إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الرّق، وموقف الإسلام منه









مقدمة

سابعاً: لِمَ لَمْ يبطل الإسلام الرق؟

جاء الإسلام بمنهجه ليتدرج بالنفس الإنسانية في السمو. غير أنه، في الوقت نفسه، دين يتعامل مع واقع الإنسان وإفرازاته التاريخية، والاجتماعية. ولما جاء الإسلام قفل جميع منابع الرق، ليهيئ للنفس البشرية الفرصة، لتتخلّص من وحشيّتها، المتمثلة في استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان، ولترتفع، ولتتهذّب، ولتسمو. غير أنه أبقى على منبع وحيد للاسترقاق، وهو الحرب "المشروعة".

فالإسلام دعوة جديدة، ومن طبائع البشر أن يتخوّفوا من كل ما هو جديد، وأن يعارضوه، وأن يحاربوه إذا لزم الأمر. فليس من المعقول، والحالة هذه، أن يتمكّن أعداء المسلمين منهم في الحروب، ويأخذونهم أسرى، ويستعبدونهم، ويقرّ الإسلام ذلك، ويُذْعن له. والإسلام دين عدالة ورحمة، أبقى لإمام المسلمين قناة مفتوحة، يستعملها، وفق تعاليم الدين، متى استدعى الأمر ذلك. تلك القناة هي أن يعامل الأعداء بالمثل، "فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك، وعشيرتك، وأتباع دينك، يسامون الخوف والعذاب عند هؤلاء الأعداء. والمعاملة بالمثل في هذه الحالة، هي أعدل قانون يمكن استخدامه، أو هو القانون الوحيد".

ومع هذا كله، فاسترقاق أسرى العدوّ ليس إلاّ اختياراً واحداً من خيارات عدّة لدى إمام المسلمين، وله أن يعدل عن ذلك، إذا اقتضت ذلك المصلحة، إلى المنّ، أو الفداء، أو القتل.

لقد كان بإمكان الإسلام أن يأتي بأمر قاطع، يحسم به مسألة الرق، ويبطله، لكن هذا لا يتمشّى مع طبيعة الإنسان، التي يقدّرها الإسلام حق قدرها. لذا جاءت شريعة الإسلام، في هذا المضمار، مبنيّة على التدرج. فالصلاة، مثلاً، وهي عماد الدين، لم تفرض من أول يوم، ومثل ذلك بقية أركان الإسلام. ونزل تحريم الخمر بالتدرج، وجاء الأمر بجهاد الكفار متدرجاً، وهكذا. وليس الإسلام بياناً سياسياً، أو حديثاً إعلامياً، أو خطبة دعائية. كل هذه الإجراءات غير متناسبة مع منهجه الإلَهي، الإصلاحي. ونتائج البيانات السياسية معروفة سلفاً، لأنها غالباً ما تصدر دون رصيد. ولذلك لمّا أعلن إبراهام لينكولن بيانه بإبطال الرق في أمريكا، مع مشروعية المطلب، لم يكن ذلك الإعلان موضوعياً، نظراً لارتباطه بأوضاع اجتماعية وسياسية معينة. وقد ذكر آنفاً أن الولايات المتحدة الأمريكية، فقدت خمس شعبها قتلى في سبيل قرار إبطال الرق.

غير أن هذا وحده ليس كل شيء، فآثار الرق مازالت تأكل المجتمع الأمريكي من الداخل إلى اليوم، فمازالت النظرة الدونية للزنوج موجودة، ولا زال الزنوج يواجهون مشكلات في فرص التوظيف، والعمل، والتعليم، والسياسة، إلى اليوم، وهم يُعدّون في أجهزة التوظيف من الأقليّة المضطهدة، رغم أن تعدادهم كبير جداً. هذا كله، بعد مرور قرنين من الزمن على إبطال الرق.

وبقيت العنصرية تنخر عظم دولة جنوب أفريقيا إلى عام 1989م، وطوال هذه الفترة، من إلغاء الرق في أوروبا وأمريكا، إلى قبل ما يقرب من عشرين سنة من هذا اليوم، والدول الأوروبية تتعاون مع أنظمة قائمة على التمييز العنصري، علنياً أو سرياً. وكانت الشركات الأوروبية تستثمر في جنوب أفريقيا تحت أسماء شركات وطنية، طوال فترة المقاطعة الاقتصادية "الشكلية"، وما أن تغيّر النظام حتى أُسْقطت هذه الأسماء المستعارة لتُرْفَع الأسماء الحقيقية للشركات الأوروبية. وكان طلاب الجامعات الأمريكية يتظاهرون ضد جامعاتهم، التي كانت تحقق أكبر الاستثمارات في جنوب أفريقيا. فالقضية، إذاً، في نظر الإسلام ليست رفع شعارات، أو دعايات، أو إصدار بيانات مفرّغة من معانيها، غير مرتبطة بحقائق واقعها.

المسألة، في نظر الإسلام، هي إيجاد حل، فيه تروٍّ، وتفهُّم، واعتبار بالواقع، لكن نتيجة مضمونة، وهذا ما حدث فعلاً في تاريخ الإسلام، على طول مداه، باستثناء حادثة واحدة هي "ثورة الزنج"، التي حدثت في عام 255هـ، الموافق 868م، حيث قام الزنوج المجلوبون من أفريقيا، في عهد الخليفة العباسي، المعتمد بالله، بثورة كبرى. وظروف اجتلاب هؤلاء الزنوج، مشابهة لظروف اجتلابهم إلى أوروبا وأمريكا في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، حيث جيء بهم لاستصلاح السِّباخ بالبصرة، (وهي الأراضي السهلة الملحية، التي يمكن استصلاحها فتكون أرض خصبة، فتُزْرع). وهذا يعني انهم أُحْضِروا إلى هذا المكان لأهداف اقتصادية بحتة. وهذا غير موافق لتعاليم الشريعة، التي لا تجيز إلا الاسترقاق عن طريق الحرب المشروعة.

وخطأ المسلمين، على مستوى الأشخاص، أو على مستوى الدولة، لا يغيرّ الحكم الشرعيّ الرّباني.

من المشكلات، التي نجمت عن إبطال الرق بقرار سياسيّ، مفرّغ من الاعتبارات النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، للرقيق، أن نشأت بطالة عامّة فيهم. سببها الرئيسي، هو أن الرقيق غير مستعد نفسياً لتحمل المسؤولية، لأن الحرية، وإن كانت من أثمن القِيَم عند الإنسان، بل عند المخلوقات أجمع، مسؤولية ثقيلة التبعات. والمسؤولية تحتاج إلى قدرات ذهنية، ونفسية متوازنة، وغير مضطربة، حتى تضطلع بأعبائها. ولذا يلحظ أحد الباحثين أن "من نتيجة قرارات التحريم المفاجئة، ظهور مشكلات كثيرة، فيما يتعلق بإثارة الفوضى والاضطرابات". وتذكر بعض المصادر: "أن زنجبار امتلأت فجأة بالألوف من المتعطلين عن العمل، حيث وجد الرقيق أنفسهم، ولأول مرّة، بلا مورد ولا مأوى، بعد أن تخلى عنهم الجميع، وعلى رأسهم الإنسانيون من رسل مكافحة الرقيق، الذين ظنوا أنهم أدّوا أدوارهم، وأنجزوا رسالتهم، دون أن يقدروا النتائج، التي ترتبت على هذا الإلغاء من جرائم وتشرّد". ومثل هذا لم يحدث في تاريخ التشريع الإسلامي، لأن الرقيق في الإسلام عوملوا على أنهم بشر مكرمون، وفيهم من الكفاءات، والقدرات، التي منحها لهم ربهم، ما يعينهم على الحياة الحرة، الكريمة، الإنسانية، بغض النظر عمّا يمرّون به من ظروف الاسترقاق الطارئة. ولهذا، انصرفوا إلى طلب العلم، وتعليمه، والجهاد في سبيل الله، والأعمال الدنيوية، التي يزاولها الإنسان الحر. والأمثلة، التي عرفها الإسلام من شخصيات تاريخية عظيمة من هؤلاء الرقيق، كافية لغرض الاستدلال.