إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الرابع

المبحث الرابع

سمات الشريعة الإسلامية وكمالها

هذا، وقد جاء بعد ذلك دور النضج والكمال، وقد كان هذا الدور أطول أدوار الفقه عمرا، حاشا ـ بكل أسف ـ دور التقليد، إذ استمر نحو مائتين وخمسين عاما، فقد بدأ في أوائل القرن الثاني الهجري واستمر إلى منتصف القرن الرابع.

وفي هذا الدور بدأ تدوين السنة ومذاهب الفقه، وفيه ظهرت المذاهب الكبرى التي لا تزال معروفة ومتبعة ـ كل في جهات مختلفة من العالم الإسلامي ـ إلى الآن، نعني مذاهب أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل من أهل السنة، ومذاهب الزيدية والإمامية من الشيعة.

كما ظهر فيه أيضا فقهاء أعلام آخرون، وكان منهم أصحاب مذاهب مستقلة عرفها التاريخ، إلا أنها اندثرت بمضي الزمن، إذ لم تجد من يقوم بها ويرعاها، ويعمل على تخليدها، كما وجدت المذاهب الأولى.

وينبغي، من أول الأمر، الإشارة إلى أهم الخصائص، التي تميز بها هذا الدور، فكان مرحلة خاصة من مراحل حياة الفقه، وهذه الخصائص هي:

قيام الدولة العباسية بعد سقوط الدولة الأموية، وأول خلفائها أبو العباس عبد الله، الملقب بالسفاح، لكثرة ما تسبب في إراقة دماء خصومه، وكان بدء قيام الدولة العباسية عام 132.

ويعتبر قيام هذه الدولة حدثا ملحوظا في حياة الفقه والتشريع، لأنها قامت باسم الدين وعلى الدين، فلا عجب أن يعنى رجالها بالحياة الدينية، وأن يعملوا على أن تقوم على قانون مستمد من صميم الفقه الإسلامي، فكانت الحاجة ماسة للفقه والفقهاء.

لقد كان حكم العباسيين عاملا قويا من عوامل ازدهار الفقه وتطوره، وفقا للحياة العامة، التي كان عليها المسلمون إبان هذه الدولة، وتمشيا مع ما كان يجد من مشاكل ووقائع، تتطلب أحكاما شرعية لها.

ومن مظاهر تلك العناية الطيبة، ما نعرفه من إجلال الخلفاء العباسيين، أيام عزهم ومجدهم، لرجال الفقه. ومن هذا، نجد الإمام مالك بن أنس يوجه إلى الخليفة هارون الرشيد رسالة ينصحه فيها ويذكره بما يجب عليه لله وللمسلمين، كما نرى هذا الخليفة يرسل إليه بالمسجد ابنيه الأمين والمأمون، ليسمعا منه حديث الرسول r، مع سائر من يحضر مجلسه من المسلمين.

وفي ذلك أيضا نجد الرشيد نفسه يطلب من أبى يوسف، تلميذ أبى حنيفة وصاحبه، أن يضع له كتابا يستهديه في نظم الدولة المالية وإدارتها، فيكتب له مؤلفه المعروف: كتاب الخراج وفي مقدمة هذا الكتاب القيم، يقول للخليفة وهو أقوى سلطان في ذلك العصر.

"فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك... ولا تزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب... وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، القريب والبعيد… وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فانظر الجواب!".

"وإني أوصيك، يا أمير المؤمنين، بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وألا تنظر في ذلك إلاّ إليه وله، فإنك إلا تفعل، تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك، وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف وتعرف منه ما تنكر. فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلج لها لا عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه، مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة بإذن الله".إلى آخر ما قال.

على أن الخليفة هارون الرشيد، لم يكن الفريد في إجلال الفقهاء، وسؤالهم النصح والتوجيه، فقد كان هذا شأن غيره أيضا من خلفاء هذه الدولة، والأمر معروف لمن شدا شيئًا من التاريخ الإسلامي المجيد.

لا عجب ـ إذن ـ أن يجد الفقه، في هذه الفترة الطيبة من حياته، تربة صالحة للنمو والكمال، ويكون من ذلك نشر سنة الرسول r، وظهور كبار المجاميع فيها، وكثرة ما زخرت به كتب الفقه من الأحكام والتشريعات العملية، وتدوين ذلك كله في مؤلفات رويت عن أئمة الفقه، وكبار أصحابهم، وتلاميذهم المباشرين، ومن بعدهم.

ثم لقد قامت هذه الدولة الجديدة في العراق، مهد المدنية الفارسية، وغيرها من المدنيات التي تواردت على هذه البلاد، فكان أن التقت هذه الحضارات، والعقليات التي تمثلها بالحضارة العربية والعقلية العربية، وأن تعاون في بنائها العقل العربي، والعقل الفارسي، والعقل الرومي، فأخذت من كل عقل بأحسن ما كمن فيه من قدرة الإبداع، وقد ظهر هذا الإبداع في الفقه والتشريع، كما ظهر في نواح مختلفة أخرى.

ثم كان أن قويت الحركة العلمية واشتدت، بسبب عوامل عدة، وكان من أهم هذه العوامل، بلا ريب، ترجمة العلوم، والفلسفة اليونانية للغة العربية، فضلاً عما نقل إلى العربية أيضا من تراث فارس، والروم. ومن الحق، أن حركة الترجمة بدأت أيام الأمويين، ولكنها لم تأخذ قوتها العجيبة وازدهارها الكبير، إلاّ في عهد الدولة العباسية، وخاصة في عهد الخليفة المأمون.

وكان مما نقل إلى العربية منطق أرسطو وفلسفته، وفلسفة غيره من أساطين اليونان. والمنطق ـ كما نعرف ـ يقدم ما يلزم من آلات، ووسائل للوصول إلى المجهول بطريق القياس، والاستنباط. ومن البديهي أن يكون الفقهاء، ومثلهم في هذا مثل سائر العلماء في الميادين المختلفة، قد أفادوا فائدة كبرى من المنطق، وسائر فروع الفلسفة الأخرى. وذلك في طريقة التقسيم والترتيب، لا في الأصول ومناهج التشريع، فإن الفقه الإسلامي هو التشريع الرباني.

ولما كثر التحديث عن الرسول r، وغزر إلى حد كبير، ما روي عنه، أو نسب إليه، من الأحاديث، ندب بعض أعلام المسلمين من رجال الحديث، أنفسهم للفحص عن هذه الأحاديث، وتصنيفها، وبيان صحيحها، والموضوع منها، ثم لتدوينها في دواوين خاصة، يرجع إليها المسلمون كما يرجعون إلى القرآن الكريم، لمعرفة دينهم وشريعتهم، وكان هذا الصنيع فضلاً، وتوفيقاً عظيمين، من الله لحفظ الأصل الثاني للإسلام، وهو سنة رسوله r.

وأهم هذه المجموعات أو الدواوين، هو ما يعرف "بالكتب الستة"، إذ فاق أصحابها في الدقة، والفحص، والاختيار سواهم، ففاقت الكتب نفسها غيرها في الاعتبار، لدى المسلمين، وتقديرهم لها، وأصحاب هذه الكتب هم:

1. أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى عام 256 هـ. صاحب كتاب "صحيح البخاري".

2.     مسلم بن الحجاج النيسابوري، المتوفى عام 261هـ. صاحب كتاب "صحيح مسلم".

3. أبو داود سليمان السجستاني، المتوفى عام 275 هـ. صاحب كتاب "سنن أبي داود".

4. أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، المتوفى عام 279هـ. صاحب كتاب " سنن الترمذي".

5. أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المتوفى عام 303 هـ. صاحب كتاب "سنن النسائي".

6. أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجة، المتوفى عام 273 هـ. صاحب كتاب "سنن ابن ماجة".

هذه المجاميع وأمثالها، ومنها ما صنف على أبواب الفقه المختلفة، والتي أنفق مؤلفوها الأئمة الحفاظ الأعلام ما أنفقوا من جهود، قدمت، بلا ريب، مادة غزيرة خصبة للفقهاء، يستخلصون منها الأحكام الفقهية بجانب القرآن الكريم، ولذلك كان لها أثرها الكبير في نمو الفقه واكتماله.

وأخيراً، كان من الطبيعي، لكل ما سبق، أن تكثر الآراء والفتاوى في المسألة الواحدة، وذلك للاختلاف في اعتبار الحديث صحيحا أو غير صحيح، أو للاختلاف في بعض أصول الفقه نفسها، كالقياس واعتبارها أو عدم اعتبارها من أدلة الأحكام الفقهية.

وكذلك كان طبيعياً أن يتعصب كل فقيه لآرائه، وأن يحتج لها ما وسعه الاحتجاج، وأن يجتهد ـ هو وتلاميذه وأنصاره ـ في إقامتها على أسس وأصول متينة، ينبني عليها ـ منطقيًا ـ كل ما يريد من تطبيقات، وتفريعات.

ومن هنا، كان للفقه مذاهبه الكثيرة المعروفة. ومن هذه المذاهب ما اندثر وذهب مع الزمن، ومنها ما كتب له الخلود حتى اليوم، وإلى ما شاء الله.