إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الثاني

المبحث السادس

أسس التشريع العامة

خلق الله العالم بعنايته، وأحاطه دائما برعايته، فلم يتركه بلا هداة يرشدون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فكان من رحمته وعدالته أن يرسل له الرسول بعد الرسول. وقد عرفت البشرية كثيرا من رسل الله هؤلاء، وكل كان يرسل إلى قومه وأمته، فكان له عصره الموقوت وناسه المحدودون.

وظل الأمر كذلك، حتى استعدت البشرية لتقبل رسالة عامة، تظل أبد الدهر، وكانت هذه الرسالة هي الشريعة الإسلامية، بعد أن استنفدت الشرائع والديانات السابقة أغراضها، وأصبحت غير وافية بحاجات البشرية، وغير صالحة لكل عصر ومكان، فيما يأتي من الزمان إلى يوم الدين.

وإذا كانت الرسالة الإسلامية ليس بعدها رسالة إلهية أخرى، وإذا كان رسولها هو خاتم النبيين، وإذا كان من النتائج المنطقية لذلك أن أرسل إلى الناس كافة، وجب أن يكون ما فيها من تشريعات قد قامت على أسس تجعلها صالحة للناس عامة، في كل مكان وزمان.

والأمر كذلك حقا، فإن هذه الشريعة، بما قامت عليه من أسس قوية ومرنة معا صالحة حقا لكل بلد وناس وعصر وآن. ولا نجد هنا ضرورة لتعداد هذه الأسس وشرحها في تفصيل ولهذا نكتفي بالإجمال، الذي فيه غَناء، ويكون هذا بالكلام عن هذه الأسس وحدها.

أولاً: عدم الحرج

قول الله تعالى ]َياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة المائدة: الآية 6).

ويقول ]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[(سورة الحج: الآية 78)، ويقول: ]ليس عَلَى الأَعْمي حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا[ (سورة الفتح: الآية 17).

ويقول ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة البقرة: الآية 185)، ويقول] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا[ (سورة النساء: الآية 28).

وهكذا، نرى من هذه الآيات أن الله، الرحمن الرحيم، والعالم بتفاوت الناس صحة ومرضا وقوة وضعفا، رفع عنا الحرج ودفع المشقة عن الناس جميعا بعامة، وعن المرضى والمصابين بخاصة.

ولرفع الحرج ودفع المشقة عنا مظاهر كثيرة، منها ما هو في العبادات، ومنها ما هو في المعاملات، ومنها ما هو في العقوبات وما يتصل بها، ولنذكر أمثلة توضح كلا من هذه النواحي:

ففي العبادات نرى أولا عدم كثرة التكاليف، التي جاءت في القرآن الكريم خاصة بها، حتى صار من اليسير القيام بها دون عنت ولا مشقة، كما نرى إباحة قصر الصلاة حال السفر، والفطر للصائم إذا كان مريضا أو على سفر، وهذا ما نجده منصوصا عليه في القرآن الكريم، وإباحة التيمم بدل الوضوء للصلاة، لمن لم يجد الماء أو كان في استعماله ضرر به، وتناول المحرم كالخمر ولحم الخنزير عند الضرورة بقدر الحاجة.

بل، إن الله لم يفرض علينا الصوم إلا شهراً واحداً في العام، وهذا لما يعلمه الله فيه من جهد الجسم والنفس، ومع ذلك أباح الفطر لمن يشق عليه الصوم.

وفي الحج كثير من التكاليف البدنية والمالية، وفي ذلك بلا ريب مشقة على كثير من الناس، ولهذا لم يفرضه إلا مرة واحدة في العمر كله، ثم لم يفرضه إلا على من استطاع إليه سبيلا[1].

والأمر كذلك في الزكاة، فلم يفرضها إلا على القادر، الذي يفيض ماله عن حاجته، وجعلها العشر أو نصف العشر فقط، وهذه نسبة تقل كثيرا عن أنواع من الضرائب، التي تجبيها الحكومات الحديثة، هذه الأيام.

وفي ناحية المعاملات، نجد اليسر شاملا، فليس هناك إجراءات رسمية أو شكلية يجب إتباعها ليكون العقد صحيحا كما كان الأمر عند الرومان، بل تكفي في هذا رغبة المتعاقدين فقط كما هو معروف، ومن ثم لا نجد في القرآن الكريم في جواز العقود إلا شرط الرضا، ومصدق ذلك الآية التي تقول ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[ (سورة النساء: الآية 29). فإن كلمة "تجارة" تشمل كل أنواع المعاملات.

ومن باب التيسير في المعاملات أيضا، ابتناء كثير من الأحكام على العرف الصحيح نوعا، وفي هذا ملاحظة لاختلاف العرف والعوائد، باختلاف المكان والزمان.

وفي باب العقوبات، نجد أن منها ما يسمي في الفقه "بالحدود" وهي عقوبات الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر، صيانة للعرض والنسل والمال والعقل، وفي هذا، نجد الرسول r يقول ]ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1344)؛ ولذلك ، يسقط الحد عن السارق لما يقتات به، حفظا لنفسه، إذا كان لا يجد شيئا غيره، وعمن سرق ما يسد حاجته من مال يدعي أن له حقا فيه.

ومن دلائل اعتبار التيسير في التشريعات من أسس الشريعة الإسلامية، أن الله تعالت حكمته، تفضل ورفع عنا تكاليف كثيرة شاقة وعقوبات شديدة ضربها على اليهود جزاء بغيهم وعدوانهم، وفي ذلك نزلت هذه الآيات.

1. ]فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا[ (سورة النساء: الآية 160).

2. ]وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ[ (سورة الأنعام: الآية 146).

3. ]وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة الأعراف: الآيتان 156، 157).

وإذا وضعنا هذه الآيات بجانب آية أخرى يخاطب بها الله سبحانه المسلمين، وهي قوله تعالى ]قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (سورة الزمر: الآية 53). نلمس أي رحمة ويسر خص بهما عباده المسلمين المؤمنين به وبما أنزل على رسوله r!

هنا رحمة وسعت كل شيء، ودعوة إلى التوبة، التي تمحو الذنوب، وهناك أخذ بالعقاب الغليظ المتعدد الألوان! هنا، تحليل للطيبات من الرزق، فلا تحريم إلا للخبائث، كالخمر والميتة والخنزير، ووضع لما كان على اليهود من إصر وأغلال! وهناك، هذا الإصر وهذه الأغلال تضرب عليهم، في صور تكاليف ثقيلة وتشريعات شديدة! فهل بعد هذا يسر وتسهيل!

فقد ذكر المفسرون "للإصر" معاني كثيرة، وكلها ترجع إلى الأمر الغليظ الصعب، فمنها، أنه المسخ قردة وخنازير، وأنه الذنب ليس له توبة ولا كفارة، وقد بين "الإصر" في مكان آخر بأنه التشريعات الشديدة، وذلك مثل: أن الجزء النجس من الثوب يجب قرضه، وتحريم الانتفاع بغنائم الحرب، وتحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول"الدية" بدل القصاص، والأمر بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم.

وهذا كله، فضلا عن تحريم ما حرم عليهم من لحوم بعض الحيوانات وشحوم بعض آخر على ما ذكر من قبل.

ثانياً: رعاية مصالح الناس جميعا

إنه ليكفينا هنا أن نرجع إلى ما ذُكر، من قبل، عن "نزعة الفقه الجماعية"، ففيه غَناء أي غناء، في بيان مقصد التشريع الإسلامي الأول، وهو تحقيق المصالح الحقيقية للناس عادة، لا فرق بين جنس وجنس، وأمة وأخرى. ومن ثم جاء في القرآن الكريم أنه أنزل رحمة للعالمين، ما دام رسوله كان رسولا للناس كافة.

وهنا، يظهر فرق واضح بين التشريع الإسلامي وبين القانون الوضعي، لهذه الدولة أو تلك من دول الأرض جميعاً. لأن كلا منهما يسري في حق جميع المخاطبين بأحكامه،. ولكن المخاطبين بأحكام القانون محدودون بحدود الإقليم، أو بجنس الدولة، التي يعتبر القانون قانونا لها، على حين أن الأمر ليس كذلك في الشريعة الإسلامية.

ذلك بأن مبدأ سريان القانون، حتى يعم جميع المخاطبين به، يكون على أحد هذين النوعين:

1. سريان إقليمي: وهو ما يعبر عنه بمبدأ إقليمية القانون Territorialite de la loi، فيطبق على كل المقيمين في هذا الإقليم من وطنيين وأجانب، ولا يطبق على من يوجد خارجه وإن كان مواطنا.

2. سريان شخصي: وهو ما يعرف بمبدأ شخصية القانون Personnalite de la loi، فيطبق على كل المواطنين، حتى من كانوا خارج الوطن، ولا يطبق على الأجانب، المقيمين في الوطن.

أما الأمر في التشريع الإسلامي، فهو مختلف عن ذلك تماما، إلا في بعض الحالات المستثناة، وهذا من ناحيتين:

1. أن المسلمين جميعا مخاطبون بالتشريع الإسلامي، أينما كانوا في أي بلد من بلاد الله، وهذا ما يخرجه عن نطاق "الإقليمية"، وذلك لأن الإسلام يعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة بنص القرآن الكريم، وإن تعددت أوطانهم، التي استخدمت أخيرا[2].

2. وبالنسبة لغير المسلمين، نرى أن الفقهاء قد اختلفوا في مسألة هل يعتبر "الكفار" مخاطبين بأحكام الإسلام من الإيمان والعبادات والعقوبات، أم غير مخاطبين بها جميعا، أم هم مخاطبون بالبعض دون البعض. وفي هذا يذكر ابن عابدين ما نصه.

"الرأي المحرر، في المنار وشرحه لصاحب البحر، أن الكفار مخاطبون بالإيمان وبالعقوبات سوى حد الشرب (لاعتقادهم حل الخمر) والمعاملات. وأما العبادات فقال السمرقنديون إنهم غير مخاطبين بها آراء واعتقادا، وقال البخاريون إنهم غير مخاطبين بها أداء فقط، وقال العراقيون إنهم مخاطبون بهما.

(أي بالأداء والاعتقاد) فيعاقبون عليهما، (وهو المعتمد) ثم ذكر بعد ما تقدم بسطر واحد: "وحاصله، أن لهم حكمنا في العقوبات والمعاملات، إلا ما استثنى، دون الإيمان والعبادات، فلا نطالبهم بهما وإن عوقبوا عليهما في الآخرة". والنتيجة لهذه الناحية وتلك، أن التشريع الإسلامي يعتبر ساريا في حق جميع المخاطبين به سريانا إقليميا وشخصيا معا، إلا بعض ما استثني، وهو قليل.

وإذا كان الأمر كذلك، كان من الطبيعي أن يستهدف هذا التشريع مصلحة الناس كافة، لا فرق بين أجناسهم وأديانهم، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي:

"إننا وجدنا (بالاستقراء) الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية (أي أحكام المعاملات) تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يُمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع فيه المبايعة، ويجوز فيه القرض، وبيع الرطب باليابس (كالتمر) مثلا يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة" إلى آخر ما قال.

ومن المعروف أن المصالح تتضارب كثيرا، فربما كان الخير لهذا في ضرر يصيب ذاك، وهنا بينت الشريعة أنه يجب في هذه الحالات تقديم المصلحة العامة على الخاصة، وأن الضرر الأكبر يجب أن يزال بالضرر الأدنى، وفي هذا وذاك يقول الرسول r "لا ضرر ولا ضرار".

ومن باب التطبيق أيضا: إباحة نزع ملكية بعض الناس، توسعة لطريق أو مجرى أو غير هذا وذاك من المنافع العامة، وإيجاب نفقة القريب المحتاج على قريبه، وإكراه المدين الموسر على الوفاء بدينه ولو بالحبس، وفرض الزكاة حقا معلوما في أموال الأغنياء للسائل والمحروم من الناس، وللحاكم أخذها من الأغنياء ولو بالقوة.

ومن باب التطبيق، كذلك، لهاتين القاعدتين، ولقواعد عامة أخرى قام عليها التشريع الإسلامي، يجئ ذكر بعضها، فيما بعد، كان تحريم الربا والقمار، وشرب الخمر، والخداع والتغرير في المعاملات، وأمثال هذا كله، وذلك حفظا للمال والعقل، وتدعيما للأخوة بين المسلمين والآخذين بهذه الشريعة العامة للناس جميعا.

ثالثاً: تحقيق العدل للناس عامة

وهذا ما ينبغي الوقوف عنده طويلا، فليس كالشريعة الإسلامية أي قانون،في رعايتها للعدالة لا للعدل فقط. ولم ترع هذا للمسلمين وحدهم، بل للناس كافة، حتى للأعداء، وإن كانوا في حالة حرب فعلية معنا. فإن هذه الشريعة قد بينت حقوق الفرد والجماعة أيا كان ذلك الفرد وهذه الجماعة، وعملت بأحكامها على صيانة هذه الحقوق لأربابها، وبذلك أصبح الكل آمنا على نفسه وماله وجميع حقوقه.

والقرآن الكريم، وكذلك سنة الرسول العظيم r، مصدر حافل بالآيات، التي ورد فيها الحث على العدل، والأمر به، والوعد بالإثابة عليه، والآيات الأخرى، التي ورد فيها تحريم الظلم والتنفير منه، والتوعد بالعقاب عليه. وقد وردت في القرآن الكريم كلمة "عدل"، ومشتقاتها بالمعنى، الذي نريد نحو 20 مرة، وكلمة "ظلم"، ومشتقاتها نحو 299 مرة. كما أتت فيه كلمة "عدوان"، ثماني مرات! وكلمة "اعتدى"، ومشتقاتها نحو 20 مرة!

ومن هذه الآيات الآمرة بالعدل مع الأولياء والأعداء، على حد سواء:

1. ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ (سورة النحل: الآية 90).

2. ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[ (سورة النساء: الآية 58).

3. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[ (سورة النساء: الآية 135).

4. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (سورة المائدة: الآية 8).

ومن هذه الآيات، ترى مقدار حرص القرآن الكريم على إقامة العدل وعدم التقصير فيه، ولو اقتضانا ذلك أن نشهد به على أنفسنا وأقرب الناس إلينا، وعلى ألا يدفعنا بغض قوم على عدم العدل إليهم، وذلك لأن العدل هو الأساس المتين، الذي لا تقوم الحياة والعالم بدونه.

هذا، ونختم الحديث هنا بإيراد ملاحظتين، وهما:

الأولى: أن الشريعة، التي تقوم على فكرة العدل الكامل على هذا النحو، يجب أن تكون شريعة مثالية تنظر إلى الناس جميعا نظرة واحدة، فهم أمامها سواء لا فرق بين سيد ومسود ونبيل ووضيع، ومن ثم، فهي تعدل بينهم في أحكامها، هذه هي الشريعة الإسلامية.

إن هذه الشريعة لا تنظر بحال ما إلى نبالة المولد، ولا إلى وجاهة الغنى والثروة، بل هي لا تعرف ميزانا يتفاضل به الناس إلاّ التقوى، والعمل الصالح، وفي هذا يقول القرآن الكريم ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ (سورة الحجرات: الآية 13)، ويقول الرسول المصطفى r ]لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 22391).

أمام هذه الشريعة ليس إلاّ العدل المطلق، بقدر ما يتاح لبشر، سواء في ذلك ما يقتضي الثواب أو ما يقتضي العقاب. ومن ذلك أن أسامة بن زيد حب الرسول r، شفع لديه في المرأة المخزومية، التي سرقت، مدفوعا من قريش، فقال الرسولr  ]أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3216).

والثانية: أن القانون الوضعي يقتصر، مبدئياً، على مجرد تحقيق العدل،La justice لا العدالة L'equite ؛ لأن العدل يقتضي المساواة في الأحكام على أساس الوضع الغالب في الحياة، من غير اعتداد بتفاوت الظروف أو اختلاف الجزئيات في الحالات المتماثلة، على حين أن العدالة تقتضي المساواة المجسمة الواقعية في المعاملة للحالات المتماثلة، إذا تماثلت في ظروفها وجزئياتها الواقعية.

وهذا النوع من المساواة لا يستطيع واضع القانون تحقيقها، لأنه لا يستطيع قبل وضعه للقواعد القانونية التنبؤ مقدما بتلك الظروف أو الجزئيات الواقعية، لكل من تلك الأوضاع والحالات المستقبلية.

هذا بينما واضع التشريع الإسلامي في أسسه وقواعده العامة وفي كثير من أحكامه التفصيلية، هو الله العليم بكل شيء والخبير بكل ما كان ويكون إلى آخر الدهر، فهو بلا ريب قادر سبحانه على تحقيق العدل والعدالة معا.

 



[1] ورد أن رسول الله r كان يعلم الناس فريضة الحج فسأله رجل ثلاث مرات يقول: كل عام يا رسول الله ؟ والرسول يعرض عنه. فسأله مرة رابعة، فقال الرسول مجيباً له ]والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت، ما استطعتم! ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم[ وفي هذا نزل قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ[ (سورة المائدة: الآيتان 101، 102).

[2] وفي هذا جاء قوله تعالى: ]إنّ هذِهِ أُمّتُكُم أُمّةً واحِدةً وأنا رَبُّكُم فَاعْبدُونِ[ ( سورة الأنبياء: الآية 92).