق الأوسط إلى الحرية والاستقلال التام، وبناء الدولة الحديثة. كما تمخضت تلك الحرب بقوّتَين عالميتَين، سُمِّيتا: القوتَين العظيميَين (Superpower)، وهما: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، المتناقضتان من ناحية الأيديولوجيا والقوى والأهداف.

أمّا بريطانيا العظمى وفرنسا، فأصبحتا أقلّ قوة وثقلاً، وإن ظلتا تحاولان إثبات الذات، والاضطلاع بما يحقق إستراتيجيتَيهما. بيد أنهما كونتا مع الولايات المتحدة الأمريكية، الكتلة الغربية، التي لم تكرر خطأها، الذي ارتكبته بعد الحرب العالمية الأولى، بالعودة إلى حدود نفوذها في الأمريكتَين، حسب "مبدأ منرو"؛ إذ إنها أصبحت المحرك الرئيسي لسياسة العالم وإستراتيجيته، وخاصة بعد امتلاكها القنبلة الذرية، دون الاتحاد السوفيتي، الذي لم ينتجها حتى عام 1949.

وأصبح الشرق الأوسط محوراً للصراع. وكانت فلسطين واحدة من القضايا الساخنة، التي استمرت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأسفر عنها نشوء دولة إسرائيل، بعد حرب عام 1948 (الجولة العربية ـ الإسرائيلية الأولى).

تأثر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بين عامَي 1945 و1948، بثلاث قوى: العربية والدولية والصهيونية. وتميزت هذه المرحلة بتنكُّر الملك فاروق لما كان عليه حاله، في بداية حكمه. فقد أحاط نفسه بحاشية غير سوية، لا همّ لها سوى الاستئثار بالمكاسب. كما احتدمت الخلافات السياسية بينه وبين الوفد؛ فتفاضحا تفاضحاً، كشف مساوئ القصر.

وطاولت نتائج الحرب العالمية الثانية الاقتصاد والمجتمع المصريَّين. فحسرت تغلغل الملك فاروق في طوائف الطلبة والعمال. كما أن حرب فلسطين، بددت الثقة بين الجيش والقصر. زِد على ذلك جموح الملك إلى الزعامة: العربية والإسلامية، وإعلان نفسه ملكاً لمصر والسودان، ودعمه لحركات الإخوان. وهو ما خلّف مشاكل وأزمات مع الأحزاب، عكست آثارها على المجتمع؛ فضلاً عن قطيعة الملك، التي زكتها بريطانيا، طمعاً بتحقيق أهدافها في مصر، والتغلغل في الحياة المصرية.

أولاً: المواقف العربية

1. تركُّز المواقف العربية في ثلاث قوى

أ. الهاشميون: يتمثلون في الملك عبدالله، ملك شرق الأردن. ويؤازره ابن أخيه، عبدالإله، الوصي على العرش العراقي.

ب. المملكة العربية السعودية وسورية ومصر: كان شكري القوتلي، رئيس جمهورية سورية، خصماً للملك عبدالله (شرق الأردن)؛ بسبب مطامع الملك الأردني طموحه إلى (سورية الكبرى)[1].

ج. اليمن ولبنان: خارج نطاق هاتَين الكتلتَين.

لم تقتصر الخلافات على الدول العربية وساستها، بل استشرت بين الساسة الفلسطينيين أنفسهم، داخل فلسطين. ولولا المفتي الحاج أمين الحسيني، لافتقد أهل فلسطين أيّ زعامة موجهة.

2. جامعة الدول العربية

كان نشوء جامعة الدول العربية هو إحدى سمات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حظي بتشجيع بريطانيا، بل مساعدتها؛ طمعاً في سيطرتها على هذا التجمع العربي.

ولعل أنصع مَفاخر الجامعة العربية، فلسطينياً، أنها أممت المسؤولية عن فلسطين، فجعلتها مسؤولية الأمة العربية كلها، ولم تقصرها على الشعب الفلسطيني وحده. فقد شاركت الجامعة، منذ عام 1945، في الأنشطة كافة، التي اقتضتها تطورات المشكلة. فطرحت الموقف العربي على لجان التحقيق، مثل: "لجنة التحقيق الأنجلو ـ أمريكية"، "ولجنة التحقيق الدولية"، التي انبثقت من الأمم المتحدة، عام 1946. وكان نقل الاهتمام بشؤون فلسطين، سياسياً، إلى الجامعة العربية، إنجازاً سياسياً كبيراً؛ ولكنه كاد يخلو من الجانب العملي القوي، الذي يساند الجانب السياسي.

3. المؤتمرات العربية

عقدت، قبل حرب عام 1948، عدة مؤتمرات عربية، شاركت فيها مصر بفاعلية. واستهدفت اتخاذ موقف موحد من المشكلة الفلسطينية. فالتأم مؤتمر القمة العربي الأول، في 28 مايو 1946؛ ومؤتمر بلودان، في سورية، في 8 يونيه 1946؛ ومؤتمر صوفر، في لبنان، في 16 سبتمبر 1947؛ ثم مؤتمر القاهرة، في 18 ديسمبر 1947.

وقد اتخذت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية عدة قرارات سرية، يمكن تلخيصها في ما يلي:

أ. التنديد بقرار التقسيم. وبذل كلّ الوسائل لتأسيس دولة عربية موحدة في فلسطين.

ب. تخصيص عشرة آلاف بندقية لهذا الغرض، وتزويدها بالذخائر اللازمة؛ إضافة إلى عدد كافٍ، من المسدسات والرشاشات وغير ذلك.

ج. إرسال الحكومات العربية ثلاثة آلاف متطوع، كاملي العدة، إلى فلسطين، قبل 15 يناير 1948. يتوزعون كالآتي: 500 متطوع من مصر والعراق وسورية والمملكة العربية السعودية وفلسطين، و300 متطوع من لبنان، و200 متطوع من شرق الأردن. وتكفلت الحكومات العربية بتقديم السلاح والعتاد إلى اللجنة العسكرية، قبل نهاية عام 1947؛ وتجهيز قوات كاملة العدد، في 15 يناير 1948. إلا أن معظمها، لم يفِ بوعده؛ فتفكك الموقف العربي، قبل اندلاع الحرب.

ثانياً: الأوضاع في مصر، بعد الحرب العالمية الثانية (1945 - 1948)

1. الأوضاع السياسية، والعلاقات المصرية ـ البريطانية

طمح العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، وصدور ميثاق الأمم المتحدة، إلى علاقات دولية، قِوامها الاحترام المتبادل والمساواة بين الدول، وحل المشاكل الدولية بأساليب، تقلل احتمالات الصراع والصدام.

رأت الحكومة المصرية، أن معاهدة 1936، قد استوفت أغراضها، وانقلبت عائقاً دون السلام العالمي. كما استشفت أن ميثاق الأمم المتحدة، يضمن للشعوب المُحِبة للسلام، حقوقها، ولا يسوّغ للقوات البريطانية وجودها في منطقة قناة السويس. وحتمت بأن وجود قوات أجنبية على الأراضي المصرية، بغير رضا مصر، يناقض المواثيق، التي أعلنها الحلفاء، في غير موقف، أثناء الحرب وبعدها. ومن ثَم، بادرت القاهرة إلى إرسال مذكرة، في 20 ديسمبر 1945، تطلب فيها من الحكومة البريطانية، أن تعيد النظر في علاقاتها البريطانية ـ المصرية؛ على أساس أن معاهدة 1936، وقعت خلال أزمة دولية، أرغمت مصر على قبولها.

وتقدمت الحكومة المصرية، برئاسة إسماعيل صدقي، أثناء المفاوضات المصرية ـ البريطانية، في مايو 1946، بمذكرة إلى الجانب البريطاني؛ من أجل تحديد مراحل الجلاء وموعد تنفيذه؛ ومناقشة تدابير الحكومة المصرية، لتحقيق تبادل المعاونة، في زمن الحرب أو في حالة توقعها.

وفي المراحل الأولى للمفاوضات، تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، مبدية اهتمامها بكلّ مسائل الدفاع عن الشرق الأوسط وأمن البلاد العربية. وأملّت نجاح تلك المفاوضات في أن تضمن لمصر سيادتها التامة، من دون المخاطرة بالقضاء على أمن الشرق الأوسط.

وقد وافقت إنجلترا على الجلاء عن القاهرة والإسكندرية، عام 1947. وبدأت بالعاصمة المصرية، في 4 يوليه. وأعلنت القيادة البريطانية في الشرق الأوسط، أن مركزها في مصر، سينتقل من تلك العاصمة إلى منطقة القناة، قبل نهاية سبتمبر من العام الآنف.

وسرعان ما فشلت المفاوضات المصرية ـ البريطانية (مفاوضات صدقي ـ بيفن)؛ إذ إن لندن، أصرت على استدامة قواعدها العسكرية في قناة السويس. واستقال صدقي. وأعلن بديله، محمود فهمي النقراشي، أنه سيقدم القضية المصرية إلى مجلس الأمن، عسى أن تحظى منه بقرار جلاء، على غرار قراره الجلاء عن سورية ولبنان، عام 1946.

وأكد النقراشي، في مذكرته إلى مجلس الأمن، في 11 يوليه 1947، مطالبة الجلاء التام لكلّ القوات البريطانية عن مصر، بما فيها السودان. ولكن تذرُع لندن بأن معاهدة 1936 سارية حتى عام 1956؛ وجعْلها وجود القوات البريطانية في مصر رهناً بمبدأ وحدة وادي النيل ـ حالا دون صدور أيّ قرار في هذا الشأن عن مجلس الأمن.

2. الأوضاع الداخلية

نجم عن تدهور موقف حزب الوفد ظهور قيادات جديدة، في اليمين واليسار: جماعة الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة، الذي تسمى باسم: "الحزب الاشتراكي"؛ والجماعات الماركسية. وبين الفئتَين، تكونت المسيرة الوطنية، بين عامَي 1945 و1952.

وكان العُجاب هو تحالف اليسار المتطرف والوفد، بل تأثُّر وفديين بالاتجاهات الاشتراكية، وتكونيهم جماعة: "الطليعة الوفدية". ولا ريب أن تناقض تلك القوى، حال دون اقتدارها على أن تكون قوة ضاربة لمعسكر الثورة المضادة. ومن ثَم، أصبحت القيادات السياسة، بعد الحرب العالمية الثانية، أضعف من أن تتولى مسؤولية قيادة الحركة الوطنية المصرية.

أ. حادث جسر عباس

نشط العمال المصريون للتحرك، داخلياً وخارجياً. وسرعان ما انضم إليهم الطلبة المصريون، المنكرون على حكومة النقراشي ضعف موقفها من قضية الاستقلال. وتزعمت تحرُّك الطلبة اللجنة التنفيذية العليا لطلبة الجامعات والمعاهد العليا.

وتمخض ذلك التحرك عن اجتماع تاريخي حافل، في مؤتمر جامعي، في 9 فبراير 1946. وخرج الحفل في مظاهرة، ضمت بضعة آلاف من الطلبة، اتجهت إلى قصر عابدين. فكانت مذبحة جسر عباس. واصطدم الطلبة والشرطة، في عدة معارك، لعل أشهرها هي القصر العيني، التي استمرت يوماً كاملاً. وقد تنبه الملك فاروق لخطر حركة الطلبة المستجد، والذي أسفر عنه استقالة وزارة النقراشي.

ب. اشتداد قوة تحالف الطلبة والعمال

نجم عن تواصل الطلبة والعمال تأليف "اللجنة السودانية للعمال والطلبة". وقد أصدرت بياناً مهماً، أُرّخ "يوم الجلاء" في 21 فبراير 1946. ودعا إلى إضراب عام فيه، لجميع هيئات الشعب وطوائفه. كما جعله يوم استئناف للحركة الوطنية المقدسة، التي يشترك فيها الشعب المصري كلّه. أكد ذلك البيان، إذاً، أن ثمة قيادة جديدة، في مقدورها مخاطبة الجماهير مباشرة، وقِوامها العمال والطلبة؛ وهو موقف ثوري، لا عهد به للحركة الوطنية.

وقد اتسمت تلك الحركة بِسِمات عديدة، تمثلت في الآتي:

(1) عدم تبعيتها لأيّ حزب من الأحزاب التقليدية.

(2) محاولتها تأليف جبهة وطنية، شعبية، عريضة، تتصدى للاستعمار والاحتكار والإقطاع.

(3) إدراكها الترابط الوثيق، بين الاستعمار والاحتكار والإقطاع.

إذاً، لقد وضعت القيادة الجديدة للحركة الوطنية الثورة في إطارها: السياسي والاجتماعي. ومن ثَم، لم يقتصر نشاطها، في هذه المرحلة، على مواجهة الاستعمار والأحلاف الاستعمارية فحسب؛ وإنما طاول كذلك الاحتكار والإقطاع واستغلال الشعب المصري. واستطراداً، فإن انقلاب الطلبة والعمال، إنما كان على الملك فاروق نفسه.

ج. حمل الإنجليز فشلهم على انتهاج سياسة التهدئة، من خلال:

(1) جلاء القوات البريطانية عن القاهرة والإسكندرية، والتمركز في منطقة القناة.

(2) عرض القضية المصرية على مجلس الأمن عرضاً ظِهْرِيّاً.

(3) إجراء انتخابات حرة، أوصلت الوفد، عام 1950، إلى الحكم.

3. الأوضاع: الاقتصادية والاجتماعية

أ. كبار ملاك الأراضي الزراعية

لم يفارق كبار ملاك الأراضي الزراعية نهمهم فيها. وأعانهم عليه أنهم كانوا يمثلون غالبية الأحزاب السياسية والمجالس التشريعية. وهم لم يتورع هؤلاء المُلاك عن انتزاع أملاك صغار الفلاحين، بعرض أثمان عالية، واستغلال أزمات هؤلاء. وزادت الحرب العالمية الثانية أرباح هذه الطبقة، إذ ارتفعت الإيجارات الزراعية، وأثمان المحاصيل، وبخاصة القطن.

هكذا اتسعت أراضي كبار الملاك الزراعية. واضمحلت تلك العائدة للفلاحين الصغار. زِد على ذلك إنفاق دخل الأراضي الشاسعة في الترف، دون تحويلها إلى مشروعات إنتاجية، في مجالَي الصناعة والتجارة.

ب. الاحتكار الرأسمالي

لا شك أن أهم مظاهر تطور الرأسمالية المصرية، هو اتجاه قطاع منها نحو الاحتكار، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد سيطرت قلة من أصحاب رؤوس الأموال سيطرة تامة على بعض نواحي الحياة الاقتصادية. وتعاونوا على تخييب كلّ صناعة ناشئة منافسة؛ ولعل أوضح ممثل لتعاونهم هو اتحاد الصناعات المصرية.

ثم كان لا بدّ أن تُحالف الرأسمالية الاحتكارية المصرية الرأسمالية الأجنبية الاحتكارية؛ لتواجها الثورة الشعبية، الوطنية، حين أضحى لها مضمون اجتماعي، قد يطيح الرأسمالية الاحتكارية، بأطرافها المختلفة.

واللافت أن الرأسمالية الاحتكارية، تجنبت إنشاء صناعة ثقيلة في مصر، كالصناعة الكهربائية، والكيماوية، والحديد والصلب. ومن ثَم، فإن تطوير الصناعة المصرية والاقتصاد القومي، يحتم القضاء على الاحتكار.

ثالثاً: مواقف الدول الغربية

أَوْلَت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، اهتمامهما منطقة الشرق الأوسط، وخاصة القضية الفلسطينية.

واختصت الدوائر العسكرية البريطانية مصر بعنايتها؛ حرصاً على قاعدة قناة السويس، الركيزة الأساسية لوضع بريطانيا الإستراتيجي في الشرق الأوسط. كما استمسكت لندن بتسهيلات إستراتيجية في مصر. وشرطت لأي اتفاقية مستقبلية معها ومع الدول العربية المهمة، توقيع خطة دفاع مشترك.

وفي يونيه 1946، أشارت لجنة الدفاع بمجلس الوزراء البريطاني، إلى أن أدنى متطلبات بريطانيا العسكرية، في أوقات السلم، هي تلك التي تمكنها من أداء مهامها، وقت الحرب؛ وتتمثل في الآتي:

·   مصر: في حالة جلاء القوات البريطانية عن مصر، ستحتاج بريطانيا إلى ضمان فعال، بأن يطور المصريون، ويصونوا القواعد: البحرية والجوية، والتسهيلات، وتخزين العتاد؛ وأن يضعوها في تصرف لندن، لدى أيّ حالة طارئة. كما أن الدفاع عن مصر، يستلزم السيطرة على فلسطين.

·   فلسطين: يجب الاحتفاظ بحق وضع أيّ قوات في فلسطين. وأن تكون لبريطانيا السيطرة التامة على تنظيم الدفاع عن هذه المنطقة.

نُذُر حرب فلسطين (1948)

أ. الرؤيتان: الإنجليزية والأمريكية (1947)

قبل استئناف مؤتمر لانكستر هاوس أعماله، في 21 يناير 1947، انعقد مجلس الوزراء البريطاني، لدراسة الموقف. ووقف على تقرير رؤساء الأركان، الذين استبعدوا أن يصل المؤتمر إلى حل، يسمح ببقاء الإدارة البريطانية في فلسطين مدة طويلة. فلا بدّ لبريطانيا من التفاوض الحر مع دولة مستقلة، أو دولتَين مستقلتَين، في ما ترغب فيه لندن، من تسهيلات إستراتيجية. كما استعرض المجلس مذكرة وزير الخارجية، في شأن الحلول المحتملة، لما ستكون عليه فلسطين في المستقبل؛ وهي:

(1) تنفيذ التقسيم، وفق ما طالب به اليهود، من دون مرحلة انتقالية، يتخللها نظام الاستقلال الذاتي الإداري.

(2) إقناع المندوبين العرب بقبول دفعة نهائية، ولو كبيرة، من المهاجرين اليهود؛ في مقابل إنشاء دولة اتحادية مستقلة، وفق ما طالب به أولئك المندوبون، في المؤتمر.

(3) تطبيق نظام الاستقلال الذاتي، الذي كانت قد أوصت به اللجنة الإنجليزية ـ الأمريكية، خلال مدة انتقالية، يليها تقسيم فلسطين بين دولتَين: عربية ويهودية.

ب. الجمعية العامة للأمم المتحدة ومشكلة فلسطين (أبريل ـ نوفمبر 1947)

اجتمعت الجمعية العامة، في أبريل 1947، في دورة خاصة، لتداول مسألة فلسطين. وقررت تكوين لجنة، أسمتها: "اللجنة الخاصة بفلسطين التابعة للأمم المتحدة". وقِوامها 11 دولة استبعدت منها الدول الكبرى والدول العربية. وفى يونيه 1947، وصلت اللجنة إلى القدس. واستكملت دراستها، في أغسطس 1947. ونشر تقريرها، في 31 منه. وتضمن جملة توصيات. أجمعت اللجنة على بعضها. واقتصر البعض الآخر على موافقة الأغلبية. وقد أوصت اللجنة بإنشاء دولتَين: عربية ويهودية. ورفضت إنشاء دولة موحدة (فيدرالية) مستقلة.

وفي 26 نوفمبر 1947، اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتدبُّر التقسيم. وشفت مناقشاتها عن احتمال عدم استيفاء المشروع ثلثَي الأعضاء، وهم الأغلبية المطلوبة للموافقة على قرار التقسيم. لذلك، سعت الدول الغربية إلى تأجيل الاقتراح، ريثما تُسْتَوْفَى تلك الأغلبية.

حُدد يوم 29 نوفمبر 1947 للاقتراع على التقسيم. وبعد مناقشات حامية، وضغوط أمريكية، وافقت الجمعية العامة على قرار التقسيم، بأغلبية 33 دولة (بينها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي)، ومعارضة 13 دولة (بينها الدول العربية)، وامتناع عشر دول (بينها بريطانيا). واللافت اجتهاد واشنطن في ضمان الأغلبية لمشروع التقسيم. وما إن صدر قرار التقسيم، حتى عارضته الدول العربية معارضة شديدة؛ بل تفشت حرب سِرية بين العرب واليهود، في فلسطين. ومن ثَم، اقترح التوصل إلى هدنة مؤقتة، ووضع البلاد تحت الوصاية المؤقتة.

ج. الموقف السوفيتي

ما إن انطفأت الحرب العالمية الثانية، حتى اشتعلت الحرب الباردة. فقد أحس الاتحاد السوفيتي بضعف فرنسا وبريطانيا، في منطقة الشرق الأوسط؛ ما أغراه باعتماد إستراتيجية، استهدفت القضاء على مصالحهما، في المجالات: السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ والحيلولة دون تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في شؤون المنطقة. ولذلك، أيدت موسكو كلّ ما يعجل خروج بريطانيا وفرنسا من ذلك الشرق، وعزل واشنطن عنه. بيد أن الاتحاد السوفيتي، أيقن أنه لا يمكن أن يصبح، آنئذٍ، عاملاً فعالاً في شؤون المنطقة؛ فاكتفى بمراقبة شؤونهما، من بعيد. ولكنه بدأ يستعد لاتباع سياسة إيجابية، تكون عاملاً فاعلاً في سياستها، ومؤثراً في أطرافها.

وكان الاتحاد السوفيتي يراعى المعايير التالية:

(1) إسهام اليهود الأكبر في زعزعة النفوذ البريطاني، في منطقة الشرق الأوسط. والارتياب في قدرات العرب.

(2) مساندة إنشاء الدولة اليهودية، ستزيد التباعد بين الإنجليز، أنصار العرب، والأمريكيين، أنصار الصهيونية؛ وبذلك، يمكن تمزيق الحلف "الإنجليزي ـ الأمريكي"، المناوئ للاتحاد السوفيتي، في الحرب الباردة.

(3) إمكان مشاركة قوة سوفيتية في أيّ قوات دولية، تنتدبها الأمم المتحدة للمحافظة على السلام والأمن في فلسطين؛ ما يُخَوِّل الاتحاد السوفيتي التأثير في شؤون فلسطين بخاصة، والشرق الأوسط بعامة.

(4) معظم قادة الدولة الصهيونية الجديدة والمهاجرين إليها، وفدوا عليها من دول أوروبا الشرقية، حيث الحركة الاشتراكية قوية؛ بل إن كثيراً منهم هم شيوعيون. ولذلك، يحتمل أن تعتمد تلك الدولة سياسة خارجية، هي أميل إلى الاتحاد السوفيتي؛ عرفاناً بجميله.

(5) ميل الدولة اليهودية إلى الغرب، سيجعلها مصدراً مستمراً للصراع مع الدول العربية، التي قد تضطر إلى طلب المساعدة السوفيتية.

(6) إنشاء دولة يهودية، من شأنه أن يضعف الوحدة العربية، ويجعل الولايات المتحدة الأمريكية هدفاً رئيسياً لسخط العرب.

(7) احتمال سيطرة الاتحاد السوفيتي على الدولة اليهودية، لدى نشوئها.

(8) إمكان تنفيذ الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، يتيح للقوات السوفيتية الوصول إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

د. موقف الصهيونية

(1) هوى الصهيونية أمريكي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تولى حزب العمال الحكم في بريطانيا؛ فطمعت الصهيونية في مساعدته إياها على مآربها. انعقد أول مؤتمر صهيوني، في أغسطس 1945، بلندن. وطالبت لجنته التنفيذية بإدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين. ولكن وزير الخارجية البريطاني، بيفن، قصر الهجرة اليهودية، شهرياً، على 1500 مهاجر. كما أنه لم يشر إلى الوطن القومي أو الدولة اليهودية. وهكذا خاب أمل الصهيونية، أن يقدم الحكم البريطاني فلسطين هدية لها. ولذلك، استصرخت حليفاً جديداً، وقوياً، هو الولايات المتحدة الأمريكية.

استنهض زعماء الحركة الصهيونية واشنطن، لدعمهم وتأييدهم على استكمال وطنهم القومي، ثم إنشاء الدولة الصهيونية. وكانوا قد قدروا، منذ مؤتمر فندق بلتيمور، في نيويورك، في مايو 1942، نقْل المركز الرئيسي لحركتهم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كما طالبوا بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين كلّها.

وبرنامج بلتيمور هو أول تصريح صهيوني رسمي، وعلني، يجهر بإنشاء دولة يهودية، في فلسطين؛ متجاوزاً ما اقتصرت عليه جميع المؤتمرات السابقة، من المطالبة "بالوطن القومي". كما دعا إلى الاستجابة لتصريح بلفور وصك الانتداب، اللذَين اعترفا بالصلة التاريخية، بين الشعب اليهودي وفلسطين.

(2) أسفر عن الأحداث، في فلسطين، خلال عامَي 1945 و1946، تكوين اللجنة "الأنجلو ـ أمريكية"، التي أصدرت توصياتها الثلاث التالية:

(أ) عدم تقسيم البلاد بين دولة عربية وأخرى يهودية. وإنما تبقى فلسطين تحت الانتداب، ريثما يُتَّفَق على تنفيذ وصاية الأمم المتحدة عليها.

(ب) السماح، فوراً، لمائة ألف يهودي، من ضحايا الاضطهاد النازي، بالهجرة إلى فلسطين.

(ج) إلغاء القوانين، المتعلقة بانتقال ملكية الأراضي. وتستبدل بها قوانين، تستند إلى سياسة حرة في بيع الأراضي، لا تبالي بعِرْق، ولا معتقد.

رابعاً: نشوء دولة إسرائيل

كانت الدولة اليهودية ميداناً لتصارع زعماء الصهيونية، ولا سيما وايزمان، الداعي إلى التفاوض مع بريطانيا، على أساس مشروع بيل للتقسيم؛ وبن جوريون، الطامع بالاستيلاء على كلّ فلسطين. وقد وضح ذلك في مؤتمر بلتيمور. وانتقل الصراع إلى المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين، الذي عقد في بال، في ديسمبر 1946، حيث أعلن ثاني الرجلَين، "أن تخليص اليهود الألمان، وإعادة إسكانهم في فلسطين، يتطلب هجرة غير مقيدة؛ وهذه  لا يضمنها إلا دولة يهودية". لا، بل إنه عيَّر نده بقوله: "إن تفسير بريطانيا لسياستها، إنما يحرر وايزمان من أن يبقى سجين اعتداله وولائه لها".

وسرعان ما اشتد اصطراعهما، فغادر وايزمان المؤتمر، ورفض العودة إلى رئاسة المنظمة. وهكذا انفرد بن جوريون بالزعامة، وفرض على المؤتمر رأيه، أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة إلى نشوء الدولة. ووافق المؤتمر على إنشاء منصب وزاري جديد للدفاع، عهد به إلى الزعيم الجديد؛ إضافة إلى رئاسته للجنة التنفيذية. وكان واجبه الأول هو العمل على إنشاء الجيش اليهودي، وتدعيم القدرة القتالية للهاجانا؛ لمواجهة التحدي، الذي لا مفر منه. وانتهى المؤتمر الصهيوني إلى إعلان برنامج، يدعو إلى تكوين دولة يهودية في فلسطين.

ما لبثت قوات البالماخ أن نفذت سلسلة من العمليات الدموية، بمشاركة ثلاث منظمات إرهابية: الهاجانا وشتيرن والأرجون. فبادرت الحكومة البريطانية إلى إصدار كتاب أبيض، في شأن الإرهاب الصهيوني في فلسطين، باسم: "تقرير إعلامي حول أعمال العنف". وقدم الكتاب الأدلة القاطعة على التعاون الكامل بين المنظمات الصهيونية، واشتراكها في أعمال التخريب و العنف.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل استشرى الإرهاب الصهيوني في فلسطين؛ ما حمل بريطانيا على إعلان اعتزامها عقد مؤتمر مائدة مستديرة، في لندن، ستدعو إليه ممثلي اليهود وعرب فلسطين والدول العربية. ولكن، خاب سعيها. فقررت  إلقاء المشكلة الفلسطينية على كاهل الأمم المتحدة. وفي نوفمبر 1947، صدر عن المنظمة الدولية قرار تقسيم فلسطين، الذي تباينت منه المواقف بتباين الأطراف المعنية. واستمر ذلك حتى 15 مايو 1948، كالآتي:

1. التحفز الصهيوني

نجحت الصهيونية في تدعيم قدراتها: السياسية والعسكرية. وشنّت هجمات إرهابية على السكان العرب، ولا سيما اقترافها مذبحة دير ياسين، في 9 أبريل 1948. ولم تقصر عملياتها على المناطق المخصصة للدولة اليهودية، بل طاولت مدينة يافا، التي كانت جزءاً من الدولة العربية الفلسطينية، ومدينة عكا العربية. كما استخدمت أحدث أساليب التأثير النفسي. واجتهدت في القضاء على عروبة فلسطين. فنشطت لإجبار العرب على ترك أراضيهم وممتلكاتهم، وإرغامهم على النزوح عن فلسطين. وارتسم هذا الاتجاه الإستراتيجي بالإبادة والإرهاب، سبيلاً إلى الاستيلاء على الأرض، خالية من أهلها.

2. الجهد العربي

بدأت جامعة الدول العربية دراسة الموقف في فلسطين بشكل جدي، وإمكانية التدخل العسكري فيها، بعد خروج القوات البريطانية منها. ولكن خلافات العرب العديدة، حرمتهم القدرة على مواجهة تلك الأزمة.

3. الموقف البريطاني

بعد صدور قرار التقسيم، أعلنت بريطانيا، على علمها بقوة المنظمات الصهيونية، أن القوات البريطانية، ستغادر فلسطين، في أقصر وقت ممكن.

4. الرؤية الأمريكية

رأى خبراء وزارة الخارجية الأمريكية، منذ يناير 1948، أن مشروع تقسيم فلسطين، لا يمكن تنفيذه. وتأثرت رؤيتهم بعاملَين: البترول العربي، وبخاصة بترول المملكة العربية السعودية؛ وضغوط ملكها، ابن سعود. واستحث الصهيونيون الإدارة الأمريكية على تثبيت قرار التقسيم. وذهبوا إلى أن مقاومة العرب لذلك القرار، تمس سلطة المنظمة الدولية وتزعزع الثقة بقدرتها على معالجة الأزمات.

5. الأوضاع في فلسطين، قبل حرب 1948

تآمرت بريطانيا والصهاينة، بين 29 نوفمبر 1947 و15 مايو 1948، في خطة متكاملة، تغادر بموجبها القوات البريطانية، بالتدريج، المناطق اليهودية؛ لتسهل لهم استقدام السلاح والرجال، وحرية الحركة. أمّا مناطق العرب، فتبقى فيها تلك القوات؛ لتشل حركتهم؛ فيتمكن اليهود، تحت حراسة القوات البريطانية، من الاستيلاء على أكبر قدر من أراضي فلسطين، قبل أن تغادرها بريطانيا، في 15 مايو 1948. لجأت الصهيونية، في تنفيذ الخطة، إلى الإرهاب المسلح. فانتابت فلسطين سلسلة من المذابح، كمجزرة دير ياسين؛ لإرغام عرب فلسطين على النزوح إلى الدول العربية المجاورة.

ومع تفاقم الأعمال العسكرية في فلسطين، قرر العرب دخول جيوشهم إليها، بعد أن تغادرها القوات البريطانية، في 15 مايو 1948. واستطاعت الجيوش العربية، على قلة عتادها العسكري، أن تحرز تقدماً ملموساً، وانتصارات محدودة. ولكن الدول الاستعمارية، أرغمت العرب على وقف القتال، مدة أربعة أسابيع (11 يونيه ـ 7 يوليه 1948)؛ حتى يتمكن اليهود من إعادة تنظيم صفوفهم، وتعزيز قدراتهم القتالية، بالرجال والسلاح.

والعُجاب أن زحف الجيوش العربية إلى فلسطين، كان في إطار ميزانيات السلم. لا، بل إن معظم الدول العربية، لم تكن جادة في موقفها؛ بل لم تستخدم إمكاناتها كافة؛ بل لم تضع إستراتيجية موحدة لبلوغ هدف الحرب.

وفي 14 مايو 1948، أعلنت بريطانيا انتهاء انتدابها على فلسطين. وأجلت قواتها عنها. فأعلنت الصهيونية، مساء ذلك اليوم، نشوء دولة إسرائيل. واعترفت بها الولايات المتحدة الأمريكية، ثم الاتحاد السوفيتي. وتوالت الاعترافات، بعد ذلك. وتوقفت فجأة المباحثات، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إثر الإعلان الصهيوني. ومن ثَم، كانت حرب 1948، أولى جولات الصراع، بين العرب وإسرائيل.

خامساً: الصراع العربي ـ الإسرائيلي (1948)

1. الحرب غير الرسمية

كان إعلان العرب تحديهم لقرار التقسيم إيذاناً بالمرحلة الأولى من المواجهة المسلحة، التي بدأت في الأول من ديسمبر 1947، وامتدت حتى 14مايو 1948، وقد عُرف التصادم، خلال تلك المدة باسم: "الحرب غير الرسمية"، أو "الحرب غير المعلنة". واشتمل على مرحلتَي قتال:

أ. المرحلة الأولى: قِوامها نشاط عربي غير منسق، بذله "جيش الإنقاذ" و"جيش الجهاد المقدس"، وبعض الجماعات الأخرى، من قوى النضال الوطني الفلسطيني. واستهدف الحفاظ على عروبة فلسطين. واستمر أربعة أشهر، من الأول من ديسمبر 1947 حتى 31 مارس 1948.

ب. المرحلة الثانية: عمادها جهد يهودي مضاد، اضطلعت به منظمات "الهاجانا" و"الأرجون"[2] و"شتيرن"[3]، ومتطوعون يهود، وفدوا على فلسطين؛ للمعاونة على إنشاء الدولة. واستمرت هذه المرحلة من الأول من أبريل 1948 حتى 14 مايو 1948. وتمثلت في هجمات، استهدفت تفريغ فلسطين من أكبر عدد من أهلها العرب؛ وحماية شبكة المواصلات: البرية والبحرية، في داخل القسم اليهودي من البلاد وخارجه.

نجح العرب، خلال شهرَي فبراير ومارس 1948، على معوِّقاتهم، في قطع الطرق بين المستعمرات اليهودية أو هددوها به. كما دأبوا في الإغارة على قوافل التموين اليهودية، المتوجهة إلى المستعمرات النائية. وأفلحوا كذلك في عزل الحي اليهودي، في القدس، في 7 مارس 1948.

خلال هذه المرحلة، نوّه السياسيون المصريون بالانضمام إلى "جيش الإنقاذ"؛ لخوض حرب تحرير فلسطين. ونشط قادة الألوية، في الجيش المصري، لتشجيع الضباط وضباط الصف على التطوع، والسماح لهم بأخذ الأسلحة والذخائر اللازمة. وعُين البكباشي أ.ح/ أحمد عبدالعزيز قائداً عاماً لقوات المتطوعين: المصريين والليبيين والتونسيين. وكان ذلك القائد استكشف منطقة علمياته، يومَي 26 و27 أبريل 1948. ورفع توصياته، في الأول من مايو، إلى كلّ من الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزير الدفاع المصري.

وبدأت المرحلة الثانية، من الحرب غير الرسمية، في مطلع أبريل 1948، بمبادرة اليهود إلى الهجوم. فشرعوا ينفذون الخطة "د" أو "دالت"، التي وضعت تفاصيلها قيادة  "الهاجانا". وبدأ العمل بها، قبل 15 مايو 1948. وشملت 13 غارة إرهابية. واستهدفت الخطة "السيطرة على المنطقة، المعطاة لنا من الأمم المتحدة؛ إضافة إلى المناطق، التي أمكن احتلالها، والواقعة خارج تلك الحدود. وتنظيم قوة، تقف في وجه غزو مجموعة من الجيوش العربية، في 15 مايو 1948.

2.الحرب المعلنة، وإسهام الجيش المصري فيها

استُفْتي البرلمان المصري، أثناء جلسة سرية، بتاريخ 11 مايو 1948، في دخول القوات المصرية إلى فلسطين. ولم يعارضه سوى إسماعيل صدقي، الذي كان رئيساً للوزراء، حتى أواخر عام 1946. وعلّل معارضته بأن الجيش المصري، تعوزه الأسلحة والعتاد. أمّا رئيس الوزراء، فأكد، في الجلسة، أن مصر على أتم الاستعداد لمواجهة الموقف. وستنتصر على اليهود، لا محالة. ولديها العتاد والقوات، وكلّ ما تقتضيه الحرب. وأيده بعض الأعضاء أولي الدوافع الدينية.

بيد أن حرب فلسطين، عام 1948، لم تكن حرباً كسائر الحروب. كما لم تكن صراعاً حراً، تستخدم فيه القوة، وإنما تخللتها، مراراً، هُدَن ووقف لإطلاق النار، فرضتها أطراف خارجية. وقد استمرت الحرب، رسمياً، زهاء ثمانية أشهر تبدأ بدخول الجيوش العربية فلسطين، في 15 مايو 1948، وتنتهي إلى موافقة مصر على عقد الهدنة الدائمة. غير أن القتال الحقيقي، ناهز ربع تلك المدة فقط، وتوزعته أربع مراحل متقطعة.

وتدبُّر نتائج حرب 1948، يقتضي مراعاة عدة معايير:

الأول: أن مصر لم تفقد أيّاً من أراضيها. وما هزيمتها، إذاً، سوى عجز جيشها عن الاحتفاظ بما حققه من إنجازات، خلال المرحلة الأولى من الحرب المعلنة.

الثاني: اضطلاع الجيش المصري بمهامه، ارتهن بما زودته به القيادة السياسية، من إمكانيات قتالية. وكانت السياسة سبباً من أسباب فقدانه ما سبق أن حققه.

الثالث: مرارة الجيش المصري، وبخاصة الضباط الأحرار، ولا سيما أولئك الذي اندفعوا إلى فلسطين، وعادوا منها بوعي، لا يشوبه وهْم. أمّا إخبار وسائل الإعلام، في القاهرة، باجتياح القوات المصرية المواقع الإسرائيلية، فما هو إلا تنويه بالملك؛ ولكن الحقيقة هي أن الحاجة كانت ماسة إلى السلاح والقيادة معاً.

ومهما يكن من أمر، فإن حصار "الفالوجا"، ذكَّر بأصالة الجيش المصري، الذي لم تُنْسِهِ حفاوة استقباله مرارة ما عاناه في فلسطين. بيد أن مواكب النصر المزيفة، لم تستطع أن تخفي فقدان الثقة بالجيش. ومصداق ذلك القوات العائدة من فلسطين، في الإسماعيلية شرق؛ واستجواب رئيس الوزراء المصري لبعض الضباط الأحرار؛ لارتيابه في تحالف الجيش والإخوان المسلمين.

وسرعان ما اتسع الشقاق بين الجيش والملك. وازداد احتداماً، إثر عقد الهدنة الدائمة. وكان حادث انتخابات نادي الضباط، هو نقطة الصدام، التي تتابعت بعدها الأحداث، وانتهت إلى ثورة 23 يوليه 1952.

سادساً: الأوضاع في مصر، قبل ثورة يوليه 1952

أكدت نكبة فلسطين، عام 1948، لضباط مصر، الشبان، أن قيادتها يجب أن تُطاح، إذ لولا الغدر بهم، سواء من الملك والقصر والحكومات المصرية المتعاقبة، لَمَا انهزموا. زِد على ذلك أن مصر، لم تعهد حقبة هي أقسى مما عانته قبل عام 1952، وخاصة تدهور أحوالها: السياسية والاقتصادية.

وقد اجتهدت الحكومة المصرية في تخويف التيارات المعارضة: الثورية والوطنية؛ والعدوان على الحريات والدستور المصري نفسه، فأمسى حل الصراع العنف، بدلاً من المؤسسات الدستورية. وفرضت الأحكام العرفية والرقابة على الجرائد. ورأى الإخوان المسلمون، بعد أن قويت شوكتهم، أن حرب 1948 حرب دينية. وقررت الحكومة المصرية حل جماعة الإخوان، في ديسمبر 1948. أمّا النقراشي باشا، رئيس الوزراء، فحذِر من اللجوء إلى القوة المسلحة؛ حتى لا يدفع بالجيش المصري إلى حيث القوات البريطانية، المرابطة في منطقة قناة السويس. وظل على موقفه، حتى 11 مايو 1948. ثم تغير رأيه، بضغط من الملك فاروق والقصر.

1. تناقض الضباط الأحرار والملك والقصر

بعد توقيع الهدنة، في فبراير 1949، وُزِّعت وحدات الجيش على المناطق العسكرية المختلفة. وضعفت تبعاً لذلك، صِلاتها التنظيمية، بالإخوان المسلمين والتنظيمات اليسارية. كما فتر تيار العمل السياسي، في الشُّعب الرئيسية الثلاث: الحرس الحديدي (التابع للقصر)، والإخوان المسلمين، والشيوعيين. فَكَفَّ الحرس الآنف عن الإرهاب. وتعرض الإخوان المسلمين إلى حملة إرهاب حكومي شديدة، بعد اغتيال النقراشي باشا، أبعدت الضباط عن الاتصال بهم؛ وإن كان تنظيمهم قد استمر محتفظاً بكيانه، تحت قيادة قائد الجناح، عبدالمنعم عبدالرؤوف.

وعاد البكباشي محمد أنور السادات إلى صفوف الجيش، ضابطاً في سلاح الإشارة. واستطاع قسم الجيش في "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني" (حدتو)، أن ينجو من إرهاب الحكومة؛ لشدة اهتمامه بالأمن؛ إذ إنه هو السلاح الوحيد، الذي يحمى قسم الجيش. أمّا أعضاء القيادة، فكان معظمهم في المعتقلات. ويذكر أحمد حمروش، في الجزء الأول من كتابه: "ثورة 23 يوليه، أن البكباشي جمال عبدالناصر، اضطلع بنشاط رئيسي لجمع الضباط، على اختلاف توجهاتهم السياسية، في تنظيم واحد.

وجمع جمال عبدالناصر اللجنة التأسيسية، التي كان يتصل بها، منذ أواخر عام 1949، خلال حكم وزارة حسين سري؛ والمكونة من خمسة ضباط فقط، هم: جمال عبدالناصر، وحسن إبراهيم، وخالد محيي الدين، وكمال الدين حسين، وعبدالمنعم عبدالرؤوف. وكانت لهم ميول سياسية مختلفة؛ مع أنهم بدأوا جميعاً في ساحة الإخوان المسلمين.

لم يكتمل شكل اللجنة التأسيسية التنظيمي، إلا مع مطلع، عام 1950، إثر انضمام آخرين إليها. وكانت صلة جمال عبدالناصر بمحمد نجيب قد بدأت أثناء حرب فلسطين، من خلال عبدالحكيم عامر، الذي قال لأولهما، "إنه قد وجد كنزاً في محمد نجيب؛ لجرأته وشجاعته ووعيه ... وأزمة الهزيمة هي في القاهرة، وليست في العريش".

ما إن اتَّسق الضباط في تنظيمهم، حتى تسمَّوا باسم: "الضباط الأحرار". وبه وقعوا أول منشوراتهم، في فبراير 1950. وآثروا الاقتصار على العسكريين، دون القوى السياسية المدنية: الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أو الوفديين أو القصر.

ولم يكن محمد نجيب يحضر اجتماعات التنظيم، أثناء تكوينه؛ لأنه كان محل رقابة سلطات الأمن؛ لكونه محبباً إلى ضباط الجيش. أضف إلى ذلك أن اتصاله، وهو الأميرالاي، بضباط رتبة أعلاهم هي بكباشي ـ سيثير الريبة. ولذا، وافقهم على أن تكون صِلته بهم فردية، وليست تنظيمية.

وتوالت منشورات الضباط الأحرار. وكتب أولها جمال عبدالناصر وخالد محيي الدين. وبشرا فيه بمرحلة جديدة، تمخضت بالتناقض بين الملك وضباط الجيش، واشتداد شعور هؤلاء بقدرة القصر على عرقلة الأمور.

وما لبثت منشورات الضباط الأحرار، جهرت بأن الجيش هو جيش الأمة، وليس جيش أشخاص. والأمة هي التي تنفق عليه. ودافعو الضرائب، من الشعب، هم الذين يدفعون مرتبات الجنود، وهم الذين يسلحونهم. واستطراداً، فإن المهمة الأولى للجيش، أن يكون في خدمة الشعب.

كما أشارت المنشورات إلى الأموال الوافرة، التي يستنفقها القصر والملك. وأكدت أن الشعب والجيش، يقفان، اليوم، بالمرصاد لكلّ حركة، ترجع إلى الوراء. إن الشعب والجيش، سيحطمان أيّ محاولة لضرب الحركة الوطنية. لقد أيدنا الحكومة في خطواتها الوطنية، التي اتخذتها بإلغاء معاهدة 1936 الاستعمارية".

وكان جمال عبدالناصر، الرئيس المنتخب لتنظيم الضباط الأحرار، والحريص على إذكاء الكفاح المسلح ـ يستجيب للتنظيمات المختلفة مطالبتها بالسلاح والذخيرة إذا طلبت؛ ويعطي السلاح لمتطوعي "حدتو". كما عَهِد إلى كمال رفعت، أحد الضباط الأحرار المرتبطين، في البداية، بالتنظيمات اليسارية؛ وحسن التهامي، ضابط الاستخبارات، ثم الوزير، بعد الثورة، بالإشراف على معسكر تدريب الفدائيين، في صحراء الفيوم؛ لينضموا، بعد ذلك، إلى كتائب وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار، والمتصل بفؤاد سراج الدين، وزير الداخلية. وقد اشترك بعض الضباط الأحرار اشتراكاً فعلياً في معارك القناة.

ويروي أنور السادات العديد من أنشطة جمال عبدالناصر، تخطيطاً وتنفيذاً، بما فيها تلك الفاشلة. ولم يؤلف الضباط الأحرار وحدات مقاتلة؛ بل كانوا يتصلون بالفدائيين، يدربونهم، ويشاركونهم في الخطط؛ وأحياناً، في بعض العمليات. أمّا التجربة الأولى لاختبار قوة الضباط الأحرار التنظيمية، فقد كانت انتخابات نادي الضباط.

2. اختلال توازن القوى الرسمية وغير الرسمية في الحياة السياسية المصرية

اتسمت الحياة السياسية المصرية بالاضطراب، المتمثل في تأليف ثمانٍ وثلاثين وزارة، بين عامَي 1923 و1952. زِد على ذلك سمات رئيسية أخرى؛ أهمها:

أ. ازدياد الهوة بين النخبة السياسية الحاكمة والجماهير. وقصور النخبة عن التغيير الاجتماعي.

ب. تأزّم القضية الوطنية، بعد الفشل في تسوية معاهدة 1936؛ ومبادرة مصر إلى إلغائها، عام 1951.

ج. رغبة الجماهير الشعبية في التغيير الثوري؛ على افتقادها تنظيماً سياسياً، يمكنها من تغيير نظام الحكم.

د. الحيف الاقتصادي، المتمثل في تفاوت الدخول، أجج الضغائن والاغتراب السياسي، والإضرابات، والمظاهرات. ونشط منظمات العمل السياسي، كالإخوان المسلمين، والحزب الاشتراكي، والحركات الشيوعية، وتنظيم الضباط الأحرار. فزخر العنف، والاغتيالات السياسية، والمنظمات شبه العسكرية. وواكب ذلك رفض الإنجليز الخروج من مصر؛ فأضحى الحل الوحيد هو الثورة.

ويصف الدكتور محمد حسين هيكل هذه المرحلة قائلاً: "فما وقع، أثناء هذه الفترة، من الحوادث، في مصر، جسيم غاية الجسامة، حيث القلق الاجتماعي والاضطراب النفسي". وتتابعت الأحداث بسرعة. ففي عام 1950، وقع 49 إضراباً عمالياً. وازداد العدد إلى مائتَين، في عام 1951. وفي العام نفسه، حدث بعض الانتفاضات الفلاحية وتعددت مصادرة الجرائد. وتكاثر قمْع الداعين للتغيير في المجتمع؛ غير أن هذه الإجراءات، كانت عاجزة عن التصدي الجدي للأفكار. وتشاتم الوزراء الوفديون، على صفحات الجرائد. وانتشرت قصص فساد الأسْرة الحاكمة والحاشية.

وبعد إلغاء المعاهدة، في أكتوبر 1951، ازداد الكفاح الشعبي للإنجليز. وكانت الحكومة المصرية قد اتخذت، في سبتمبر من العام نفسه، عدة قرارات، في شأن معاقبة كلّ المتعاونين مع الاحتلال؛ وأباحت حمل السلاح، لكي يتمكن الشعب من الدفاع عن نفسه.

وفي 25 يناير 1952، حدثت مذبحة الإسماعيلية. وفي اليوم التالي، حدث حريق القاهرة. ونزل الجيش إلى الشوارع. وأُقيلت حكومة الوفد. ويمكن القول إن نظامَي مصر: السياسي والاجتماعي، قد سقطا في ذلك الحريق.

بعد إقالة حكومة الوفد، عهد الملك فاروق، في ظل الأحكام العرفية، إلى علي ماهر باشا بتولِّي الوزارة. إلا أنها سرعان ما استقالت، في الأول من مارس 1952. وتلتها وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا، التي عمدت إلى حل مجلس النواب، الوفدي. وما لبثت أن اضطرت إلى الاستقالة، في 28 يونيه. وخلفتها وزارة حسين سري باشا، في الثاني من يوليه؛ ولكنها لم تستمر أكثر من 18 يوماً استعاد بعدها الهلالي باشا رئاسة الوزارة، في 22 يوليه. ولكن قبل فجر اليوم التالي 23 يوليه 1952، أُعلنت ثورة يوليه 1952.

3. المقاومة في منطقة القناة

كان الموقف السياسي يتدهور، وهيبة النظام تتأكَّل، وحماقات الملك تتضاعف. وملأت فضائح فاروق وحاشيته الجرائد، ومنها "الاشتراكية" مجلة حزب مصر الفتاة، و"اللواء الجديد" مجلة حزب الوطن الجديد، و"الجمهور المصري" مجلة إثارة، كان يملكها أبو الخير نجيب، و"الكاتب" مجلة أنصار السلام، و"الملايين" مجلة الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني ـ حدتو، و"روزاليوسف" التي سبقت إلى كشف الأسلحة الفاسدة. ولم يفلح قانون حماية أخبار القصر في وقف هذه الحملات ضد العيوب الملكية.

وقد أسهمت التنظيمات: الوطنية واليسارية، إسهاماً مبيناً في تحريك الجماهير وقيادتها. واستشعرت الحكومة الوفدية، أن محازبيها قد انفضوا من حولها. كما أحست بأنها أصبحت محاصرة بوعدها، الذي قطعته على نفسها، بإلغاء المعاهدة.

واستقر الرأي على إصدار قانون، يلغي المعاهدة؛ وسن تشريعات بتعديل موقف السودان. وعُهِد بذلك إلى الدكتور وحيد رأفت، المستشار الملكي لرئيس الوزراء.

واعتلى النحاس باشا في 8 أكتوبر 1951، منبر مجلس النواب، ليعلن قولته التاريخية: "من أجل مصر، أبرمت معاهدة 1936. ومن أجل مصر، أطالبكم، اليوم، بإلغائها".

وبعد خمسة أيام من إلغاء المعاهدة، طلب سفراء إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا مقابلة وزير الخارجية مقابلة مشتركة. ولكن الوزير، حدد لهم مواعيد متتالية، قدموا له فيها مذكرة واحدة، تطالب باستبدال اتفاقية دفاع مشترك بإلغاء المعاهدة. ولكن مجلس الوزراء، قرر رفض المذكرة. وأعلن ذلك فؤاد سراج الدين، في اليوم التالي مباشرة، أمام مجلس النواب، بعد سؤال حامد العلايلي، مراقب حزب الأحرار الدستوريين، عن سر مقابلة السفراء الأربعة لوزير الخارجية.

وفي اليوم نفسه، وصلت إلى بورسعيد ثلاث ناقلات جنود بريطانية، تحمل إمدادات، لتنفيذ خطة بريطانية جديدة، تقضي باحتلال كلّ مرافق مدن القناة، ووضع اليد على جميع وسائل عبور القناة. فخُشي أن تصبح القوات المصرية، في غزة وسيناء، تحت سيطرة قوات الاحتلال. وبادرت التنظيمات السياسية إلى الاستعداد للكفاح المسلح.

وحمل تطور القتال في منطقة القناة الحكومة على أن تشتري السلاح للفدائيين من الصعيد. كما فاوض فؤاد سراج الدين سفراء يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي في شراء أسلحة للشرطة. ولكن، خاب سعيه. وعلّل خيبته بأن الدول الاشتراكية، لم تكن قد قررت بعد مواجهة الغرب، بطريقة استفزازية، في المنطقة.

4. أسباب الثورة السياسية

أيقنت القوى السياسية، أن وجود القوات البريطانية في منطقة قناة السويس، على بعد ساعتَين فقط من القاهرة؛ إنما غايته هي حماية النظام من أيّ طامع في السلطة. وكان هذا تهديداً حقيقياً وخطراً وشيكاً. فإذا كانت دولة الملك قد انهارت، فإن جيش الاحتلال موجود، وحجة تدخله لحماية المصالح الأجنبية قائمة. بيد أن الملك ما زال موجوداً بكيانه المادي، والقصر ما دام مؤسسة سياسية قائمة، وتجمُّع الرجعية ما فتئ سهلاً، وما برح هؤلاء أعضاء في جسد الدولة السياسي؛ بل إن الدولة نفسها تفككت؛ ولكنها لم تندثر، إذ يمكن ضم أشلائها، لتعمل من جديد.

توانت الأحزاب في أيّ مساهمة فاعلة. وتحرج الوفد أن يزين للمصريين الكفاح الطبقي ـ الاجتماعي، في مواجهة كبار ملاك الأرض، الذين يَعُدهم عملاء سياسيين للمحتل، وليس أعداء: طبقيين واجتماعيين، للحزب والناس. ولم ينبثق من حزب الوفد جناح يساري، ذو وزن، يرفع شعارات اجتماعية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية. بيد أن ذلك الجناح، عجز أن يكون تنظيماً مستقلاً، خارج الحزب. كما قصر عن مخالفته، ولو من الداخل.

انبثق من صراع الملك والاستعمار للوفد مطالب: اجتماعية وطبقية، لا عهد بها للقوى السياسية المصرية، الرسمية وغير الرسمية؛ ما نجم عنه اضطراب توازنها. أمّا الوفد، فاقتصر جهده على معارك انتخابية ومظاهرات فقط. والمعركة الانتخابية، تستغرق شهراً أو شهرَين، كلّ بضع سنين، يتحرك فيها الناس، بالجرائد والخطب والمواكب والمظاهرات. وتعتمد على الطلبة والعمال. وتحريك الناس في المظاهرات، لا يتطلب صلات عضوية وثيقة بالحزب؛ وإنما هو يستغل سخطهم واحتجاجهم. ثم تكاد المظاهرات تتكون بنفسها. وتقاومها السلطة. فيزيد اشتعالها. وينتصر الوفد.

ما كان للإخوان المسلمين أن ينجحوا في التغلغل بين الفلاحين وانتظام بعضهم، لولا خبرة الجماعة باطمئنان هؤلاء إلى الطرق الصوفية. وقد اتسمت جماعة الإخوان المسلمين بالتنظيم الدقيق. وارتهنت، وجوداً ونشاطاً، بشخصية المرشد العام الأول، الشيخ حسن البنا. لذا، فاق تأثيرها بمقتله التأثير الناجم عن حلها واعتقال الكثير من أعضائها، فيما بعد.

لقد كان المناخ السياسي العام في مصر، عشية 23 يوليه 1952، ينبئ بانفجار هائل. فالقاهرة احترقت. والأوضاع السياسية تردت. وأنشطة السفارات الأجنبية لاستقطاب قوى جديدة تزايدت. ومواقف الضباط الأحرار استعرت. والهوة بين إسراف الأرستقراطية وفقر الشعب اتسعت. زِد على ذلك أن أوضاع الجيش، في عام 1952، كانت محوراً للصراعات السياسية.

تنكر الجيش للملك ونظامه. وأيد عليهما الحركة الشعبية. كما انضمت الشرطة إلى المتظاهرين، ولا سيما يوم حريق القاهرة. وهكذا فقد النظام مقوماته: حزب الوفد ـ الشرطة ـ الجيش. أمّا الحركة الشعبية، فتحينت النهوض من جديد؛ لكنها لم تكن قادرة على أن تحل محل الوفد، "المريض الذي مات". فكان 26 يناير 1952، من الناحية الفعلية، هو آخر أيام النظام القائم. ولكنه لم يكن أول أيام النظام الجديد.

5. بادرة الثورة الأولى

عقد، بعد ظهر 19 أكتوبر 1951، اجتماع، في حديقة نادي الضباط، في الزمالك. حضره زهاء ثلاثين ضابطاً، من مختلف أسلحة الجيش. وكان المقدم رشاد مهنا، من سلاح المدفعية، هو الذي دعا إليه، من طريق اتصالات هاتفية عاجلة ببعض أركان حرب الأسلحة.

رأس الاجتماع رشاد مهنا؛ لأنه أقدم المجتمعين. وعرض ما يعانيه النادي، وبخاصة أوضاعه المخالفة للقانون، والبحث عن وسيلة تصحيحها. وبعد مناقشات مطولة، اتُّفِق على دعوة الجمعية العمومية غير العادية للاجتماع؛ لأنها هي السلطة المخوَّلة تعديل قانون النادي. كما فُوِّض إليها إجراء انتخابات رئيس مجلس إدارته وأعضائه؛ وهو ما لم يكن، منذ إنشاء النادي.

التأمت الجمعية العمومية للضباط غير العادية في الساعة التاسعة، مساء 16 يونيه 1952، الموافق 23 رمضان 1371، في حديقة نادي ضباط الجيش، في الزمالك، استجابة لدعوة مجلس إدارته. وافتتحت الجلسة، بحضور جميع أعضاء المجلس، وبقيادة رئيسه، اللواء أ.ح محمد نجيب، الذي بدأ الاجتماع بكلمة، حث فيها أعضاء الجمعية العمومية على ضرورة مراعاة النظام والانضباط، اللذَين يميزان رجال القوات المسلحة.

حاول الفريق محمد حيدر استرضاء الملك، بالتخلص من مجلس إدارة النادي، بطريقة لا تستثير الضباط؛ حرصاً على مكانته بينهم. فعمد إلى تفجير المجلس من الداخل، بإقناع عشرة ضباط، من أعضاء إدارته التسعة عشر، بمن فيهم الرئيس، بتقديم استقالتهم؛ فينهار المجلس، إذ تصبح اجتماعاته غير قانونية.

وكان الفريق حيدر قد توسم في العميد حسن حشمت، ممثل سلاح الفرسان في مجلس إدارة النادي أن يعينه على مهمته. واستمات العميد في استيفاء الاستقالات العشر المطلوبة؛ حتى إنه لم يتردد في تهديد الأعضاء بعقوبات صارمة، إن امتنعوا عن تقديم استقالاتهم. كما كان يحاول إيهام كلّ عضو على حدة، أن باقي الأعضاء قد استقالوا. ولكن مسعاه خاب، إذ لم تتأتَّ له سوى خمس استقالات.

أيقن الملك فاروق عجز قائده العام، الفريق حيدر، عن السيطرة على الأمور في مجلس إدارة النادي. فبعث إليه، من طريق رئيس الوزراء، حسين سري باشا، برسالة تحذير، فحواها أن المجلس يجب أن يحل إدارة نادي الضباط، قبل منتصف يوليه، وإلا فَلْيَعُد الفريق حيدر نفسه معزولاً عن منصبه. وكَبُر على القائد العام، أن يأتيه بالرسالة رئيس الوزراء، وليس الملك نفسه، كما هي العادة؛ ما يدل على شدة غضبة فاروق عليه.

نفذت مشيئة فاروق. وحُلّ مجلس إدارة النادي، في 16 يوليه 1952. وعُيِّن مجلس آخر مؤقت، برئاسة اللواء علي نجيب، قائد قسم القاهرة (شقيق اللواء محمد نجيب)؛ وعضوية العميد جلال صبري، والعقيد يوسف العجرودي، والمقدم مصطفي عبدالرازق، وقائد الأسراب علي صبري.

6. استعجال الثورة

أرّخت لجنة القيادة في الضباط الأحرار الحركة بعام 1955؛ كما أعلن جمال عبدالناصر، في ما بعد. وراعى هذا التأريخ مرور ست سنوات على التنظيم، في سبتمبر 1949؛ ليتأتَّى له استكمال بنائه. ولكنه فوجئ، ولمّا يزل هشاً، غير متكامل، بحريق القاهرة، في 26 يناير 1952؛ ما استدعى نزول الجيش إلى الشوارع، لإعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة. وسرعان ما انقسمت لجنة قيادة التنظيم. فارتأى استغلال وجود الجيش في قلب العاصمة، وظروف منع التجوال، ليلاً، بالمبادرة إلى الحركة؛ على الرغم من عدم استكمال التنظيم قوّته؛ إذ إنه من المستبعد أن تسنح فرصة مماثلة، في المستقبل.

وآثر فريق آخر، وفيه عبدالناصر، عدم التحرك؛ لأن التنظيم لا يقوى على الضربة المنتظرة. وحذر اللواء محمد نجيب، خلال لقاء، في مكتبه برئاسة المشاة، حضره اثنان من أعضاء لجنة القيادة، هما: عبدالحكيم عامر وصلاح سالم، وأحد ضباط التنظيم، الرائد أ.ح جمال حماد، أركان حرب سلاح المشاة، حذر من عواقب أيّ تحرك، في هذا الحين، الذي يتربص فيه الاستعمار بالوطن، بعد إلغاء معاهدة 1936، وإقالة الحكومة الوفدية. فقد يستغل الفرصة، ويزحف بقواته إلى القاهرة؛ بحجة المحافظة على الأمن، وحماية أرواح الأجانب، وهي الذريعة، التي طالما توسلها إلى تنفيذ مآربه.

وأزمعت لجنة القيادة التعجيل بالحركة، فجعلت موعده نوفمبر 1952. والحكمة في ذلك، أن البرلمان الوفدي، الذي سبق لنجيب الهلالي استصدار مرسوم ملكي بحله، في 24 مارس 1952، أثناء وزارته الأولى ـ لا بدّ أن يعقد اجتماعه في هذه الشهر، بقوة الدستور، ولو أغفل الملك دعوته. فإذا حدثت مخالفة دستورية، ولم يُدْعَ المجلس للانعقاد؛ كما كان منتظراً، فإن حركة الجيش، عندئذٍ، تكون لحماية الدستور؛ وبذا تضمن تأييد الشعب.

وشجع لجنة القيادة على اتخاذ قرار التبكير ثلاثة عوامل:

·   أولها: صفقات الأسلحة الفاسدة، التي أثبتت أن الملك وحاشيته سارقون، ولو على جثث الضحايا.

·   ثانيها: تزويج شقيقة فاروق، فتحية، لرياض غالي؛ وتجريدها هي وأمها، نازلي، من لقبَيهما. وبذلك، انكشف للشعب انحلال الأسْرة المالكة.

·   ثالثها: مؤامرة الملك الإنجليز في استغلال حريق القاهرة، لإقالة الحكومة الوفدية؛ ما مثَّل طعنة دامية للكفاح الوطني، ووصمة لفاروق بمواطأة الاحتلال. وهو الأمر نفسه، الذي أجبر الملك على تأليف وزارات متعاقبة، قصيرة العمر، لا سند لها من الشعب أو الدستور، عرفت باسم: وزارات الموظفين، أو وزارات الاحتضار.

وبدد ذلك كلّه ثقة الشعب بحكومته. ووضع النظام برمّته على شفا الانهيار.

وتعجل فاروق إشعال المعركة، بينه وبين الضباط، حينما أجبر الفريق محمد حيدر على إصدار قرار، في 16 يوليه 1952، يحل مجلس إدارة نادي الضباط؛ عقاباً لهؤلاء على تطاولهم على قائدهم الأعلى، خلال اجتماع الجمعية العمومية لناديهم، في الزمالك، مساء 16 يونيه 1952. أمّا لجنة القيادة للضباط الأحرار، فبادرت إلى الاجتماع، في 17 يوليه من العام نفسه؛ للنظر في إقدام ا لملك على رمي قفازه في وجه ضباط الجيش.

وحضر الاجتماع عبداللطيف البغدادي، بعد ستة أشهر من المقاطعة؛ احتجاجاً على قرار اللجنة عدم التحرك، إثر حريق القاهرة. وتابعت اللجنة اجتماعاتها، خلال 18 و19 يوليه، بحضور جميع أعضائها، الموجودين في القاهرة؛ ومعهم عبدالحكيم عامر، الذي كان يعمل برئاسة الفِرقة الأولى، في رفح، ويمضي في العاصمة المصرية إجازة ميدان. وحددت اللجنة 5 أغسطس موعداً للانقلاب؛ وذلك لسبَبين:

أولهما: خشية امتناع البنوك عن صرف مرتبات الضباط والجنود.

وثانيهما: (وهو الأهم): انتظار وصول القوة الأساسية لكتيبة مدافع الماكينة الأولى من العريش، والتي كانت مقدمتها قد وصلت هايكستب، في 13 يوليه، بقيادة المقدم يوسف منصور صديق قائد ثاني الكتيبة.

وكان مقرراً أن تضطلع هذه الكتيبة بالإسهام الأول بين وحدات المشاة؛ لما تتمتع به من كثافة نيران. ولكن موعد 5 أغسطس قُدِّم إلى ليلة 23 يوليه.

وزاد الموقف حرجاً تلاحُق عدة عوامل، أبرزها:

أ. قدم حسين سري رئيس الوزراء استقالته، في 20 يوليه. وكان قد تدارك سخط الجيش بترشيحه اللواء محمد نجيب لوزارة الحربية؛ ولكن فاروق رفض ذلك. غير أن حسين سري دأب في محاولة التهدئة. فدعا الدكتور محمد هاشم، وزير الداخلية، اللواء محمد نجيب إلى مقابلته، في منزله، بالزمالك، في 18 يوليه. ودامت المقابلة إلى ساعة متأخرة من الليل. واستهدفت الوقوف على أسباب تذمر رجال الجيش.

ب. اعتزم الملك أن يستبدل نجيب الهلالي برئيس الوزراء المستقيل، حسين سري. ولا يمثل البديل أيّ خطر على الضباط؛ بل إنه لم يقلّ عن سلفه رغبة في استرضائهم. ومصداق ذلك أنه انتوى، في وزارته الأولى، أن يسند وزارة الحربية إلى محمد نجيب، الذي وافق على توليها. إلا أن الملك رفض التعامل مع عرابي آخر.

ج. أسخط الضباط الأحرار تقلد خصمهم اللدود، اللواء حسين سري عامر، منصب وزير الحربية؛ ما يؤذن بتصميم الملك على تحديهم، بل الانتقام منهم.

د. استثار خشية الضباط الأحرار، ولا سيما لجنة القيادة، أن أجهزة الملك الأمنية، اكتشفت 12 ضابطاً مؤامراً، من بينهم معظم أعضاء لجنة القيادة نفسها. وتعيين حسين سري عامر وزيراً للحربية؛ إنما غايته التنكيل بهؤلاء الضباط، طرداً واعتقالاً وتشريداً.

اشتد قلق لجنة القيادة، إذ يوشك الخطر أن يدهم أعضاءها، ويكاد الانتقام يطاولهم. وغدا الأمر صراعاً مع الزمن، أو سباق الموت، بينهم وبين غريمهم، حسين سري عامر. ولذلك، سارعوا إلى تقديم موعد حركتهم، من 5 أغسطس إلى ليلة 22 يوليه؛ ليمكنهم تحطيم الوزارة الجديدة ووزير الحربية، قبل أداء اليمين الدستورية. ولكن ذلك لم يتأتَّ لهم. فاستبدلوا ليلة 23 يوليه، بالبارحة، أيْ بُعَيْد أداء الوزارة اليمين الدستورية؛ كي يحرموا وزير الحربية الجديد إصدار أيّ تعليمات أو أوامر، يسبق بها حركة الضباط الأحرار، التي كانت تُعَد، وقتئذ، في عناية وكتمان.

سابعاً: قيام الثورة

في صباح الثلاثاء، 22 يوليه 1952، اجتمع أعضاء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، في مصر الجديدة. وقرروا أن تبدأ الحركة، ليلة الأربعاء، 23 يوليه 1952، في منطقة ثكنات الجيش (أيْ من نهاية شارع العباسية إلى مصر الجديدة). كما اتفقوا على ترتيباتها النهائية. واستنفروا جميع ضباط الجيش لتنفيذ المطلوب في الموعد المحدد، وفق خطة، قِوامها ثلاثة أركان:

·   السيطرة على الجيش سيطرة تامة.

·   ضمان التأييد الشعبي للحركة.

·   خلع فاروق، من دون إراقة دماء.

وتنفيذاً للركن الأول من الخطة، أُمِر الضباط الأحرار باحتلال أهم مراكز أسلحة الجيش، واعتقال كبار الضباط، من قادة الأسلحة؛ وقاية من أيّ طارئ، وضماناً للنجاح. وفي الساعة الحادية عشرة، مساء 22 يوليه، شرعت الوحدات الثورية تحتل المراكز المهمة لأسلحة الجيش، في منطقة الثكنات. وأنجزت مهمتها، في الساعة الثانية من صبيحة الأربعاء، 23 يوليه. فاعتقلت كبار الضباط، سواء في منازلهم وفي مركز القيادة العامة وفي طريقهم إليه. ونقلتهم إلى مبنى الكلية الحربية، حيث احتجزتهم. وبذلك تأتَّى لها السيطرة على قيادة الجيش.

وسرعان ما أُرسلت عدة كتائب إلى جهات مختلفة؛ للاستيلاء على ما فيها، من منشآت مهمة أو مرافق عامة. وتمكنت هذه من محاصرة المطارات، واحتلال الجسور المهمة، عند مداخل العاصمة، وكذلك محطة القاهرة للسكة الحديد، ومصلحة التلغرافات والتليفونات، ومقر شركة ماركونى، ومبنى الإذاعة في أبى زعبل، ودار الإذاعة المصرية، التي احتلت من دون مقاومة، في الساعة الرابعة، من صبيحة 23 يوليه. ورابطت سرايا أخرى في بعض الميادين العامة في العاصمة. وهكذا نجحت الحركة في السيطرة على القاهرة، بعد سيطرتهم على الجيش، قبل أن تشرق شمس 23 يوليه 1952.

إعلان الثورة وتأييدها الشعبي

فوجئ المصريون، في الساعة السابعة والنصف، من صباح الأربعاء، 23 يوليه، ببيان، تبثه الإذاعة المصرية، باسم القائد العام للقوات المسلحة؛ يعلن انتفاضة الجيش المصري على الطغيان والفساد، الذي استشرى في البلاد.

وقال البيان: "اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكلّ هذه العوامل تأثير كبير على الجيش. وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين. وأمّا فترة ما بعد هذه الحرب، فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك، فقد قمنا بتطهير أنفسنا. وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال، نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم. ولا بدّ أن مصر كلّها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب.

أمّا من رأينا اعتقالهم، من رجال الجيش السابقين، فهؤلاء لن ينالهم ضرر. وسيطلق سراحهم، في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري، أن الجيش، اليوم، كلّه، أصبح يعمل لصالح الوطن، في ظل الدستور، مجرداً من أية غاية. وأنتهز هذه الفرصة، فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة، أن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف؛ لأن هذا ليس في صالح مصر. وإن أيّ عمل من هذا القبيل، سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل. وسيلقى فاعله جزاء الخائن، في الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا، متعاوناً مع البوليس. وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم. ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم. والله ولي التوفيق".

ويلاحظ أن البيان كان موجز العبارة؛ فلم يوضح الأسباب الرئيسية للحركة ولا أهدافها الحقيقية. وجاء البيان الثاني، الذي أذيع في اليوم التالي، 24 يوليه، أكثر تحديداً لأسباب لها؛ فتخطى الرغبة في تطهير الجيش، أو القضاء على عوامل هزيمته في فلسطين. وأشار إلى أن الحركة تنشد "الإصلاح والتطهير في الجيش، وفي جميع مرافق البلاد؛ ورفع لواء الدستور". وخاطب الشعب، قائلاً: "إن حركتنا قد نجحت؛ لأنها باسمكم، ومن أجلكم، وبهديكم. وما يملأ قلوبنا من إيمان، إنما هو مستمد من قلوبكم. إن كلّ شيء يسير على ما يرام. وقد أعددنا لكلّ شيء عدته. فاطمئنوا إلى نجاح حركتنا المباركة. واتجهوا بقلوبكم إلى الله ـ العلي القدير ـ. وسيروا خلفنا إلى الأمام".

لقد استقبل الشعب المصري "الحركة المباركة" بالفرح والبشر والارتياح. واستشعر الناس أنها لا تتوخى مصلحة الجيش فقط، بل تتحرى مصلحة المصريين كذلك. ومن ثَم، أعلنوا تأييدها، بوسائل شتى. فاستوفت الحركة، خلال يومَين، ركن خطتها الثاني.

ثامناً: خلع فاروق وطرده

بادرت وزارة الهلالي، بُعيد تأليفها، إلى الاجتماع في الإسكندرية، صباح 23 يوليه؛ محاولة التفاهم مع الجيش، مبدية استعدادها لإجابة طلباته. ولكنها أخفقت. فاستقالت، في اليوم نفسه. وقبل فاروق استقالتها. وكان بعض ضباط القيادة قد زاروا، صباح ذلك اليوم، علي ماهر، في داره، وأبلغوه أنه مرشحهم لتأليف الوزارة الجديدة. فطلب أن تكون توليته إياها بالطريق الطبيعي، أيْ بتكليف من فاروق. ولما أَلَّف وزارته، سافر إلى الإسكندرية، بعد ظهر اليوم عينه؛ للاجتماع إلى الملك فاروق والتفاهم معه.

وحمل إليه، مساء، في قصر المنتزه، مطالب الجيش، وفى مقدمتها طرد بعض رجال الحاشية الملكية. فاستجاب، بعد تردد، معتقداً أنه تدارك الموقف بتعديل الوزارة، وتطهير الحاشية. وفاته أن قادة الحركة، قد أخفوا هدفها الرئيسي؛ فلم يمكنه اكتشافه؛ على مكر جواسيسه، الذين حاولوا استدراج أولئك القادة، بمراودتهم على خلع الملك، إذ استفظع الضباط هذا الاقتراح المخطر، واستبعدوا حتى التفكير فيه. ولو أنهم جهروا بعزمهم على قلب نظام الحكم، وخلع فاروق، لكان من المحتمل أن تضطرب الأمور، وتسفك الدماء، وتسود الفوضى؛ ولم يكن ذلك ضمن خطتهم.

ووصلت إلى الإسكندرية، صباح 25 يوليه، قوة عسكرية من الجيش، رأت قيادة الحركة حشدها في المدينة؛ "بدعوى الاستعداد، وإشعار الإنجليز بأنهم لا يقبلون أيّ تدخل". فرابطت في الأماكن المعدة لها، وسط هتافات الشعب المدوية بالحركة وقادتها. إلا أنها أثارت حفيظة الملك، فأوعز إلى علي ماهر أن يستفسر احتشادها. فأجيب بأنه إجراء عسكري، للمحافظة على الأمن، ومواجهة أيّ طارئ.

وصباح 26 يوليه 1952، أحدقت الدبابات بقصر رأس التين؛ إضافة إلى القصور الملكية في عابدين والقبة والمنتزه. وفي الساعة التاسعة، وصل رسل العسكريين إلى دار الوزارة، في الإسكندرية، حيث سلَّموا علي ماهر، إنذاراً للملك، باسم القائد العام للقوات المسلحة جاء فيه: "نظراً لما لاقته البلاد، في العهد الأخير، من فوضى شاملة، عمت جميع المرافق؛ نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب، حتى أصبح كلّ فرد من أفراده، لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته. ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم، من تماديكم في هذا المسلك، حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون، في ظلكم، الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن، على حساب الشعب الجائع الفقير.

ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين، وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها من محاكمات، تعرضت لتدخلكم السافر؛ مما أفسد الحقائق، وزعزع الثقة في العدالة، وساعد الخونة على ترسيم هذه الخطى. فأثرى من أثرى، وفجر من فجر. وكيف لا، والناس على دين ملوكهم! لذلك، قد فوضني الجيش، الممثل لقوة الشعب، أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسموّ ولي عهدكم، الأمير "أحمد فؤاد"؛ على أن يتم ذلك في موعد، غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم، الموافق 26 من يوليه سنة 1952 والرابع من ذي القعدة سنة 1371؛ ومغادرة البلاد، قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه. والجيش يحمل جلالتكم كلّ ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب، من نتائج".

توجه علي ماهر، في الساعة العاشرة صباحاً، إلى قصر رأس التين، حيث سلّم الملك الإنذار. ونصح له قبوله. وفي الظهر، وصل سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، إلى القصر، يحمل وثيقة النزول عن العرش. فقرأها فاروق، ووقعها، وهو زائغ البصر، دامع العين، متوتر الأعصاب؛ حتى إنه وقعها مرة ثانية، بعد أن لاحظ أن توقيعه الأول جاء مضطرباً.

وتنص الوثيقة على الآتي: "أمر ملكي رقم 65 لسنة 1952. نحن "فاروق الأول"، ملك مصر والسودان، لما كنا نتطلب الخير دائماً لأمتنا، ونبغي سعادتها ورقيها؛ ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب، التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة؛ ونزولاً على إرادة الشعب ـ قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا، الإمبراطور "أحمد فؤاد". وأصدرنا أمراً بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع، "علي ماهر باشا"، رئيس مجلس الوزراء؛ للعمل بمقتضاه. صدر بقصر التين، في 4 ذي القعدة سنة 1371 ـ 26 يوليه سنة 1952".

وغادرت السفينة "المحروسة" الميناء، تقلّ الملك المخلوع، في تمام الساعة السادسة مساء، متجهة إلى إيطاليا، حيث تقرر نزوله، وتركه وشأنه في أحد الموانئ الإيطالية. وكانت المحروسة هي نفسها التي أقلت جده، الخديوي إسماعيل، إلى نابولي، بعد خلعه من العرش، عام 1879.

ولقد أبدى جمال عبدالناصر، فيما بعد، أثر 26 يوليه 1952 في نفسه، فقال:

"إن اليوم الخالد، الذي أعتز به، هو يوم 26 يوليه 1952؛ فإنه يملأ نفسي غبطة وسعادة. وأسعد ساعاته ساعة أن وقع فاروق وثيقة تنازله عن العرش".

ونهاية عهد الملك فاروق، كانت نهاية لعلاقة أسْرة محمد علي بمصر، حيث أعلنت الجمهورية، في 18 يونيه 1953.

وهكذا بدأ عهد جديد في مصر. حاولت فيه الحكومة تطبيق مبادئها الستة؛ إضافة إلى مبادئ العدالة الاجتماعية. كما تحولت مصر إلى قاعدة للتحرر: العربي والإفريقي. واعتمدت سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابي؛ فضلاً عن التصدي لمحاولات التوسع الإسرائيلية في الأراضي العربية. وأنجزت انتصارات. ومنيت بانكسارات. بيد أن ثورة يوليه، تُعَد معلماً جديداً لمرحلة تاريخية جديدة.

تاسعاً: تقييم المرحلة الليبرالية في تاريخ مصر (من دستور 1923 حتى يوليه 1952)

·   لم يتمتع الشعب المصري، طوال هذه المرحلة، بالحكم الديموقراطي الصحيح، إلا مدة سبع سنوات، في عهد حكومة حزب الوفد. وحكمت أسْرة محمد علي حكماً ديكتاتورياً، مدة 21 عاماً، بواسطة أحزاب الأقلية.

·   عطلت حكومات أحزاب الأقلية حل القضية الوطنية، بإشغال الشعب المصري بالنضال من أجل الدستور والحكم الدستوري. وأبعدته عن مكافحة الاحتلال، إلا بمبادرات: فردية أو حزبية.

·   لم يحظَ معظم الحكومات المصرية بثقة الشعب المصري؛ الأمر الذي دفع بالحكومة البريطانية إلى تجاهل المطالب الوطنية، التي تقدمها تلك الحكومات؛ والتمسك بعدم تقديم تنازلات.

·   أدى استئثار القصر الملكي بالحكم، معظم سنوات المرحلة الليبرالية، إلى إفساد الحياة السياسية، الناجم عن غياب المحاسبة البرلمانية السليمة، التي توفرها الحكومات الدستورية، التي يخولها الشعب ثقته.

·   تمخضت الحكومات الديكتاتورية بحرمان الشعب المصري ميزات الحكم الديموقراطي، الذي تمتعت به الشعوب الأوروبية، مثل: الحرية السياسية، وحرية التعبير، وفصل السلطات.

·   تحالف الملك الاحتلال البريطاني حِلافاً شبه دائم على الشعب المصري والمصالح الوطنية؛ للمحافظة على عرشه. وقد حاول التنكر لتلك المحالفة، في أحداث 4 فبراير 1942، خلال الحرب العالمية الثانية، بانحيازه إلى ألمانيا؛ إلا أن الاحتلال البريطاني، هدد بتنحيته عن العرش؛ فتدارك أمره بالعودة إلى سابق عهده، وسار في ركاب الاحتلال، وجعله سنداً لعرشه.

·   عجزت حكومات الأقلية عن أيّ إنجازات وطنية، ذات أهمية إستراتيجية، في المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. واقتصرت الإنجازات على عهود حكومات الأغلبية، مثل حكومة الوفد.



[1] مشروع سورية الكبرى، يستهدف تحقيق اتحاد بين شرق الأردن وسورية ولبنان. وفي حالة تقسيم فلسطين، يُضم القسم العربى إلى الدولة الحديثة.

[2] المنظمة العسكرية الوطنية لإسرائيل. قائدها، عند إعلان التقسيم، هو مناحم بيجن.

[3] منظمة المدافعين عن حرية إسرائيل. استمدت اسمها من قائدها الأول، إبراهام شتيرن. أمّا قائدها، عند إعلان التقسيم، فكان فريدمان يلّين.