إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الثاني

المبحث الثاني

الحاجة إلى الشريعة الإسلامية

والفقه الإسلامي، مثله مثل كائن حي مادي، أو معنوي، لا ينشأ من لا شيء، ولا يبلغ كماله طفرة واحدة، بل ينشأ من شيء موجود سابق عليه، ويأخذ في السير متدرجا في مراتب الحياة والوجود، حتى يبلغ أقصى ما يقدر له من نضج وكمال، ثم ينال منه الزمن، وأحداثه حتى يدركه الهرم.

والعرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، وأصبحوا حملة الإسلام ودعاته، وناشريه في أقطار الأرض، كانوا أمة أمية حقا، ليس لها ما لجيرانها من الروم والفرس، من علوم، وفلسفات، وثقافة عالية.

إنهم لم يكونوا يعنون إلاّ بعلم اللسان، واللغة، والشعر، وبرواية السير، والتاريخ، وبشيء من علم التنجيم، اضطرتهم إليه ظروف الحياة، وعرفوه من التجربة (لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدريب في العلوم)، كما يقول صاعد الأندلسي المتوفى عام 462 هـ.

ونجد غير (صاعد) هذا، يتعرضون قصدا أو عرضا لحالة العرب العلمية، قبل الرسالة الإسلامية، والباحث يرى الكثير من ذلك فيما رواه العلماء الأثبات، وحفظه لنا التاريخ الصادق الأمين.

ومن هؤلاء العلماء، نجد أبا إسحاق الشاطبي، الذي يذكر أن العرب كان لهم اعتناء بعلوم ذكرها الناس، ومن هذه العلوم "علم النجوم" وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا المعنى، وهو معنى مقرر في آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

ومنها، علوم "الأنواء"، وأوقات نزول الأمطار ونشوء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها. وهنا نجد الشرع، القرآن الكريم والحديث، قد جاء ببيان حقها من باطلها.

ومنها، علم الطب، الذي كان يقوم على التجارب، لا على الأصول، التي عرفها الأوائل من حكماء اليونان، إلى آخر ما قال فيما يتصل بعلم التاريخ ومعارف أخرى.

وقد كان للعرب مع ذلك، بطبيعة الحال، شيء من القوانين تحكم حياتهم ومعاملاتهم، قوانين لم تصدر حقا عن سلطة تشريعية، كما صار الحال، بعد أن جاء الإسلام، ولكنها كانت أوضاعا وتقاليد وأعرافا. استفادوا أكثرها من البلاد، التي كانوا يعيشون بجوارها، ويتصلون بها اتصالات عرفها التاريخ. ومن هذه البلاد: "الشام"، وقد كان قطرا يطبق فيه القانون الروماني، "والعراق"، حيث كان يسود القانون الفارسي، فضلاً عمن كان في "يثرب" ـ والتي سميت بـ "المدينة"، فيما بعد ـ من اليهود، وقد كان لهم قانونهم وتشريعاتهم المستمدة من الديانة اليهودية، بعد مَا دخلها التحريف والتبديل.

وإلى جانب ذلك نعرف، من تاريخ الأمم والشعوب، أنه كان لكل مجتمع، مهما كانت درجته من الحضارة والرقي الفكري والعملي، حظه من قواعد قانونية يجري عليها، في معاملاته، وعقوده، وتصرفاته المالية، وفي المسائل الشخصية، التي تبنى عليها الأسرة كالزواج ونحوه، وفي علاج جرائم المجتمع، بوضع العقوبات الزاجرة عنها الرادعة لمن يقترفون شيئا منها، وفي غير هذا كله من الشؤون ومسائل الحياة ومشاكلها.

والمجتمع العربي، في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، لم يشذ طبعاً عن هذا الأصل، الذي يقوم عليه بقاء الشخص والنوع والاجتماع والعمران.

عرف العرب في جاهليتهم قواعد قانونية كثيرة، قام عليها مجتمعهم، وكان ذلك في نواح شتى من النواحي، التي عالجها الإسلام فيما بعد. بما جاء به من فقه وتشريعات، وقد أقر الرسول،صلى الله عليه وسلم كثيراً من هذه القواعد، والمبادئ، التي كانت قد تبلورت فصارت أعرافا ينزلون على حكمها، فما كان الإسلام ليغير كل ما كانت عليه الأمة العربية، حتى ما كان صالحاً لبناء مجتمع صالح للحياة الطيبة، ومن ثم، لنا أن نقرر أن الإسلام طرأ على مجتمع له تقاليده وأعرافه وحياته القانونية.

لقد عرف العرب كثيرًا من ضروب المعاملات، كالبيع، والرهن، والشركة، والمضاربة، والإجارة، والسلم. وأقر الإسلام، في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، وفعله وتقريره، غير قليل من أنواع هذه التصرفات، والعقود حين وجدها صالحة للبقاء، وحرم وألغى ما كان غير صالح منها.

وكان من هذا الذي حرمه الربا، لأن فيه أكل أموال الناس بالباطل، كما كان، مما نهى عنه، أنواع من البيوع ـ سيجيء الكلام عنها ـ لما تؤدي إليه من غرر ومنازعات. وهذه الإشارة تحتاج إلى بعض الإيضاح، فلنذكر من الشواهد والأدلة ما يدل على ذلك، الذي نشير إليه.

قال الرسول، r، للسائب بن أبى السائب، وقد جاءه يوم الفتح ]كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لا تُدَارِي وَلا تُمَارِي[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 4196)، وقد روي أيضاً بألفاظ أخرى. وقال ابن هشام، وهو يتحدث عن زواج الرسول r، بخديجة بنت خويلد: "وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم".

من هذين الخبرين، نرى أن العرب عرفوا عقد الشركة، والإجارة، والمضاربة، وهي عقود أقرها الإسلام؛ لأن الحياة العملية لا تقوم بدونها، ثم وضع "الفقه" فيما بعد قواعدها، وشروطها، وحدودها، وذلك ليكون الغرض منها مصلحة المتعاقدين معا، في حدود شرع الله.

كما عرف العرب عقد السلم، وهو شراء الشيء، الذي لم يوجد بعد، بثمن عاجل حال، ولهذا نجد الرسول r، حين ينهى عن بيع المعدوم، لما فيه من الغرر والخطر، يستثنى السلم؛ إذ كان نوعا من المعاملات التجارية المعروفة قبل الإسلام، وبخاصة عند أهل يثرب، ولما يكون في منعه من الحرج، والتضييق على الناس.

وفي هذا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عَنْهُمَا، قَالَ ]قَدِمَ النَّبِيُّ، r، الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2086).

وفي ناحية ما يسمي اليوم في الفقه (بالأحوال الشخصية)، نراهم عرفوا ضروباً مختلفة، من صلة الرجل بالمرأة، وقد أقر الإسلام منها ما يتفق والشريعة، وحرم الأنواع الأخرى، التي لم تكن إلاّ سفاحاً صريحاً.

وفي ذلك تقول عائشة، رضى الله عنها: ]إنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4732). فهذا هو عقد الزواج الذي أقره الإسلام، ووضع له أصوله وحدوده، ليقوم به بيت صالح وأسرة طيبة هي أساس المجتمع، ولم يكن بد فيه من الخطبة والمهر، كما كانت المرأة لا تزوج إلاّ بإذنها.

جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: "أن الحارث بن عوف المري وفد على أوس بن حارثة الطائي، يخطب إليه إحدى بناته، وكان له ثلاث بنات، فعرض الأمر على الكبرى والوسطى فأبتا، ثم خاطب الصغرى فقال: هذا الحارث بن عوف، سيد من سادات العرب، جاء طالبًا خاطبًا: فقالت: أنت وذاك، فأخبرها بإباء أختيها، فقالت: لكني والله للجميلة وجهًا، الصناع يداً، الرفيعة خلقًا، الحسيبة أبًا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير"، فزوجها الحارث.

إذاً، قد عرف العرب قبل الإسلام، ما أقره الإسلام من الزواج حين جاء، كما عرفوا أيضا فسخ الزواج بالطلاق، وإن لم يكونوا يتقيدون بعدد في الطلاق.

فعَنْ عَائِشَة، رضى الله عنها ، قَالَتْ: ]كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1113)، ولذلك نزل القرآن الكريم بتحديد عدد الطلقات، وبأنه ليس للزوج بعد الثالثة مراجعة.

وعلى ذلك النحو من صلة الرجل بالمرأة بطريق الزواج، الذي تتقدمه خطبة الزوجة من وليها، نجد زواج الرسول، r بالسيدة خديجة، رضي الله عنها.

فقد روى أبو العباس المبرد المتوفى في عام 285هـ، أن أبا طالب خطب في هذا الزواج فقال: الحمد لله، الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي ممن لا يوازن به فتى من قريش، إلاّ رجح عليه: "براً وفضلاً وكرماً، وعقلاً ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قُلاً، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي.

ويروي ابن هشام في سيرته أن أبا طالب قال: "ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله، وعاجله كذا من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل جسيم"، وكان أن تم الزواج، وقام بتزويجها عمها عمرو بن أسد، وابن عمها ورقة بن نوفل، بشهادة صناديد قريش.

من هذا، نرى أن عقد زواج الرسول r، جرى على ما جاء به الإسلام بعد، من صداق يدفع للمرأة، وقيام وليها به، وشهادة ملأ من الناس؛ ليتوافر له ركن العلانية، تمييزا له عن الزنى، والسفاح، ولا عجب! فهو زواج من أعده الله لحمل رسالته، وصانه من أوضار الجاهلية.

وبعد ناحية الأحوال الشخصية، نجد في باب العقوبات، أنهم كانوا يقولون: "القتل أنفى للقتل"، أي أن عقوبة القتل العمد هي القصاص من القاتل، على حين كانت عقوبة القتل الخطأ هي الدية. ولم يقر الإسلام عقوبة القتل العمد والخطأ على ما كان عليه العمل قبله فقط، بل أقر كذلك ما يعرف بالقسامة[1]. حين يقتل قتيل في محلة ولا يدرى قاتله. ففي صحيح مسلم أن النبي r أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، كما ذكر البخاري في صحيحه صفتها في الجاهلية، في حديث طويل يبين منه أن الرسول r، قضى بها حين قُتِلَ رجل من الأنصار في أرض لليهود، ولم يعرفوا من قتله منهم.

وهكذا عرفنا أنه مهما كان ما عرفه العرب قبل الإسلام من قواعد ومبادئ قانونية، في هذه الناحية، أو تلك من نواحي الحياة العملية، فلا نستطيع أن نزعم أنهم وصلوا من ذلك إلى ما يكفي ليقوم عليه مجتمع سليم، وأمة صالحة للحياة، وما كان يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك. ونصيب العرب في الجاهلية من الرقي، والحضارة كان نصيبا محدودا إلى درجة كبيرة، ومن أجل هذا وغيره، كانت الحاجة ماسة جدًا إلى الإسلام، وشريعته.

أجل، ظهر الإسلام والعرب، بل العالم كله، في أشد الحاجة إليه، فآتاهم العقيدة الحقة، والشريعة الصحيحة، والنظم، التي يقوم عليها المجتمع، والأمة، لتسهم في بعث العالم، ونهضته، وإخراجه من الظلومات إلى النور، وكان من هذه الشريعة والنظم، ما نسميه بالفقه، أو التشريع الإسلامي.



[1] القسامة: هي حلف خمسين من أهل المحلة، التي وجد فيها القتيل بتخيرهم وليه، بأنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا. ثم يقضى بالدية على أهل المحلة جميعا. من ناحية نظام الأسرة والمعاملات والعقوبات والنظام القضائي، وهو بحث قيم في بابه.