إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها




نتائج الزلازل التدميرية
نتائج السيول التدميرية
مرض الإيدز
تأثير الفيضانات المدمرة
تسونامي مدمر
عاصفة الهيريكين المدارية
عاصفة التورنيدو الرعدية

الطير الأبابيل
الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا
اسلوب إهلاك أصحاب الفيل
حجارة من سجيل




مقدمة

المبحث الثالث

طرق العذاب وحالاته في القرآن

أولاً: طرق العذاب

توجد ثلاث طرق للعذاب (تعذيب الله للإنسان ـ تعذيب الإنسان للإنسان ـ تعذيب الإنسان للكائنات الأخرى). وتختلف الطريقة الأولي وهي (عذاب الله للإنسان) عن الطريقتين الأخريين. فالطريقة الأولي يعذب الله الإنسان بأساليب ووسائل وأدوات ليس لها مثيل، ولا يستطيع البشر أن يأتي بمثلها أو يقلدها، فكيف يأتي بشر بطير أبابيل، أو يقلب قرية على رأسها ويجعل عاليها سافلها؟، أو يشق البحر إلى نصفين، أو يرسل بريح صرصر عاتية؟.

أما الطريقتين الأخيرتين (تعذيب الإنسان للإنسان ـ تعذيب الإنسان للكائنات)، ففيها يستخدم الإنسان أساليب ووسائل وأدوات متاحة، وبمقدوره استخدامها أو تصنيعها (كالعصى أو السكين وغيرها)، وباستخدامها يذيق بعضنا بأس بعض ويعذب بعضنا بعضاً، وبها أيضاً يعذب الإنسان الكائنات الأخرى، وكلها أمور لا تحدث في الآخرة بالطبع، بل تحدث في الحياة الدنيا وحدها.

والله يحاسب المُعذِبين على تعذيبَهم للآخرين، بحسبان أن الإنسان والحيوان والنبات كلها كائنات خلقها الله، تعقل وتفكر وتسجد لله وتصلى وتسبح، لقوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ( (النور: الآية 41)، فلا يحق للإنسان أن يعذب مخلوقات الله، كما أن الله I لن يترك نفساً تعذب كائناته دون عقاب، فهو رب العالمين.. رب الجميع.

وقد يخير الله الإنسان في عقاب الآخرين بالتعذيب أو الإهلاك أو بالعفو عنهم، كما يفعل القاضى مع المتهمين في القضاء (بالحبس أو بالإعدام، أو بالعفو عن المتهم لبراءته من الإتهام)، ولعل أكبر مثال على ذلك ما ورد في سورة الكهف، في تخيير ذي القرنين في تعذيب الأخرين أو العفو عنهم، قال تعالى: )إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا( (الكهف: من الآية 86)، فقد خيره الله I بين التعذيب كما في قوله تعالى: )إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ(، وبين الاستبقاء كما في قوله تعالى: )وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(، وهذا التخيير من الله يكون في الحياة الدنيا، وليس في الآخرة، فلا خيار لأحد في هذا الأمر في الآخرة على الإطلاق.

1. تعذيب الله للإنسان

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا والآخرة، ويجب الأخذ في الحسبان الآتي:

أ. لا حاجة لله في أن يعذبنا

قال تعالى: )مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا( (النساء: الآية 147)، أي ما يصنع الله بعذاب البشر، إن تابوا إليه ورجعوا إلى الحق، وشكروه على ما أنعم به عليهم من نعم في النفس والأهل والولد، وما يصنع الله بعذاب البشر لو اعتصموا به وأخلصوا له العمل، وآمنوا برسوله e وصدقوه وأقروا بما جاء به من عند الله I وعملوا به.

فلا حاجة لله في تعذيبنا، لأنه لا يجتلب بعذابنا نفعا لنفسه I، وعذابه لخلقه إنما هو عقاب لهم على جراءتهم عليه I، ومخالفتهم لأمره ونهيه، وكفرهم لنعمه، وعدم شكره عليها. وبناء على ذلك فإن شكرنا لله على نعمه، وإيماننا به وبكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يعرضنا إلى عذاب الله؛ إذ ليس لله حاجة في تعذيبنا.

فالأصل أن الله I لا يريد عذاباً لأحد، شريطة أن يشكروه ويؤمنوا به. والقاعدة أن (الشكر والإيمان) يحميان الإنسان من عذاب الله، والمخالفون لتلك القاعدة أي (الذين لا يشكرون ولا يؤمنون)، هم المُعرضُون لعذاب الله في الدنيا والآخرة.

ب. المشركون هم المعذبون

بينما يرحم الله الشاكرين المؤمنين من عذابه، يحل على المشركين غضبه وعقابه، فمن أراد أن يدخل في دائرة المعذبين، ما عليه إلا أن يدعو مع الله إلهاً آخر فيكون من المعذبين، قال تعالى: )فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ( (الشعراء: الآية 213)، والمقصود بقوله تعالى: )فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ( أى المعذبين في الدنيا، أو الآخرة، أوالاثنين معاً، والله أعلم.

2. تعذيب الإنسان للإنسان

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا، ولا مكان لها في الآخرة، وهذه الطريقة وإن بدت أن إنساناً يعذب إنساناً أخر، إلا أن هذا العذاب يحدث بعلم الله ومشيئته، فهو وحده الذي بيده القدرة على ذلك، وهو المدبر لكل ما يحدث وإن بدا لنا أننا يذيق بعضنا بأس بعض، قال تعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( (الأنعام: الآية 65).

إن (أساليب العذاب) تأتى من عند الله، ونحن (وسائلها) التي يتحقق بها هذا التعذيب، ويجب أن نفرق بين وسيلة العذاب وأداتها، (فوسيلة العذاب) قد تكون هي الإنسان نفسه، (أما أداة العذاب) فهي ذلك الشيء الذي يستخدمه الإنسان ليحقق به تعذيب الآخرين بصورة مباشرة، كالسكين والسوط والعصا وغيرها... الخ، ولنضرب بعض الأمثلة:

أ. تعذيب آل فرعون لبنى إسرائيل

قال تعالى: )وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ( (البقرة: الآية 49)، كان آل فرعون يذيقون بنى إسرائيل سوء العذاب!!، يُذَبِّحون أبناءهم ويستحيون نسائهم، هذا العذاب الذي كان يفعله آل فرعون ببنى إسرائيل، لم يكن دون علم الله I، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل كان ذلك بعلمه وابتلاء منه لبني إسرائيل، تدبر قوله تعالى: )وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(.

هذا البلاء حدث بعلم الله ومشيئته وبإذنه!!، كما أراد I تماماً أن يكون، بنفس الوسائل وبنفس الأدوات، وبنفس الأسلوب وهو (ذبح الأبناء)، فكلها أمور محسوبة، تحدث بعلم الله ومشيئته، أمور لا تحدث ارتجالاً أو عشوائياً أو مصادفة، فهي أمور يخرجها الله إلى أصحابها لتحدث كما حدثت تماماً في ذلك الوقت، بإذنه ومشيئته، تصديقاً لقوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ( (التغابن: من الآية 11).

إن آل فرعون يُذبحون أبناء بني إسرائيل بعلم من الله وبإذنه، وهو بلاء عظيم من الله، قال تعالى: )وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(، هذا البلاء ابتلى الله به بني إسرائيل على يد قوم فرعون، فالأمور التى تحدث من حولنا لا يغفل عنها الله I، سواء كانت مصائب أو كوارث أو نكبات، أو كانت نفحات ورحمات، فكلها بعلم الله وبإذنه!!.

يقول الإمام القرطبي في سبب نزول الآية السابقة من سورة (التغابن): أن الكفار قالوا لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هماً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً، فبعلم الله وقضائه.

وعلى ذلك فإن ما يحدث من تعذيب للفلسطينيين على يد قوات الإحتلال الإسرائيلي على سبيل المثال، هي أمور تحدث كما يريد الله أن تحدث تماماً وبعلمه، وليست أموراً عشوائية أو أحداثاً ارتجالية تجرى دون علم الله، فهي أحداث تجري بعلمه ومشيئته، وهو يملى لهم ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلم يحن وقت تعذيبهم بعد، وحين يأتى ذلك الوقت فليس مصروفاً عنهم، وسيحيق بهم ما كانوا به يمكرون.

ب. تعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين عند القتال

هذه صورة أخرى لتعذيب الإنسان للإنسان، قال تعالى: )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ( (التوبة: الآية 14)، حيث يعذب الله الكافرين بأيدي المؤمنين عند القتال، لتكون أيدي المؤمنين هي أداة التعذيب ذاتها، سواء كانت عارية من السلاح أو ممسكة به، ووسيلة التعذيب هم المؤمنون أنفسهم، فهذا القتال يحدث بعلم الله وبأمره لقوله تعالى: )قَاتِلُوهُمْ(، يحدث كما أراده الله I تماماً أن يحدث وبأمره، في نفس المكان وهو (أرض القتال)، وفى الوقت نفسه الذي يدور فيه القتال. فالله يدبر للكافرين أمراً لابد من حدوثه، وهو تعذيبهم لقوله تعالى: )يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ(، فالله هو الذي يعذبهم، وقد كتب I أن يكون هذا التعذيب بأيدي المؤمنين )يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ(.

كما أن الله I يدبر النتائج أيضاً، وهي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين وشفاء صدورهم. قال تعالى: )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ( (التوبة: الآية 14)، فقد أراد الله أولاً أن (يعذب) الكافرين فأمر المؤمنين بقتالهم، وأن تكون أداة تعذيبهم (أيدي المؤمنين) فقال تعالى: )بِأَيْدِيكُمْ(، ولما أراد الله نصر المؤمنين وخزى الكافرين.. حدث ذلك كما أراد I تماماً بإذنه وبعلمه.

ج. تعذيب اليهود إلى يوم القيامة على يد أمة محمد e

هذا مثال آخر يوضح أن عذاب الإنسان للإنسان، هو بعلم الله وبإذنه وبتدبيره، قال تعالى: )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ( (الأعراف: من الآية 167)، حيث أعلم الله وأخبر ودبر، أن يُعَذَبْ (اليهود) على يد أمة محمد e، تلك الأمة المُسلطة عليهم من الله في علمه المسبق، لتذيقهم سوء العذاب حتى يوم القيامة، وذلك بسبب مارتكبوه من عصيان، ومخالفتهم لأوامره وشرعه I.

وكلمة ]تَأَذَّنَ[ بمعنى تفعل من الأذان أي (أعلم)، قالها مجاهد، وقال غيره أي (أمر)، وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا اتُبعت باللام في قوله ]لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ[، أي على اليهود إلى يوم القيامة، من يسومهم سوء العذاب، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، ويقال إن موسى u ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا تحت قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذ الجزية منهم والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد e فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. المهم في هذا الأمر هو النظر والتفكر في تدبير الله المسبق!!، في قوله تعالى: )لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ(، فهو أمر قدره الله من قبل حدوثه، ولا بد أن يحدث (يسلط المؤمنين من أمة محمد e على اليهود، ليسومونهم سوء العذاب)، هكذا حدد الله مسبقاً في علمه الأزلي (من المُعَّذِبْ، ومن المُعَّذَبْ ؟)، وكذلك حدد الله فترة عذابهم الطويلة التي كتبها عليهم في قوله تعالى: )إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(!!، كل ذلك حدده الله بعلمه المسبق قبل أن يحدث.

د. صورة أخرى عن تعذيب وإهلاك الإنسان للإنسان

قال تعالى: )غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (الروم: الآيات 2-6).

هذه الآيات الكريمات تبين كيف غُلِبَت الروم وكيف انتصرت، وسوف نجد أن كل شيء كان مدبراً من الله مسبقاً، وقد وقع تماماً كما وعد وكما أراد، كلها أحداث وقعت بعلم الله ومشيئته وتدبيره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!، تدبر قوله I في سورة الروم: )وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(، فلما كتب الله عليهم الهزيمة في ذلك الوقت هُزموا، ولما حدد لهم مكان المعركة )فِي أَدْنَى الْأَرْضِ( وقعت، ولما كتب لهم أن ينتصروا من بعد الهزيمة انتصروا )وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(، ولما حدد لهم وقت الانتصار )فِي بِضْعِ سِنِينَ( حدثت في موعدها كما وعد، فلم تؤجل الحرب بينهما، ولم يتصالحوا قبلها حتى لا تقع، وهكذا نرى عجائب القرآن!!.. حقائق قرآنية تبين لنا أن كل شيء يجري بأمر الله وبعلمه وبإذنه.

إن الله هو الذي أمر بحدوث تلك الأمور قبل أن تحدث، وهو الذي دبر حدوثها وسبب للحرب أسبابها، وحدد من المهزوم ومن المنتصر من قبلها، كما حدد وقتها ومكانها، لنعلم أن لله الأمر من قبل ومن بعد.

وقبل الإنتهاء من الحديث عن عذاب الإنسان للإنسان، نشير إلى نقطة مهمة، أن كل إنسان يُعذِب إنساناً آخر فلا بد وأن يعاقبه الله I، يستثنى من هؤلاء القائمون على تنفيذ حدود الله (كالذين يجلدون الزناة، والمتولين قطع أيدي السارقين، وغيرهم)، فتنفيذ حدود الله بأيدي أناس آخرين، هو في حقيقة الأمر تعذيب للمخالفين لشرع الله، ويُطلق على هذا النوع من التعذيب مسمى (التعذيب المُشروع)، والمنفذون لهذا التعذيب أو الآمرين به مثابون على ذلك، وغير مُعَاقبين من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، ذلك لأنهم يقيمون حدود الله وينفذون شرعه في أرضه.

3. تعذيب الإنسان للكائنات

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا وليس لها مكان في الآخرة، وهي الطريقة الثالثة من طرق العذاب التى نتحدث عنها، وهي طريقة نشاهدها كثيراً في حياتنا اليومية، بين فئة من الناس يتعاملون مع الكائنات الأخرى كالطيور والحيوانات وغير ذلك من الكائنات، وقد آلفنا تلك الأمور لكثرتها!!، حتى إننا نمر عليها مرور الكرام دون أن نلتفت إليها، فمثلاً نرى طفلاً يمسك بدجاجة يعذبها، وطفلاً آخر يمسك بطائر ينزع ريشه في متعه بالغة، وشاباً يمسك بفراشة جميلة ليحبسها في زجاجة حتى تموت ويحنطها، وعلماء هنا وهناك يجرون تجاربهم على الحيوانات قبل إجرائها على الإنسان، كأن تلك الحيوانات ليست من مخلوقات الله، أو كأنها كائنات لا تعقل ولا تفكر ولا تشعر ولا تتألم، بينما هي في الحقيقة كائنات تعقل وتفكر وتصلي لله وتسجد وتُسبِح!!.

ما تم ذكره من أمثلة هي صور لأشكال مختلفة من (عذاب الإنسان للكائنات)، وليست كما يعتقد البعض أنها نوعاً من أنواع اللهو والتسلية بكائن لا يعقل ولا يشعر ولا يتألم من التعذيب، فمنع الماء عن كائن من الكائنات، هو في الحقيقة تعذيب له، ومن أمسك بطائر من الطيور ثم حبسه في قفص ثم تركه يعاني الجوع والعطش، فهو في حقيقة الأمر يعذبه... وهكذا.

أ. أمثلة لتعذيب الإنسان للكائنات الأخرى من واقع ما جاء في القرآن الكريم

(1) هدهد سليمان u

أشار القرآن الكريم إلى هذا الكائن (الهدهد) في قصة سليمان u، وذلك مثل على تعذيب كائن من الكائنات وهو (الطيور) أو إهلاكه، فقد توعد سليمان u هذا الهدهد بالتعذيب أو بالذبح، حين تفقد الطير ولم يجده!!، قال تعالى مخبراً عن سليمان u: )وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ( (النمل: الآيتان 20 و21)، وتهديد سليمان u للهدهد بالتعذيب أو بالذبح (يقابله تهديد الإنسان للإنسان بالتعذيب أو الموت).

(2) الجن في عهد سليمان u

عن ابن عباس رضى الله عنهما، وعن مجاهد والحسن وقتادة: أن الجن كانوا من جنود سليمان u، وكانوا مسخرين في الأعمال الشاقة بإذن الله، لا يستطيعون الإفلات منه (أى من سليمان u)، يعملون له ما يشاء من محاريب (مساجد)، وتماثيل وجفان كالجواب (أحواض كبيرة عظيمة)، وقدور راسيات (ثابتة لا تتحرك لثقلها وعظمها)، وكان منهم البناءون للبناءات العظيمة التي لا يقدر عليها الإنسان، ومنهم الغواصون الذين يغوصون في البحار لإحضار اللؤلؤ والمرجان والأشياء النفيسة، وأخرون مقرنون في الأصفاد (وهم كل من تمرد وعصى أو امتنع عن العمل وأبى)، وهذا النوع من العذاب فيه إهانة للجن بكل المقاييس.

وعندما مات سليمان u لم تعلم الجن بموته، وظلوا يعملون تلك الأعمال الشاقة لمدة طويلة نحواً من سنة، حتى آتت دابة الأرض تسمى (الأرضة) فأكلت منسأته آي (عصاه التي يتوكأ عليها) فسقط سليمان u على الأرض، عندئذ تبينت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لاكتشفوا موت سليمان u في حينه، وما لبثوا في العذاب المهين، قال تعالى: )فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (سبأ: الآية 14).

ثانياً: حالات العذاب

يمكن تقسيم حالات العذاب إلى ست حالات: (المنع ـ التأجيل ـ التبديل ـ الكشف ـ التخفيف ـ المضاعفة).

1. منع العذاب

إن منع العذاب له شروط، فبالإضافة لما ذكرناه عن منع العذاب عن الشاكرين المؤمنين، في قوله تعالى: )مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا( (النساء: الآية 147)، نجد أن هناك شروطاً آخرى تمنع العذاب ومنها:

أ. عدم إرسال الرسل

قال تعالى: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( (الإسراء: من الآية 15)، الحقيقة التي يجب أن ندركها أولاً ونُذْكِر بها ثانياً، أن محمداً e هو خاتم الأنبياء والمرسلين. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كل من جاءوا بعده غير معذبين؟، لما ورد في صريح الآية: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(، يقول ابن كثير: هذا إخبار عن عدله I، بأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحُجة عليه، بإرسال الرسول إليه، كقوله تعالى: )كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِير( (الملك: من الآية 8، والآية 9)، وكذا قوله تعالى: )وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (الزمر: الآية 71).

يقول بعض المفسرين إن مهمة الرسل هي تبليغ الدعوة، فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، ويقول البعض الآخر إن معنى )حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( في الآية، أي حتى نُبين له ما يجب عليه.

هناك أمر مهم أو حقيقة مهمة: نحن نرى ونشاهد في كل يوم صنوفاً من التعذيب يذيقها الله للظالمين في الأرض، منذ أن مات محمداً e خاتم الأنبياء والمرسلين وحتى وقتنا هذا، فلو كان المقصود بالرسل هم الرسل السابقون فقط، ما كان الله ليعذب أحداً بعد موت محمد e إلى يوم الدين، وذلك طبقا للمفهوم القرآني: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( (الإسراء: من الآية 15)، وهذا ما لا يحدث بالطبع!!.

فيكون المقصود بالآية السابقة، كما قال المفسرون، هو تبليغ الدعوة للناس من طريق منذرين من أنفسهم، يُبلغون ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله e، فدين محمداً e هو الإسلام، والله I قد ارتضى لنا الإسلام ديناً، وأن الله قد أرسل محمداً e للناس كافة (بشيراً ونذيرا)، وكل أمة تأتى من بعده فهو رسولها، وهو رحمة من الله لها.

فكأن رسالة محمد e باقية لكل الأمم إلى يوم الدين، فلا عُذر لمن ابتغي غير الإسلام ديناً واعتقد أن الله لم يرسل إليه رسولاً، فهذا النوع من الناس سوف يكون بإذن الله من المُعَذبين، أما من لم تبلغه الدعوة لأي سبب من الأسباب، فهو غير مستحق للعذاب كما جاء في تفسير القرطبي.

ب. من كان في حضرة النبى e

قال تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( (الأنفال: من الآية 33)، لأن العذاب إذا نزل عَمَّ، ولم تُعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها، وهذا فضل اختص الله به نبيه محمداً e تكريماً وتشريفاً ورحمة للناس، فلا يُعذب الله أحداً في حضرة رسوله e، لقوله تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ(.

ج. الإستغفار

قال تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( (الأنفال: من الآية 33)، والاستغفار، وإن وقع من الفجار، يُدفع به ضرب من الشرور والإضرار، قال تعالى على لسان نوح u وهو يدعو قومه: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا( (نوح: الآيات 10-12)، أي اطلبوا من ربكم المغفرة من الكفر والعصيان، فإنه I لم يزل غفاراً لذنوب من يرجع إليه ويتوب، فإنه يرسل السماء عليكم مدراراً (غزيرة الدر بالمطر)، ويمددكم بأموال وبنين هما زينة الحياة الدنيا، ويجعل لكم بساتين تنعمون بجمالها وثمارها، ويجعل لكم أنهاراً تسقون منها زرعكم ومواشيكم، كل هذه المزايا ينالها الكافرون من قوم نوح u إذا استغفروا الله I، فإن الله لا يعذب المستغفرين، بل يجزل لهم العطاء الخير والنعيم!!، هكذا يقابل الله المستغفرين بالخيرات والنعيم، ولا يسلط عليهم عذابه لقوله تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(.

2. تأجيل العذاب

يؤجل العذاب لأسباب!! منها (وجود مؤمنين ومؤمنات بين أظهر الكافرين)، فيؤجل الله تعذيب الكافرين حتى يخرج المؤمنون من بينهم، قال تعالى: )هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( (الفتح: الآية 25)، يقول تعالى مخبراً عن الكفار من مشركي العرب من قريش، ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله e )هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا( أي هم الكفار دون غيرهم، الذين صدوكم عن المسجد الحرام )وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(، وأنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر.

وفي قوله تعالى: )وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ(، أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله من بغيهم وعنادهم، وقوله تعالى: )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(، أي بين أظهرهم يكتمون إيمانهم ويخفونه، خيفة على أنفسهم، لسلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن لأن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل، لهذا قال تعالى: )لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ(، أي يصيبكم منهم إثم وغرامة دون علمكم بهم، وتمييزهم عن كفار مكة.

وفي قوله تعالى: )لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ(، أي يؤخر (يؤجل) عقوبتهم حتى يخلص من بين أظهرهم المؤمنين، )لَوْ تَزَيَّلُوا( أي لو تميز الكفار من المؤمنين، )لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(، أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني عن حجر بن خلف قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت جنيد بن سبيع يقول: قاتلت رسول الله e أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(، قال كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان، ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف وقال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة، وفينا نزلت )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(.

وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: )لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(، يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين، لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم، فقد (أجل) الله تعذيب الكفار في مكة عام الحديبية لهذا السبب، يرجع ذلك (أن رسول الله e حين أحرم مع أصحابه لأداء العمرة، منعتهم قريش من دخول المسجد الحرام)، وكان بين كفار مكة في هذا الوقت، رجال من المؤمنين ونساء من المؤمنات يكتمون إيمانهم، (فأجل) الله تعذيب الكافرين في مكة حتى يخلص المؤمنين من بينهم لو تزيلوا حينئذ!!، أى لو تميزوا عنهم، لسلط الله عليهم رسوله e ومن معه من المؤمنين، فقتلوهم جميعاً دون تأجيل.

ولولا (تأجيل) هذا العذاب لأصابت المؤمنين معرة بغير علمهم، تلك المعرة حين يقتلون المؤمنين والمؤمنات في مكة دون قصد، ولو أمكن تمييز المؤمنين من الكافرين في ذلك الوقت، ما (أجل) الله عذاب الكافرين لحظة واحدة، ولعذبهم عذاباً أليماً بأيدى الرسول e والمؤمنين.

3. تبديل العذاب

قال تعالى: )وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ( (الحشر: الآية 3)، كتب الله على يهود بنى النضير الجلاء (بدلاً) من التعذيب، هكذا كتب الله عليهم، ولولا هذا (التبديل) لعذبهم الله في الدنيا بأيدي المسلمين، وبنو النضير هم طائفة من اليهود، كانت منازلهم بناحية من المدينة، حاصرهم رسول الله e على رأس ستة أشهر من موقعة بدر، حتى جلوا عن منازلهم، ومعهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة (وهي السلاح)، هكذا أجلاهم الله إلى الشام على يد رسول الله e (بدلاً) من تعذيبهم، أى بدل الله لهم العذاب بالجلاء، ولولا أن الله قد كتب ذلك (أى الجلاء) عليهم، لعُذَّبُوا في الدنيا بأيدي المؤمنين.

4. كشف العذاب

قال تعالى: )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( (الفتح: الآية 14)، يكشف الله العذاب عن المُعَّذبين، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، إن كشف العذاب أو استمراره بيد الله وحده، ولعل أقرب مثال عن (كشف العذاب)، بل وتكرار كشفه عن المعذبين، ما حدث لقوم فرعون حين جحدوا بآيات الله، حيث أرسل الله عليهم ألوانا من العذاب، منها (الطوفان) الذى أتلف الزروع والثمار، وجلب عليهم الخراب والدمار، فلما رجعوا إلى ربهم واستغفروه كشف عنهم هذا العذاب.

ولما عاودوا إلى ظلمهم ونكثوا العهد مع ربهم، أرسـل الله عليهم ألوناً أخرى من ألوان العـذاب وهي (الجراد والقمل والضفادع والدم)، قال تعالى: )فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ( (الأعراف: الآيات 133- 135).

هي سنة الله في كشف العذاب عن المعذبين، يُعذب من ينكث العهد معه، ثم يُكشفه عنه إذا تاب وأناب ورجع إليه، وكثرة وتنوع صنوف العذاب التي سلطها الله على قوم فرعون، إنما ترجع إلى أنهم كانوا ناكثوا العهد مع الله، لذلك كان الله يذيقهم في كل مرة لوناً من ألوان عذابه، (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم)، وكلها آيات مفصلات من ألوان العذاب الإلهي التي لا تحصى ولا تعد، يكشفها عنهم!!. ثم يسلطها عليهم، يكشفها عنهم إذا تابوا وأنوابوا، ثم يسلطها عليهم إذا نكثوا عهدهم وتمادوا.

5. تخفيف العذاب

من القواعد القرآنية الهامة: أنه لا يؤجل العذاب في الآخرة عن المعذبين ولا يخفف، لقوله تعالى: )خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ( (البقرة: الآية 162)، أما في الحياة الدنيا فقد يخفف الله عذابه عن المعذبين إلى النصف، كما في حالة إتيان الإماء بفاحشة الزنا، فهنا تخفف عقوبتهن إلى نصف ما على المحصنات من العذاب، هذا التخفيف إلى النصف الذى يقدره العلماء بخمسين جلدة، ونفي ستة أشهر (نصف عام)، هو نصف ما على الحرة من العقاب، لأن الواجب على الحرة إذا أتت فاحشة الزنا قبل الإحصان، جلدها مائة ونفيها حول أى (عام)، فالنصف من ذلك هو خمسون جلدة ونفي نصف عام، وذلك العقاب المخفف جعله الله عذاباً للإماء المحصنات إذا أتين بفاحشة، قال تعالى: )فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( (النساء: من الآية 25)، إن نقصان عذابهن في الحدود يرجع إلى أنهن أضعف من الحرائر، ويقال لأن نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل من الحرائر.

6. مضاعفة العذاب

العقوبة تجب على قدر النعمة، فمن كانت نعمته أكثر جعل الله عقوبته أشد، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي e: )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا( (الأحزاب: الآية 30)، فكما أن الله I يخفف عذابه على من يشاء في الحياة الدنيا، فكذلك يضاعف العذاب في الحياة الدنيا على من يشاء، ويلاحظ أن (تخفيف العذاب) يكون في الحياة الدنيا فقط، لأن في الآخرة لا يخفف العذاب ولا يؤجل كما بينا من قبل. أما (مضاعفة العذاب) فيكون في الحياة الدنيا وفي الآخرة أيضاً، ونضرب بعض الأمثلة على ذلك.

أ. مضاعفة العذاب في الدنيا

قال تعالى: )وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ( (التوبة: الآية 101)، هكذا يضاعف الله العذاب للمنافقين مرتين في الدنيا، وفي الآخرة عذاب عظيم أعده الله لهم وبئس المصير، ومع مضاعفة العذاب قد تختلف الأساليب والوسائل والأدوات في كل مرة عن التي قبلها.

ب. مضاعفة العذاب في الآخرة

قال تعالى: )قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ( (الأعراف: الآية 38).

فبعد دخول أمم كثيرة من الجن والإنس في النار، وبعد أن يداركوا فيها جميعاً ويجتمعون، تطلب أخراهم من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم، الذين أضلوهم في الحياة الدنيا، فيجيبهم الله بأن لكلٍ منهم ضعف ولكنهم لا يعلمون.

هكذا العذاب!!. أنواع وطرق وألوان وأشكال وحالات... الخ، إن موضوع العذاب موضوع كبير ومهم، يحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير وتدبر!!، فهو موضوع معقد ومتشعب!!، وعلى الظالمين الحذر من عذاب الله وعدم الإستخفاف بمجيئه، فعذاب الله يأتى للظالمين بغتة وهم لا يشعرون، أو جهرة وهم ينظرون!!.

وعذاب الله للظالمين هو آية وعبرة، يحذرنا الله منه، ويكرره علينا في القرآن الكريم ليؤكد لنا على مدى خطورته، يقول الله I: )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآية 16)، تلك الآيات التحذيرية تتكرر أربع مرات في سورة واحدة (سورة القمر)[1]، لتؤكد على أهمية التفكر ليس فقط في عذاب الظالمين!!، بل وعلى كيفيته أيضا!!، أي (كيف وقع؟!!)، تدبر قوله تعالى: )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(، هذا التحذير والبحث عن الكيفية في العبارة القرآنية )فَكَيْفَ(، قد يغفل عنها الإنسان كثيراً، لكن الغريب أن عذاب الله يحدث أمامنا في كل مكان، لكننا لا نبحث عن كيفية حدوث هذا العذاب.

 

 



[1] كررت الآية )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( أربع مرات في الآيات [16، 18، 21، 30] من سورة القمر، وتكرار هذا التحذير من رب العالمين، إنما يدل على شدة خطورته على الناس، وضرورة البحث عن الكيفية التي يعذب الله بها الظالمين.