إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الثالث

المبحث التاسع

أحكام الشريعة الإسلامية

(الحقوق وأقسامها الأربعة)

تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية إلى أربعة أقسام من الحقوق، وهي كالآتي:

أولاً: حقوق الله

إن أول حق من حقوق الله تعالى: أن يؤمن الإنسان به ولا يشرك به، ولا يتّخذ غيره إلهاً ولا رباً. ويؤدى هذا الحق بالإيمان بكلمة "لا إله إلا الله".

والحق الثاني من حقوق الله: أن يذعن الإنسان إذعاناً تاماً لِمَا جاء من عند الله من الحق والهداية ويؤدي هذا الحق بالإيمان "بمحمد رسول الله" r.

والحق الثالث من حقوق الله: أن "يطاع" ويؤدى هذا الحق بإتباع الشريعة، التي بينها كتاب الله المجيد، وأوضحتها وشرحتها سنة رسول الله r، كما سبق بيانه.

والحق الرابع من حقوق الله: أن "يُعبد". ولأداء هذه الحق فرض الله على الإنسان ما فرض من الفرائض والواجبات؛ ولأن هذا الحق أولى من غيره، يجب أن يضحي الإنسان لأدائه بسائر حقوقه لأن العبادة هي غاية الخلق ]وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ (سورة الذاريات: الآية 56).

فمثلا إن الإنسان عندما يقوم لأدائه فريضة الصلاة أو الصوم، يضحي بكثير مما عليه من حقوق نفسه: يستيقظ مبكراً ويتوضأ بالماء البارد ويترك كثيراً من أعماله المهمة وأشغاله الشاغلة، غير مرة واحدة في الليل والنهار لأداء فريضة الصلاة، ويدع طعامه وشرابه ويكبح نفسه شهرا كاملا لأداء فريضة الصوم، ويؤثر حب الله على حب المال لأداء فريضة الزكاة، ويقاسي وعثاء السفر وشدائده وينفق كثيراُ من أمواله في الحج ويضحي بنفسه وماله في الجهاد، وكذلك يضحي بما عليه من حقوق الناس لأداء حقوق الله إلى حد قليل أو كثير، ففي الصلاة مثلاً يكف العبد عن خدمة سيده ليعبد سيده الأكبر، ويؤدي ما عليه من حقه، وفي الحج يفتر عن شؤون معاشه وتجارته ويغادر أهله وأبناءه ويسافر إلى بيت الله الحرام مما يمس بحقوق كثير من غير شك، وفي الجهاد لا يقتل الإنسان ولا يقتل إلا لوجه الله تعالى وحده. وكذلك يضحي الإنسان لأداء حقوق الله بكثير من الأشياء، التي يتصرف فيها وهي تحت يده، كالتضحية بالحيوانات وإنفاق المال.

على أن الله تعالى وضع لحقوقه حدوداً، حتى لا يضحي الإنسان بحقوق غيره لأداء حق من حقوق الله إلا إلى حد لا بد منه. خذ لذلك الصلاة مثلاً، فالله تعالى ما أرد بك العسر في أداء الصلاة بل أراد اليسر، فإنك إن لم تجد الماء، أو كنت مريضاً فلك أن تتيمم صعيدا طيباً، وإن كنت على سفر فلك أن تقصر من صلاتك وتجمع فيها، وإن كنت مريضاً فلك أن تصلي قاعداً أو مضجعاً، وللإنسان أن يقرأ في صلاته ما شاء من القرآن كسورة البقرة أو سورة آل عمران، ولكن لا يجوز أن تطيل صلاتك في أوقات شغلك، أو إذا كنت إمامًا لغيرك، ممن لا يطيقون ما تطيق. ثم إن الله تعالى ـ وإن كان يفرح كثيراً إذا تطوع الإنسان وتقرب إليه بالنوافل بعد الصلوات المكتوبةـ ولكنه لا يريد أبداً أن تحرم على نفسك نوم الليل وراحة النهار أو تقضي أوقات الكسب في النوافل، أو تنقطع إلى الصلاة عن شؤون الدنيا كلها، ولا تكترث لما عليك من حقوق عباد الله.

وكذلك قد يسر الله عليك كثيراً في الصوم، فإنه سبحانه ما افترض الصوم على عباده إلا مدة شهر من السنة، ويجوز تأخيره إلى أيام أخر، إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر. ولا يجوز أن تضاف دقيقة واحدة إلى ما حدد للصوم من الوقت، وللصائم أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ـ أي السحر ـ من الفجر، ثم إذا أتم صومه إلى غروب الشمس، فعليه أن يفطر على الفور ثم إن الله تعالى وإن كان يفرح بعبده كثيراً إذا صام صوم التطوع، بعد صيام شهر رمضان المكتوب، ولكنه لا يحب منه أبداً أن يواصل في صومه، وينهك بدنه ويقعد عن أعمال الدنيا.

وكذلك ما قرر الإسلام إلا أزهد مقدار من المال لإيتاء الزكاة، وما فرضه إلا على الذين يملكون النصاب، فمن تطوع بعد ذلك وتصدق بأكثر من ذلك في سبيل الله فإن الله، وإن كان يرضى عنه ويحب عمله، ولكنه لا يريد منه أن يضحي بما عليه من حقوق نفسه وأهله وينفق في سبيله جميع أمواله ويقعد ملوماً محسوراً بين الناس، بل يجب عليه القصد والاعتدال في هذا الباب أيضاً.

ثم انظر إلى الحج، فالمعلوم في بابه أن الله تعالى لم يفترضه إلا على الذين يملكون الزاد، ويقدرون على تحمل وعثاء السفر ومشاقه، ولكن الله قد زاد السهولة فيه، فلم يفترضه على الإنسان إلا مرة واحدة طول عمره، وإن كانت في الطريق الحرب أو الفتنة على نفسه، فله أن يرجئ الحج إلى ما بعد زوال تلك الفتنة، وكذلك قرر أن لابد للإنسان من رضا الوالدين إذا أراد الحج لئلا يتأذيا في غيابه لعجزهما وكبر سنهما. فيتبين من ذلك كله أن الله تعالى قد راعى، كثيرا،ً حقوق غيره في حقوقه جل شأنه.

وأكبر تضحية بالحقوق الإنسانية يؤديها الإنسان في الجهاد، فإن الإنسان في الجهاد يضحي بنفسه وماله، وبنفوس الآخرين وأموالهم، ابتغاء لمرضاة الله، ولكن من قواعد الإسلام ومبادئه الأساسية، أن يتحمل الضرر الخفيف احترازاً من الضرر الشديد، فإذا تفكرت في هذا المبدأ وعرفته، وجدت أن قتل بضع مئات أو ألوف من أفراد البشر أهون ضرراً من أن تعلو في الأرض كلمة الباطل بإزاء الحق، ويغلب دين الله على أمره بإزاء قوى الكفر والشرك والإلحاد، ويعم في الأرض الضلال والإباحية والفوضى. فاحترازاً من هذا الضرر الشديد، أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يتحملوا، في سبيله وابتغاء وجهه، ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم من الضرر الخفيف. ومع ذلك أمرهم ألا يقتلوا إلا نفساً لا بد من قتلها، وألا يعتدوا على العجزة والنساء والأطفال والجرحى والمرضى، وألا يقاتلوا إلا الذين يقاتلونهم حماية لباطلهم، وألا يعثوا في أرض العدو مفسدين، من غير ما حاجة ولا سبب، وأن يعدلوا بين الأعداء إذا فتحوا بلادهم وانتصروا عليهم، ويوفوا بكل ما يعاهدونهم عليه، ولا سبيل لهم عليهم إذا كفوا أيديهم وأمسكوا عن معاداة الحق ومخالفته ومناصرة الباطل، فيدل كل ذلك على أن الله لم يجز لأداء حقه إلا تلك التضحية بالحقوق الإنسانية التي لابد منها، بل الجهاد من أجل الحقوق الإنسانية وحمل الحق للبلاد، وبيان شريعة الله.

ثانياً: حقوق النفس

وهو القسم الثاني مما على الإنسان من الحقوق، وهي حقوق نفسه.

ولعل العجب يأخذك إذا قلنا: إن الإنسان يظلم نفسه أكثر مما يظلم غيره؛ لأن كل إنسان يحس ويحسب أن نفسه أحب إليه من غيره، ولا أرى أحداً يقر بأنه عدو لنفسه. لكنك إذا تدبرت هذا الأمر قليلاً تبينت لك حقيقته.

من أبرز مواطن الضعف، التي فطر عليها الإنسان أنه إذا غلبته شهوة من الشهوات، انقاد إليها كل الانقياد، ولا يبالي بما يصيبه لأجلها من الضرر في نفسه، سواء أكان يشعر بذلك أم لا يشعر. ترى رجلاً قد افتتن بالسكر، يعمى في سبيله ويتحمل لأجله المضرات القادحة في صحته ونفسه وماله وعرضه، وترى غيره قد أولع بلذة الطعام يأكل كل ما يجد من نافع أو غير نافع، ويعرض نفسه للهلاك في سبيله، وترى ثالثاً صار عبداً لشهواته النفسانية، يأتي بأعمال تجره إلى الهلاك جراً، وترى رابعاً قد أهمته نجاة نفسه، فانقطع إلى تزكية روحه وترقيتها، يناصب نفسه العداء، ويريد أن يدوس كل ما تتطلع إليه من اللذائذ والشهوات، ويأبى أن يحقق حاجاتها، ويجتنب الزواج، ويأنف من الأكل والشراب ويجانف اللباس ويبغضه، حتى أنه لا يكاد يرضى بالتنفس في هذه الدنيا المملؤة بالمآثم في نظره، فيأوي إلى الغابات والكهوف، ويظن أن هذه الدنيا ما بنيت له.

هذه أمثلة قليلة لتطرف الإنسان في هذه الدنيا، وإلا ففي الحياة صور عديدة لهذا التطرف نشاهدها بين كل آونة وأخرى.

وبما أن الشريعة الإسلامية تريد فلاح الإنسان وسعادته، فهي تنبهه إلى الحقيقة الثابتة القائلة: "إن لنفسك عليك حقاً" وهي تمنعه عن كل شيء يضره، كالخمر والحشيش والأفيون وغيرها من الأشياء المسكرة، وعن الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره من الوحوش الضارية والمسمومة والحيوانات النجسة، فإن لهذه الأشياء تأثيراً سيئاً في صحة الإنسان وأخلاقه وقواه العقلية والروحية، وتحل له بدلاً منها الأشياء المفيدة الطيبة وتقول له: لا تحرم نفسك من التمتع بها فإن لجسدك عليك حقاً.

وهي تنهاه عن العري، وتأمره أن يتمتع بما أنزل الله له من الزينة في هذه الدنيا، ويستر من جسده الأعضاء، التي يعد من الوقاحة الكشف عنها.

وهي تأمره بالجد في كسب الرزق وتقول له: لا تقبع في بيتك عاطلاً، ولا تمدن يدك إلى الناس مستجدياً جدواهم، ولا ترهق نفسك جوعاً، واستخدم ما قد أنعم الله عليك من القوى، واسع بالطرق المشروعة لنيل ما قد خلق الله في الأرض والسماوات من الوسائل والأسباب لراحتك وتربيتك.

وهي لا تسمح أن يكبح شهوات نفسه كل الكبح، بل تأمره بالزواج لقضاء ما في نفسه من الشهوة.

وهي تمنعه من تذليل النفس وحرمانها من رغد العيش ومتعة الحياة، وتقول له: إنك إن كنت تريد الرقي الروحاني، والتقرب إلى الله، والنجاة في الآخرة فلا حاجة لك ولا داعي إلى ترك الدنيا، فإن ذكر الله تعالى في هذه الدنيا، مع التمتع بلذاتها ومنافعها، واجتناب معصيته وأتباع قانونه وشريعته، لهو أكبر وسيلة، وأنجحها إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

وهي تحرم عليه الانتحار وتقول له: إن هذه النفس، التي قد أوتيتها، إن هي إلا ملك لله، قد أودعها أمانة عندك لتستخدمها إلى أجل مسمى، وما أوتيتها لتعبث بها وتقضي عليها بيدك.

ثالثاً: حقوق العباد

أمرت الشريعة الإسلامية الإنسان بأداء حقوق نفسه وجسده في جانب، وأمرته في الجانب الآخر ألا يؤدي هذه الحقوق على وجه يمس بحقوق غيره من عباد الله في الدنيا، فإنه إذا قضى شهواته ورغباته على هذا الوجه، نجس نفسه وأضر بغيره، فلأجل ذلك قد حرمت الشريعة النهب والسلب والسرقة، والارتشاء والخيانة والتزوير، والغدر وأكل الربا، فإن المنفعة التي يكسبها الإنسان بهذه الطرق، إنما يكسبها بجلب الضرر إلى غيره في حقيقة الأمر، وكذلك حرمت عليه الشريعة الكذب والغيبة، والنميمة والافتراء، فإن هذه الأمور أيضاً تجلب الضرر إلى غيره من عباد الله، وكذلك حرمت عليه القمار والميسر، فإن منفعته في هذه كلها، لا تكون مبنية إلا على ضرر ألوف من الناس غيره، كذلك حرمت عليه صفقات الغش والغرر وغيرها من الشؤون المالية الأخرى، التي يمكن أن يصيب الضرر فيها أحد الفريقين دون صاحبه. وكذلك حرمت عليه القتل والإفساد في الأرض وإفشاء الفتنة، فإنه لا يحل لأي فرد من أفراد البشر أن يقتل غيره، أو يصيبه بنوع من الأذى للحصول على أمواله، أو إرواء لغليله. وكذلك حرمت عليه الزنى وعمل قوم لوط، فإن هذه الأعمال تفسد عليه صحته وأخلاقه في جانب، وتؤدي إلى تفشي الإباحة والوقاحة والاستهتار في المجتمع في الجانب الآخر وتفضي به أخيراً إلى الأمراض الخبيثة، وتفسد فيها الأنساب، وتحدث الفتن وتخل بالعلائق الإنسانية، وتزعزع قواعد الحضارة والمدنية.

هذه قيود وضعتها الشريعة الإسلامية على الحياة الإنسانية، لئلا يسلب الإنسان حقوق غيره، أو يبخس منها شيئاً؛ أداء لحقوق نفسه وجسده. ولكنه لا يكفي ترقية المدينة الإنسانية وإسعادها ألا يصيب الإنسان غيره بشيء من الضرر، بل لابد لهذا الغرض في الوقت نفسه، أن تكون علائق الناس وصلاتهم فيما بينهم قائمة على وجه يجعلهم جميعاً متعاونين على الخير متناصرين على المصالح الاجتماعية، وفيما يلي خلاصة ما وضعت الشريعة الإسلامية من القوانين لهذا الغرض:

1. إن العلائق البشرية تبتدئ بحياة الأسرة، فلك أن تنظر نظرة في حياة الأسرة قبل غيرها، وما الأسرة في حقيقة الأمر إلا ذلك المجموع، الذي يضم الزوجين وأولادهما. فالذي يضع عليه الإسلام أساس الأسرة هو أنه من واجب الزوج أن يكسب للأسرة ويهيئ لها حاجاتها ويدافع عن أفرادها، وأنه من واجب المرأة أن تدبر شؤون المنزل بما يكسبه الزوج، وتهيئ أكبر راحة ممكنة لزوجها وأولادها، وتعني بتربية الأولاد، وأنه من واجب الأولاد أن يطيعوا أبويهم ويجلوهما، ويخدموهما إذا كبروا، ولأجل أن يبقى نظام الأسرة سائراً على الخير والرشد والصلاح فقد اختار الإسلام تدبيرين:

أولهما: أن جعل الزوج والأب حاكما على الأسرة ناظراً لشؤونها، فإنه كما لا يمكن أن يصلح نظام بلدة من البلدان ويسير أمرها بدون حاكم قائم على شؤونها، أو أن يسير نظام مدرسة من المدارس بدون رئيسها، كذلك من المستحيل أن يصلح ويسير نظام الأسرة بدون أن يكون عليها حاكم ناظر لشؤونها، راعي لأفرادها. ولا بد أن تعم الفوضى والاضطراب في الأسرة إذا كان كل فرد من أفرادها مستقلاً برأيه، غير مسؤول عن شيء من أعماله. ولابد لإزالة هذه المفاسد أن يكون للأسرة حاكم قوام على شؤونها، والرجل هو الذي يمكن أن يكون المسؤول عن تربية أهل البيت وحمايتهم.

والثاني: أنه قد أمر المرأة ـ بعدما ألقى على كاهل الرجل تبعة ما في خارج البيت من الشؤون والمعاملات ألا تخرج من المنزل بدون حاجة تعرض لها، وقد أعفيت لأجل ذلك من المسؤولية، عما في خارج المنزل من الشؤون لتقوم بواجباتها في داخل المنزل حق القيام، بكل هدوء وطمأنينة، ولا يختل نظام المنزل وتربية الأولاد بخروجها من البيت. ولكن ليس معنى ذلك أن المرأة لا يجوز لها أبدا أن تخرج من البيت، بل قد أذن لها بالخروج منه، إذا عرضت لها حاجة إلى ذلك، وإنما تريد الشريعة أن يكون البيت هو الدائرة الحقيقة لواجباتها، ولا تصرف كل ما أوتيت من القوة والذكاء إلا في إصلاح شأن البيت.

وبقرابات الدم وعلائق التزاوج تتسع دائرة الأسرة، فالذين يتصلون فيما بينهم، في هذه الدائرة، قد قررت الشريعة، لإصلاح ذات بينهم وجعلهم متساندين متناصرين فيما بينهم، قواعد مختلفة مبنية على الحكم البالغة. من هذه القواعد:

أ. حرمت الشريعة بعض الذين يتعاشرون فيما بينهم مختلطين من الرجال والنساء على بعض كالأم وابنها والأب وبنته، وزوج الأم وربيبته، وزوجة الأب وابن زوجها، والأخ وأخته بالرحم وبالرضاعة، والعم وبنت أخيه، والعمة وابن أخيها، والخال وبنت أخته، والخالة وابن أختها، وأم المرأة وزوج ابنتها، وأبي الزوج وامرأة ابنه. ومن الفوائد الكثيرة لتحريمها أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء تبقى علاقتهم طاهرة نقية وهم يختلطون فيما بينهم بكل حب ومودة وإخلاص، من غير كلفة ولا ارتياب، وهو ما يسمى في الشريعة المحارم على التأبيد.

ب. وقد أحل الإسلام بعد هذه العلائق علاقة الزواج بين أفراد الأسرة الآخرين، ليزدادوا قربة على قرابتهم، وحباً على حبهم، إن الذين يعرف بعضهم عادات بعض وطباعهم وخصالهم، تكون علاقة الزواج بينهم، أكثر نجاحاً منها بين الذين لا يتعارفون فيما بينهم. وكثيراً ما تنشأ في الزواج بين الأجانب صور الخصومة وعدم التوافق، ولأجل ذلك قد آثر الإسلام ذوي الكفاءة على غيرهم للزواج، وهو ما يسمى اشتراط الكفاءة في الزواج.

ج. وفي الأسرة الغني والفقير وذو الميسرة وذو العسرة؛ لذا نص الإسلام على أن أكبر ما على الإنسان من حقوق العباد هو لذوي قرباه، وذلك ما يقال له "صلة الرحم" في الشريعة. وقد تأكد وتكرر ذكر صلة الرحم في القرآن الكريم والسنة، واعتبر قطعها من الكبائر، فإذا نزلت نازلة بذي عسرة، فمن واجب الذين يجدون سعة في أموالهم من أقاربه أن يغيثوه ويمدوا إليه يد المعونة، كما أن حق الأقرباء في الصدقة قد أوثر على حق غيرهم.

د. وقد أوضح الإسلام قانون الإرث من حيث إذا مات رجل وترك من بعده مالاً، فلا ينبغي أن يبقى هذا المال مجتمعاً مرتكزا في محل واحد، بل لابد أن ينال منه كل ذي قرابة نصيبه، فالابن والبنت والزوجة والأب والأم والأخ والأخت أقرب ذوي الحق للإنسان، ولذا بينت الشريعة أنصبتهم في القرابة قبل أن تبين حقوق غيرهم، فإن لم يكونوا موجودين مثلاً، ينال النصيب كل من يليهم في القرابة وهكذا تتوزع ثروة الرجل الواحد بين كثير من ذوي قرباه ويتمتعون بها جميعاً بعد موته. فقانون الإسلام هذا لا نظير له في قوانين العالم القديمة ولا الحديثة، وإن كانت بعض الأمم قد بدأت اليوم في الدنيا تترسم خطا الإسلام في هذا القانون.

2. وبعد علائق الأسرة يتصل الإنسان بأصدقائه وجيرانه وأهل حيه وبلدته، والذين قد تجعلهم الشؤون المختلفة على صلة به، وقد أمر الإسلام بمعاملة هؤلاء جميعا بالصدق والعدل وحسن الخلق. ومن وصايا الإسلام في ذلك، ولا تؤذوا منهم أحداً واجتنبوا فحش القول وسوء الكلام معهم وتناصروا فيما بينكم، وعودوا مرضاكم، واتبعوا جنائز موتاكم، وإذا أصيب منكم أحد بمصيبة فواسوه وأعينوا الفقراء والمحتاجين والعجزة فيكم سراً وخفية، وتعهدوا اليتامى والأيامى منكم بالعطف عليهم، وأطعموا الجائع واكسوا العاري، وانصروا العاطل حتى يجد لنفسه المكسب، وإذا كان قد آتاكم الله من فضله، فلا تسرفوا به في بذخكم وترفكم، وقد حرمت الشريعة عليكم أن تأكلوا وتشربوا في أواني الذهب والفضة وتتزينوا بالملابس الحريرية، وتضيعوا المال في مواضع البذخ والترف. كل ذلك لأن الثروة التي يمكن أن يتمتع بها مئات وألوف من عباد الله، لا ينبغي أن يتمتع بها فرد واحد كيفما يشاء وتشاء شهواته، فإنه من الظلم أن تبقى الأموال، التي يمكن أن يمسك بها ألوف من عباد الله رمق حياتهم، معلقة في جيدك بصورة حلية من الحلي أو زينة لمنضدتك بصورة آنية من الأواني، أو زينة تفرش بها غرفتك. ولكن ليس معنى ذلك أن الإسلام يريد أن يسلبك كل ما عندك من الثروة، بل إن كل ما كسبته أو ورثته من أبويك من الأموال لك ومن حقك المشروع، وأنت مستحق أن تتنعم بثروتك، ويجوز أن يُرى، في ملبسك ومأكلك ومنزلك ومركبك، آثار نعمة الله عليك، ولكن الغرض المقصود من وراء تعاليم الإسلام أن تعيش عيشة طيبة مقتصدة، ولا تكثر من كمالياتك، وأن ترعى في كل ما آتاك الله حقوق ذوي قرباك وأصدقائك وجيرانك وأبناء وطنك وأبناء أمتك وأبناء آدم جميعاً.

3. ولك أن تخرج الآن من هذه الدوائر الضيقة وتنظر في الدائرة الواسعة، التي تشمل مسلمي العالم جميعا، فقد وضع الإسلام في هذه الدائرة، من القوانين والضوابط، ما يجعل المسلمين جميعا متعاونين متناصرين فيما بينهم على الخير والبر والتقوى، ولا يسمح للسيئات والمنكرات ـ في حدود الإمكان ـ بأن ترفع رأسها في الأرض. وفيما يلي نشير إلى بعض هذه القوانين:

أ. أمر الإسلام، حفظاً للأخلاق الاجتماعية، بألا يختلط الرجال، والنساء الأجنبيات فيما بينهم بصورة ماجنة، ولتكن للنساء بيئة غير بيئة الرجال، ولهن أن يصرفن معظم همهن في القيام بواجبات حياة الأسرة، وإن دعتهن الحاجة إلى الخروج من بيوتهن فلا يخرجن متزينات متبرجات؛ وليخرجن بملابسهن البسيطة، وليسترن أجسامهن، وليسترن وجوههن وأيديهن، أيضاً، ما لم تدعهن إلى الكشف عنهما حاجة حقيقة شديدة، وليكشفن عنهما لقضاء هذه الحاجة فقط كالعلاج، وهذا ما يقال له "الحجاب" في الشريعة. ومن جهة أخرى أمر الإسلام الرجال باجتناب النظر إلى نساء غير نسائهم، وإذا وقع نظرهم عليهن من غير قصد فليصرفوه عنهن، ولا يعودوا إليه مرة أخرى، فإن من ذلك ما يعيب أخلاقهم، وإن حاولوا مخالطتهن فهو أشد عيباً لهم، ومن واجب كل رجل ـ وكل امرأة ـ أن يحافظ على أخلاقه ولا يترك المجال لينشأ في قلبه ويخطر بباله ميل، ولو خفيف، إلى قضاء شهواته النفسانية بالخروج عن دائرة الزواج المشروع، فضلا عن أن يحاول ذلك ويسعى وارءه سعياً .

ب. وقد نهى الإسلام -لحفظ الأخلاق الاجتماعية- عن أن يكشف الرجل عما بين سرته وركبتيه، وأن تكشف المرأة ما دون الوجه واليدين من سائر أعضاء جسدها، ولا لقريب من أقاربها الأدنين، وهذا ما يقال له الستر في الشريعة، ومن واجب كل رجل وامرأة أن يحافظ عليه، وقد أراد الإسلام بذلك أن تنشأ في الناس عادة الحياء ولا تشيع بينهم الفواحش والمنكرات، التي تجر صاحبها أخيرا إلى الإباحة والانحلال الخلقي.

ج. لا يحب الإسلام من أعمال الطرب واللهو ما كان مفسداً لأخلاق الناس ومنعشاً لشهواتهم السافلة، ومضيعا لأوقاتهم وصحتهم وأموالهم، ولا شك أن الترويح عن النفس شيء ضروري في حد ذاته، ولا بد منه مع العمل والجد، لتنشئة روح الحياة وقوة العمل في الإنسان، ولكن ينبغي أن يكون لهواً ينشئ النشاط ويرطب الروح، ولا يكون لهوا ينغص الروح ويكثفها. أما أعمال الطرب واللهو السافلة، التي يشاهد فيها ألوف من الأفراد معاً والمناظر الصناعية للإباحية والانحلال الخلقي، فإن هي إلا مما يفسد أخلاق الأمم وعاداتها، وإن كانت جميلة المنظر تسر الناس في ظاهر الأمر، فهي تدمّر الأخلاق وتهدم الحضارات.

د. وللمحافظة على وحدة المسلمين وسعادتهم الجماعية، أمرهم الإسلام أمراً مؤكدا أن يجتنبوا التخالف فيما بينهم، ويبتعدوا عن دواعي التحزب والتفرق، فإن اختلفوا في أمر من أمورهم، فليردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله r بكل إخلاص وصفاء نية، ولكن إذا لم يجتمعوا في بابه على شيء، فليكلوا أمرهم إلى الله، ولا يتنازعوا فيما بينهم، وليتعاونوا على أعمال الفلاح والسعادة الجماعية، ويطيعوا أولى الأمر منهم، ويبتعدوا عن رجال الشر والفتنة، ولا يوهنوا قوتهم، ولا يفضحوا أمتهم بالحروب الداخلية فيما بينهم.

هـ. وقد أذن الله للمسلمين أن يتلقوا العلوم والفنون، ويتعلموا الطرق النافعة من غير المسلمين، ولكنهم نهوا عن التشبه بهم في حياتهم، فإنه لا تتشبه أمة بغيرها، إلا إذا كانت معترفة لنفسها بالذل والهوان والضعة، وللأخرى بالسبق والعلو والرقي، وهذا من أقذر أنواع العبودية، وهو اعتراف سافر بالانكسار والانحطاط، ومن نتائجه اللازمة أن تسود مدنية الأمة المتشبه بها والمحتذى؛ ومن أجل ذلك نهى النبي r المسلمين نهياً شديداً عن أتباع الأمم الأجنبية واختيار مدنيتهم. ومما يفهمه كل من أوتي قليلاً من العقل أن قوة كل أمة لا تقوم على زيها ولا على طراز حياتها، وإنما تقوم على ما لها من العلوم وجودة التنظيم وقوة العمل، فمن كان يريد القوة والكمال والرقي فليتلق عن الأمم الأجنبية ما تحصل به الأمم على أسباب قوتها ورقيها وكمالها، ولا يمل إلى ما تتذلل به الأمم وتقضي على حيويتها ومقوماتها أخيراً.

وقد نهي المسلمون عن أن يعاملوا غير المسلمين بالعصبية وضيق النظر، وعن أن يسبوا آلهتهم ويطعنوا في كبرائهم ويهينوا دياناتهم. وكذلك نهوا عن أن يبدؤوهم بالمخاصمة فما دام غير المسلمين يريدون المصالحة والمسالمة مع المسلمين، ولا يتعدون على حقوقهم فمن واجبهم أن يعاملوهم بالمصالحة والمسالمة. وإن مما يوجبه علينا ديننا الإسلامي، أن نعامل غيرنا بأعلى ما يمكن من عواطف المحبة والمواساة الإنسانية والأخلاق العالية. ومما ينافي أحكام الإسلام وفطرة المسلم أن نعامل غيرنا بالعصبية وسوء الخلق والظلم وضيق النظر، فإنه ما أخرج المسلم للناس إلا ليكون لهم أسوة يتأسون بها في حسن الأخلاق والشرف وسعة الصدر والصلاح، وليجلب قلوبهم بمبادئه الطاهرة المبنية على الحق والعدل.

رابعاً: حقوق سائر المخلوقات

إن الله قد فضل الإنسان على كثير من مخلوقاته، وأذن له أن يتصرف فيها ويخضعها بقوته، ويستخدمها وينتفع منها فيما يريد، وذلك جزء من حقه المشروع، باعتباره أفضل خلق الله في الأرض. ولكن بإزاء كل ذلك رتب الله على الإنسان حقوقاً لهذه المخلوقات، فمنها ألا يضيعها أو يضرها أو يؤذيها من غير حاجة شديدة، وإذا ضرها فعليه أن يضرها بما لا يرى لنفسه بداً منه ويختار لاستخدامها والتمتع بها أحسن الطرق وأعدلها.

وقد فاضت الشريعة الإسلامية بمثل هذه الأحكام المتواترة، فما أذن للإنسان أن يقتل البهائم إلا للغذاء أو اتقاء للمضرة، وقد نهي نهيا شديداً أن يقتلها من غير حاجة على سبيل اللهو والطرب مثلاً، وقد وضع لذبح البهائم المأكولة طريقة هي أحسن الطرق لأخذ اللحم النافع منها، وكل طريقة دون ذلك -وإن كان أقل منه إيذاء للبهيمة- فإنه يضيع كثيراً من فوائد اللحم وإن كان أكثر منه حفظاً اللحم، فإنه أكثر منه إيذاء للبهيمة. والإسلام يتجنب هاتين الناحيتين. ونهى نهياً شديداً عن قتل البهائم بالقسوة والإيذاء وكذلك ما أذن الإسلام بقتل الوحوش الضارية والحشرات السامة، إلا لأن النفس البشرية أجل قدراً وأكثر ثمناً من حياة هذه الوحوش والحشرات ومع ذلك فهو لا يبيح قتلها بالتعذيب والإيذاء. وكذلك نهى الإسلام نهياً شديدا عن إجاعة الحيوانات، التي نستخدم ظهورها في الركوب أو حمل الأثقال، وعن تكليفها فوق طاقتها، وعن ضربها بقسوة، وكذلك كره الإسلام أن نحبس الطيور من غير حاجة، بل لا يكاد الإسلام يرضى أن نصيب الأشجار، فضلاً عن الحيوانات، بشيء من الضرر، فلنا أن نقطف أزهارها وأثمارها ولكن لا يحق لنا أن نبيدها أو نقلعها من غير حاجة، بل لا يجيز الإسلام، فضلاً عن النباتات ذات الحياة، أن نضيع شيئاً لا حياة فيه، فقد نهى عن صب الماء وإضاعته بدون حاجة.

خامساً: الشريعة العالمية الدائمة

يعد ما سبق خلاصة موجزة لأحكام الشريعة البيضاء، التي أرسل بها نبينا محمد r إلى العالمين إلى أبد الآبدين، ولم يفرق بين الإنسان والإنسان في هذه الشريعة شيء غير العقيدة والعمل. والحق أن جميع الشرائع والديانات، التي قد فرق فيها بين الإنسان والإنسان، بناء على النسل أو الوطن أو اللون، لا يمكن أن تكون شرائع عالمية، فإنه من المستحيل طبعاً أن يصبح فرد من هذا النسل فرداً من ذلك النسل، كما لا يمكن أن ينكمشوا جميعاً ويحددوا أنفسهم في أرض وطن خاص، كما لا يمكن أن يتغير سواد الحبشي أو صفرة الصيني أو بياض الإفرنجي عن فطرته، فالظاهر أن مثل هذه الديانات لا تنشأ ولا تعيش إلا في أمة خاصة من الأمم. وبإزائها جمعاء جاء الإسلام بشريعة عالمية، يمكن لكل من آمن بعقيدتها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، أن يدخل في الأمة المسلمة ويتمتع فيها بنفس الحقوق، التي يتمتع بها سائر المسلمين، فإنه لا عبرة في هذه الشريعة بالنسل، أو اللغة، أو الوطن أو اللون.

ثم إن هذه الشريعة، شريعة دائمة ليست قوانينها مبنية على أعراف أمة خاصة أو عادات زمن محدود، بل هي مبنية على مبدأ الفطرة، التي فطر عليها الإنسان؛ ولأن هذه الفطرة قائمة في كل زمان أو حال، ينبغي أن تبقى هذه القوانين، التي بنيت عليها قائمة في كل زمان أو حال كذلك.