إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الأول

المبحث السادس

خصائص التشريع الإسلامي

للتشريع الإسلامي طبيعة خاصة، وخصائص تميزه من غيره من ضروب الفقه العالمية. ومن هذه الخصائص ما يرجع إلى طبيعة الفقه نفسها، وما يرجع إلى الطريق، الذي سار، ويجب أن يسير فيه حتى يصل إلى الغاية، التي يرضاها، الشارع الحكيم للعالم كله.

وليس من الممكن استيعاب تلك الخصائص، التي مرجعها، بداهة، طبيعته الخاصة، في القدر المحدود من الصفحات، التي خصصت لهذا البحث، ولكن يمكن تعرفها بإجمال مما يأتي:

ويمكن بيان هذا الإجمال بشيء من التفصيل، على ألاّ نتعرض للمقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون، إلاّ بقدر، وفيما تكون المقارنة ضرورية فيه، لأن القصد الأول هو ما يختص بشريعة الإسلام، وحدها.

أولاً: أسسه العامة

جاء الإسلام بعد أن استنفد كل من الأديان السابقة أغراضه، وصارت الإنسانية مستعدة لتقبله، وأحست بالحاجة الملحة لرسالة سماوية، تكون خاتمة الرسالات جميعًا، وتشوقت إلى الدين جديد يسير بها قدمًا إلى حياة العزة والكرامة والسعادة، لا فرق بين جنس وجنس، ولا بين أمة وأخرى، حتى لا يكون للناس جميعًا، إلاّ إله واحد، ويكون العالم كله معبده.

وكانت رسالة الإسلام لذلك، بيان العقيدة الحقة، بعد أن اختلفت في ذلك اليهودية والنصرانية اختلافا كبيرا، مزق العالم إلى فرق كثيرة متعادية، ووضع النظم والقوانين الصالحة لحياة الفرد والجماعة، وبخاصة أن حظ ما سبقه من الأديان السماوية، كان ضئيلاً في هذه الناحية ـ لأن الأديان السابقة كانت تشريعاتها مؤقتة ومحدودة. مؤقتة بزمن ومحدود بفئة، حتى جاء الإسلام فاستوعب الزمان وعم جميع الفئات ـ ومن هذه النظم والقوانين، ما نعرفه اليوم باسم "الفقه".

أساس هذا الفقه إذن هو وحي الله تعالى، هذا الوحي، الذي نجده في كتابه الكريم، وسنة رسوله العظيم،صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى، ففي هذين المصدرين، نجد جماع ما نعرف اليوم من أقسام القانون الحديث المختلفة: المدني، والتجاري، والعقوبات، والدستوري، والدولي... إلى آخر فروع القانون العام والخاص.

وكل فقيه مقيد بهذين المصدرين أو الأصلين الأساسيين، وهو مقيد كذلك باستلهام روح الشريعة، ومبادئها، وأصولها، ومقاصدها، وفي ذلك مجال أي مجال! للاجتهاد بلا ريب، ومن ثم كان تعدد المذاهب الفقهية واختلافها.

هذا، في حين أن القانون الوضعي ـ على اختلافه باختلاف الأمم، وعلى تعدد أقسامه وفروعه، وعلى اختلاف المذاهب في طبيعته وكيفية تكونه ـ من عمل الإنسان.

ولهذا عكفوا على دراستها وتفسير نصوصها نصا نصا، كما يفعل مفسرو الكتب المقدسة، كالقرآن الكريم مثلاً، زاعمين أنها حوت كل شيء في بابها.

ولكن يبقي مع هذا وذاك، الفروق الضخمة في النتائج التي تجيء عن الفروق الضخمة أيضا من جعل القانون وليد صاحب السلطان الأعلى في المجتمع، أو اعتباره مشيئة الله العظيم بما فيه صلاح الفرد والمجتمع والإنسانية كلها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يبقي الفرق الكبير في النتائج التي تجئ عن الفرق الكبير أيضا من اعتبار القانون وليد مجموعة قانونية وشرحها وتفسيرها لمجموعة نابليون مثلا، وبين إرجاعه إلى نصوص القرآن الكريم والسنة المعصومة من الخطأ، بينما عمل الإنسان مهما كان أمره عرضة للخطأ كما هو عرضة للصواب.

ومن ثمّ، فإن رأي الفقهاء المسلمين في طبيعة الفقه ومصدره، وأنه في أسسه وأصوله العامة يرجع إلى وحي الله لرسولهr ، ليس فيه شئ من العيوب التي يراها رجال القانون للمذاهب المختلفة في تفسير طبيعة القانون وبيان كيفية تكونه، ومن هذه العيوب إهمال العرف وأثره في القانون، وأنه ما دام مصدره التشريع وحده يبقي جامدا لا يتطور حسب الزمان والمكان وطبقا لما توجبه مصلحة الأمة.

وأخيراً فإن من نتائج اختلاف النظريتين لطبيعة القانون والفقه الإسلامي، أن الأحكام الفقهية يكون لها من الاحترام ما لا يكون للأحكام، التي يوجبها القانون، وذلك لاختلاف مصدريهما: الوحي الإلهي من ناحية، وعمل الإنسان من ناحية أخرى.

ومن ثم، تكتسب الأحكام الفقهية الاستقرار، ويعمل بها الآخذون بها عن اقتناع داخلي ورضا نفسي، ما دامت ترجع في أساسها إلى الله العلي الحكيم الذي لا يجيء عنه إلا ما يحقق مصلحة الإنسان، والذي لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهي إلا عن المنكر.

ثانياً: التمهيد لأحكامه

ولا تتحقق الغاية المرجوة من القانون بحسن وضعه وأحكامه فحسب، وإنما تتحقق، مع ذلك، بتنفيذه ممن شُرِّع لهم، على أن يكون هذا التنفيذ بوازع من أنفسهم وقلوبهم. وهذا الوازع يجيء من إيمانهم بعدالة القانون، ورضاهم به، واعتقادهم المثوبة من المشرع على النزول راضين على تشريعاته وأحكامه.

وقد لاحظ شيئا من هذا، فيما قبل التاريخ الميلادي، أحد فلاسفة اليونان وهو أفلاطون المتوفى عام 347 ق.م. فإن الذي يدرس كتابيه الخالدين: "الجمهورية"، و"القوانين"، يتبين أنه كان حريصًا على التمهيد لكل من تشريعاته التي أراد أن يقيم عليها مدينته La Cite الفاضلة المثالية، بما يجعلها مقبولة، ومرضياً عنها من أهل هذه الدولة، أو الجمهورية التي أرادها لبني وطنه، والتي لم يتمكن من تنفيذها.

 أما التشريعات الإسلامية كما نعرفها من القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنها بلغت الكمال من ذلك كله، إذ قامت جميعها على اعتبارات من الدين والأخلاق تجعلها تبلغ غاية الرضا والإيمان ممن وجهت إليهم من المؤمنين جميعا، لا فرق بين المسلمين وغير المسلمين، وحسبنا أن نشير من ذلك إلى ما يأتي:

للجار على جاره حقوق، وعليه له واجبات، وهي ما تعرف في الفقه بحقوق الجوار. وهذه الحقوق ربما لا يرضى من هي عليه بالتسليم بها، فيضطر صاحبها لاقتضائها إلى الجوء للمحاكم ومن ثم يجدُّ كثير من المشاكل والحوادث والقضايا التي يفصل فيها القضاء ويكون تنفيذها بعد ذلك بقوة القانون، على أن هذا لا يمنع من بقاء الخصومة، والعداء بين المتقاضيين.

لكن الله العليم الحكيم والمشرع الوحيد بحق، والذي يعلم ما طبعت عليه النفس الإنسانية من أنانية وأثرة، يؤكد حق الجار على جاره إلى درجة أنه قرنه بالأمر بعبادة الله وعدم الشرك به، فقال: ]وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامي وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا[ (سورة النساء: الآية 36).

ولذلك، نجد الرسول r، يتناول هذا المعنى فيؤكده في أحاديث كثيرة، نذكر منها قوله ]مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5556) وقوله ]مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5559). وقوله ]مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5560).

فمتى جاء الفقهاء بعد هذا، وبينوا هذه الحقوق، التي للجار، لا يسع من يؤمن حقا بالله وكتابه ورسوله،صلى الله عليه وسلم ، إلا المسارعة بأداء هذه الحقوق، ما دام الدين يبلغ من ذلك إلى حد الأمر بإكرام الجار، لا بإعطائه حقوقه فحسب. وحينئذ، ما الحاجة للقضاء والقانون، إلا لمعالجة من لم يخالط الإيمان قلوبهم، وفطرت نفوسهم على الشح ومنع الناس حقوقهم!

وفي الزكاة، وهي الصدقة المفروضة على ما يملك الإنسان من الأموال النقدية والزروع والأنعام، نجد القرآن الكريم يغرس في نفس المؤمن به أن أداء هذه الزكاة، بل التصدق المندوب إليه بشيء مما يملك، خير للمتصدق نفسه، فيقول ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 103).

ثم نجد، بعد القرآن الكريم، أحاديث كثيرة في الحث على الصدقة وتغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، وتصوير هذه العقوبة بصور شنيعة. وبعد ذلك يؤكد للمتصدق أن الله سيعوضه عما أنفق خيرًا كثيرًا، فيقول: ]مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1351).

والذود عن الوطن من مقاصد الإسلام وكل قانون، ولهذا كتب الله الجهاد على المسلمين، ذودًا عن الوطن، ودفاعًا عن الدين، ونشرًا له، لكنه لم يأمر بذلك أمرا مجردا فحسب، كما يفعل قانون التجنيد مثلاً.

إن الله يعلم أن أكثر النفوس فطرت على الضن بالنفس، كما فطرت على الضن بالمال، ولهذا رغب في الجهاد بضروب الترغيب المختلفة، ويبين أنه خير من الدنيا وما فيها، وأنه لا جزاء له في الآخرة إلا الجنة، ولكل هذا ونحوه، جاء كثير من الآيات والأحاديث.

من هذه الآيات، قوله تعالى ]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[ (سورة النساء: الآية 74)، وقوله ]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ (سورة التوبة: الآية 111).

وبجانب هذه الآيات، نجد هذه الأحاديث عن الرسول r: ]تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَة[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6909]لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2583).

وكان، لهذا المنهج في التمهيد لتشريع الجهاد وتحبيب بذل النفس في سبيل الدين، أثره الكبير، بلا ريب، في قلوب المؤمنين. فهذا جابر بن عبد الله يحدث أن رجلاً قال للنبي r يوم أحد: "أرأيت إن قتلت، فأين أنا؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل".

هذا هو الشأن في الفقه، أما في القانون الوضعي، فلا نجد لذلك مثيلا، حقيقة أن كل تشريع وضعي جدي، يقدم له واضعه بمذكرة إيضاحية تعتبر تمهيدا له، يبين فيها السبب في وضعه، والطرق، التي سلكها فيه، والغاية منه، إلى آخر ما تعنى به أمثال هذه المذكرات، أو التمهيدات لكل قانون جديد.

ولكن هذا شيء، وما انفردت به الشريعة الإسلامية من التمهيد لكثير من أحكامها على الوجه، الذي ذُكر، شيء أخر. فإنه بهذه التمهيدات، التي نجدها هنا وهناك في القرآن الكريم والسنة والآثار، يقتنع المخاطب حقا بأنه يدعو إلى الالتزام بقانون يحقق العدالة والرضا والرحمة لا العدل فقط. وأن في هذا الالتزام والنزول على هذه التشريعات رضا الله ورسوله r، وثوابا للإنسان نفسه في هذه الدار والدار الأخرى. وليس بعد هذا ما يبعث على طاعة القانون.

ثالثاً: جزاؤه دنيوي وأخروي

وهذه خصوصية أخرى تتصل شديد الاتصال بسابقتها، حتى تكاد تكون ملازمة لها، ذلك أن القانون يمكن أن يعرف بأنه مجموعة القواعد، التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي تحمل الدولة الناس على أتباعها، ولو بالقوة عند الاقتضاء، وهو يجازى على انتهاك أحكامه، إلاّ أن هذا الجزاء يكون دنيويا دائما، لأن واضع القانون لا يملك طبعا من أمر الآخرة شيئا، ومن ثم، لا جناح في الدنيا على من يستطيع الإفلات من هذا الجزاء.

أما القانون السماوي، وهو، في أسمى صوره الفقه الإسلامي، فعلى غير ذلك فيما يختص بالجزاء. إنه يثيب ويعاقب في هذه الحياة وفي الدار الأخرى أيضا والجزاء الأخروي أعظم دائما من الجزاء الدنيوي. ومن أجل ذلك، يحس المؤمن بوازع نفسي قوي بضرورة العمل بأحكامه وأتباع أوامره ونواهيه، ولو أمكنه التفلت من الجزاء في هذه الحياة الدنيا، فإن إيمانه يكون باعثًا على أتباع التشريعات، التي تستند إلى كتاب الله، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

والتشريع، الذي يستند إلى الدين، يقصد صلاح الفرد والمجتمع، وهذه غاية نفعية بلا ريب، بيد أنه يريد بناء مجتمع مثالي نقي مما ينافي الدين والأخلاق، ولذلك لا يمكن أن يقر شيئًا ينافي شيئًا منهما.

كما أنه لا يقصد فقط إلى بناء مجتمع سليم. بل إلى سعادة الفرد والمجتمع والبشرية كلها في هذه الدار، وفي الدار الأخرى أيضا. كما يهدف كذلك إلى إحسان قيام الإنسان بواجبه نحو نفسه وإخوانه في الإنسانية،. ونحو الله تعالى بعبادته حق العبادة.

رابعاً: نزعته جماعية

إن التشريع الإسلامي يرمي، إلى صلاح الفرد والمجتمع، فالنزعة السائدة فيه هي النزعة الجماعية، ونقول(جماعية)، لا (اشتراكية)، لأن هذه الكلمة أخذت في هذه الأيام معنى خاصًا حددها، أو قصرها على الناحية المالية، والمقصود (بالجماعة)، معنى أوسع يتناول الناحية المالية، وغيرها حتى ليعم الحقوق والواجبات جميعاً.

وهذه النزعة أو الطابع الجماعي للتشريع الإسلامي نجده واضحا فيما جاء به الإسلام من عبادات، كما هو واضح فيما أتى من أحكام المعاملات، التي نراها في الحياة العملية؛ فكل هذه التشريعات في هاتين الناحيتين، تهدف إلى تهذيب الفرد وصالحه والصالح العام للمجتمع بأسره، والمثل لذلك واضح في تشريعات الإسلام وأحكامه.

من ذلك، مثلاً، حكمة شرعية الصلاة والصوم والزكاة والحج، وحل البيع وتحريم الربا، والأمر برعاية الجار والوفاء بالعقود، وتحليل الزواج لإنشاء الأسرة وتحريم الزنا، وإقامة الحدود صيانة للمجتمع، إلى آخر ما نعرف من الأحكام، التي جاءت بالأمر والنهي والحل والحرمة.

وبعد هذا التعميم لابد من التخصيص، وذلك بالإتيان ببعض الأمثلة المحدودة الواضحة الدلالة على الطابع العام للتشريع الإسلامي وهو الطابع الجماعي.

من حق الزوج أن تكون زوجته في طاعته، لتكون سكنا له، وليثمر الزواج ثمراته المنشودة منه، ولكن هذا الحق مقيد بألا يكون في استعماله ضرر للزوجة، وإلا منع منه القاضي أو حد من استعماله، حتى ليكون للزوجة في بعض حالات الضرر، طلب التطليق منه، ومن ثم، يقول الله تعالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ولا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 231)، وهذا الأمر وإن جاء لحالة التطليق الرجعي، إلا أنه القاعدة في حالة قيام الزوجية أيضا.

ومن حق الحكام أن تسمع لهم الرعية ويطيعهم الشعب، ولكن ذلك مشروط بأن يصدروا في حكمهم وسياستهم للأمة عن المصلحة العامة، وفي هذا نرى الرسول r، يقول ]السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 5996). وهو كما نرى، أصل من أصول الحكم، له خطره الكبير، إذ إنه يحدد في دقة تامة سلطان الحكام وحقوق المحكوم، وفي أتباعه مصلحة الأمة جميعا.

ويروي الإمام أبو يوسف، أنه لما فتح الله العراق والشام على المسلمين أيام عمر بن الخطاب، أراد فريق كبير من الصحابة قسمة الأرض وما عليها بين أصحاب الحق من المسلمين الفاتحين، لكن الفاروق رأى أن يترك الأرض بيد ملاكها، على أن يدفعوا الخراج والجزية للمصلحة العامة للمسلمين جميعاً، وكان هذا الرأي توفيقا من الله لعمر بن الخطاب، كما عوده في كثير من الحالات.

ومن المعروف أن للمالك الحق في أن يتصرف في ملكه كما يشاء، ومن ذلك حق البيع لمن يريد، كما أن للمشتري الحق في شراء ما شاء، إذا رضي مالكه بيعه له، ومع ذلك، فالفقه الإسلامي أوجب حق الشفعة للشريك أو الجار على ما هو معروف، فيكون له تملك ما اشتراه الأجنبي جبرا عنه وعن المالك، الذي باعه له، وذلك لأن الحقوق لم يشرعها الله لضرر الآخرين بلا ضرورة، أو سبب، كما يعطي المالك حق البيع للجار بثمن المثل.

إن الفقه الإسلامي يحفظ الحق لصاحبه، ويبيح له استعماله كما يريد، ويحميه له من اعتداء الآخرين عليه، بشرط ألا يضار هؤلاء باستعمال صاحب الحق حقه، ضررا يكون أكبر من ضرر الحد من حرية صاحب الحق، وذلك تطبيقا لقاعدة: لا ضرر ولا ضرار، ودفعا لأكبر الضررين بالأخف منهما، فهذه القاعدة تحكم استعمال الحقوق، وفي تطبيقها تحقيق صالح صاحب الحق وصالح غيره معا.

وكذلك، تطبيقا لهذه القاعدة، يبيح التشريع السماوي للمرء أحيانا أن يحفر في أرض غيره مجرى ماء ليروي أرضه البعيدة عن مصدر الماء.

لقد روى يحيى بن آدم القرشي أنه كان للضحاك بن خليفة الأنصاري أرض لا يصل إليها الماء، إلا إذا مر ببستان لمحمد بن مسلمة، فأبى محمد بن مسلمة أن يدع الماء يمر بأرضه، فأتى الضحاك عمر بن الخطاب t، فقال لابن مسلمة: أعليك فيه ضرر؟ قال: لا، فقال له: والله لو لم أجد له ممرا إلا على بطنك لأمررته! وكان أن نفذ ما قضى به، وكان في هذا مصلحة للاثنين معا، فقد جاء ببعض الروايات أن الضحاك، حين أبى عليه ابن مسلمة أن يحفر الخليج بأرضه، قال له: تشرب منه أولاً وأخراً.

تلك الأمثلة، وغيرها  كثير، فيها الكفاية لإثبات الطابع الجماعي للفقه الإسلامي، هذا الطابع الذي نجد في القرآن الكريم وسنة الرسول r، وأحكام وآراء الجلة من الصحابة المصدر الأصيل له، وذلك، كما قلنا، لأن الشريعة الإسلامية لم تأت لصالح الفرد وحده، بل لصالح المجتمع كله في أكبر حدوده.

أما القوانين، التي هي من صنع البشر، فلم تلاحظ في أول أمرها هذه النظرة الجماعية أو الاجتماعية السامية، بل كانت تسودها الروح الفردية، ولنأخذ مثلا لذلك. القانون المدني الفرنسي، الذي صدر عام 1804 م.

فقد كان هذا القانون وليد الثورة الفرنسية، التي كان هدفها الأول تحرير الفرد مما كان ينوء به من قيود وأثقال، في السياسة والقانون والاقتصاد وغير ذلك كله من نواحي الحياة العامة فجاءت هذه الثورة عام 1789 لتقرر أن للإنسان باعتباره فردا، حقوقا طبيعية بلغت من القداسة ألا يجوز العبث أو المساس بها، ولو لصالح الآخرين.

ومن ثم، ساد هذا القانون روح فردي قوي يلتئم مع الروح، الذي أملى إعلان حقوق الإنسان، وهو تدعيم حقوق الأفراد وحمايتها، وينظر إلى الفرد باعتباره العنصر الأهم في الحياة لا باعتباره جزءا من كلٍ هو الجماعة، ولقد كان من نتائج ذلك، أن أتى وقت اعتبرت فيه الحقوق مطلقة المدى، وأن صاحب الحق في استعماله سيد لا يسأل عما يترتب على هذا الاستعمال من الأضرار، التي تحيق بغيره.

ومن الحق، أن ما حدث بعد عصر الثورة الفرنسية من تطورات اجتماعية واسعة المدى والأهمية، قد أدى إلى تطور مماثل في القوانين، جعلها تنظر إلى الفرد وحقوقه باعتباره عضوًا في الجماعة، ومن ثم أخذت في الحد من حريته في استعمال حقوقه، فنشأت نظرية سوء استعمال الحقوق La Theorie De Labus Des Droite، والتعسف.

إلا أنه مع ذلك، بقي من الثابت، الذي لا ريب فيه، أن نظرة الشريعة الإسلامية لحقوق الأفراد وتقييدها، مما يحقق مصلحة الجماعة ولا يضر مصلحة الفرد نفسه صاحب الحق، أوسع مدى وأبعد أثرا من نظرة القوانين الحديثة في هذه الناحية. ولهذا نراها جميعا تبيح التعامل "بالربا" مع ما فيه من صالح صاحب رأس المال والضرر بالمحتاج للقرض.

ونعتقد أن هذه التفرقة الواضحة، بين طابع الشريعة الإلهية وطابع القانون البشري، ترجع إلى تفرقة أساسية في أصل حقوق الفرد في الشريعة والقانون.

إن القانون في أول أمره، يعتبر حقوق الفرد حقوقا طبيعية له، فهو يملكها ويتصرف فيها حسب ما يرى، ومن ثم لا حرج عليه ولا تثريب، إن أساء استعمالها. أما الشريعة الإلهية فترى أن الفرد نفسه، وكل ما يعتبر له عادة من حقوق، ملك الله تعالى وحده ومنحة منه لعبيده، ولا يمنح ما يمنح من حقوق الأفراد إلا لغرض حكيم، هو تحقيق الخير للفرد والمجتمع معا، ولذلك نجد تقييد استعمال الحقوق من نواح عديدة مختلفة.

ذلك، بأن من المسلم الذي لا جدال فيه أن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وأن هذا ثابت في جميع الأحكام بالاستقراء.

وهذا ما اختاره أكثر الفقهاء المتأخرين. ويترتب، منطقيا، على ذلك الأساس، وجوب أن يكون الإنسان في عمله واستعماله لحقوقه متفقاً مع قصد الله من التشريع، وإلا كان عمله باطلا، لمناقضته للشريعة ومقاصدها.

خامساً: قبوله للتطور

كل ضرب من الفقه يجب أن يكون، في طبيعته وأدواته وأصوله، ما يجعله قابلا للتطور حسب الزمان والمكان، ليكون صالحا للبقاء، وإلا كان "فقها" ميتا غير صالح للحياة.

والفقه الإسلامي له، من كل ما سبق، ما جعله خالدًا يتطور مع الزمن. وقد ظهر، فيما مضى، بدء هذا التطور وشيء منه في زمن الخلفاء الراشدين أنفسهم. ولو أن رجاله قاموا عليه كما يجب ولم يجمدوا على القديم، ما كانت الأمة الإسلامية بحاجة مطلقا إلى لجوء للفقه والقوانين الغربية تأخذ منها تشريعاتها وقوانينها.

وهكذا صرنا إلى حالة مؤلمة من الأخذ عن الغرب في كل شيء، حتى كأننا أمة ليس لها مقوماتها الذاتية وتقاليدها الطيبة، وإن كنا، بحمد الله تعالى، نرى الآن فجرا جديدا ليوم جديد نعمل فيه لاستقلالنا حتى في التشريع، وهذا بفضل الالتفات للشريعة الإسلامية والإفادة منها وتطبيقها.

ووسائل تطور الفقه الإسلامي كثيرة، ولكن أهمها: الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبدأ المصالح المرسلة، ووجوب رعاية العرف على شروط خاصة، ومنها ألاّ يتعارض مع النص. ونكتفي الآن بالكلام عن العرف بصفته وسيلة من وسائل التطور للفقه، مكتفين في الحديث عنه بالكلام عن نشأته وتعريفه، واعتبار الرسول r نفسه له، وشروط اعتباره، وذكر أمثلة له في أزمنة وأمكنة مختلفة.

العرف في اللغة التتابع، يقال: جاء القوم عرفا، أي بعضهم خلف بعض، ومنه قوله تعالى: ]وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً[ (سورة المرسلات: الآية 1). وينشأ العرف عن العادة، وهي ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة، وذلك لأن اشتقاق كلمة "العادة" من المعاودة مرة بعد أخرى، فإذا تعارفها الناس في بلد أو بلاد عديدة صارت أمرا معروفا أو عرفا. وبعض هذه الأمور المتعارفة يرجع إلى دين الأمة، ومنها ما يرجع إلى تاريخها، ومنها ما يرجع إلى تقاليدها.

وللعرف على المرء سلطان كبير، فهو ينزل على أحكامه، وإن كان لا يوافق على بعضها، كمن يسرف في أمور الزواج، استجابة لداعي العرف، وهو ساخط، إلاّ أنه يخشى أن تصيبه المعرة، إن خرج على ما تعارفه قومه.

ولما للعرف من هذا السلطان، نرى الرسول r، يقر ما كان حسنا منه وبخاصة في باب المعاملات، كما في السلم والمضاربة، وقد تقدم حديث الرسول r.

وفي المضاربة يقول فخر الدين الزيلعي: فإنه r بعث والناس يتعاملونها. فتركهم عليها وتعاملها الصحابة رضى الله عنهم ألا ترى إلى ما يروى أن العباس بن عبد المطلب كان إذا دفع مالاً مضاربة شرط عليه (أي على المضارب الذي يعمل في المال تجارة) ألا يسلك به بحرا، وألا ينزل واديا، وألا يشتري ذات كبد رطب، فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ ذلك رسول الله r فاستحسنه.

وإذا كان العرف، عاماً أو خاصاً على الخلاف، يجيز تخصيص الأثر أو "الحديث"، ويترك من أجله القياس، فبالأولى يترك من أجله أقوال الفقهاء، وإن كانوا من أئمة المذهب، لأن هؤلاء الفقهاء يفتون في كثير من أحكامهم بحسب عرف أهل زمانهم، بحيث لو كان هذا الفقيه أو ذاك في زمن العرف الحادث لقال بخلاف ما قال أولا، ولذلك نرى مشايخ المذهب كثيرا ما يذهبون إلى خلاف ما نص عليه المجتهد[1].

ومن هذا، الفتوى أخيرا بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم والأذان وإمامة الناس ونحو ذلك، على خلاف ما اتفق عليه الإمام أبو حنيفة وصاحباه، لانقطاع أعطيات من كانوا يلون هذه الأعمال في الصدر الأول، وخوف ضياع القرآن الكريم والدين، لو لم يأخذ من يقوم بهذه الأعمال أجرا عليها.

ومن ذلك أيضا جواز بيع الثمار والخضر على الأشجار والأصول، ولم تكن ظهرت كلها وقت عقد البيع، فقد أجازه بعض العلماء للعرف. ومنه عدم جواز اتجار الوصي بمال اليتيم في هذا الزمن، لفساده بفساد أهله ومسائل أخرى كثيرة، في الإقرار والأيمان والنذور والزواج وغيرها.

وأخيرا، نرى، مما تقدم، مقدار صلاحية الفقه الإسلامي للتطور إلى الخير دائما بوسائله الخاصة، حسب الزمان والمكان وما يتجدد من الأحوال والعادات والأعراف وأن من وسائل هذا التطور رعاية العرف، وأن كتب الفقه مليئة بالأدلة على هذا التطور وبالأمثلة لبناء الأحكام على الأعراف المتجددة، بشرط عدم معارضة العرف للنص الشرعي.

ولذلك لا يصح لنا، في هذه النهضة التشريعية، أن نغل أيدينا وعقولنا عن الإفادة من هذا الفقه، بجمودنا على القديم وحده، دون مسايرة الزمن، الذي يتطور دائما، ما دمنا لا نخرج عن مقاصد الشرع وأصوله الصحيحة.

سادساَ: غايته

لكل نظام غاية يريدها واضعه منه، وإلا كان وضعه عبثاً لا يليق من عاقل. والقانون الوضعي نظام من النظم بلا ريب، فما هي الغاية، التي يقصدها المشرع منه ؟

إن الكلام في هذه الغاية سهل ميسور كل اليسر، إنها ليست إلا استقرار المجتمع، الذي وضع له هذا القانون. وذلك بتنظيمه وبيان حقوق وواجبات كل من أفراده فيما يختص بعلاقاتهم بعضهم مع بعض.

هذه الغاية إذن غاية نفعية محدودة، وهي إقامة النظام في المجتمع على نحو من الأنحاء. وهي غاية يحرص عليها واضع القانون كل الحرص، ولو "اقتضاه ذلك أن يحيد أحيانا عن مقتضى قواعد الأخلاق والدين، فالقانون مثلا يقر بملكية العقار لمن يضع يده عليه خمس عشرة سنة بنية تملكه حتى لو كان غاصبا، كما أنه يقضي بسقوط الحق بالتقادم، إذ يرى أن ذلك أدنى إلى قيام النظام في المجتمع مجاوزاً ما تقضي به قواعد الأخلاق في هذا الخصوص".

والقانون مع هذا لا يقصد إلا غاية نفعية محدودة، كما سبق، ولأن ذلك قد يقتضيه أن يبعد أحيانا عن بعض قواعد الدين والأخلاق نراه يبيح وينظم، هكذا يرون! غير قليل من الأمور، التي لا يبيحها دين أو خلق.

هذا هو القانون الوضعي في عامة صوره ومذاهبه، أما التشريع الإسلامي، فهو نظام آخر في غايته، وذلك من نواحٍ عديدة مختلفة، ومن ذلك بالإجمال دون التفصيل.

فمن ناحية أولى، أن هذا الفقه له مجال لم يتعرض له القانون بحال، وهو تنظيم علاقة الفرد بربه، وذلك بأحد قسميه الكبيرين، نعني قسم "العبادات". فهذه العبادات، من صلاة وصوم وزكاة وحج، تهدف، كما نعلم جميعا، إلى تطهير الروح ووصلها بالله جل وعلا، وتزكية النفس وصحة الجسم، وصلاح الفرد والجماعة معا من وجوه عديدة في هذه الحياة الدنيا، وفي الحياة الأخرى أيضا.

ومن ناحية أخرى، نجد هذا "الفقه"، إذا اقتصرنا على ناحية المعاملات منه، "وهي تشمل فروع القانون المتعددة، قد أوفى على الغاية وضرب المثل الأعلى لرعاية الفرد والمجتمع والإنسانية بعامة".

وذلك بما وضع من مبادئ عامة وأصول كلية، تحكم تصرفات الإنسان، وبما قرره من أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وبما صدر عنه من أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، وبما حرمه أو نهى عنه من تصرفات وعقود، تضر بالمجتمع والأمة، وإن كان فيها منفعة لأحد أطرافها.

أما المبادئ العامة والأصول أو القواعد الكلية، فقد حفلت بالكثير منها كتب معينة، مثل كتب "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي والسيوطي الشافعي، و"الموافقات" للشاطبي، و"الفروق" للقرافي. وعلى كل، فسيأتي جانب صالح منها عند الكلام على "أسس التشريع العامة" فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

على أن من هذه الأصول القاعدة، التي تقرر أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة. وهنا نجد الإمام الشاطبي، بعد أن قرر هاتين القاعدتين، ذكر في ذلك تفصيلات، لا نرى من الضروري سردها.

ولكن يمكن تلخيص ما ذكره أن المرء قد يمنع شرعا من عمل هو في الأصل مباح له وفيه مصلحة له، وذلك إذا ترتب عليه ضرر قطعي لغيره، أو يكاد يكون كذلك، أو إذا ترتب عليه ضرر عام، وذلك لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، "ولأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة"، إلى آخر ما قال.

ويتصل بهذا، نهي الشارع أو تحريمه لبعض التصرفات، التي تضر بالآخرين، مع إجازة القانون الوضعي للكثير منها وإن كان فيها منفعة، والمثل لذلك كثيرة منها:

1. حرم الله تعالى الربا في جميع صوره تحريما قاطعاً، وتوعد عليه بأغلظ عقاب، وذلك إذ يقول: ]الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهي فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ (سورة البقرة: الآية 275). وإذ يقول في السورة نفسها: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[ (سورة البقرة: الآيتان 278، 279).

2. ونهى الرسول r عن "بيع الغرر"، والغرر هو الذي لا يدري هل يحصل، أو لا يحصل، وذلك كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء قبل صيده، وبيع ما سينتج من الخضر أو الزرع من هذه الأرض، أو ما سيكون من الفاكهة في هذا البستان، وبيع السيارة الضائعة أو الحيوان الضال. كل ذلك نهى عنه الشارع، لأن فيه مخاطرة أو مقامرة من البائع والمشتري على السواء.

3. وكذلك ثبت ابْنَ عُمَر t كَانَ يَقُولُ "نَهَى النَّبِيُّ r ]أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4746)، وكما يحرم هذا البيع يحرم أن يشترى المرء على شراء أخيه لأن في كليهما ضررا بالآخر، قَالَ رَسُولُ اللَّه r ]لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2332).

4. وبعد هذا كله نجد في الناحية الإدارية، وهي جانب مما يسمى "السياسة الشرعية"، عناية كبيرة من الفقه الإسلامي ورجاله بما فيه المصلحة العامة للمسلمين جميعا، لا بما يحقق مصلحة فرد بعينه أو جماعة بعينها. والفقهاء في هذا يرجعون إلى القرآن الكريم وحديث الرسول المصطفى r، وإلى روح الإسلام عامة.

ونكتفي هنا بمثال واحد، فيه غنية عن سواه في هذه الناحية، وهو خاص بمناصب الدولة وأعمالها ومن يليها.

إن المعروف في الدولة، التي يسودها القانون الوضعي، أن المناصب والأعمال توكل لمن هم أهل لها، والمقياس الأول، إن لم نقل الوحيد في هذه "الأهلية"، هو الشهادة أو الدرجة العلمية، التي يفترض أن الحاصل عليها يكون أهلا لهذا المنصب أو ذلك.

أما في الفقه الإسلامي السياسي، إن صح هذا التعبير، فالمقياس هو الصلاحية الحقة، لا العلم أو الدراية وحدها، بمعنى أنه يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال الدولة أصلح من يجده لهذا العمل. وفي هذا يقول الرسول r، من ولي من أمر المسلمين شيئا، فوَلى رجلا، وهو يجد من هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله".

ولهذا يقول تقي الدين ابن تيمية في بعض كتبه: "وينبغي أن يعرف (أي ولي الأمر) الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: ]قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ[ (سورة القصص: الآية 26). ثم يذكر بعد هذا أن القوة في كل ولاية بحسبها، فهي في إمارة الحرب مثلا، ترجع إلى الخبرة بها، وإلى شجاعة القلب، وهي في ولاية الحكم بين الناس، ترجع إلى العلم بالعدل، الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

ثم يذكر بعد ذلك أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ فالواجب في كل ولاية الأصلح حسب نوع هذه الولاية؛ فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع على الضعيف العاجز، وإن كان أكثر أمانة منه، وإن كانت الولاية في حفظ المال ونحو ذلك وجب تقديم الأمين على القوي، وهكذا إلى آخر ما ضربه من مثل تعتبر تطبيقات لمبدأ تقديم الأصلح للولايات والمناصب المختلفة.

هذا؛ وفي الناحية الاجتماعية فيما يختص برعاية المحتاجين، فإن في الفقه الإسلامي نظاماً لا نظير له، في أي قانون وضعي أو دين آخر، ونعني به نظام "الزكاة" التي تؤلف باباً مهما من قسم "العبادات" في الفقه.

إن المشرع الحكيم، وهو الله اللطيف الخبير بعباده والعليم بهم، يعلم أن الناس تتفاوت حظوظهم من المال ومتاع هذه الحياة تفاوتا كبيرا، ولذلك فرض في مال الأغنياء حقا معلوما للسائل والمحروم، كما في القرآن الكريم، وهذا الحق المعلوم يؤخذ من الأغنياء ليعطى للفقراء والمحتاجين معونة لهم من الدولة والأفراد.

وسجل التاريخ أن هذه الرعاية كانت تمتد حتى تشمل المحتاجين من غير المسلمين. فهذا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يرى رجلا من "أهل الذمة" يتكفف الناس، فسأله عما ألجأه إلى ذلك، وحين عرف أنه في حاجة إلى العون قال: ما أنصفناه، أكلنا شبيبته وضيعناه عند الهرم! ثم أمر برفع الجزية عنه، وأن يعطى وعياله ما يكفيهم من بيت المال، طوال مدة إقامتهم بدار الإسلام، وصار ذلك مبدأ له ولأمثاله من المحتاجين.

ومما تقدم كله، وهو قليل من كثير، يمكن أن يقال بحق في هذه النواحي كلها: إن الفقه الإسلامي قد أوفى على الغاية، وضرب المثل العليا لرعاية الفرد والمجتمع والإنسانية.

ومنه ظهر بحق، أن لهذا الفقه طبيعة خاصة به، وأن له خصائص ينفرد بها، على غيره من ضروب الفقه والقوانين العالمية، وأن من الخير أن نعرف له قدره، فنجعله الأساس الأول لتشريعاتنا الحديثة، التي نحكم بها في بلدنا وفي غيره من بلاد العروبة والإسلام.



[1] ولهذا . لابد للمجتهد والمفتي من معرفة عادات الناس وأعرافهم في زمنه تيسيراً عليهم