إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الثالث

المبحث الثالث

نشأة الشريعة الإسلامية وتطورها

وهذا "التشريع"، كما نعرفه اليوم، لم ينشأ مرة واحدة كاملا، بل تدرج في مراحل مختلفة، حتى بلغ ما قدر الله له من نضج وكمال، شأنه في هذه الظاهرة شأن كل كائن وجد، وعرف نور الحياة.

على أن الرسول، r، لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى، حتى كان التشريع قد استكمل أهم أصوله، التي قام عليها، واستوى فيما بعد، إذ انقضى بوفاة الرسول r، عهد وضع الشريعة في أسسها وأصولها، فلم يبق للعلماء، والفقهاء بعده، إلاّ الرجوع إلى ما تم في حياته، واستلهام ما أوحى الله إليه من كتاب وسنة، ثم التفريع والتطبيق حسب الظروف، والزمان، والمكان، والمصالح العامة.

بدأ التشريع ينشأ ويتكون، وعماده القرآن الكريم، ثم السنة على اختلاف ضروبها: قوليه، أو فعلية، أو تقريرية. ولم تستمر هذه الفترة إلاّ سنوات قليلة، هي اثنتان وعشرون سنة وأشهر، وفيها نزل القرآن الكريم، وتم نزوله التشريعي بقوله تعالى: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 3)[1].

وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن ما نزل من القرآن الكريم بمكة، وهو أقل بقليل من الثلثين من مجموعه، لم يشتمل على كثير من التشريع الفقهي، إذ كان المقصود الأول فيه هو الدعوة إلى الله وتوحيده، ونبذ ما كان يعبد الناس قبل الإسلام من مختلف المعبودات، وإقامة الأدلة على ذلك، وعلى وجود الدار الأخرى، وتسلية الرسول r، فيما كان يلقاه، في سبيل الدعوة، من شدائد، بضرب الأمثال له بقصص أسلافه من الرسل، والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أما التشريعات الفقهية التفصيلية، فقد نزل الجانب الأكبر منها في السور المدنية، وهي بالنسبة إلى مجموع القرآن الكريم أكثر من الثلث بقليل.

ولا عجب في أن يكون هذا منهج القرآن الكريم! إن المهم الأول كان صرف الناس عن الأديان الباطلة، وتوجيهم للدين الحق، وكان هذا يتطلب بلا ريب، إقامة الحجج، والأدلة على صحة ما يدعو إليه.

على أن الجانب المكي من القرآن الكريم لم يخل، مع ذلك، من بعض التشريعات العملية ولكن على طريق الإجمال لا التفصيل. وبعد أن تم للرسول r، النصر، ولدينه الحق الثبات، كان قد آن أن يتنـزل الوحي بالتشريعات المفصلة، التي لابد منها لتنظيم حياة المسلمين، ومعاملاتهم، ومجتمعاتهم على هدى الله وما فيه مصلحتهم، وكان محل هذا كله في المدينة.

حقًا، لقد بدأت دولة الإسلام والمسلمين في المدينة، والدولة تتطلب ما تقوم به من نظم، وتشريعات، وقوانين تحدد العلاقات بين أفرادها، وبينها وبين الدول الأخرى، وكان هذا هو السبب في أن أكثر هذه النظم، والتشريعات نشأت في المدينة.

وكان من الحكمة، ومما يتفق وطبائع الأمور، أن لم تنشأ هذه التشريعات مرة واحدة، بل كان ذلك على التدريج، حسب الحاجة، التي تدعو إليها، وفي هذا دفع للحرج عن المسلمين، وأخذهم بالتيسير في التكاليف والأحكام، وبخاصة أنهم كانوا حديثي عهد بحياة لها أعرافها، وتقاليدها التي تختلف في الكثير منها عما جاء به الإسلام.

والذي يقرأ القرآن الكريم، في استقصاء وملاحظة، يرى أن منه ما نزل إجابة عن أسئلة كان بعض المسلمين يتقدم بها إلى الرسول r، إذ يحسون الحاجة إليها، وكان منه تشريعات تنـزل من السماء بلا سؤال. والضرب الأول نجده مصدراً بكلمة "يسألونك"، أو كلمة "يستفتونك".

إذاً، كان التشريع في هذه الفترة لا يقوم، إلا على هذين المصدرين العظيمين القرآن الكريم، والسنة، فكان الرسول، r، إذا سئل عن مسألة، أو جدت حادثة تقتضي حكمًا من الشارع، ينتظر الوحي السماوي، فإن نزل بالمراد تعين الحكم، وإلاّ، كان هذا إيذانًا من الله بأنه وكل إلى رسوله r، أن ينطق بالتشريع اللازم، ومعلوم أنه لا ينطق عن الهوى.

وأحياناً أخرى، كان الرسول r، يجتهد في الحكم، ثم يصدر رأيه، وهنا لا يقره الله على هذا الرأي، إلا إذا كان صوابا. على أن الرسول r، كان، في هذا الاجتهاد يستلهم طبعًا ما نزل من حكم الله وشريعته، مع تقدير للمصلحة، واستشارة لأصحابه، ومن أجل ذلك، يجب أن نجزم بأن كل التشريعات، التي ظفر بها الإسلام في عهد الرسول r، كانت إلهية، إما عن طريق مباشر بنزول القرآن الكريم بها، وإما عن الرسول r، في بادئ الأمر ثم يقره الله عليها.

وليس هنا مجال البحث، في الخلاف بين ما نعي اجتهاد الرسول r، ومجيزيه، فقد اشتد الخلاف، في ذلك، بين علماء الأصول والفقه، ولكل وجهة هو موليها وسنده الذي يستند إليه. ولكن علينا أن نقرر أنه قد جاء في القرآن الكريم نفسه، ما يفيد أنه كان للرسول r، اجتهاد في بعض النوازل والأحداث، وأن الله لم يقره على رأيه، في بعض ما ذهب إليه، وكان من الله سبحانه، لرسوله r، لأجل ذلك، عتاب أحياناً:

1. اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ r ِأَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ فَقَالَ: ]أَبُو بَكْرٍt يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالإِخْوَانُ فَأَنَا أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَسَى اللَّهُ U َنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُونَ لَنَا عَضُدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه rِ مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ r مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ tُ غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ r فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ  rأَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا قَالَ النَّبِيُّ r لَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ الْفِدَاءِ وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 13066).

وأنزل الله تعالى، في صدد هذه المسألة، هاتين الآيتين ]مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (سورة الأنفال: الآيتان 67، 68)

إذن، اجتهد الرسول r، في هذه المسألة، واستشار بعض أصحابه الأكرمين، ثم أخذ بما أداه إليه اجتهاده، وهو موافقة رأي أبي بكر t، لكن الله سبحانه لم يقره على ما رآه، وأنزل في ذلك قرآناً.

2. استأذن بعض المنافقين الرسول r، في التخلف عن غزوة تبوك متقدمين بأعذار، قبلها الرسول، r، على ضعف فيها، كما تخلف بعض المؤمنين أيضا، وأذن الرسول r، في التخلف عن الذهاب معه في هذه الغزوة للجميع.

لكن الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم ما في الضمائر، والنفوس من نيات، لم يرض من نبيه r، هذا الإذن، فأخبره أنه كان أولى به التريث في الإذن لمن استأذنوا، حتى يعلم المنافقين منهم، والصادقين في الاعتذار، إذ إن الأولين، أي المنافقين، كانوا سيتخلفون، وإن لم يأذن لهم.

وفي ذلك أنزل الله تعالى ]لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[ (سورة التوبة: الآيتان 42، 43).

والتشريع، في هذه الفترة من الدور الأول، كان يعتمد على المصدرين العظميين، القرآن الكريم والسنة، وكان القرآن الكريم يجيء بالقواعد العامة، والأحكام، أو التشريعات بصفة إجمالية، وكان على الرسول r، تفصيل هذا الإجمال، وتحديد تلك القواعد العامة.

وقد تستقل السنة بتشريعات لا نجدها في القرآن الكريم، وإن كانت، طبعًا، لا تخرج عن روحه ومعانية ومقاصده. ولا عجب في شيء من ذلك كله! فمهمة الرسول r، دائمًا هي البيان لرسالته بكل طرق البيان.

ويمكن أم يُقال بإيجاز إن دور الرسول r، كان دور الشارح، للأصل الذي هو القرآن الكريم، إلاّ أنه شارح يلهمه الله تعالى، ويعمل وفق رعايته سبحانه، فلا يُقر على خطأ بحال. ولنذكر بعد ذلك بعض الأمثلة، التي توضح ما قلنا، من أن السنة كانت تقوم بتوضيح ما أجمل الكتاب، وتفصيل ما جاء به من الكليات، حين يكون ذلك ضروريا:

1. أمر الله تعالى، بالصلاة، وشرعها فرضًا علينًا، وجاء ذلك في الكتاب، بالنص تارة وبالإشارة أخرى. إلاّ أنه لم يبين لنا أوقاتها، ولا عدد صلوات كل يوم، أو عدد ركعات كل صلاة، ولا كيفيتها، فجاءت السنة وبينت ذلك كله، حين صلى الرسول r، فعلاً وقال: ]صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5549). وقد روى لنا أبو هريرة t، وغيره من الصحابة كيفية صلاة الرسول r.

2. وكذلك الأمر في الصوم، فقد فرضه الله بقوله ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة البقرة: الآية 185).

والرسول r، هو الذي بين أن المراد به الشهر القمري، لا الشمسي، وأنه يجب أن نصوم لرؤية الهلال، ونفطر لرؤيته، كما بين حكم المفطر عامدًا أو ناسيًا، إلى غير ذلك كله من الأحكام المتعلقة بالصوم.

3. ومثل ذلك كانت الزكاة، فقد جاء الأمر بها، في القرآن الكريم بلفظ الزكاة، والصدقة في كثير من الآيات، ومنها قوله ]وَءاَتُواْ الزَّكَاةَ[ (سورة الحج: الآية 78). وقوله: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 103). وقوله: ]وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[ (سورة الأنعام: الآية 141)، وقوله ]وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[ (سورة المعارج: الآيتان 24، 25).

إلاّ أن السنة، هي التي بينت لنا نصاب الزكاة، في كل نوع من أنواع الأموال، نعني النقود، والزروع، والثمار، وعروض التجارة، والحيوانات السائمة مثلاً، كما بينت المقدار الواجب في كل نوع منها، وهكذا إلى آخر ما يتعلق بتحديد، هذه الفريضة تحديدًا كافيًا[2].

4. وفي الحج ذكر القرآن الكريم، أنه فرض علينا بقوله تعالى ]فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 97)، وبقوله ]وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ (سورة البقرة: الآية 196)، وأشار إلى الإحرام بقوله ]ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[ (سورة البقرة: الآية 196)، وإلى الوقوف بعرفة بقوله: ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ[ (سورة البقرة: الآية 198)، وإلى السعي بين الصفا، والمروة بقوله ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 158)، وإلى الطواف بالكعبة بقوله ]وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود[ (سورة الحج: الآية 26).

ثم جاءت السنة فبينت كيفية الإحرام، ومواقيته، ومتى يكون واجبا، ومحظوراته الحكم فيمن يرتكب شيئا منها، وعدد مرات السعي وكيفيته، وحدود عرفة، والزمن الذي يجب الوقوف فيه بهذا المشعر، إلى غير هذا وذاك، مما يتعلق بالحج، حتى صار معروفاً تماماً لنا كما فعله رسول الله r، ورواه عنه كثير من صحابته، رضوان الله عليهم.

هكذا كانت السنة مبينة للقرآن الكريم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (سورة النحل: الآية 44).

كان الرسول r، مشرعًا بفعله، وقوله، وتقريره، حتى لبعض ما لم يرد في القرآن الكريم، ولو مجملاً كزكاة الفطر، وإن كان الله سبحانه وتعالى، هو المشرع الأعظم، ما دام الرسول r، كان يستلهم دائمًا القرآن الكريم نصه، وروحه، ومقاصده التي ترمي، دائمًا لصالح الفرد، والجماعة معاً.

وبهذا لم ينتقل الرسول r، إلى الرفيق الأعلى، إلاّ وقد كان الفقه تام الأصول الكلية، والقواعد العامة، ولذلك يقول الله تعالى، في آخر عهد الرسول r، ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 3).

وبعد القرن الأول بقليل: نجد الإسلام أخذ يمتد شرقًا، وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، إذ فتح الله سبحانه وتعالى، على المسلمين العراق والشام ومصر، وبلدان شمال أفريقيا، وغيرها.

ولكل من هذه البلاد حضارتها المتشعبة النواحي، ولكل منها أيضًا عاداتها، وتقاليدها، وأعرافها، وقوانينها، وللاختلاط، الذي تم بين العرب المسلمين، وأهالي هذه البلاد المختلفة أثره المحتوم، الذي ظهر فيما بعد بصور شتى في التفكير وغيره.

ومع ذلك كله، كثرت الحوادث، والنوازل، التي تتطلب أحكامًا لها، وظهرت مشاكل تنتظر حلولها، لأن المأثور من تشريعات الرسول r، وأحكامه وأقضيته في الوقائع السابقة أصبح غير مشتمل على الحوادث، والمعاملات، التي تزيد وتتجدد كل آن، فكان لكل هذا أثره في نمو الفقه، والتشريع، وظهور القياس، ومراعاة علة الحكم.

وثمة عامل آخر كان له أثر كبير واضح في هذه الناحية، في هذه الفترة، وما تلاها، وهو هجرة كثير من الصحابة، بعد عهد عمر بن الخطاب t، إلى تلك الأقطار والبلاد، التي عرفها المسلمون ونزحوا إليها، وما جاء نتيجة لذلك من شيوع التحديث عن الرسول r، والتعمق في فهم القرآن الكريم، واستنباط الأحكام، التي شعروا بالحاجة إليها منه، أو مما يرونه صحيحًا من أحاديث الرسول r.

ومن الطبيعي أن يكون لهذه العوامل، أثرها في الفقه، وفي ظهور الاجتهاد والمجتهدين، إذ كان كل من الصحابة القادرين على التعمق في فهم القرآن الكريم، يجتهد في فهمه، وفهم ما ثبت عنده، من حديث الرسول r، فقد يصح هذا الحديث، أو ذاك عند البعض، دون البعض الآخر.

وهكذا بدأ الفقه الإسلامي يتكون، وبدأت أصوله تعرف وتتميز، نعني الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، وأخذت أعراف وقوانين البلاد المختلفة، التي أصبحت تحت راية الإسلام، وتكون جسم الدولة الإسلامية، تؤثر في الفقه، والتشريع بصفة عامة، تأثيراً غير قليل.

أما في العصور، التي جاءت بعد عصر الصحابة والتابعين، فمن الحق عرفان قدرهم تماما لهم، ووجوب العمل بآرائهم الحقة، هذه الآراء، التي لم يقولوا بها، إلاّ مستلهمين كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله r، وروح الإسلام، وقد كانوا، بلا ريب، أقرب إلى فهم كل ذلك فهمًا حقًا، منا نحن، هذه الأيام، على أن هذا لا يمنعنا من الأخذ، بعين الاعتبار، تغير البيئات، والأعراف، وما يجب أن يكون لذلك من تأثير.

وإذا كان عمر بن الخطاب t، يتحرى رأي الخليفة الأول، أبى بكر t، كما ذكرنا من قبل، ليأخذ به فإن هذا لا يمنع من القول، إنه حصلت اختلافات بينهما، تمسك فيها عمر برأيه، إذ بان له أنه الحق في زمنه، كما حصلت اختلافات أخرى، بين آراء الصحابة بصفة عامة.

ومن الخير أن نذكر بعض الأمثلة لهذه الاختلافات، التي كانت بين صحابي وآخر، أو بين صحابي وأحد التابعين، في زمن واحد، محاولين تعرف الأسباب، التي أدت إلى هذه الاختلافات.

كان أبو بكر t، في خلافته يسوي بين المسلمين، في أعطياتهم، فلا يفضل أحداً منهم على آخر. فلما ذُكّر بأن الخير في التفاضل، لما للبعض من الفضل على البعض، بسبب سبقه في الإسلام، أو قدمه في الجهاد في سبيل الله، رد بأنه من أعرف المسلمين بهذا، ولكن يدع ذلك لله يثيب عليه، أما الأعطيات فهي للمعاش، فالأسوة فيها خير من الأثرة. وفي هذا يقول في بعض الروايات: "فضائلهم عند الله، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير".

فلما صارت الخلافة إلى عمر الفاروق t، وجاءت الفتوح بمال كثير، عدل عما كان يراه أبو بكر، إذ رأى ألاّ يسوي بين، من قاتل رسول الله r، ومن قاتل معه، وكان من كلامه في ذلك: "ما أنا فيه (أي في المال)، إلاّ كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله U، وقسمنا من رسول الله r، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وغَناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام"، وهكذا، فضل عمر البعض على البعض في العطاء.

والذي يظهر أن عمر  tكان ينشد بما ذهب إليه التسوية أيضا، لأن من التسوية بين المسلمين أن يأخذ كل منهم بقدر ما قدم من خير في الإسلام، وبقدر ما هو في حاجة إليه، وليس من التسوية أن يكون الجميع سواء، في المال، الذي آتاهم الله، بما فتح عليهم من البلاد، بجهاد الفاتحين، وبرهبة الإسلام بما صار له من شأن، وشوكة، ونفوذ بفضل السابقين من المجاهدين الأولين.

ولهذا يقول عمر في بعض ما روي عنه في ذلك الأمر: "ما يريد ابن الخطاب بهذا إلاّ العدل، والتسوية"، وذلك حين قال له بعض المسلمين: "يا ابن الخطاب، أنشدك بالله في العدل، والتسوية".

وأكبر من هذا الخلاف أثرًا في بناء الدولة، حينذاك، اختلاف عمر، والصحابة في قسمة الأراضي، التي فتحها الله على المسلمين، أتكون للمحاربين المجاهدين، الذين فتحوها وحدهم، أم تترك لأهلها مع وضع الخراج عليها، لينفق على المسلمين عامة، طوال الأزمان.

ذلك، أنه لما تم فتح العراق، والشام، وغيرهما من الأقطار في عهد عمر، رأى الفاروق ألاّ تقسم الأرض بين الفاتحين، بل تبقى خراجية ينتفعون بها، هم ومن يجيء بعدهم من المسلمين، وكان من كلامه في هذا: كيف بمن يأتي من المسلمين فيجد الأرض قد قسمت وورثت عن الآباء! ما هذا برأي، والله يقول في مصرف الفيء[3] ]لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[ (سورة الحشر: الآيات 8 - 10). ولا يتصور بقاء شيء لمن يأتي بعد أولئك الفاتحين، إذا قسمت الأرض.

لكن المعارضين ذكروا أنه كيف يقف عمر t ما أفاء الله عليهم بأسيافهم على قوم لم يحضروا الحرب،. ثم على أبنائهم وذرياتهم أيضًا من بعد؟! وقال عبدالرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج (أي ملاك هذه الأرض)، إلاّ ما أفاء الله على الفاتحين، يريد أن أربعة أخماسها هي لهم، بنص آية الأنفال التي تقول ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (سورة الأنفال: الآية 41). أما الباقي فيكون للمسلمين.

وهنا، وقد اشتد الخلاف، لم ير عمر t إلاّ أن يستشير، فاستشار المهاجرين الأولين، فاختلفوا فيما بينهم أيضًا، فعمد إلى تحكيم عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، رغبة منه في أن يشركوه في الأمانة، التي حملها.

فلما اجتمعوا وتكلم مخالفوه بما يرون من رأي وحجة، قال ـ فيما قال ـ: إنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد رأيت، بعد صرف الخمس في وجوهه، أن أحبس الأرض بعلوجها، وأضع عليهم الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئًا للمسلمين الحاضرين، ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها! أرأيتم هذه المدن العظيمة، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لابد لها أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمتُ الأرضين والعلوج؟

وكانت النتيجة أن أعطى المحكمون، بعد وزن كل رأي ودليله، الرأي لعمر ولم يسع المخالفين إلاّ الرضاء به، وكان هذا إلهامًا من الله وتوفيقًا للخير العام، في العاجل والأجل من الزمان.

ويجب أن نلاحظ في هذه المشكلة، أن كل فريق كان يستند إلى القرآن الكريم، فالمخالفون لعمر كانوا يستندون إلى آية "الأنفال"، وإلى فعل الرسول r، حين قسم خيبر أرض اليهود، بين الفاتحين من باب التشجيع.

أما عمر t، فكان يستند إلى آيات سورة الحشر، وإلى أن الأراضي موضوع النزاع أجلّ وأعظم بكثير من أن تقسم بين الفاتحين وحدهم، وبخاصة أنها كل ما كان المسلمون يرجون فتحه في تلكم الأيام. كما نظر إلى المستقبل البعيد، وفي هذا يقول عُمَرَ بن الخطاب t ]لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 271)، ولذلك كله كان رأيه في زمنه، وقد تغيرت الحال، فكان هو الرأي السديد الموافق للمصلحة العامة للمسلمين.

وهذا خلاف من نوع آخر، لأنه من صميم الفقه، وفي مسألة من مسائل الميراث. ذلك أنه كان رأي أبى بكر، أن الجد يحجب الإخوة، فلا يرثون معه، كما لا يرثون مع الأب بنص الكتاب والسنة. لكن عمر رأى أن الجد ليس في الحقيقة أبًا. فهو ـ إذاً ـ لا يحجب الإخوة، بل لهم معه في التركة نصيب معروف.

ولعل أبا بكر t نظر إلى قول الله سبحانه وتعالى، حاكيًا عن يوسف u ]وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[ (سورة يوسف: الآية 38). مع أن يعقوب u هو وحده، الذي كان الأب دون إسحاق، وإبراهيم إذ كانا جدين، أما عمر t، فقد نظر إلى الحقيقة لا إلى المجاز.

وفي ناحية أخرى، ]كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r وَأَبِي بَكْرٍt وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ   tطَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُt إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 2727)، تبين به الزوجة بينونة كبرى، فليس له أن يسترجعها لعصمته حتى تتزوج غيره، ويدخل بها ثم يطلقها عقوبة لهم على إسراعهم في الطلاق، الذي هو أبغض الحلال إلى الله.

وهنا نجد كثيرًا من الصحابة يخالفونه فيما رأى، ذاهبين إلى أن هذا الطلاق الثلاث طلقة واحدة، متبعين في ذلك النصوص، وحكم الرسول r، وأبى بكر، ومنهم علي، وأبو موسى الأشعري، والزبير بن العوام، وعبدالله بن عباس.

على أنهم كانوا لا يختلفون إلاّ حيث لا يجدون نصًا محكمًا في القرآن الكريم، أو سنة لا ريب فيها عن الرسول r. وفي هذه الحالة، يكون الاجتهاد بالرأي والقياس، كما يكون الأخذ بالمصالح المرسلة، وفي كل حال كانوا يستلهمون القرآن الكريم، وسنة الرسول r.

وإذن تكون مصادر الفقه في هذا العصر، هي المصادر الأربعة المعروفة: الكتاب، السنة، القياس، أو الرأي، ثم الإجماع الذي لابد له من سند، من واحد مما تقدم. وأحياناً يكون مصدر التشريع هو المصالح المرسلة، كما رأينا، كما يكون أحيانًا أخرى العرف، كما كان أيام الرسول r نفسه.

وبعد كبار الصحابة طوال عهد الخلفاء الراشدين، تجيء فترة صغار الصحابة، وكبار التابعين، من أول ولاية معاوية بن أبى سفيان، إلى ما بعد المائة الأولى بقليل.

وتبدأ هذه الفترة "بعام الجماعة"، وهو العام الحادي والأربعون من التاريخ الهجري، إذ اجتمعت فيه كلمة كل المسلمين على خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي بعد نزول الحسن بن علي، رضي الله عنه، له عن الخلافة، وبهذا النزول ابتدأت دولة بني أمية.

هذا وقد تميزت هذه الفترة من حياة الفقه بأمور:

1. فرقة المسلمين سياسيا، إلى خوارج وشيعة وأهل السنة والجماعة، بسبب الاختلافات في الخلافة، وكان لهذا الخلاف الشديد أثره الكبير في الفقه بلا ريب. فإن الخوارج لم يكونوا يعتمدون من الأحاديث إلا ما رواه رجالاتهم، وكذلك الشيعة، أما جمهور المسلمين، فقد كانوا يعتمدون الأحاديث، التي ثبتت صحتها عندهم مهما دخل في أسانيدها، من رجال الفرق الأخرى، متى كانوا ثقات، واستوفت شروط الصحة.

2. وكان من أثر كثرة الفتوح الإسلامية، أن تفرق الصحابة وغيرهم من التابعين في البلدان المختلفة، وبخاصة بعد أن قُتِل عمر بن الخطاب t، الذي كان قد حجر على كبار الصحابة ومنعهم من ترك مدينة الرسول r، وذلك مخافة افتتان الناس بهم، أو افتتانهم بالدنيا الطويلة العريضة، التي أفاء بها اللهU ، على المسلمين، ولكونهم أهل شورى.

وطبيعي أن يكون في هؤلاء الذين تفرقوا في البلدان الإسلامية، المعلمون والقراء، وأهل البصر بالكتاب والسنة، وآراء كبار الصحابة في مسائل الدين، والفقه.

وطبيعي أيضًا أن يصح، من الأحاديث عند البعض، ما لا يصح عند غيرهم، وذلك لعوامل ليس هذا موضع بيانها.

ولهذين الأمرين، ويضاف إليهما زوال عهد عمر t، الذي  كان، كما عرفنا، شدد كثيرًا في رواية الحديث، نرى التحديث عن الرسول r، يكثر، فكان كلّ يحدث بما سمع عن الرسول r، بنفسه، أو بواسطة رواة آخرين.

3. وكان، من كثرة التحديث عن الرسول r، من الفرق المختلفة، وفي البلدان المتفرقة، وبلا تثبت أحيانا، أن ظهر الخطأ في نسبة الحديث إلى الرسول r، بل الكذب عمدًا عليه، رغبة من بعض أصحاب الفرق، والمقالات المختلفة في نصرة آرائهم، ومذاهبهم بأحاديث يسندونها إلى الرسول r.

4. وابتعاد بعض خلفاء الدولة الأموية وأمرائها عن سنة السلف الصالح، واعتدادهم في حياتهم وتصرفاتهم بآرائهم، وتفكيرهم الشخصي، بعد أن جعلوا من خلافة المسلمين ملكاً عضوضاً لهم ولأسرتهم.

5. وكان من ذلك كله، أن أخذ صفوة من الصحابة والتابعين، العلماء بالكتاب والسنة، يتجهون إلى تأسيس علم الفقه، الذي يقوم على هذين المصدرين العظيمين، والذي يجب أن يكون مثلا أعلى للقانون، الذي تقوم عليه حياة المسلمين العملية، فكان هذا بدء سير"الفقه" في اتجاه نظري، يختلف، كثيرا أو قليلا، عن الواقع العملي في الحياة.

6. ثم كان من نتائج ذلك كله، أن كثرت الآراء، والفتاوى الفقهية في الواقعات، والحوادث الكثيرة المختلفة، التي تتطلب أحكامًا لها، وبخاصة، بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، ووجد المسلمون أنفسهم في بلاد لها عادات، وتقاليد، وأعراف جديدة عليهم، وكل ذلك يستدعي أحكامًا غير ما كانوا يعرفون.

ومن الواجب أن نضيف لهذا سببا آخر، هو أن الورعين من العلماء بالكتاب والسنة، لما رأوا كثرة رواية الحديث عن الرسول r، والكذب عليه أحيانًا، لجؤوا في معرفة أحكام الله الشرعية إلى اجتهادهم الخاص في فهم القرآن الكريم، الذي يثبت صحته لديهم أكثر من صحة الحديث، فكثر أيضًا لهذا السبب الخلاف في الرأي الفقهي، وتعددت الفتاوى في المسألة الواحدة.

7. وأخيراً، ظهور نزعتين في الفقه: نزعة أهل الحديث، ونزعة أهل الرأي. وقد ظهر تبعاً لذلك، فقهاء من أهل الحديث، وآخرون من أهل الرأي.

ذلك بأن كبار الصحابة كانوا لا يفتون في أحكامهم إلاّ بما يرجع إلى القرآن الكريم والسنة، ثم يجنحون إلى الرأي والقياس إن لم يجدوا إلى غير هذا سبيلاً، على أنهم كانوا لا يميلون إلى الرأي إلاّ للضرورة وبقدر، مخافة القول بلا علم وتثبت في شريعة الله U، ومن ثم يروى عن الكثير منهم، ذم القول بالرأي، والأخذ به.

فلما ذهب صدر الصحابة وجلتهم، وأتى بعدهم من احتذى حذوهم في الوقوف في رأيه على القرآن الكريم والسنة لا يعدوهما، وهؤلاء هم أهل الحديث، كما وجد من ذهب إلى أن شريعة الله معقولة المعاني، ولها مقاصد يجب رعايتها، وأصول يجب الرجوع إليها، ولم يلحق الرسول r، بالرفيق الأعلى حتى بين ذلك كله.

ولهذا يجب الأخذ بالرأي، الذي هو نتيجة عمل العقل، والاجتهاد الصحيح، كما كان يفعل كبار الصحابة أحياناً، وإلاّ جمدت الشريعة، ولم يتقدم الفقه، وبخاصة بعد أن دخل الشك، والكذب في بعض الأحاديث.

وهؤلاء، الذين ذهبوا هذا المذهب، هم أهل الرأي أو القياس، الذين يرون ـ مع هذا ـ أن الأصل الأول للتشريع هو الكتاب والسنة الصحيحة، كما أن الأولين أصحاب الحديث لم يكونوا طبعا يهملون استخدام العقل، والرأي في استنباطهم الأحكام من القرآن الكريم والسنة، ولكن كان يصح، لديهم من الأحاديث، مالا يصح لدى الآخرين.

وقد كان جمهرة أهل الحديث بالحجاز، وجمهرة أهل الرأي والقياس بالعراق، ولا عجب في شيء من ذلك، فإن الحجاز مهد السنة وموطن حملتها من الصحابة الأولين، والعراق بلد جديد وبعيد عن موطن السنة، وله حضارته التليدة، وحظه الكبير من المعارف القانونية قبل الإسلام، وفيه حصل الامتزاج بين عقليات مختلفة، فكانت حاجته شديدة إلى الرأي والقياس، فيما لا يجدون فيه نصوصًا من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، التي يعرفونها.

وكان لكل طائفة من أصحاب هاتين النزعتين، رئيس يحمل لواءها. فرئيس أهل الحديث كان، أولاً سعيد بن المسيب، وهو رأس علماء التابعين، وأحد الفقهاء السبعة، الذين نشروا الحديث، والعلم، والفقه. وكان زعيم مدرسة أهل الرأي، والقياس هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، وهو شيخ حماد بن أبى سليمان ، الذي يعتبر شيخ الإمام أبى حنيفة، وقد توفي عام 96.

وقد تفرع، فيما بعد، أصحاب الحديث إلى مالكيه، وشافعية، وحنابلة، كما كان منهم الظاهرية ـ أتباع داود بن علي، ثم ابن حزم ـ الذين يتمسكون بالظاهر من القرآن الكريم، والحديث. أما الأحناف فيرجعون إلى مدرسة أهل الرأي، إذ كان مؤسسها، شيخًا للإمام أبى حنيفة صاحب المذهب.

وإن الذي يتتبع بعض مراجع الفقه المهمة، يرى بوضوح كثرة الاختلافات في الأحكام الفقهية بين أهل الرأي وأهل الحديث، وذلك نتيجة اختلافهم في الأصول التي يرجعون إليها في التشريع، ولكل وجهة هو موليها. هذا، ويمكن ختم الحديث في الكلام عن حياة الفقه، وتطوره في هذا الدور، بالإشارة إلى أنه ظهر في هذه المرحلة عدد ضخم من المفتين، ذوي نزعات مختلفة، أي من أهل الحديث، وأهل الرأي، وغير هؤلاء وأولئك من رجال الفرق الأخرى



[1] نزلت هذه الآية يوم عرفة عام الحج الأكبر في السنة العاشرة من الهجرة. وهي في رأي كثير من المفسرين آخر القرآن نزولاً. بمعنى أنه لم ينزل بعدها شيء من آيات الأحكام. وعلى كل فلم يعش الرسول r بعد نزولها إلا إحدى وثمانين ليلة، على القول المشهور.

[2] فقال في ذلك فيما قال: فيما سقت العيون أو كان عشريا العشر. وما سقى بالنضح نصف العشر. وقال: وفي الركائز الخمس. وقال: ليس في ما دون خمسة أوسق من التمر صدقة. وليس فيما دون خمس أوراق من الورق صدقة. وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة.

[3] الفيىء يراد به هنا الغنيمة