إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها




نتائج الزلازل التدميرية
نتائج السيول التدميرية
مرض الإيدز
تأثير الفيضانات المدمرة
تسونامي مدمر
عاصفة الهيريكين المدارية
عاصفة التورنيدو الرعدية

الطير الأبابيل
الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا
اسلوب إهلاك أصحاب الفيل
حجارة من سجيل




مقدمة

المبحث السادس

أساليب الإهلاك ووسائله في القرآن

قال تعالى: )فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (العنكبوت: الآية 40)، هذه الآية تبين بعض الأساليب والوسائل، التى يهلك الله بها القرى الظالمة وهي: (الحاصب ـ الصيحة ـ الخسف ـ الغرق)، وهذه الآية تحتاج إلى إعمال البصائر وتصور تلك الأساليب تفصيلاً، ومعايشة الهالكين لحظة إهلاكهم بتلك الوسائل.

أولاً: الحاصب

قال تعالى: )فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا( (العنكبوت: من الآية 40)، تتعدد الأساليب والوسائل التي يهلك الله بها الظالمين، والآية 40 من سورة العنكبوت تشير إلى أحد أساليب ووسائل الإهلاك، وهو (الحاصب)، والحاصب في اللغة: هي العاصفة الشديدة التى تحمل التراب والحصباء أي (صغار الحجارة)، أو هي السحاب الذي يرمي بالبرد والثلج، ونفِّذ هذا الأسلوب على قوم لوط، لقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر( (القمر: الآيتان 33 و44)، فبعد أن تحددت ساعة الصفر من رب العالمين، وحان وقت الهجوم على الظالمين، استعدت الملائكة لتنفيذ مهامها بتدمير مباني القرية من ناحية، وإهلاك أهلها من ناحية أخرى.

ونعيش لحظات من التصور وإعمال البصائر، كأننا نرى خلال تلك اللحظات حال قوم لوط وهم يُهَلكون، ونسمع صرخات الرجال وهم يستغيثون، وعويل النساء وأنين المُعَذبين، لقد ظنوا من قبل أنهم غير معاقبين، وظنوا أن الله غافل عما يعملون!!، وعلى الجانب الأخر نتصور وكأن الملائكة تستعد لإخراج المؤمنين من القرية، تمهيداً لنجاتهم قبل إهلاكهم، فنجاة المؤمنين حق ووعد من الله لهم، لقوله تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103).

إن هلاك الظالمين مبني في المقام الأول على إخراج المؤمنين من القريةً الظالمة قبل تدميرها، وهو ما يجب أن نركز عليه ونحاول الوصول إليه، فبمراقبة الأحداث التى وردت في القرآن الكريم عن إهلاك القرى الظالمة، يبرز لنا موقف نجاة المؤمنين قبل إهلاك القرى الظالمة، وقد يكون نجاتهم في اللحظات الأخيرة، أى قبيل الإهلاك مباشرة، وقد تصل تلك اللحظات إلى ساعات، كما سنرى في قصة إهلاك قوم لوط، وقد تصل إلى أيام كما سنرى في قصة إهلاك قوم صالح، وتلك اللحظات القلائل هي ما يُعبر عنها باقتراب (ساعة الصفر).

وقد تعمدنا عدم سرد (ساعة الصفر)، أو لحظة إهلاك القرى بالطريقة المألوفة، أى بالطريقة المتبعة في رواية قصص الأنبياء سرداً تاريخياً لأحداث مضت، بل نحاول أن نجعل القارئ يعايش الأحداث، وكأنها تقع الآن، بإعمال البصيرة وتشغيل الحواس، ثم مقارنتها بما يحدث على أرض الواقع في عصرنا هذا، فتتحقق بذلك الفائدة، وذلك بيت القصيد، لأن الله I يأمرنا بالسير في الأرض والنظر في كيفية عقاب الظالمين وعاقبتهم، أى أن الله يدفعنا دفعاً، ويحثنا حثاً، على تصور ما حدث للظالمين في الماضى، ومقارنة ذلك بالحاضر، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11).

تصور اقتراب (ساعة الصفر) في إهلاك قوم لوط

1. ملائكة في صورة بشر، يصلون إلى لوط u ويتحدثون إليه، يخبروه بأن أهل قريته سيهلكون في الصباح، وعليه أن يسير بأهله ليلاً، ولا يلتفت هو وأهله لأى حدث يجرى خلفه، وأخبروه أن امرأته سيصيبها ما سيصيب قوم لوط في الصباح، قالت الملائكة: )يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: من الآية 81).

2. جاء الصباح، وحدث صوت رهيب كزلزلة الجبال، وارتفعت بيوت القرية كاملة إلى عنان السماء، كل البيوت في هجوم مباغت من الملائكة على القرية، صورة مرعبة ليس لها مثيل، بيوت ترتفع إلى عنان السماء ثم تنقلب ويصبح عاليها سافلها، ثم تهوي إلى الأرض بقوة محدثة أصوات مدوية وهي تغوص في الأرض.

3. السماء تمطر شيئا غريبا!!، حجارة تأخذ خطوط سير كأنها صواريخ موجهة، تترصد أهدافاً محددة، كل حجر يصيب شخصاً بعينه، الحجارة تأخذ طرقاً ومسارات عجيبة!!، بعضها يأخذ مسارات حلزونية، وبعضها يأخذ مسارات دائرية أو ملتوية (غير مستقيمة)، إن الحجارة تهبط من السماء بسرعة عالية كأنها مطر منهمر، حجر يذهب ويجيئ بصورة غير مألوفة تخالف قوانين الجاذبية التي نعرفها، يتفادى أشخاصاً كثيرة ليصيب شخصاً بعينه، يتتبعه فلا يتركه حتى يصيبه ويلقى مصرعه، كأن كل حجر يعرف صاحبه ويرافقه فلا يخطئه، إنها (الحاصب).

4. هناك أصوات بدأت كزلزال مخيف من بداية الأحداث، ثم أصبحت في كل مكان، صرخات وأنات وآهات وعويل وبكاء، ثم فجأة توقف كل شيء وساد الصمت في كل مكان، فلا يوجد أحد من الأحياء، لقد انتهي كل شيء في لحظات، هلك القوم ومعهم إمرآة لوط ولم يبق إلا بقايا جثث الموتى وأشلاءهم، قرية لوط بكاملها دمرت تماماً وغاصت في باطن الأرض، وخرج لوط u وبناته من القرية قبل مهلكها، خرجوا منها سالمين، وتحقق كل ما قالته الملائكة للوط u، تحقق إهلاكهم تماماً كما قالت الملائكة للوط u، بنفس الأسلوب ونفس الوسيلة ونفس الأداة التى حددوها له قبيل ساعة الصفر!!، هكذا أخذ الله قرية لوط الظالمة أخذ عزيز مقتدر!!.

5. حدث كل شيء تماماً كما قالت الملائكة للوط u، قال تعالى: )فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ( (الحجر: الآيات 61 – 66). لقد أهلك الله قوم لوط u في الصباح كما وعدته الملائكة تماماً دون تقصير.

ثانياً: الصيحة

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ( (العنكبوت: من الآية 40)، والصيحة في اللغة: هي الصوت القوي، و(صاح صياحاً) أي صوت في قوة، و(صاح عليه) أي زجره ونهره، و(صيح فيهم) أي أصابتهم الصيحة فهلكوا. و(الصيحة في الآخرة) هي النفخ في الصور. ولقد وقع هذا الأسلوب من أساليب الإهلاك وهو (الصيحة) على قوم يس، لقوله تعالى: )وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ( (يس: الآيتان 28 و29).

ونعيش لحظات من التصور وإعمال البصائر، كأننا نرى خلال تلك اللحظات حال قوم يس وهم يُهَلكون، ونسمع صرخات الرجال وهم يستغيثون، وعويل النساء وأنين المُعَذبين، لقد ظنوا من قبل أنهم غير معاقبين، وظنوا أن الله غافل عما يعملون!!، وعلى الجانب الأخر نتصور وكأن الملائكة تستعد لإخراج المؤمنين من القرية، تمهيداً لنجاتهم قبل إهلاك القرية، فنجاة المؤمنين حق وعدهم ربهم به من قبل، لقوله تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103).

إن قوم يس لم ينفع معهم تعدد المُرسلين، فهم قوم معاندون، لم ينفع معهم إرسال رسولٍ واحد إليهم لينذرهم، فأرسل الله لهم رسولين ومع ذلك كذبوهما، فعززهم الله برسول بثالث، لكنه لم يفلح معهم أيضاً، لم يكفهم هذا العدد من الرسل، قال تعالى: )وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( (يس: الآيات 13 – 17).

تصور اقتراب (ساعة الصفر) من قوم يس

1. ثلاثة رجال عليهم الوقار والهيبة تشع من وجوههم الأنوار، عليهم مسحة الأنبياء والرسل، في وسط جمع كبير من قوم يس يتحدثون إليهم في هدوء وسكينة، هناك عدد من هذا الجمع يقولون لهم في حدة وسخرية: )مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ( (يس: من الآية 15)، فيرد الرسل عليهم: )رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( (يس: من الآية 16، والآية 17).

2. يحتد الجدل ويتصاعد التكذيب، ويهدد أهل القرية المرسلين بالرجم: )قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (يس: الآية 18)، ويرد المرسلون عليهم في هدوء وسكينة معاتبين: )قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ( (يس: الآية 19).

3. جاء من أقصى المدينة رجل يسعى، توقف عند الجمع وشاهد وسمع جزءاً مما دار، وهو غير مستريح لما رآه وسمعه، علامات وجهه تشير إلى أنه غير راضٍ عما يحدث من قوم يس، وبدأ يتدخل!!، كأنه رسول رابع وما هو برسول، إنه ينادي في قوم يس بأعلى صوته أن يتبعوا المرسلين، قال تعالى: )وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ( (يس: الآيات 20 – 25).

4. انتهي الرجل القادم من أقصى المدينة من حواره معهم، هجم قوم يس أو بعضهم عليه وقتلوه في لحظات، ومع ذلك لم تظهر عليه علامات الخوف أو الانزعاج، لقد كان تأييده للرسل ومفارقته قوم يس بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير، لهذا السبب قتلوه!!، فكيف يؤيد ثلاثة من الرسل خالفوهم من قبل؟!، قتلوه حين قال لهم: )إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ( (يس: الآية 25)، قتلوه بيد أثمة غادرة ـ فمات شهيدا ـ فأدخله الله الجنة، قال تعالى: )قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( (يس: الآيتان 26 و27).

5. عقب استشهاده لم يرسل الله جنوداً من عنده لتحاربهم أو لتهلكهم، إن كانت إلا صيحة واحدة أرسلها الله عليهم، فإذا هم خامدون، قال تعالى: )وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ( (يس: الآيات 28 - 31)، صيحة قوية تصم الآذان أهلكتهم جميعاً على الفور، فهي صيحة قوية لا تتحملها الأبدان ولا الآذان، مات قوم يس من تأثير الصيحة القاتلة في لحظة واحدة، إنها (ساعة الصفر) التي آتت عليهم بلا جنود، كأنها جيوش هادرة جاءت في لحظة واحدة مباغتة قضت عليهم جميعاً، فأصبحوا خامدين!!.

6. لقد هلك قوم يس، ونجا الرسل أجمعين من تلك الصيحة المخيفة، وارتقى الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ليكون مع الشهداء، إن ذلك الرجل أدخله الله الجنة مع الشهداء، فأصبح حياً يرزق عند ربه وهم لا يشعرون أنه حي، يقول هذا الرجل بعد أن أدخله الله الجنة: )يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( (يس: من الآية 26، والآية 27). هكذا نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين بالصيحة في لحظة!!، تلك الصيحة القوية القاتلة المفزعة، خصصها الله لإهلاك قوم يس، وهي أحد أساليب الإهلاك التي وردت في القرآن الكريم.

ثالثاً: الخسف

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ( (العنكبوت: من الآية 40). والخسف في اللغة هو الظلم والذل، يقال سام فلاناً الخسف، وسامه خسفاً أي أذله، ويقال خسفت الأرض خسفاً أي غارت بما عليها، ويقال خسف الله بهم الأرض أي غيبهم فيها، وخسف القمر أي ذهب ضوءه أو نقص. وقد جرى تنفيذ هذا الأسلوب من أساليب الإهلاك (الخسف) على قارون، لقوله تعالى: )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ( (القصص: الآية 81).

نذهب الآن إلى قوم موسى u، ونغمض أعينينا ونحرك بصيرتنا لنرى كل شيء عن (ساعة الصفر)، ساعة إهلاك قارون وخسف الأرض به، ولنرى أيضا كيف نجى الله المؤمنين من قوم موسى u من هذا الخسف المروع، ونتابع الأحداث لحظة بلحظة، لقد كان قارون من قوم موسى u فبغى عليهم، ولقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه يصعب على عصبة من الرجال الأشداء أن يحملوها من كثرتها، لقد كان قارون رجلاً غنياً ضرب الله به المثل في الثراء، إلا أنه كان فرحاً فخورا ًمتكبرًاً على قومه، لا يستمع إلى نصح الناصحين من قومه، فقد أعمى الثراء بصيرته، فأنكر نعمة ربه وقال: إنما أوتيت ما عندى من الكنوز بعلمي وذكائى ولا أحد يماثلنى.

قال تعالى: )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص: الآيتان 76 و77). لقد أنذره قومه بألا يفرح ويغتر بالثراء والغنى الفاحش، وقالوا: )إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(!!، وعليه أن يبتغي فيما آتاه الله من الخير والنعم الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ويحسن إلى الناس كما أحسن الله اليه، وألا يبغى الفساد في الأرض فالله لا يحب المفسدين، فلما تكبر على قومه وتعالى عليهم، خسف الله به وبداره الأرض، فما وجد من يدفع عنه هذا الهلاك الذي كتبه الله عليه!!.

ويمكن أن نتصور تلك الأحداث التي حدثت لقارون في ذلك الوقت على النحو التالي

1. يخرج قارون على قومه في زينته في أحد الأيام كعادته، قال تعالى: )فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (القصص: الآية 79)، خرج في موكبه العجيب الذي يصعب تصديقه ووصفه، تحتشد له الحشود من الناس على جانبى الطريق، إن مركبة قارون في وسط زينته وموكبه تظهر من بعيد، كأنها قطعة صغيرة من الشمس، إنها تلمع من بعيد وتتلألأ، من شدة الانعكاسات التى تُحدِثُها في عيون الناظرين الذين يترقبون وصول موكبه المهيب.

2. إنه منظر مبهر حقاً، كأن لؤلؤة مشعة تسير على الأرض، تتقدمها الخيول الكثيرة والحراس، إن المركبة عبارة عن قطعة فنية رائعة، فكلها مرصعة بالجواهر ومطعمة بالذهب الخالص والفضة والمعادن الثمينة، وكلها تعكس أشعة الشمس بشدة على العيون الناظرة، مختلطة بألوان الطيف المتعددة، إن الأنظار كلها مجتمعة على شىء واحد هو هذا الموكب المهيب!!.

3. إن مركبة قارون تجرها الخيول التى لم ير أحد مثلها في جمالها وقوتها في ذلك الوقت، تلك الخيول الجميلة المزينة، كأن خبراء الجمال في العالم قد اجتمعوا خصيصاً على تزيينها، لتبدو في هذا الجمال!، يتقدم الموكب عدد كبير من الحراس، يمتطون جيادهم المزدانة بشكل واحد، وعليها بعض الأعلام الملونة، والحراس يحملون في أيديهم السيوف اللامعة، يرفعونها عالياً ويمسكون بها في قوة وثبات، ويلبسون ثياباً مزركشة ومحلاة، مزينة بالألوان التي هي وحدها تلفت الأنظار!!، وتعد تحفة في الملابس التى يلبسها الإنسان، ليعطوا بذلك إحساساً بالهيبة والإجلال لهذا الموكب الفريد.

4. وترى في أعين الناس على جانبى الطريق، نظرات التعجب والتمنى!!، كأنهم يريدون أن يكونوا مثل قارون في ثرائه، وكأنهم يريدون أن يملكوا ما يملك من أموالٍ وكنوز، وهناك همسات هنا وهناك من الذين يشاهدون هذا الموكب، يقولون: )يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (القصص: من الآية 79)، ويرد عليهم رجال عليهم هالة الوقار والعلم يقولون: )وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ( (القصص: من الآية 80).

5. فجأة تتزلزل الأرض من تحت هذا الموكب وترج بهم رجاً... يإلهي!!. إن الأرض تنخسف من تحتهم سبحان الله العظيم القادر، لاحول ولا قوة إلا بالله، إن الأرض تغوربهم جميعاً. إنها تبتلعهم كما يبتلع الحوت السمك الصغير، تبتلع قارون وموكبه وحراسه، وتتعالى الصرخات والصيحات، ونسمع أنات هنا وهناك، وأصوات وعويل للنساء وبكاء للأطفال، اختلطت كل الأصوات في لحظة واحدة متزامنة مع الحدث، شىء عجيب!!، إن الأرض شقت من تحت الموكب فقط وابتلعته، ولم يحدث شيء للأخرين المصطفين على جانبي الطريق، الناس في ذهول مما حدث، يقولون أهكذا يحدث الهلاك بغتة دون إنذار؟، أهكذا يُهلك الله الناس في لحظات وبلا مقدمات؟، أهكذا يختار الله الناجين من بين الهالكين، مع أن الكارثة في نفس المكان؟.

6. تدبر قول الذين تمنوا مكانه بالأمس بعد أن خسف الله به وبداره الأرض، قال تعالى: )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ( (القصص: الآيتان 81 و82). هكذا يخسف الله الأرض بالظالمين، وهكذا ينجى الله المؤمنين، فبرغم وجود الجميع في مكان الهلاك، إلا أن جنود الله اختارت بعناية كل من كُتب عليه الهلاك لتُهلكه، وكل من كُتب له النجاة لتنجيه من هذا الخسف.

رابعاً: الغرق

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا( (العنكبوت: من الآية 40)، هناك وسائل مختلفة للإهلاك بالغرق وضحها القرآن الكريم، وتختلف تلك الوسائل من حيث طبيعتها، واتجاه حركتها، برغم أن أداة الإغراق واحدة وهي (الماء)، والأسلوب واحد وهو الغرق، إلا أن وسائل الإهلاك قد تختلف، وأوضح مثالين لذلك ما حدث لقوم نوح u وفرعون وجنوده عند إهلاكهم، (اُنظر جدول مقارنة بين الأسلوب والوسيلة والأداة المستخدمة في إهلاك قوم نوح وفرعون وجنوده). والجدول يوضح مقارنة بين الأسلوب والوسيلة والأداة بينهما، ومنه يتضح اتجاه حركة وسائل الإغراق للهالكين (قوم نوح u وفرعون وجنوده) كالأتي:

1. اتجاه حركة وسائل إغراق قوم نوح u (رأسية)

أ. حركة من أعلى إلى أسفل: في صورة ماء منهمر يأتي من السماء، لقوله تعالى: )فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ( (القمر: الآية 11).

ب. حركة من أسفل إلى أعلى: في صورة ماء متدفق يأتي من الأرض، من خلال العيون المتفجرة، لقوله تعالى: )وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا( (القمر: من الآية 12).

ج. التقاء الماء المنهمر من السماء، مع الماء المتفجر من الأرض: ليحدث بناء على التقائهما طوفاناً رهيباً مغرقاً ومدمراً، مغرق للكافرين من قوم نوح u، ومدمر لممتلكاتهم وديارهم، وهو الأمر الذى قدره الله أن يكون، فحدث تماماً كما قدر I، قال تعالى: )فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ( (القمر: من الآية 12)، تدبر قوله تعالى: )عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(.

2. اتجاه حركة وسائل إغراق فرعون وجنوده (أفقية)

من اليمين والشمال: في صورة ماء مرتفع عن سطح البحر، يحول بينهما اليابس، فكان كل جانب منهما كالطود العظيم، قال تعالى: )فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ( (الشعراء: الآية 63)، وحين جاءت ساعة الصفر أى (وقت الإهلاك)، انطبقت المياه من الجانبين الأيمن والأيسر على فرعون وجنوده، في حركة أفقية مباغتة لم يتصورها فرعون نفسه ولا جنوده.

والأن جاء دورنا وجاء دورك!!0

جاء دورنا لنقص عليك ما يصوره القرأن الكريم عن ساعة الصفر، لكل من قوم نوح u، وفرعون وجنوده، فكلاهما هلكوا بأسلوب واحد (أسلوب الغرق)، مع الاختلافات التى ذكرناها والتى تراعى عند تصور (ساعة الصفر) لهلاك كل منهما.

وجاء دورك لكى تعمل ببصيرتك وتتصور (ساعة الصفر)، وتتصورهم وهم يصارعون الغرق، لقد جاءتهم رسلهم لتنذرهم وتحذرهم من تلك الساعة ومن هذا الخطر، فلم يصدقوا ماقيل لهم وكذبوهم وتكبروا عليهم، فحق عليهم عقاب ربك، حتى جاءتهم ساعتهم (ساعة الصفر) فلم يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً، ولكي تتابع قصة إهلاك قوم نوح u، وفرعون وجنوده برغم ما فيها من أحداث قاسية، عليك أن تغمض عينيك قليلاً، وتستحضر تلك المشاهد كأنك موجود ساعة الحدث، وفى نفس المكان.

قال تعالى: )تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( (الأعراف: الآية 101)، لقد طبع الله على قلوبهم حتى هُلكوا جميعاً، كذلك يجزي الله الظالمين.

1. هلاك قوم نوح u (كمثال) للإهلاك بأسلوب الغرق

نستحضر مشهد إهلاك قوم نوح قبل ساعة الصفر بلحظات، قال تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ( (هود: من الآية 40)، أى حين حانت (ساعة الصفر) وفار التنور، أى حتى إذا جاء وقت أمر الله بإهلاكهم، جاء الماء بقوة فائراً ذا رغوة، كالماء الذي يغلي فوق النار، وقيل هو ماء فار من الفرن الكائن في بيت نوح u، وكانت تلك علامة على اقتراب (ساعة الصفر) من قوم نوح u، حينئذ ركب نوح u والذين أمنوا معه في السفينة، وحمل فيها من كل حيوان وطير زوجين اثنين، لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض، كما حمل فيها من آمن من المؤمنين، وكذلك أهله إلا من سبق قول الله عليهم بأنهم مغرقون، قال تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (هود: الآيتان 40 و41).

إن فوران ذلك التنور قد يكون مرتبطاً بنزول الماء المنهمر من السماء، وتفجير عيون الأرض بالمياه، ففى قول الله عز وجل )إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ( (الحاقة: الآية 11)، أى في السفينة، وهذا يشير إلى أن نوحاً u قد ركب السفينة هو والذين آمنوا معه بعد أن طغى الماء (أى جاوز الحد)، هذا وكانت امرأة نوح u كافرة فلم تصعد معهم إلى السفينة وهلكت مع الهالكين، كما أن ابنه أخفى عليه كفره ولم يصعد هو الآخر إلى السفينة، كذلك لم يصعد كل من كان كافراً من قوم نوح u.

وجاءت ساعة الصفر

إن من يتابع مشهد إهلاك قوم نوح u، فسوف يخر ساجداً لله رب العالمين، ذلك لأنه سوف يشعر بأن الله I دبر للكافرين أمراً محكم التدبير، فلم يفلت كافر من الغرق، فهناك أمران قدرهما الله ودبرهما في آن واحد:

·       إنزال ماء منهمر من السماء.

·       تفجير الأرض بعيون الماء.

لقد أخذ الماء يعلو ويرتفع شيئاً فشيئاً، حتى تحول الماء إلى أمواج عالية كالجبال، وأخذ الهالكون يستغيثون ويصرخون وهم يصارعون الغرق في هذا الطوفان الرهيب، فلم يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً، قال تعالى: )فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر( (القمر: الآيتان 11 و12).

إن الهالكين قد غرقوا في ماءٍ منهمرٍ من السماء، ومياه متفجرة من عيون الأرض، مياه تكتسح الأرض اليابسة اكتساحاً، وتتجمع وتلتقي وترتفع وتصل إلى الأعناق، وتعلو فوق الرقاب، إن المُهلكين يبتلعون المياه، يتجرعونه بعيون زائغة متلهفة إلى النجاة، فهذا يمسك بقطعة من الشجر، وذاك يصعد فوق الجبل، كلُ يحاول النجاة على أمل أن تعصمه قطعة الشجر من الغرق!!، أو جبل مرتفع يعصمه يصعد عليه لينجيه من الغرق، لقد تحول الماء رويداً رويداً إلى موجٍ هائجٍ متوحش، يزمجر ويلتهم الكافرين التهاماً، الكل تحيط به المياه من كل جانب، والجميع في لحظة واحدة يصارعون الغرق، ما بين صارخٍ ومستغيث!!.

إن الكافرين جميعاً في هلع يصارعون الموت المخيف، الكبير منهم الذى بلغ من العمر أرذله، ونبت جسده على الكفر، والصغير الذى في علم الله الأزلي كان سيصير كافراً، تماماً كما كان يفعل أبواه من قبله، كذلك كانت مواقف النساء من دعوة نوح I كموقف امرأته الكافرة من دعوته، الرجال والنساء، والشباب والفتيات، الكبير والصغير يغرقون بلا استثناء، يتجرعون كأس العذاب قبل أن يهلكوا، الصرخات تعلو، والأيدي تتشابك عن غير قصد! تحاول التمسك بأي شيء، فيغرق الجميع وهم ممسكون ببعضهم البعض.

ليس هذا التماسك الذي يدل على رابطة الإخلاص القوية بينهم، بل هو التماسك المبني على الباطل بالطبع!!، وعلى تكذيب رسولهم نوح u من قبل، رابطة جمعتهم على الكفر في لحظات العذاب التى يذوقون مرارتها جميعاً قبيل إهلاكهم، رابطة جمعتهم في مكان واحد ليهلكوا فيه جميعاً، ذلك المكان الذى التقى فيه ماء السماء المنهمر، مع ماء عيون الأرض المتفجرة، ليتكون منهما طوفان هائل رهيب ومدمر، رابطة جمعتهم على أسلوب واحدٍ للهلاك وهو (الغرق)، واداة واحدة للهلاك وهي (المياه)، ووسيلة واحدة للإهلاك تأتيهم من السماء والأرض في آن واحد، كما صورها القرآن الكريم، وسوف تجمعهم أيضاً رابطة أخرى يوم القيامة، حين يجتمعون في نار جهنم خالدين فيها وبئس المصير.

نعود لمتابعة مشاهد ساعة الصفر، لقد نادى نوحُ u ابنه الذي خدعه بالإيمان الزائف، ناداه بأن يركب معه ولا يكن مع الكافرين الذين يصارعون الموج، فأبى الامتثال لنداء أبيه، قال تعالى: )وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ( (هود: من الآية 42، والآية 43). والحقيقة الحتمية أنه لا بد أن يهلك ابنه كما أمر الله بذلك، فهو عند الله من الكافرين الهالكين، حتى وأن ظن نوح u أن ابنه من المؤمنين!!، وهكذا يسعى ابن نوح u إلى حتفه وهو لا يدرى، فلا وساطة حين يأمر الله بهلاك الكافر، حتى وإن كان من أبناء الرسل والأنبياء.

ويعلو الماء شيئاً فشيئاً ويرتفع وتتلاطم الأمواج في سباق مع الزمن، تصارع الكافرين حتى تزهق أرواحهم، فقد قدر الله وكتب ذلك عليهم، وهاهم أولاء يلاقون مصيرهم المحتوم كما كتبه الله لهم، اختار الله لهم الأسلوب والوسيلة والأداة التي يهلكون بها، لقد أنذرهم نوح u من قبل كثيراً، حذرهم من ذلك ليلاً ونهاراً فلم يصدقوه، ولم تزدهم تحذيراته المستمرة إلا فراراً!!، وهاهو ذلك الحدث المحتوم قد أتى، وما هي إلا لحظة حتى حال الموج بين نوح u وابنه فكان من المغرقين.

من الصعب علينا أن نتصور هول الطوفان الذى حدث في ذلك الوقت، لقد كان شيئاً مروعا ًيدل على بطش الله الشديد، كانت السفينة تجرى بهم في موج كالجبال، لقوله تعالى: )وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ( (هود: من الآية 42)، إنه ليس طوفاناً عادياً كالذي نراه ونسمع عنه في الفضائيات والأقمار، أو عبر الإذاعات ونشرات الأخبار!!، هذا الطوفان أغرق الكرة الأرضية كلها، لقد استجاب الله I لدعاء نوح u فلم يترك للكافرين على الأرض دياراً!، شيء رهيب!!، هكذا كانت (ساعة الصفر)، أو هكذا كانت!!، نجى الله نوحاً u والذين آمنوا معه، وأهلك الكافرين.

وبعد أن أغرق الله قوم نوح، أعاد I الأمور كما كانت عليه، أعاد الأساليب والوسائل والأدوات التي أهلكهم بها إلى اماكنها مرة أخرى، فأمر الأرض أن تبتلع ماءها، وأن تغلق السماء أبوابها، وتقلع عن إنزال مائها، قال تعالى: )وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي( (هود: من الآية 44)، وغيض الماء وقضى الأمر، واستوت السفينة واستقرت بالمؤمنين على الجودى (اسم الجبل الذى رست عليه السفينة).

هكذا عادت وسائل الإهلاك إلى قواعدها وأماكنها، وعادت أداة الإهلاك أيضاً إلى أصلها، فابتلعت الأرض المياه، وأقلعت السماء عن نزول الماء، وقيل بعداً للقوم الظالمين، قال تعالى: )وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( (هود: من الآية 44)، أليس هذا الحدث (إهلاك قوم نوح u بالغرق) شيء يستحق الوقفة والتفكير؟.