إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الرّق، وموقف الإسلام منه









مقدمة

ثالثاً: معاملة الرقيق

تبيّن المصادر المتوافرة، أن معاملة الرقيق لم تكن "على درجة سواء بين الأمم، فهي تختلف باختلاف العادات والأخلاق والظروف الاجتماعية والاقتصادية".

ويظهر أن معاملة الرقيق، في بداية تاريخه، نظراً إلى بساطة الحياة، لم تكن قاسية. غير أنها اختلفت بتقدّم الأيام واختلاف الناس، وتعّدد طرائق معيشتهم. ولذا تذكر المصادر أن قانون حمورابي، في الألف الثاني قبل الميلاد، اشتمل على فقرات تعالج أوضاع الرقيق، يُفْهَم منها أن معاملة الرقيق في زمانه كانت أقسى منها في الألف الثالث قبل الميلاد، فأجاز القانون الحمورابي للرقيق أن يتزوج امرأة حرّة، وأن يدخل في صفقات  بيع وشراء وتجارة، وأن يكون له ملك خاص. وكان للجارية، التي تنجب أطفالاً، حقوق خاصة، تحميها. وكان للرقيق، في هذا العهد البابلي، أن ينال حّريته، إما رسمياً، وإما بالتبنّي، وإما بشرائها.

ويبدو أن العبرانيين حذوا حذو البابليّين في بعض قوانينهم المنظمة لشؤون الرقيق، فحرّروا من كان رقيقاً من أصلٍ يهودي بشرط أن يكون قضى ست سنوات من الخدمة، وحرّروا كذلك كل من أصيب إصابة مزمنة من جراء وحشية المعاملة.

أمّا في القانون الروماني فكان للسيد مطلق السلطة على رقيقه، بما في ذلك تقرير مصيره، أي: حياته أو موته.

ولم يكن للرقيق حق الملكية الشخصية، بأي شكل من الأشكال، ولا يدخل السيد في أي عقد مع رقيق، ولا يتهم السيد رقيقاً بسرقة، في المحكمة، لأن سرقة الرقيق لا تُعد سرقة، فما هي إلا تغيير لمكان المسروق. ومعاشرة العبد للأمَة لا تأخذ صورة شرعية أبداً، إذ لا يمكن أن تعدّ زواجاً، ويستطيع السيد أن يقطع هذه المعاشرة متى شاء، ولذا لا يمكن أن يُرْمي العبد الرقيق بجريمة الزنى. وإذا دخل الرقيق في الخدمة العسكرية، أو تولّى أي منصب من مناصب الدولة ـ صغُر أو كبُر ـ فجزاؤه القتل. ولا تُقْبَل له شهادة أمام القضاء. وإذا اُتُّهم سيّد فله أن يقدّم مملوكه مكانه، فيُسائله القضاء، وله أن يُقَدِّم مملوك شخصٍ آخر بدلاً منه، وإذا جُرح المملوك أو قُتِل، في هذه الأثناء فإن السيد يُعْفى من المسؤولية. ولا يستطيع مملوك أن يتهم سيّده إلاّ بالزنى عامة، أو بالزنى بالقريبات، ذلك أن الأمر يتعلق بمقدّسات. ثم سمح القانون في مرحلة متأخرة أن يتّهم سيده بالخيانة العظمى.

وليس للرقيق المتهم بتهمة ما، أن يستجدي عون المدافعين عن حقوق العامة أو مساعدتهم. وكانت العقوبات التي يفرضها القانون على أي جريمة يقترفها المملوك شديدة جداً.

أمّا في الحياة العامة، فكان السادة والملاك يقيّدون مملوكيهم من الرقيق في مزارعهم الريفية المترامية الأطراف، إذ كان يصعب عليهم مراقبة رقيقهم ومتابعتهم والتعرّف عليهم. وقد كان الرقيق يعملون مصفدين في قيودهم، وكانوا ينامون بها في الليل كذلك. وكان رقيق المدن يعيشون حياة لا تقلّ عناء ومشقة عن حياة رقيق الأرياف، حتى رقيق المنازل كانوا يقّيدون إلي عهد الشاعر الروماني المعروف أوفيد Ovid (من 43ق م ـ إلى 17م)، وهو عهد متأخر. وكان السادة يعاملون المفضلين من رقيقهم معاملة أفضل. وفي حالات موثقة، خلال الحروب الأهلية، أبدى الرقيق ولاء قويّاً لأسيادهم. وكان الرقيق، الذين توكل إليهم بعض المهمات خارج المنازل،  كالقيام على متجر أو على قارب أو على مشغل، كانوا أكثر حريّة في التصرّف. وكان أخف العقوبات، التي يمارسها السادة على رقيقهم، الضرب والعقوبة الشخصية، أو الإقصاء من العمل في المدن والبيوت إلى العمل والكدح في الريف، وأقسى من ذلك أن يستخدم في الطواحين، أو يزج به في المناجم ومقالع الحجارة. وكان الذين يعملون في المناجم، من الرجال والنساء، يعملون مقيّدين بالقيود، وأنصاف أجسادهم العليا عارية. وكان فيديوس بوليو Vedius Pollio، في عهد الإمبراطور أوغسطوس Augustus (من 63 ق م ـ إلى 14 م) مؤسس الإمبراطورية الرومانية، يرمي برقيقه لأتفه الأسباب في بركة يُربي فيها سمك الجلكي، وهي أسماك مصاصة، ليس لها فكّان، ولكن لها أسنان حادة مؤذية.

وكان كاتو (234 ـ 149 ق م)، وهو سياسي، وخطيب، وكاتب روماني، ينصح المزارعين بأن يبيعوا ثيرانهم وعبيدهم، إذا كبروا في السن، وإذا مرضوا. والعبيد المرضى، خاصة، يرمون في جزيرة في نهر طيبر Tiber، وبأمر من الإمبراطور كلوديوس  (10 ق م ـ 54 م) فإنه ليس لملاّكهم أن يتملّكوهم مرة أخرى إذا ما شُفوا.

لم يكن رقيق الرومان مطيعين، بسبب الإرهاب المضطرد من أسيادهم، ولكنهم كانوا، بسبب أعدادهم الكبيرة، مصدر خطر دائم. وقد كان بين هؤلاء الرقيق، طول التاريخ الروماني، مؤامرات، قصدها التمرّد والثورة. وقد حصل منهم، فعلاً، عصيان مسلّح عنيف، عدّة مرات. ويتفق رجال السياسة الرومان على أن عمالة الرقيق خير من عمالة الأحرار. ولذلك اختفى العمال الرومانيون الأحرار، ووُضِع مكانهم جماعات من الرقيق، بُثّوا في أراضٍ واسعة، فنشأ، وخاصة في صقلية، أسوأ شكل لِما يمكن أن يُسمّى "الرقيق العقاري". ولذلك ظهر منهم العصيان المسلح الخَطِر، ونجح بعض من هذا العصيان في إيطاليا نفسها، منه ما حدث في عهد إيونس Eunus، في عام 133 ق.م، من عصيان، أخمده بصعوبة، ثم وقع ما وقع من حرب الأرقاء بقيادة سبارتاكوس Spartacus، وهو عبد مُجَالِد، في الأعوام (73 ـ 71 ق م)، وهذه الحرب كانت أعنف تمرّد للرقيق في التاريخ الروماني، وقد قمع هذه الثورة كراسوس (Crassus)، الذي قتل سبارتاكوس، وصلب أتباعه بالجملة، وترك أجسادهم معلّقة على الطريق الرئيس الذي يربط روما بكابوا ثم بسواحل البحر الإدرياتيكي. وقد استخدمهم بعض رجال الدولة الرومان في الحرب الأهلية الثانية، ووُجد مكتوباً على بعض المعالم، أن أوغسطوس أعاد حوالي ثلاثين ألف رقيق إلى أسيادهم ليعاقبوهم أشد العقاب، على حملهم السّلاح ضد الدولة.

ويُفْهم من القوانين، التي صدرت في حق الرقيق، في القرنين الميلاديين الأولين، أن الرقيق كان يُرهن كالبضاعة، ويُسدِّد به المدين دينه. وكان الأطفال والصبيان يُبْترون أو يُخصون، وكان الرقيق إذا عاد إلى سيده بعد بيعه، فإنه يجب أن يعود معه أبواه، وإخوانه، وجميع أقاربه. وكان نيله حريّته مستحيلاً.

أمّا عند الإغريق، فلمّا كانت الحرب والخطف من مصادر الرِّق المشهورة، وكان كل حرِّ عرضة لأن يؤسر، أو أن يُخطف، كان الرقيق، على الأقلّ من حيث حريته عند الولادة، مساوياً للحرّ. ولذا، لم تكن تُساء معاملته. هكذا كانت الحال في العهد الهومري، فكان الأرقاء من الذكور يحرثون الأرض، أو يربّون الماشية، وكانت الإماء يعملن في البيوت، ويشتغلن بالصناعات المنزلية. وكان الأرقاء الذكور الرئيسون يحظون بثقة أسيادهم، ولهم واجبات مهمة يؤتمنون عليها. وبعد خدمة طويلة تستحق التقدير والمكافأة، يُملّكون مسكناً، وبعض الممتلكات الأخرى. غير أن هومر نفسه، في إحدى مقطوعاته الشعرية، يُسجّل السوء الخلقي، الذي تفرضه حالة الرق. يقول دوموستونيز (383 ـ 322 ق م)، وهو من أشهر خطباء أثينا: "لو علم البربريون، الذين أُجْتُلِب منهم الرقيق، كيف يُعامل الرقيق عندنا معاملة رفيقة، لنظروا إلى أهل أثينا نظرة احترام وتقدير".

وكان يُسْمحُ، عرفاً لا قانوناً، للرقيق أن يجمعوا بعض المال الخاص، وكان يُعترف بزواجه، أيضاً، عرفاً. غير أنه كان يُمنع من حضور الاحتفالات الدينية، ويسمح له بالانتماء إلى الهيئات الدينية الخاصة، لا العامة. وكان يُسمح لهم بالمشاركة في بعض الاحتفالات الشعبية، بل كانت لهم احتفالات خاصة لهم. وكان رفاتهم يودع في أضرحة أُسَر أسيادهم. ويسجل  لنا أرستوفانس (448 ـ 388 ق م)، وهو من مشاهير كتاب المسرح الهزليين عند الإغريق، أنه كان يُلْجأُ إلى السياط، لتأديب رقيق المنازل. أما الذين يعملون منهم في المصانع، فكانوا يُأدبون تأديباً أقسى من تأديب رقيق المنازل.

وكان العمال في المزارع من الرقيق يقيدون كثيراً، ويعاملون كما تعامل البهائم المستخدمة في حمل المتاع. وغضب السيد قد يؤدي إلى نقل رقيق المنازل إلى المناجم، والطواحين. وكانت المعابد تؤوي الرقيق الهارب من وحشية المعاملة. ويفاخر دوموستونيز بأن القانون الأثيني  يحمي الرقيق، فله أن يغضب كما يغضب الحرّ، وإذا قتله غريب، أي غير سيّده، فإنه سيُنتقم له كما يُنتقم للحرّ. أمّا إذا قتله سيّده، فإن ذلك يكفر عنه بالنفي وبالعفو الديني.

وأمّا إذا قتل العبد سيّده، فإنه ليس لأهله أن يأخذوا بالثأر، بل عليهم أن يقدموه إلى محكمة الدولة لتعاقبه. وإذا كان للرقيق مظلمة عند سيّده المقتول، فإن له الحق أن يطالب ببيعه إلى آخر. وإذا ادّعى حقاً في حرّيّته، فإن المحكمة تمنحه محامياً وملجأً حتى يُقضى في أمره. وكانت تتخذ الإجراءات الأمنية ضد عصيانهم أو ثورتهم، فلا يجمعون معاً رقيقاً من جنس واحد، أو ذوي لسان واحد. وكانوا يقيّدون أحياناً، حتى لا يفروا. وإذا حاول أحدهم الفرار، فإنه يوسم بالنار، بعد المحاولة الثانية، حتى يسهل التعرّف عليه. وكانت هناك معاهدات بين المدن الإغريقية، تقضي بإرجاع الآبقين إلى مواليهم.

أمّا عند الصينيين فكانت "الأخلاق تقضي بأن يعامل السيد عبده معاملة حسنة، فكان العبد مؤتمن سيده، وموضع سرّه، وقلّما كان يعاقبه إلاّ إذا فسدت أخلاقه. وساء سلوكه".

وصدر عن الإمبراطور كوانجون، في القرن الأول للميلاد، ما يدل على شفقته على الرقيق، كقوله: "إن الإنسان هو أفضل المخلوقات وأشرفها، فمن قتل رقيقه أو عذّبه فسوف يلقى جزاءه في جهنم".

وكان الرقيق، في مصر القديمة، يعامل برقّة ولطف، وقد جاء في كتاب الموتى أن رحمة الله تَسَعُ العبيد، وأنه لا ينبغي أن تُساء معاملتهم، وكانت شريعتهم تحمي العبد من الاعتداء والأذى، فمن قتل عبداً قتل به. وتقرر ديانة المصريين أن الميت عند محاسبته أمام محكمة أوزوريس، يشهد على نفسه أنه لم يَسْعَ في ضرر عبده.

ويقضي "قانون مانو"، في الهند، "بحسن معاملة العبد، ويرتكب السيد ظلماً إذا أساء معاملة عبده، فالعبد ظلّ سيّده، وعلى السيد أن يصبر عليه، ولو أصابه مكروه. وللسيد أن يقتّر على نفسه، وليس له أن يقتّر على عبده إذا كان يؤدي عمله".

وتقول بعض الكتب عن تاريخ الهند: "إذا كان هناك من فرق بين الخدم وبين العبيد، فذلك أن هؤلاء أقرب إلى أفراد الأسرة من الخدم، ولا يمكن لأحد أن يميزهم عن الأحرار".

وقد وضع بعض كهّان البوذيّة وصايا عدّة في معاملة العبيد، منها: ألاّ يُسَخّر العبد لعمل لا يطيقه أو لا يحسنه، وألاّ يُكَلَّف بعمل وهو مريض، وألاّ يَسْتأثر سيّده من دونه بطعام لذيذ، وإذا أمضى العبد مدّة طويلة في خدمة سيّده، فعليه أن يحرِّره.

ويظهر أن مؤسسة الرق، بعد القرنين الميلاديين الأوليين، أخذت تنحسر قليلاً، لأسباب اقتصادية، ودينية، فبدأ نظام "السُّخْرَة" serfdom، يظهر بديلاً لـ "الرق" Slavery، واضطلعت، الكنيسة بدور التوعية الخلقية بالإحسان إلى الرقيق، وإن كانت لم تدعُ إلى إبطال الرق، بل إنها عَدّته "نظاماً إلهياً، وأوصت العبيد بتحمل ما يلقون من قسوة أسيادهم".

ثم بدأ عهد ما يسمّى بالقرون الوسطي، وهو العهد، الذي ظهر فيه الإسلام، وانتشرت دولته في أنحاء المعمورة.

وتأتي القرون الميلادية المتأخرة، بدءاً بالقرن الخامس عشر، فيأخذ الرق منحى خطيراً في تاريخ الإنسانية، فجُلب إلي أوروبا الغربية، وأمريكا، ملايين الرقيق، الذين عوملوا معاملة، أسفّت بإنسانية الإنسان، وأظهرت وحشيته الضارية، خاصة عندما يتملّكه الجشع، ويسكن قلبه حبّ المادة، وينسلخ من كرامة آدميّته، ونبلها. لذا صار الإنسان "يُصْطاد"، وتنصب له الشراك، كما تصطاد الفريسة، في البّر، أو في البحر، أو في الجوّ، ولذا كانت تضرم النار في القرى الأفريقية، فيخرج أهلها من رجال، ونساء، وأطفال، فزعين، فيتلقّاهم الصيادون، فيقبضون على من يقبضون، فيُفرِّقون الأسرة الواحدة، فيأخذون الأب أو الأم أو الابن أو البنت. وقد يقبضون على الجميع، فيجلبونهم إلي سوق النخاسة، فيبيعون الأم ورضيعها، وقد يبيعون الأم، ويتركون الرضيع، وقد يبيعون الأم فتذهب إلي أوروبا، ويبيعون الرضيع فيذهب إلي أمريكا. وكان الرقيق يعامل على أنه سلعة من السلع، أو حيوان من الحيوانات. ولذا، قد يُشترى الرقيق بكيس من الأرز، أو الدقيق، وقد يستبدل الرقيق برأس أو برؤوس من الحيوانات. وتذكر بعض قوائم أسعار الرقيق، أنه في الأربعينيات من القرن الخامس عشر الميلادي، كان يُشترى بحصانٍ واحد، خمسة وعشرين إلي ثلاثين رقيقاً.

هؤلاء الرقيق، الذين "يصطادون" بهذه الطريقة، توضع الأغلال في أعناقهم محوطين بالحراس المسلحين، ويربطون الواحد في الذي بعده، ثم يُساقون في قافلة، حتى يصلوا إلي الساحل.

على ذلك، فقد يموت بعضهم في الطريق، والذين يصلون، تلقاهم السماسرة، فيشحنونهم في الناقلات، وقد يضيع منهم أكثر من 12% قبل أن يصلوا إلى الساحل الثاني، ويموت منهم في الميناء، عند وصولهم، أو قبل بيعهم 4%، ويموت منهم أكثر من الثُلث، زيادة على ما سبق، قبل إكمال إعدادهم. وعليه، فإنه يموت من كل مائة، سبعة عشر، خلال تسعة أسابيع، ولا يبقى أكثر من خمسين صالحين للعمل.

ويصف أحد الكتاب رحلة الرقيق من مبتدئها إلى منتهاها بقوله: "كانت رحلة الرقيق إلى أرض المزارع في الأمريكتين أشد خطراً من رحلته الداخلية من مواطنه إلى السّاحل، الذي يُنْقل منه إلى مهجره، فكان ملاّك سفن الرقيق، حرصاً منهم على تضخيم أرباحهم، يشحنون الرقيق في صفوف كما تصف الكتب على أرففها، مصفدين بالقيود، مثنى مثنى، تربط رجل الواحد اليمنى برجل الآخر اليسرى، وتربط يده اليمنى بيد الآخر اليسرى، في مكان لا تزيد سعته عن 70سم، عرضاً، في 170سم، طولاً.

فكانت نسبة الوفيات بينهم عالية، بسبب هذا الوضع، وبسبب شدة الإعياء، والمرض، والجوع. وكان بعض قبطان هذه السفن يرمي بالمريض من الرقيق، حياً في الماء، لكي يوفر المؤونة من الطعام والشراب، ولكي ينال تعويضاً من شركات التأمين، على هذه الخسارة.

ولم تكن المحطة الأخيرة لهؤلاء الرقيق بأفضل من رحلتهم إليها، حيث تبدأ هناك معاناة من نوع جديد. تبدأ في المنازل، والحقول، والمناجم بأنواعها، ومقالع الأحجار. ولم يكن العمل نفسه هو عيب الاسترقاق، وإنما كان عيبه الإذلال، والاحتقار، والإجهاد المؤدي إلى الإعياء الشديد، ونزع الكرامة والإنسانية من هؤلاء الرقيق، ولذلك وضعت مستعمرة كارولينا Carolina، وهي إحدى الولايات الأمريكية اليوم، عام 1638 أول قانون للعبيد، جاء فيه: "إن العبد لا نفس له ولا روح، وليس له فطنة ولا ذكاء، ولا إرادة، وأن الحياة لا تدب إلاّ في ذراعيه".

ونتج عن مثل هذه المادة أن جُعِلَت للسيد سلطة مطلقة على عبده الزنجي، فله أن يتصرّف به بالبيع، والإيجار، والرهن، والمقاصّة، وله أن يقامر عليه، ولا تثريب على السيد إن قتل عبده، ويُعْدَم العبد، إذا ضرب سيّده أو سيّدته، ولا يحق للعبد أن يحمل سلاحاً، ويُعْدم إذا حمله؛ ولا يجوز له أن يخرج من مزرعة سيده إلا بإذن كتابي، يحمله بيده؛ ويعدم إذا خرج بغير هذا الإذن؛ ولكل رجل أبيض يلقاه أن يعيده إلى سيّده، بعد أن يجلده عشرين جلدة، وليس للعبد أن يتزوج إلا بإذن سيده، وبمن يختارها له، ويملك السيّد أولاده، وله أن يفرّقهم عن أبويهم، وللسيّد أن يستمتع بزوجة رقيقه، وبأية زنجية من زنجيّات مزرعته، وقد اقتبست المستعمرات الجنوبية نظام مستعمرة كارولينا، ونحت نحوه في معاملة العبيد.

وكانت المستعمرات تمنع تعليم العبيد، وتفرض عقوبات على من يعلمهم، من غرامة، وحبس، وجلد، بدعوى أنهم إذا ما تعلّموا، فسوف يثورون على أسيادهم.

وتمنع أنظمة تلك المستعمرات عتق العبد، إلاّ في حالات نادرة، كما لو أنقذ العبد سيّده، أو أنقذ زوجته أو أحد أبنائه من خطر يهدّد حياته، بشرط أن يكون قد تجاوز الثلاثين من عمره، وأن يرحل إلى مستعمرة أو ولاية أخرى.

وتُعْزَى مثل هذه المعاملة إلى البريطانيين. فمن ذلك أن بريطانياً مزّق جسم عبده بالرصاص، لأنه قدّم إليه قشدة رديئة. وأن بريطانياً آخر ظلّ يضرب عبده بالسوط حتى فقد وعيه، ثم مات بعد قليل. ذلك أن سيّده كلَّفه أن يصحب فرساً إلي محطة سكة الحديد، علي بُعْد ثلاثين ميلاً، ولكن العبد، لمّا أضناه التعب، ركب الفرس، فكان جزاؤه الموت. ومن ذلك أن سادة رأوا عبيدهم يمصّون قصب السكر من مزرعة القصب، فاقتلعوا أسنانهم.

وقد أثّر هذا في نفوس الرقيق تأثيراً بالغاً، بل أثّر في تفكيرهم، وإنتاجيتهم. يقول أحد الكتاب: "إن الرقيق، بسبب استرقاقه، فَقَدَ فقداناً كاملاً سيطرته على كدحه، بل فقد فقداناً كاملاً سيطرته على شخصه وشخصيته".

واستمر هذا، أو كثير منه، في أعقابهم إلي يومنا هذا. وقد كانت هذه المعاملة، تجاه الرقيق، سبباً من الأسباب، التي جعلت الأمم تراجع نفسها في قضية الرقّ، في التاريخ كله، وفي القرون المتأخرة بصورة خاصة.