إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الزواج في الإسلام، وفي الديانات الأخرى









شُبُهات

المبحث الثامن

انتهاء الزواج بالطلاق

ينتهي الزواج إما بموت أحد الزوجين، أو بطلاق الزوج، أو بخلع الزوجة، أو بظهار الزوج، أو بفسخ العقد.

أولاً: تعريف الطلاق

الطلاق في اللغة يعني التحرر والترك والإرسال، وطُلِّقت المرأة من زوجها طلاقاً، أي تحللت من قيد الزواج وخرجت من عصمته.

والطلاق شرعاً: إنهاء عقد الزواج الصحيح في الحال أو في المآل بالصيغة الدالة على ذلك، أو حل رابطة الزواج، وإنهاء العلاقة الزوجية.

ثانياً: حكم الطلاق:

اختلف علماء المسلمين هل الأصل في الطلاق الإباحة؟ أم أن الأصل فيه التحريم؛ بحيث لا يجوز إلا في ظروف معينة، باعتبار الزواج نعمة من نعم الله، وكفران النعمة حرام.

قال فقهاء المذاهب الأربعة: "والطلاق على خمسة أضرب: واجب، ومكروه، ومباح، ومندوب إليه، ومحظور".(واجب) كطلاق المولي وطلاق الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا رأياه[1].

و(مندوب) كطلاق زوجة حالها غير مستقيم كسيئة الخلق أو تاركة صلاة، ولا يمكنه إجباره عليها، أو تكون غير عفيفة . و(مكروه) كطلاق زوجة مستقيمة الحال قائمة بحقوق الله وحقوق زوجها عليها. و(مباح) كطلاق من لا يحبها ولا تسمح نفسه بمئونتها من غير استمتاع بها. و(حرام) كالطلاق البدعي مثل الطلاق في الحيض.

أما القائلون بأن الأصل هو الإباحة فقد ذكروا أن القرآن الكريم ورد فيه جواز الطلاق وحله في آيات كثيرة، (منها) قوله تعالى: ]الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[ (سورة البقرة: الآية 229). و(منها) قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ (سورة الطلاق: الآية 1).

وفي السنة أخبار كثيرة بوقوع الطلاق مما يدل على مشروعيته، من ذلك: أن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر t رسول الله r عن ذلك فقال: ]مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ ‏ ‏يَمَسَّ ‏ ‏فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ[ (سنن النسائي، الحديث الرقم 3337).

وأما الذين يرون أن الأصل في الطلاق التحريم ولا يباح إلا للحاجة المعتبرة شرعاً، فقد استدلوا بأدلة منها:

قوله تعالى: ]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[ (سورة النساء: الآية 19) فالآية الكريمة تنفر المسلمين من الطلاق، وتخبرهم بأن إمساك زوجاتهم وعدم اللجوء إلى طلاقهن، مع كراهتهم لهن، يمكن أن يحصل فيه خير كثير[2].

وقال تعالى: ]وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[ (سورة النساء: الآية 128). وتفسير هذه الآية يقول: إذا توقعت المرأة من زوجها تباعداً أو إعراضاً أي عدم تكليمها والاستمتاع بها، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا يتفقان عليه لبقاء الرابطة الزوجية. والصلح خير، أي أن الصلح الحقيقي بين الزوجين الذي تسكن إليه النفوس ويزيل الخلاف خير من الفرقة[3].

ثالثاً: حكمة مشروعية الطلاق

يرى علماء المسلمين أن نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية يعد من محاسنها، ومن دلائل واقعيتها وعدم إغفالها مصالح الناس، في مختلف ظروفهم وأحوالهم. ودليل ذلك أن الشريعة الإسلامية مع حثها على الزواج وترغيبها فيه وحرصها على بقاء الرابطة الزوجية إلا أنها لم تغفل واقع النفوس وطبيعتها، وما قد يعتريها من تغير يؤدي إلى المنافرة والخلاف، ولا يسلم من ذلك الزوجان، وقد يستعصي حل الخلاف وإزالة النفرة فيما بينهما، فلا يكون الحل إلا بافتراقهما؛ لأن هذا الفراق أولى من بقاء الرابطة الزوجية مع الخلاف والنفرة ومن الناس من يصاب بزوج غير كفء، أو بغيض تعافه الطبيعة[4] ولهذا شرع الطلاق.

وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى بقوله: "ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررا محضا بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة، مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه".

رابعاً: لماذا كان الطلاق بيد الرجل؟

هناك عدة أسباب منها:

1. من لوازم قوامة الرجل على امرأته أن يكون الطلاق بيده.

2. إن الطلاق أمر خطير جداً؛ لأن فيه حل الرابطة الزوجية وإنهاء عقد الزواج الذي عقد في الأصل ليكون عقد العمر، فلا يجوز التعجل في إنهاء هذا العقد، والعجلة تأتى من طبيعة الإنسان وسرعة غضبه وتوقد عاطفته، عند الغضب والخصام.

وإذا كانت هذه الأوصاف مشتركة بين الرجل والمرأة، إلا أن من الملاحظ، الذي يؤيده الواقع، أن الرجل أكثر احتمالاً وصبراً على ضبط عواطفه وانفعالاته وكظم غضبه من المرأة، ومن ثم هو أولى منها بإعطائه حق الطلاق؛ لأنه لا يستعمله لأدنى انفعال أو غضب[5].

3. إن الطلاق يحمل الزوج تبعات مالية كالمهر المؤجل ونفقة العدة، وأجرة الرضاعة والحضانة إن كان له طفل أو أطفال من زوجته المطلقة، وهذا كله مما يحمل الزوج على التأني وعدم العجلة في تطليق زوجته. وربما تزول أسباب طلاقها في حالة تأنيه وعدم عجلته. فإذا طلق  فالمفروض أن يطلق طلاقاً رجعياً شرعياً يستطيع إرجاعها خلال العدة إذا تبين له خطأ ما أقدم عليه.

4. إعطاء حق الطلاق للرجل لا يعني انسداد سبل الخلاص منه، إن أراد الإضرار في إمساكها، إذ تستطيع أن تطلب التفريق عن طريق القضاء للضرر أو للشقاق.

5. ومع ما تقدم فإن المرأة تستطيع، عند عقد الزواج، أن تشترط لنفسها حق الطلاق، فإذا رضي الزوج بهذا الشرط، صار لها حق تطليق نفسها بإرادتها، من دون الحاجة إلى إذن القاضي، كما للزوج حق تطليقها بإرادته.

خامساً: شروط المطلِّق

لا يملك الزوج  إيقاع الطلاق إلا إذا توافرت فيه جملة شروط: وهي أن يكون بالغاً عاقلاً، مختاراً قاصداً إيقاع الطلاق.

1. شرط البلوغ

اشترط الجمهور، سوى الحنابلة، في الزوج المطلق أن يكون بالغاً، فلا يقع طلاق الصبي وإن كان عاقلاً لأن الطلاق لم يشرع إلا عند خروج النكاح من أن يكون مصلحة، وإنما يعرف ذلك بالتأمل، والصبي لاشتغاله باللهو واللعب لا يتأمل، فلا يعرف وجه المصلحة فلا يقع طلاقه.

وقال الحنابلة: يصح الطلاق من زوج عاقل مختار ولو مميزا يعقل الطلاق، ولو كان الصبي المميز دون عشر سنين لما ثبت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ]أَتَى النَّبِيَّ r رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا قَالَ فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمِنْبَرَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا الطَّلاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاق[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2072). وقوله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ rَ: ]كُلُّ طَلاقٍ جَائِزٌ إِلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1112). وعن علي بن أبي طالب t: اكتموا الصبيان النكاح فيفهم منه أن فائدته أن لا يطلقوا. ولأن طلاق الصبي المميز طلاق من عاقل صادف الطلاق فوقع كطلاق البالغ. ومعنى كون الصبي المميز يعقل الطلاق هو أن يعلم أن زوجته تبين منه، وتحرم عليه إذا طلقها[6].

2. شرط العقل

ويشترط في الزوج المطلق أن يكون عاقلاً، فلا يقع طلاق المجنون لقوله r: ]رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 23962) والعقل شرط أهلية التصرف؛ لأن به يعرف كون هذا التصرف مصلحة أم لا؟ قال ابن قدامة الحنبلي: "أجمع أهل العلم على أن زائل العقل بغير سكر، أو ما في معناه، لا يقع طلاقه.

أ. الملحقون بالمجنون

(1) النائم.

(2) المعتوه.

(3) المبرسم[7].

(4) المغمى عليه.

(5) المدهوش.

ب. هل يقع طلاق السكران؟

عامة الفقهاء أو جمهورهم يفرقون بين سكران بطريق محظور، وبين سكران بطريق غير محظور: فمن سكر بطريق غير محظور كالذي شرب شراباً فأسكره، أو تناول دواء فغيب عقله، أو تناول مسكراً ولم يعلم أنه مسكر فأسكره أو أُكره على الشراب إذا طلق، لم يقع طلاقه؛ لأنه زائل العقل حقيقة فيلحق بالمجنون لأن زوال عقله لم يكن بسبب منه ولا اختيار، وبهذا صرح الفقهاء ولا خلاف في ذلك كما قال ابن قدامه الحنبلي.

أما إذا سكر بطريق محظور بأن تناول المسكر، مع علمه بأنه مسكر، وطلق في حال سكره فهل يقع طلاقه أم لا؟ اختلاف بين الفقهاء، فمنهم من قال بإيقاعه وهم جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والزيدية على سبيل التعزير، ومنهم من لم يقل بوقوعه . وهذا قول الظاهرية واختيار الكرخي والطحاوي من فقهاء الحنفية  وهو كذلك اختيار ابن تيمية، وحجتهم أن هذا غائب عنه عقله بالسكر ويعاقب بعقوبة واحدة هي الجلد.

إلزام السكران بجرائمه: أما إذا ارتكبها فيقتل إذا قتل ويقطع إذا سرق.. الخ، فهذا محل نزاع بين الفقهاء، فقد قال عثمان البتي لا يلزمه إلا حد الخمر فقط. والذين قالوا بعقوبته إذا ارتكب ما يوجبها، احتجوا بأن عدم معاقبته على أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص، إذ يستطيع كل من أراد قتل شخص أو أراد أن يزني أو يسرق أن يسكر ويفعل ذلك، وهذا ذريعة للفساد فلا تجوز. ولكن إلغاء أقوال السكران لا يتضمن مفسدة لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف جرائمه، فإنه لا يمكن إلغاؤها بعد وقوعها.

والشرع جعل عقوبة السكران حد شرب الخمر، فلا يجوز معاقبته بشيء آخر زيادة على العقوبة المقررة له. كما أن في الزيادة على هذه العقوبة بإيقاع طلاقه، يعني إيقاع الأذى والضرر بزوجته المسكينة دون ذنب جنته، ودون قصد من زوجها بتطليقها. وهذا هدم للحياة الزوجية وضياع لأولادهما، وكل هذا مما لا ترغب الشريعة فيه.

3. المقصود بالاختيار

المقصود بكون المطلق مختارا كونه غير مكره على الطلاق من قبل الغير؛ لأن الإكراه يفسد الاختيار ويعدم الرضا، فلا يقع به الطلاق.

أ. لا يقع طلاق المكره عند الجمهور

ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المكره، وهذا مذهب كثير من الصحابة وجماهير علماء الإسلام.

وذهب إلى وقوع طلاق المكره بعض فقهاء الحنفية، وبعض الفقهاء كالشعبي والزهري. والصحيح أن المكره لا إرادة له ولا اختيار، وهما أساس التكليف، والمعلوم أن من أكره على النطق بكلمة الكفر لا يكفر، فكذلك الطلاق.

ب. طلاق الهازل

الهازل هو من يتلفظ قاصداً، ولكن لا يريد موجبه وهو وقوع الطلاق. فمن الفقهاء من قال بوقوعه ومنهم من قال بعدم وقوعه.

وقول الجمهور أنه يقع طلاق الهازل كما هو صريح الحديث النبوي الشريف حفظاً لأحكام الشرع من العبث واللعب بها، ومسائل النكاح والطلاق فيها حل وحرمة وتتعلق بالفروج، وصيانتها واجب، ومن لوازم صيانتها منع جعلها موضوعاً للهزل واللعب.

والقائلون بوقوع طلاق الهازل هم عامة العلماء، قال ابن المنذر: "أجمع كل من حفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء، وروي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود، ونحوه عن عطاء وبه قال الشافعي وأبو عييد، وهو قول سفيان الثوري وأهل العراق".

ج. طلاق الغضبان

عَنْ عَائِشَةَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: ]لاَ طَلاقَ وَلا عَتَاقَ فِي غِلاقٍ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 1874)[8].

وظاهر الحديث الشريف يدل على عدم وقوع طلاق الغضبان، إذا اشتد به الغضب، فيغلق عليه، فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، فيدخل في ذلك كل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.وقال الإمام ابن القيم: "والغضب على ثلاثة أقسام:

(1) ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.

(2) ما يكون الغضب في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصوره، يقول وقصده. فهذا يقع طلاقه بلا نزاع.

(3) أن يستحكم الغضب فيه ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال غضبه. فهذا محل نظر، وعدم الوقوع ( وقوع الطلاق ) في هذه الحالة قوي.

د. طلاق المخطىء

إذا أخطأ الرجل فيما يريد النطق به، كأن يريد أن ينادي زوجته باسمها فيسبق لسانه إلى النطق بكلمة (طالق) مخاطبا إياها بهذا اللفظ، أو أنه يتكلم بما يدل على الطلاق وهو لا يقصد النطق به ولكن لسانه سبق إلى ما نطق به.

والجمهور على عدم وقوع طلاق المخطئ، إذا ثبت لدى القاضي بأنه أخطأ في التلفظ بلفظ الطلاق بينما يرى الأحناف أنه يعامل به قضاء، وأما ديانة، فيما بينه وبين ربه، فلا يقع طلاقه.

ودليلهم في هذا  قوله تعالى: ]وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ[ (سورة الأحزاب: الآية 5).

وحديث رسول الله r: ]‏إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2033)، وفي رواية أخرى لهذا الحديث: ]‏إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2035).

هـ. التلفظ بالطلاق للتعليم

ومن يتلفظ بلفظ الطلاق على سبيل التعليم لغيره، أو الحكاية عن غيره، لا يقع طلاقه؛ لأنه لم يقصده وإنما قصد التعليم والحكاية، جاء في "غاية المنتهى" في فقه الحنابلة: "وتعتبر إرادة لفظ الطلاق لمعناه، فلا طلاق لفقيه يكرره وحاكٍ ولو عن نفسه".

و. تلفظ النائم بالطلاق

إذا تلفظ النائم بلفظ الطلاق موجها لفظه هذا إلى زوجته، فإن طلاقه غير واقع باتفاق العلماء؛ لأنه غير قاصد اللفظ ولا حكمه، فلا يعتد به. حَدَّثَنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: ]رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُر[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3822).

ز. الرسالة في الطلاق

إذا أرسل الزوج رسالة، شفوية أو مكتوبة، بشرط أن تكون الكتابة بينة واضحة فيها طلاق زوجته، وقع الطلاق[9].

سادساً: طلاق الحائض

قال الإمام النووي: "أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها"، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ[ (سورة الطلاق: الآية 1).

قال الزمخشري في "تفسيره": قوله تعالى: ]إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء[ أي إذا أردتم تطليقهن وهممتم به ]فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ أي فطلقوهن مستقبلات لعدتهن".

وقال ابن كثير في "تفسيره": وعن ابن عباس قال في قوله تعالى: ]فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ أي لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه"  فالآية الكريمة دلت على حظر الطلاق في الحيض، وقد تأكد هذا المراد من الآية الكريمة بما ثبت عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما]أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَسَأَلَ ‏ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏ ‏رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ ‏ ‏يَمَسَّ ‏ ‏فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ [ (سنن النسائي، الحديث الرقم 3337).  قال ابن حجر العسقلاني: قوله r: فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء أي فتلك العدة التي أذن الله أن يطلق لها النساء. وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ (سورة الطلاق: الآية 1)

1. حكمة تحريم الطلاق في الحيض

والحكمة في تحريم الطلاق في الحيض يرجع إلى أمرين:

أ. لئلا تطول عدة المرأة المطلقة، وفي إطالتها ضرر عليها.

ب. لغرض التأكد من أن الطلاق كان لحاجة الزوج إليه وليس مرده إلى نزوة طارئة وغضب سريع وقرار متعجل. وبيان ذلك أن الرجل عادة لا يميل إلى زوجته وهي حائض، الميل الطبيعي المعتاد نظراً لحرمة وطئها في الحيض، وربما يدعوه ذلك إلى العجلة في تطليقها. فكان في منع الشرع له من تطليق زوجته وهي حائض، وجعل الوقت المشروع لتطليقها هو وقت طهرها وقبل أن يجامعها، كان ذلك كله أدل على الوثوق من تحقق الحاجة إلى طلاقها. وهذا الطلاق، وإن كان محرماً، إلا أنه يقع.

فقد جاء في "المغني"، لابن قدامة الحنبلي: "فإن طلقها للبدعة، وهو أن يطلقها حائضا أو في طهر أصابها فيه، أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم"  وقال الإمام النووي وهو شافعي المذهب: "أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض".

وقال الظاهرية والجعفرية والإمامية بعدم وقوع الطلاق في الحيض، وقال ابن تيمية: " والطلاق هو مما أباحه الله تارة وحرمه أخرى، فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله r لم يكن لازماً نافذاً، كما يلزم ما أحله الله ورسوله r. وكذلك قال ابن القيم محمد بن إسماعيل الأمير صاحب "سبل السلام".

2. طلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع

وعلى هذا، فالطلاق المشروع الموافق لما جاء في الكتاب والسنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، أي يطلقها وهي طاهر من غير جماع، وهذا هو طلاق السنة. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ r وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r وَغَيْرِهِمْ أَنَّ ]طَلاقَ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ[ (رواه النسائي، الحديث الرقم 3342).

3. حكمة تحريم الطلاق في طهر مسها فيه

الحكمة في ذلك أنه إذا جامعها وهي طاهر، فلا يأمن الزوج من أنها قد حبلت بهذا الجماع، فإذا طلقها ثم استبان حملها فقد يندم على ذلك، لأنه ما كان يقدم على طلاقها لو علم أنها حامل رعاية لحملها منه. وكذلك فإن طلاقها بعد وطئها، مع احتمال حبلها بهذا الوطء، يجعل الزوج والزوجة في شك من عدتها: أتكون بوضع الحمل إذا تبين أنها حامل أم تكون عدتها بثلاثة قروء إذا لم تكن حاملاً.

وكذلك فإن الحاجة تظهر في الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، لأن الطهر الذي لا يجامع فيه زمان كمال الرغبة في الجماع، والزوج لا يطلق امرأته في زمان كمال الرغبة في الجماع إلا لشدة الحاجة إلى طلاقها. ومن ثم لن يلحقه ندم في طلاقها، وحتى إذا لحقه ندم فيمكنه أن يتلافاه بإرجاعها إذا التزم بطلاق السنة.

سابعاً: صيغة الطلاق

صيغه قد تكون باللفظ الصريح الدال عليه، أو بما يقوم مقامه مثل أنت طالق، أو مطلقة، أو أنت الطلاق، بغير اللفظ الصريح وهي صيغة الكناية ولا بد فيها من توافر النية، مقل أن يقول لزوجته الحقي بأهلك، أو فارقيني، أو مثلها.

·   صيغة الطلاق: إما أن تكون منجزة، وأما أن تكون معلقة، وأما أن تكون مضافة إلى مستقبل. فالمنجزة هي الصيغة التي ليست معلقه على شرط، ولا مضافة إلى زمن مستقبل، بل قصد بها من أصدرها وقوع الطلاق في الحال، كأن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق. وحكم هذا الطلاق، أنه يقع في الحال متى صدر من أهله.

·   وأما المعلق: وهو ما جعل الزوج فيه حصول الطلاق معلقا على شرط، مثل أن يقول الزوج لزوجته: إن ذهبت إلى مكان كذا، فأنت طالق.

والواقع أن النهار قد طلع فعلاً كان ذلك تنجيزاً وإن جاء في صورة التعليق. فإن كان تعليقاً على أمر مستحيل كان لغواً، مثل إن دخل الجمل في سم الخياط فأنت طالق.

أن تكون المرأة حين صدور العقد محلاً للطلاق بأن تكون في عصمته. وأن تكون كذلك حين حصول المعلق عليه، والتعليق قسمان: تعليق قسمي وتعليق شرطي.

فالتعليق القسمي (مأخوذ من القسم): ويقصد به ما يقصد من القسم للحمل على الفعل أو الترك أو التأكيد، مثل أن يقول لزوجته: إن خرجت فأنت طالق، مريداً بذلك منعها من الخروج إذا خرجت، لا إيقاع الطلاق.

التعليق الشرطي (مأخوذ من الشرط): ويكون القصد منه إيقاع الطلاق عند حصول الشرط. مثل أن يقول لزوجته: "إن أبراتني من مؤخر صداقك فأنت طالق". وهذا التعليق بنوعيه واقع عند جمهور العلماء ويرى ابن حزم أنه غير واقع.

وأما الصيغة المضافة إلى مستقبل: فهي ما اقترنت بزمن، بقصد وقوع الطلاق فيه، متى جاء، مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق غداً، أو إلى رأس السـنة، فان الطلاق يقع في الغد أو عند رأس السنة إذا كانت المرأة في ملكه عند حلول الوقت الذي أضاف الطلاق إليه[10].

ثامناً: الطلاق السني

هو الواقع على الوجه الذي ندب إليه الشرع، وهو أن يطلق الزوج المدخول بها طلقة واحدة، في طهر لم يمسسها فيه، لقول الله تعالى: ]الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[ (سورة البقرة: الآية 229)

أي أن الطلاق المشروع يكون مرة يعقبها رجعة، ثم مرة ثانية يعقبها رجعة كذلك، ثم إن المطلق بعد ذلك له الخيار، بين أن يمسكها بمعروف، أو يفارقها بإحسان. يقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ (سورة الطلاق: الآية 1).

أي إذا أردتم تطليق النساء فطلقوهن مستقبلات العدة، وإنما تستقبل المطلقة العدة إذا طلقها بعد أن تطهر من حيض، أو نفاس، وقبل أن يمسها .

تاسعاً: الطلاق البدعي

الطلاق البدعي، هو الطلاق المخالف للمشروع: كأن يطلقها ثلاثاً بكلمة واحدة، أو يطلقها ثلاثاً متفرقات في مجلس واحد، كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. أو يطلقها في حيض أو نفاس، أو في طهر جامعها فيه. وأجمع العلماء على أن الطلاق البدعي حرام، وأن فاعله آثم .

وذهب جمهور العلماء على أنه يقع، واستدلوا بالأدلة التالية:

1. أن الطلاق البدعي، مندرج تحت الآيات العامة.

2. تصريح ابن عمر رضي الله عنه، لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره الرسول r بمراجعتها، بأنها حسبت تلك الطلقة.

من ذهب إلى أن طلاق البدعة لا يقع؟ وذهب إلى هذا:

1. عبدالله بن عمر (في رواية أخرى عنه).

2. سعيد بن المسيب.

3. طاووس: من أصحاب ابن عباس.

4. وبه قال خلاس بن عمرو، وأبو قلابة من التابعين، وهو اختيار الإمام ابن عقيل من أئمة الحنابلة وآل البيت. والظاهرية وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية .

عاشراً: الطلاق ثلاثاً

حصل خلاف كبير بين علماء المسلمين في طلاق الرجل زوجته ثلاثاً.

اتفق العلماء على أنه يحرم على الزوج أن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد. أو بألفاظ متتابعة في طهر واحد، مع اختلافهم في وقوعه ثلاثاً من عدمه. وعللوا ذلك بأنه إذا أوقع الطلقات الثلاث، فقد سد باب التلاقي والتدارك عند الندم، وعارض الشارع، الذي جعل الطلاق متعدداً لمعنى التدارك عند الندم، وفضلاً عن ذلك، فإن المطلق ثلاثاً قد أضر بالمرأة من حيث أبطل محليتها بطلاقه هذا. ولكن جمهور العلماء على وقوع الطلاق ثلاثاً.

وقد روي من حديث محمود بن لبيد قال: أخبرنا رسول الله r ]‏أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانًا ثُمَّ قَالَ ‏ ‏أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ[ (سنن النسائي، الحديث الرقم 3348).

قال ابن القيم: فجعله لاعباً بكتاب الله فإن إيقاع الثلاث دفعة واحدة مخالف لقول الله تعالى: ]الطلاق مرتان[ (سورة البقرة: الآية 229). والمرتان والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغة سائر الأمم، ما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى، وما دل عليه كتابه.

وفرق بعضهم فقال: إن كانت المطلقة مدخولاً بها تقع الثلاث، وإن لم تكن مدخولاً بها فواحدة! استدل القائلون بأنه يقع ثلاثاً بالأدلة الآتية:

1. قول الله تعالى: ]فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[ (سورة البقرة: الآية 230).

2. قول الله تعالى: ]وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً[ (سورة البقرة: الآية 237).

3. وقول الله تعالى: ]لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء[ (سورة البقرة: الآية 236).

فظواهر هذه الآيات تبين صحة إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث. لأنها لم تفرق بين إيقاعه واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً.

وقول الله تعالى: الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . فظاهر هذه الآية جواز إطلاق الثلاث، أو الثنتين، دفعة أو مفرقة، ووقوعه.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: ]لَمَّا لاَعَنَ عُوَيْمِرٌ أَخُو بَنِي الْعَجْلانِ امْرَأَتَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَلَمْتُهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا هِيَ الطَّلاقُ وَهِيَ الطَّلاقُ وَهِيَ الطَّلاق[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 21765).

وفي حديث ركانة: أن النبي r استحلفه إن أراد إلا واحدة، وذلك يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقع. هذا مذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة، وأئمة المذاهب الأربعة.

أما الذين قالوا بأنه يقع واحدة. فقد استدلوا بالأدلة الآتية:

1. أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله r، وأبي بكر، وعهد من خلافة عمر؟ قال: بلى". وروي عنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله r، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب. إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. أي أنهم كانوا يوقعون طلقة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات.

2. عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ]طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ r كَيْفَ طَلَّقْتَهَا قَالَ طَلَّقْتُهَا ثَلاثًا قَالَ فَقَالَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ قَالَ فَرَجَعَهَا فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّمَا الطَّلاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْر[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 2266).

حادي عشر: الطلاق الرجعي

هو الطلاق المسبوق بطلقة واحدة أو غير المسبوق أصلاً، وليس في مقابل مال أيضاً؛ لأن الطلاق مقابل مال يسمى خلعاً. ويحق للزوج مراجعة زوجته في عدتها فإذا لم يكن الزوج دخل بزوجته دخولاً حقيقياً، أو طلقها على مال، أو كان الطلاق مكملاً للثلاث، كان الطلاق بائناً، وتبقى في بيته وتصح المراجعة بالقول. مثل أن يقول: راجعتك وبالفعل، مثل الجماع، ودواعيه، مثل القبلة، والمباشرة بشهوة ونحو ذلك[11].

ثاني عشر: الطلاق البائن

الطلاق البائن هو الطلاق المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وهو ينقسم إلى بائن بينونة صغرى: وهو ما كان بما دون الثلاث، وبائن بينونة كبرى: وهو المكمل للثلاث.

1. حكم الطلاق البائن بينونة صغرى

الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل قيد الزوجية بمجرد صدوره، وتصير المطلقة أجنبية عن زوجها. فلا يحل له الاستمتاع بها، ولا يرث أحدهما الآخر إذا مات قبل انتهاء العدة أو بعدها. وللزوج أن يعيد المطلقة طلاقاً بائناً بينونة صغرى إلى عصمته بعقد ومهر جديدين، دون أن تتزوج زوجاً آخر، وإذا أعادها عادت إليه بما بقي له من الطلقات، فإذا كان طلقها واحدة من قبل فإنه يملك عليها طلقتين بعد العودة إلى عصمته، وإذا كان طلقتين لا يملك عليها إلا طلقة واحدة.

2. حكم الطلاق البائن بينونة كبرى

الطلاق البائن بينونة كبرى يزيل قيد الزوجية مثل البائن بينونة صغرى، ويأخذ جميع أحكامه، إلا أنه لا يحل للرجل أن يعيد من أبانها بينونة كبرى إلى عصمته إلا بعد أن تنكح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً. ويدخل بها دون إرادة التحليل. يقول الله تعالى: ]فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[ (سورة البقرة: الآية 230).

أي فإن طلقها الطلقة الثالثة، فلا تحل لزوجها الأول إلا بعد أن تتزوج آخر، ثم يطلقها من دون اتفاق على ذلك، ثم تنقضي عدتها.

ثالث عشر: طلاق المريض مرض الموت

لم يثبت في الكتاب ولا في السـنة حكم طلاق المريض مرض الموت. إلا أنه قد ثبت عن الصحابة أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته "تماضر" طلاقاً مملاً للثلاث في مرضه الذي مات فيه، فحكم لها عثمان بميراثها منه، قال: "ما اتهمته، (أي بأنه لم يتهمه بالفرار من حقها في الميراث) ولكن أردت السنة". والذي ورد أن عبدالرحمن بن عوف نفسه قال: "ما طلقتها ضراراً ولا فراراً". يعني أنه لا ينكر ميراثها منه.

وكذلك حدث أن عثمان بن عفان t طلق امرأته "أم البنين" بنت عيينة بن حصن الفزاري وهو محاصر في داره، فلما قتل جاءت إلى علي t وأخبرته بذلك. فحكم لها بميراثها منه. وقال: "تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها!".

رابع عشر: التفويض والتوكيل في الطلاق

الطلاق حق من حقوق الزوج، فله أن يطلق زوجته بنفسه، وله أن يفوضها في تطليق نفسها، وله أن يوكل غيره في التطليق[12]. وصيغ التفويض هي:

1. اختاري نفسك

أما صيغة اختاري نفسك: فقد ذهب الفقهاء إلى وقوع الطلاق بهذه الصيغة، لأن الشرع جعلها من صيغ الطلاق، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (٢٨) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[ (سورة الأحزاب: الآيتان 28، 29).

2. أمرك بيدك

وأما صيغة أمرك بيدك: فإذا قال الرجل لزوجته أمرك بيدك، فطلقت نفسها، فهي طلقة واحدة، عند عمر، وعبد الله ابن مسعود. وهو مذهب سفيان، والشافعي، وأحمد. روي أنه جاء ابن مسـعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس. فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي. لعلمت كيف أصنع قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك قالت: فأنت طالق ثلاثاً.

قال: أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها وسألقي أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة: فقال صنع الله بالرجال وفعل. يعمدون إلى ما جعل الله في أيدهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب. ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة. وهو أحق بها. قال: وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب.

إن رجع الزوج فيما جعل إليها أو قال: فسخت ما جعلت إليك بطل التفويض. وبذلك قال: عطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وإسحاق. وقال الزهري، والثوري، ومالك، وأصحاب الرأي، ليس له الرجوع لأنه ملكها ذلك، فلم يملك الرجوع.

3. طلقي نفسك إن شئت.

طلقي نفسك إن شئت: قالت الأحناف: "من قال لامرأته طلقي نفسـك، ولا نية له، أو نوى طلقة واحدة فقالت: طلقت نفسي، فهي واحدة رجعية. وإن طلقت نفسها ثلاثاً، وقد أراد الزوج ذلك، وقعن عليها، وإن قال لها طلقي نفسك، فقالت أبنتُ نفسي طلقت، وإن قالت قد اخترت نفسي لم تطلق، وإن قال لها: طلقي نفسك متى شئت. فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده.



[1] وقال ابن تيمية: ويجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة فإن لم تصل، وجب عليه فراقها على الصحيح.

[2] ومعنى ذلك أن الآية الكريمة ترغب في إبقاء الرابطة الزوجية وتنفر من قطعها، وأن مجرد كراهة الزوج لزوجته ليس مبرراً لطلاقها. ومن الواضح أن هذا التوجيه والإرشاد لا يتفق مع القول بأن الأصل في الطلاق هو الإباحة، وإنما يتفق مع القول إن الأصل فيه هو الحظر.

[3] وسواء كان هذا الصلح على المال، أو على الضم بين الزوجات في المبيت على نحو تتنازل فيه الزوجة التي تجري الصلح عن حقها في بعض أيام المبيت أو كلها، إذا كان لزوجها زوجة أو أكثر غيرها. وإرشاد الشرع للزوجة إلى هذا السبيل من الصلح وإن كان فيه تنازل عن بعض حقها إبقاء لرابطة الزوجية يتفق مع القول بأن الأصل في الطلاق هو الحظر.

[4] فالعقم مثلاً قد يكون بسبب من الزوج، والمرأة قد تتطلع إلى الذرية والنسل فتطلب من زوجها أن يطلقها على عوض (بالخلع) أو دون عوض؛ لتجرب حظها وتحقق أمنيتها مع زوج آخر، فيكون الطلاق في هذه الحالة هو الحل المقبول المحقق للمصلحة.

[5] وقد أشار الإمام الكاشاني إلى هذا المعنى إذ قال في تعليل اختصاص الزوج بحث الطلاق دون زوجته: لاختصاصه أي الزوج بكمال العقل والرأي. ومن المعلوم أن من كمال العقل ضبط النفس عند الغضب وعدم العجلة في اتخاذ القرارات الخطيرة كالطلاق، والرجل أقدر في هذا كله من المرأة. ولا يقدح هذا القول وجود نساء أقدر وأكمل من بعض الرجال في هذه المعاني؛ لأن الأحكام على الغالب لا على القليل والنادر، والغالب في الرجال هو ما تقدم عنهم، وعلى هذا الغالب تبنى الأحكام ومنها جعل الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة؛ لأنها تسئ استعماله لأتفه سبب لسرعة غضبها ورقة شعورها وعاطفتها.

[6] وجمهور العلماء على اعتبار شرط البلوغ في كون بعض الصبية على قدر من التمييز يماثل تمييز البالغين لا يكفي للقول بصحة طلاق الصبي المميز؛ لأن وجود مثل هؤلاء الصبية قليل، بل نادر، والأحكام تبنى على الغالب لا على النادر، والغالب في الصبية أن تمييزهم أقل من تمييز البالغين وبقدر لا يكفي لتصحيح طلاقهم.

[7] لفظ معرب من البِرسام (بكسر الباء)؛ المصاب بمرض البرسام، وهو التهاب يعرض للحجاب الذي بين الكبد والقلب، ويعرف أيضاً بالجرسام، وقد يصاب المبرسم بارتفاع الحرارة فيهذي.

[8] قال أبو داود في الإغلاق: أنه في الغضب وكذلك فسره الإمام أحمد بن حنبل.

[9] والمرأة يقع عليها الطلاق بعبارة زوجها لا بعبارة الرسول، بينما في الوكالة يقع الطلاق بعبارة الوكيل لا بعبارة الزوج الموكل.

[10] وإذا قال لزوجته أنت طالق إلى سنة. قال أبو حنيفة ومالك: تطلق في الحال. وقال الشافعي، وأحمد: لا يقع الطلاق حتى تنسـلخ السنة. وقال ابن حزم: من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق. أو ذكر وقتاً ما فلا تكون طالقاً بذلك لا الآن. ولا إذا جاء رأس الشهر. لأن هذه الصورة ليست من أمر الإسلام، وقد قال رسول الله r: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وبرهان ذلك: أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك، وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها، وفي غير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا. ]وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ[ (سورة الطلاق: الآية 1). وأيضاً فإن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه، فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه.

[11] ويرى الشافعي أن المراجعة لا تكون إلا بالقول الصريح القادر عليه، ولا تصح بالوطء ودواعيه من القبلة، والمباشرة بشهوة. وحجة الشافعي، إن الطلاق يزيل النكاح. وقال ابن حزم t: فإن وطئها لم يكن بذلك مراجعا لها حتى يلفظ بالرجعة ويشهد، ويعلمها بذلك، قبل تمام عدتها. فإن راجع ولم يشهد. فليس مراجعاً لقول الله تعالى: ]فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ[ (سورة الطلاق: الآية 2).

[12] وخالف في ذلك الظاهرية، فقالوا: إنه لا يجوز للزوج أن يفوض لزوجته تطليق نفسها، أو يوكل غيره في تطليقها. قال ابن حزم: ومن جعل إلى امرأته أن تطلق نفسها لم يلزمه ذلك كما لا تكون طالقاً، طلقت نفسها أو لم تطلق، لأن الله تعالى جعل الطلاق للرجال لا للنساء.