إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الرّق، وموقف الإسلام منه









مقدمة

سادساً: بعض النتائج العملية لموقف الإسلام من الرق

لمّا جاء الإسلام ومشكلة الرق قائمة، قدّم مشروعه لحل هذه المشكلة، وفق الإجراءات، التي بُسط الكلام فيها من بداية هذا البحث. وهذه بعض النتائج الملموسة، التي أنجزها المشروع الإسلامي لحل مشكلة الرق:

1. إيجاد التوادّ، والتآلف، وروح الصبر والتحمّل بين فئات المجتمع

هذه النتيجة معنوية، خلقية في طبيعتها، غير أن ثمرتها في الواقع المادي الملموس للمجتمع ذات تأثير بناء ومبدع. فطبقتا السادة والعبيد، طبقتان متباينتان متنافرتان بما فرضته الأعراف الاجتماعية. فهما طبقتان غير منسجمتين: سادة وعبيد، آمرون ومأمورون، غالبون ومغلوبون، أغنياء وفقراء، أهل إرادة ومسلوبو الإرادة، تابع ومتبوع، مطاع وطائع، متعلم وجاهل… وهكذا.

فاستطاع الإسلام بمنهجه في بناء الأخلاق الكريمة، وهدم الأخلاق المقيتة، وبمنهجه في الترغيب والترهيب، وفي ربط الأمور الدينية بالعواقب الأخروية، وفي تبيين حقيقة الإنسان، استطاع أن يُخرج نسيجاً اجتماعياً، متواداً، متآلفاً. واستطاع كذلك أن يوجد مناخاً، تهيّأ فيه لكل من هاتين الطبقتين أن تعطي أفضل ما عندها. ولذلك حصل ما حصل من التآخي بين أفراد الطبقتين، ومن التزاوج بينهما. وانبنت في طبقة العبيد شخصية قويّة، ذات رأي وبصيرة. وليس أدل على ذلك من قصة بلال بن رباح، الذي كان عبداً رقيقاً عند أمية بن خلف، ثم اشتراه أبو بكر الصديق، واعتقه، فنشأ في معيّة رسول الله r، وكان مؤذنه حيث كان نديَّ الصوت. ويلقى الرسول r ربَّه، ثم يأتي بعده أبو بكر t خليفة للمسلمين، ثم يأتي عمر بن الخطاب t، وكان له رأي في أموال الغنائم والفيء، وكان لبلال رأيٌ قويٌ، يخالف رأي عمر، فكانت إذا جاءت الغنائم إلى المدينة، ويريد عمر أن يتصرّف فيها بما يراه، يقول: "اللهم أكفني بلالاً ومن معه". بلال هذا، الذي كان غير بعيد عبداً، رقيقاً، مستذلاً، لا رأي له، يُرى، اليوم، بفضل منهج الإسلام، في بناء شخصية الإنسان، ذا رأي، يخشاه أمير المؤمنين، عمر. ويمكن أن يقال هذا عن عشرات من الصحابة، مِنْ مَنْ مسَّهم الرقّ. وهذا الرسول، r، يقول: ]كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالأَمِيرُ رَاعٍ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 844). هذا الحديث لا يفرّق بين مسؤولية رب المال، وبين مسؤولية زوجته، أو مملوكه، أو ولده، إذ كلّ له ذهنيته، وشخصيته، التي يستطيع توظيفها في إدارة مسؤوليته.

وهذه المسؤولية لا تُعطى لإنسان ناقص أو مسلوب الإرادة. والأشخاص، الذين نص عليهم الحديث، يمثلون معظم فئات المجتمع، ودورهم دور تكاملي، يسد بعضهم فيه مكان بعض، والمملوك له الرعاية الكاملة بنصّ الحديث في مال سيِّده، يدبره ويصرفه. ولن يتمكن من ذلك لو كان في نظر الشرع قاصراً.

2. عتق الأعداد الكثيرة من الرق

كان من آثار مشروع الإسلام لحل مشكلة الرق، أن عُتِق كثير من الرقيق، عتقهم أشخاص، إما وجوباً بسبب الكفارة، أو المكاتبة، أو الإيذاء، وإمّا طوعاً واختياراً بقصد التقرّب إلى الله. وكان قدوة المنعمين بالعتق المصطفى r، ثم تبعه الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن أمثلة عتقهم أن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، عتقت، في مرّة واحدة، بسبب نَذْر نَذَرتْه، ثم حنثَت فيه، "أربعين رقبة". وعلى هذا الدرب سار التابعون وأمراء الإسلام، وخلفاؤه، وولاته. وقد روي أن المعتصم بالله أوصى عند موته بعتق ثمانية آلاف من مماليكه.

غير أن الأهم من عتق الأشخاص، عتق الدولة. وقد جعلت دولة الإسلام من مشروع عتق الرقاب، عملاً بالتوجيهات القرآنية، التي جعلت العتق من مصارف الزكاة الثمانية، وهذه المصارف مما يلزم الدولة تحصيلها، ومتابعتها، والتحقّق من صرفها في مواضعها المشروعة، قال تعالى: ]إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 60).

فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال، لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا عجزوا عن أدائه بكسبهم الخاص.

ولذلك، عتق الرسول من الرقيق، من كان يُعَلِّم المسلمين الكتاب. وقد رُوي أن النبي حرّر عبداً آذاه مولاه في بدنه؛ وقال له: اذهب، فأنت حر، وأجرى له نفقة من بيت المال. وفعل عمر بن الخطاب مثل ذلك، فكان يشتري بالإرث عبيداً، ويعتقهم. ويروي يحيي بن سعيد، أحد ولاة عمر بن عبدالعزيز، قوله: "بعثني عمر بن عبدالعزيز على صدقات أفريقية، فجمعتها، ثم طلبت فقراء، نعطيها لهم، فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منّا، فقد أغنى عمر عبدالعزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم.

3. إظهار شخصيات مرموقة من بين الرقيق

بهذه النفسية الجديدة، التي أحدثها الإسلام في نفوس الرقيق، من إعادة اعتبار، ورحمة، وشفقة، ومودة، ثم تحرير، وتقرير مصير. بهذه النفسية الجديدة، والمعنوية المرتفعة، عملت هذه الفئة من المجتمع بجد، وإخلاص، وتطلع، فتهيّأ لها أن تُخْرِج شخصية بارزة: علمية، وأدبية، وقيادية عسكرية. وأول من يكتشف هذه الشخصيات، النبي r، فقد ولّىَ زيد بن حارثة قيادة الجيش، الذي بعث به لقتال الروم، وسقط شهيداً في معركة مؤتة، في السنة الثامنة للهجرة. وقد قدّمه الرسول على ابن عمه جعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن الرسول r عقد لأسامة بن زيد، على رأس سرية إلى بلاد الروم كذلك.

ثم مات النبي r، فأنفذ أبو بكر الصديق، السرية، عند توليه الخلافة، وكان أسامة شاباً يافعاً، دون العشرين من عمره، وكان تحته أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. ثم ظهر في تاريخ الإسلام قادة، ينسبون إلى الموالي، وهم من مسّهم أو أهلهم شيء من الرق، منهم القادة العظماء، مثل  موسى بن نصير، وطارق بن زياد، وكافور الأخشيدي، ثم جاءت دولة المماليك، التي حكمت في مصر من عام 648 هـ إلى عام 923 هـ، الموافق (1250 ـ 1517م). وهم أرقاء جراكسة، وأتراك، جاء بهم الأيّوبيون إلى مصر، من روسيا وأواسط آسيا. وأعظم سلاطينهم الملك الظاهر بيبرس.

أمّا العلماء، والفقهاء، والمحدثون، والمفسِّرون، فمنهم كثيرون جداً، وكذلك من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وما بعدهم. فمن الصحابة: سالم مولى أبي حذيفة، الذي قال فيه الرسول r: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل"، وبلال بن رباح، وسالم الفارس. ومن الصحابيات: أم أيمن مولاة رسول الله، وحاضنته، اسمها: بركة بنت ثعلبة، زوجها رسول الله r من زيد بن حارثة، فولدت له أسامة، فكانوا كلهم عظماء. كان منها علم وفقه، دخل عليها أبو بكر وعمر، فلما دخلا عليها، بكت، فقالا: ما يُبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله، قالت: أبكي أن وحي السماء انقطع. فهيّجتهما على البكاء، فجعلت تبكي، ويبكيان معها.

ومن التابعين: عطاء بن أبي رباح، المتوفَّى عام 115هـ، كان عبداً حبشياً، حج سبعين حجة، وكان يعلِّم الأكابر العلم، وجاءه سليمان بن عبدالملك، الخليفة الأموي، فعلمه مناسك الحج. ومنهم الحسن البصري، المتوفَّيَ، عام 110هـ، كان أبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري t، وكانت أمهُ مولاة أم المؤمنين، أمّ سلمة (رضي الله عنها) زوج رسول الله r، وكانت أمُّهُ، ربما غابت في حاجة، فيبكي، فتُعطيه أم سلمة ثديها، تُعلِّلُه به، فَدَرَّ عليه ثديُها، فشربه، فيروْن أن الحكمة والفصاحة اللتين أوتيهما من بركة ذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء، وهو من أرباب العربيّة، يقول: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيُّهما كان أفصح؟ قال: الحسن. ومنهم مكحول، وطاووس، والنخعي، ومحمد بن سيرين، ومالك بن دينار، وعاصم بن أبي النجَّود، وهو أحد القرّاء السبعة المشهورين، ثقة في الحديث، والقراءات. ومنهم كذلك الأوزاعي، وابن كثير الملكي، ثاني القرّاء، ونافع مولى عبدالله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وسفيان بن عيينه، والأعمش، وعبدالله بن دينار. ومن مشاهير علماء المائة الثانية للهجرة، عبدالله بن المبارك، أبوه تركي مملوك، صاحَبَ الإمام أبا حنيفة، وأخذ عنه علمه، وأمه خوارزمية. يقول فيه الإمام النووي: "تُستَنْزَلُ الرحمة بذكره، وترجىَ المغفرة بحبّه". ومنهم الكسائي، أحد القراء السبعة، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، وإمام القراء نافع، والأعمش، وسيبويه.

ومن مشاهير العلماء المتأخرين: أبو الفتح عثمان ابن جني، وابن حزم الظاهري، وياقوت الحموي. وهذه الأسماء إنما قُصد بها التمثيل، وما هي إلا غيض من فيض. ولولا الاستقرار النفسي، والتكامل الشخصي عند هذه الفئة مِنْ مَنْ مَسّهم أو أصولهم الرق، لما كان لهذه الأسماء أن تظهر، ولبقيت دفينة، كما بقي أمثالها كذلك في الأمم الأخرى.