إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها




نتائج الزلازل التدميرية
نتائج السيول التدميرية
مرض الإيدز
تأثير الفيضانات المدمرة
تسونامي مدمر
عاصفة الهيريكين المدارية
عاصفة التورنيدو الرعدية

الطير الأبابيل
الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا
اسلوب إهلاك أصحاب الفيل
حجارة من سجيل




مقدمة

المبحث الثامن

 إرسال المُنذِرِين ـ تكذيب المُنذِرِين (المرحلة الأولى)

نبين أولى مراحل إهلاك القرى الظالمة، وهي إرسال المنذرين إليها وتكذيبهم، ويعد إرسال المنذرين إلى القرى الظالمة شرطاً أساسياً لوجوب إهلاكهم، فإن لم يرسلوا إليهم فلن يعاقبوا، ذلك لأن عدم إرسال المنذرين إلى الظالمين، يجعل لهم حجة على الله بأنهم ما كانوا يعلمون بعقابه!!، لقوله تعالى: )وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ( (الشعراء: الآيتان 208 و209).

أولاً: إرسال المنذرين

هي أولى مراحل إهلاك القرى الظالمة، حيث يرسل الله الأنبياء والمرسلين إلى تلك القرى لإنذار أهلها، وتحذيرهم من عقابه، وهو الشرط الأول لتحقق وجوب إهلاكهم. لقوله تعالى: )وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ( (الشعراء: الآية 208)، وإرسال المُنذرين إلى الظالمين شيء مهم للغاية، فبدون إرسال المنذرين يكون للظالمين حجة على الله، وفى العهود الماضية كان المُنذِرون من الأنبياء والمرسلين، أما الآن فهم من الأولياء والصالحين، ومن المعلوم أن الله لم يعذب قرية من القرى قبل أن يبعث إليها رسولاً لينذر آهلها من عقابه، قال تعالى: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( (الإسراء: من الآية 15).

لقد أهلك الله الأولين، ثم أتبعهم بالآخرين، كذلك يفعل الله بالمجرمين، قال تعالى: )أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ( (المرسلات: الآيات 16- 19)، على أن الله I يرسل المنذرين من الرجال القادرون على تحمل الأذى وتخطي العقبات، وتحمل سخرية الظالمين واستهزائهم وتهديداتهم بالقتل في بعض الأحيان، فلا يرسل منذرين من النساء أو الفتيات، أو الصبية أو الغلمان، إنما يرسل الله الرجال من أهل القرى يوحي إليهم بتلك المهام، قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ( (يوسف: الآية 109)، وكان الكافرون يتعجبون من هذا الأمر من قبل!!، قال تعالى: ) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( (ق: الآية 2)، إن الظالمين متكبرون في الأرض !!00يتعجبون أن يكون لبشر منهم صلة بالسماء من دونهم !!.

من المؤكد أن المُنذِرين في هذا العصر أيضاً والذين لا نعلمهم بالطبع!! الله يعلمهم، يلاقون العقبات والصعوبات ويتعرضون للتكذيب والسخرية والإستهزاء، والتهديد بالقتل أحيانا وإراقة الدماء، ولا شك أن الظالمين في عصرنا هذا يتعجبون كما تعجب الذي من قبلهم!!، كيف لبشر مثلهم يرسله الله لينذرهم من بطشه ؟، تماماً كما تعجبت قريش من رسول الله e من قبل، ومن المفروض أن تتعجب أنت من ذلك الوضع المعكوس، فالمُنذِرون ينادون بالحق، والظالمون يجادلونهم بالباطل!!.

ثانياً: تكذيب المنذرين

تكذيب المنذرين هو المرحلة الثانية من مراحل إهلاك القرى الظالمة، وبدون تكذيب القرى لا يتحقق الشرط الثاني لعقاب الظالمين، فلو صدَّق أهل القرى منذريهم، ما كان لله عليهم حجة وما كان I بحاجة إلى عقابهم، غير أن هناك أنماط مختلفة من المكذبين الذين أهلكهم الله من قبل، سنركز على قوم نوح u إذ هم أوائل المكذبين للأنبياء والمرسلين على الأرض من ناحية، وأنهم أكثرهم حدة وشراسة من ناحية أخرى، وبهم يقاس المكذبون في كل العصور.

لقد ظل نوح u يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع طول تلك الفترة الزمنية لم يستجب له قومه إلا قليلاً منهم، ظل يدعو قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فلم يزيدهم دعاؤه إلا فرارا ًمن دعوته، ومن خلال تكذيب قوم نوح لرسولهم u، نوضح المراحل المتصاعدة للتكذيب، التى يتعرض لها عادة المُنذِرين، بدءاً من السخرية والتهكم والاستفزاز والجدال، مروراً بمراحل الاتهام المختلفة والمتصاعدة للمنذرين كالاتهام بالضلال أو الجنون، وصولاً إلى مرحلة الزجر والنهر والتهديد بالقتل، أو حتى الوصول إلى مرحلة القتل الفعلى، كما فعل بنو إسرائيل بأنبيائهم من بعد.

لقد تعرض رسول الله محمدا ًe لتكذيب قريش، وعانى كل الأذى منهم، تكبر ـ تكذيب ـ سخرية ـ عناد... الخ، والله I يدعونا دائماً إلى النظر والتدبر في عاقبة المكذبين لأهمية هذا الموضوع، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ( (القمر: الآية 9)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآية 18)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ( (القمر: الآية 23)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ( (القمر: الآية 33)، وقوله تعالى: )وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( (الملك: الآية 18)، وقوله تعالى: )وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( (المزمل: الآية 11)، وقوله تعالى: )فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( (القلم: الآيتان 44 و45).

إن المكذبين لا يصدقون ما يجيء به المُنذِرون إليهم، ومن هؤلاء ما يطلق عليهم (الدهريون)، سواء كانوا من الكفار أو المشركين أو الفلاسفة الذين ينكرون البدأة والرجعة، ويعتقدون كما يعتقد الفلاسفة الدهريون المنكرون لله (أنه في كل ستة وثلاثين ألف سنة، يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وهم الذين يزعمون أن هذا قد تكرر مرات كثيرة، فكابروا العقول وكذبوا المنقول)، ولهذا يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ويخبرنا المولى تبارك وتعالى عن عقيدتهم الفاسدة في قوله تعالى: )مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ( (الجاثية: من الآية 24).

لا يتصورون أن الهلاك يأتيهم من عند إلله، بل إن الدهر هو الذي يهلكهم، ويعتقدون أنهم يهلكون بصورة عشوائية من غير حسابات إلهية تحدد آجالهم، وفي اعتقادهم أنهم يُعذَّبون ويُهلَكُون بفعل الدهر ومرور الزمن وبعوامل الطبيعة، ذلك لأنهم وضعوا على أعينهم غشاوة عن الخالق الصانع لكل هذه الأشياء، ولا يتصورون أن وراء هذا الهلاك إلهاً واحداً، يدبر الأمر ويرسل بالمٌنذِرين إليهم لينذروهم ويحذرونهم من عقابه، ولا يعتقدون أن الله هو الذي يحدد الموعد والمكان والأسلوب والوسيلة والآداة التى بها سيُهلَكون!!، وعلى هذا الأساس وبتلك العقيدة الفاسدة، تراهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويظلمون خلق الله ويتجبرون، فهم كما ذكرنا يعتقدون أنهم غير معاقبين من الله I على ما يفعلونه !!.

وبدون التكذيب لا يعاقب الله أهل القرى، وكم من قرية ظلمت ثم عادت إلى رشدها قبل موعد عقابها، فلم تهلك ولم تعذب، وهناك شرطان بدونهما لايحق العقاب على الظالمين:

·       ضرورة إرسال مُنذِرين إلى أهل القرى لإنذارهم من عقاب الله.

·      تكذيب أهل القرى للمُنذِرين وإصرارهم على تكذيبهم.

فإن لم يرسل الله مُنذِرين كان لأهل القرى حجة على الله بأنهم لا يعلمون، وأما لو صدَّقوا بالمُنذِرين واستجابوا لهم، ما كان لله حاجة في عقابهم، فما حاجة الله لإهلاكهم بعد أن استجابوا للنُذر وعادوا إلى الحق؟!.

إن إهلاك الظالمين هي حرب معلنة من الله على الظالمين، وليست حرباً معلنة من البشر عليهم!!, فهي ليست كالحروب التي نعرفها، بل هي حرب إبادة يدبرها الله ويسلطها على الظالمين من فوق سبع سماوات، هي حرب تأتى من عند الله الواحد القهار، مالك كل شيء وهو على كل شيء قدير، حرب ليس فيها احتمالات لنجاة الظالمين منها، ولا احتمالات لوقوع أسرى فيها، ولا هناك فرص للتفاوض بشأن المهزومين، ولا بارقة أمل في عودتهم إلى بلادهم وأهلهم سالمين أو حتى محاكمتهم كمجرمين، كما يحدث في حروب البشر على الأرض، بل هي حرب إهلاك وتدمير وفناء محقق كتبه الله على الظالمين المكذبين، الذين لم يغتنموا فرصة النجاة من قبل على أيدي المُنذِرين.

1. إمعان وإصرار على التكذيب

هناك نوع من الناس يصرون على التكذيب أطلق الله عليهم كلمة (الغافلين)، والقرآن الكريم يُعرَّف أسباب تلك الغفلة في قوله تعالى: )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ( (الأنعام: الآية 179)، فهم لايستخدمون عقولهم ولا حواسهم حتى ولو أرسل الله إليهم المُنذِرين، ومن ثم فهم يمعنون ويصرون على التكذيب!!، وتلك الطائفة من البشر شبهها الله بالأنعام، بل جعلهم أضل من تلك الحيوانات.

وهناك نوع آخر من البشر غارقون في بحار التكذيب والغفلة، لا يكفيهم منذر واحد، ولا اتفاق واحد، ولا عهد واحد، ولا كلمة واحدة، يحرفون الكلام ويقولون ما لا يفعلون، تناقض عجيب في الأقوال والأفعال!! مكذبون، مكذبون، مكذبون!!، مكذبون بعقاب الله، ويمعنون في تكذيب المُنذِرين، ويصرون على تزييف الحقائق. ولقد ضرب الله لنا مثلاً بهذا الصنف من البشر، ذلك الصنف من البشر الذي لا يفلح معه كثرة التحذيرات ولا كثرة النصح والإنذارات، تماماً كما كان يفعل أصحاب القرية (في سورة يس) مع المرسَلين، تدبر قوله تعالى عن أصحاب القرية في سورة يس: )وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ( (يس: الآيات 13 – 15).

إنهم لا يكتفون بتكذيب المُنذِرين، بل تتصاعد مشاعر حقدهم وكراهيتهم إلى حد السخرية منهم والاستهزاء، وإلى حد الإيذاء البدني والتهديد بالرجم أو القتل في بعض الأحيان، كما كان يفعل بنو إسرائيل مع الأنبياء من قبل بغير حق!.

2. استهزاء المُكذِبين بالمُنذِرين

إن أمر المكذبين عجيب!!، فمن ينصحونهم وينذرونهم لا يسلمون من سخريتهِم واستهزائِهم، أما الذين يساندونهم في ظلمهم وطغيانهم فهم أصدقاؤهم !!، والزمن يعيد نفسه فتلك سُنةُ الظالمين في كل عصر، فما كان يحدث من أهل القرى الظالمة في الماضي، نجده يحدث الآن على أرض الواقع، ولو عدنا إلى الماضي فسنرى كيف كان المكذبون يستهزِئون بالمُنذِرين، وكيف كانوا يهددونهم بالرجم والقتل؟!.

3. أمثلة لبعض المكذبين في الماضي

أ. تكذيبهم محمداً e

لم يسلم محمد e من التكذيب والاستهزاء والسخرية، قالوا عنه (شاعر، وكاهن، وساحر، ومجنون)، هكذا لم يسلم محمد e من الأذى المعنوي، وكان الله I يسرى عنه ويعزيه في تكذيب قومه له، ويُذَكِره بأن الرسل الذين سبقوه لم يسلم أحدُ منهم من الأذى المعنوي والمادي في صوره المتعددة (تكذيب ـ وسخرية ـ واستهزاء ـ محاولة القتل... الخ)، قال تعالى: )قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ( (الأنعام: الآيتان 33 و34).

: ولقد كان ما بذلت قريش من مجهود في محاربة هذا الخارج عليها، وعلى دينها ودين آبائها، وما ثابرت وصابرت السنين الطوال للقضاء على هذه الدعوة الجديدة، يعدو ما يتصوره العقل، هددت محمداً e وهددت أهله وأعمامه، تهكمت به وبدعوته، وسخرت منه وممن اتبعه، أرسلت شعراءها تهجوه وتفري أديمه، نالته بالأذى ونالت من اتبعه بالسوء والعذاب، عرضت عليه الرشوة، وعرضت عليه الملك، وعرضت عليه كل ما يطمع الناس فيه، شردت أنصاره عن أوطانهم، وأصابتهم في تجارتهم وفى أرزاقهم، أنذرته وأنذرتهم بالحرب وأهوالها وما تجني وما تدمر، وها هي ذي تحاصرهم أخيرا ً لتميتهم جوعا ًإن استطاعت لذلك سبيلاً.

ب. تكذيبهم نوحاًu

إن تكذيب قوم نوح لرسولهم يحتاج إلى وقفة، فهناك العديد من الأسرار!!. إن تكرار العبارة القرآنية )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ( في العديد من آيات القرآن الكريم، أو في جزء منها تضع أمامنا كثيراً من التساؤلات:

(1) هل يعد قوم نوح هم مقياس أو دليل للرجوع إليهم عند البحث في كيفية تكذيب المُنذرين؟.

(2) ما ذلك النوع من البشر الذين يلبث فيهم رسول ألف سنة إلا خمسين عاماً ينذرهم، فلا يؤمن له إلا من قد آمن من قبل بمئات السنين، رغم طول فترة بقائه معهم.

(3) هل قوم نوح u هم ذلك النوع من البشر، الذي لا يفلح معه كثرة الإنذارات ولا طول زمن الدعوة؟.

لقد ظل نوح u يدعو قومه ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعاؤه إلا فِراراً، ثم إنه دعاهم جهاراً!!، ثم إنه أعلن لهم وأسر لهم إسراراً، ومع كل تلك الأساليب التي استخدمها معهم، أصروا على كفرهم وعنادهم واستكبروا استكباراً، إنهم حقاً مكذبون محترفون، إذا جاز التعبير، يضرب بهم المثل في قمة تكذيب الظالمين للمُنْذِرين على مر العصور.

إن ما فعله قوم نوح مع نوح u هو نموذج للمكذبين حقاً، لقد أخذوا كل مراحل التكذيب التى يمكن أن تحدث لرسول منذر، فقد بدءوا بالسخرية منه والتهكم عليه!، ثم تصاعد تكذيبهم ليصل إلى مرحلة الاتهام بالضلال والجنون!!، ثم تصاعد تكذيبهم ليصل إلى مرحلة الزجر والنهر!!!، ثم إلى مرحلة التهديد بالقتل أو الرجم!!، فكانت مراحل التكذيب تتصاعد الواحدة بعد الأخرى، وكل الأمم التى جاءت بعد نوح u يضرب الله لهم المثل بهم، من خلال تلك العبارة القرآنية التى تتكرر في القرآن الكريم وهي: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(، وهي عبارة قرآنية تلفت الأنظار إلى ذلك النوع الخطر من المكذبين، الممعنين في التكذيب، والمصرين عليه.

الآيات التالية تشير إلى عظم تكذيب قوم نوح لرسولهم، والتي تتكرر فيها العبارة القرآنية المشار إليها )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(، لتبين أن قوم نوح u هم الذين سبقوا العالم كله في مضمار التكذيب هذا عن غيرهم، كأنهم هم قدوة للمكذبين ومثلهم في الماضي والحاضر، تدبر قوله تعالى:

·       )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ( (ص: الآية 12).

·      )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ( (غافر: من الآية 5).

·      )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ( (ق: الآيات 12 – 14).

·      )وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( (الحج: الآيات 42 – 44).

ويبين لنا القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للشك، المراحل القاسية من التكذيب التى مر بها نوح u في مواجهة قومه، وما لاقاه من تكذيب متصاعد خلال الفترة الزمنية الكبيرة، التى مكث فيها معهم (ألف سنة إلا خمسين عاماً)، حتى بلغ التكذيب مداه.

مراحل التكذيب التي مر بها نوح u

(1) مرحلة السخرية

تجلت تلك المرحلة حين بدء نوح u في صُنع الفلك، هذا الفلك الذي هو وسيلة النجاة لنوح u والذين آمنوا معه، والذى استغرق زمناً طويلاً في صنعه، إلا أن ذلك كان مدعاة لسخرية قومه منه، فكيف يصنع فلكاً في الصحراء في مكان بعيداً عن الماء ولماذا؟!، لم يكن تعجب!! بل كان سخرية منهم، فكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، كانوا يسخرون منه ويضحكون، قال تعالى: )وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ( (هود: من الآية 38)، كان نوح u يستمع إلى سخريتهم ويعلق على تلك السخرية بقوله: )إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ( (هود: من الآية 38).

(2) مرحلة التهكم والاستفزاز

انتقلوا من مرحلة السخرية إلى مرحلة التهكم والاستفزاز، تدبر مدى تهكمهم واستفزازهم لنوح u في قوله تعالى: )فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ( (هود: الآية 27)، والرذل هو النذل، قالوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا، قال النحاس الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات، وفي الحديث أنهم كانوا حاكة وحجامين.

كان هذا جهلاً منهم لأنهم عابوا نبي الله نوح u بما لا عيب فيه، لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعاً، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان، لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، الأرذلون هم الحاكة والحجامون.

(3) مرحلة الجدال

لم يكتفوا بالسخرية والتهكم والاستفزاز، بل تصاعد تكذيبهم لنوح u إلى مرحلة الجدال، كما توضح لنا الآية التالية من سورة هود، والتى يعبر عنها القرآن الكريم بعبارة ]قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا[، والتى يبدو منها أنهم قد وصلوا في جداله إلى حد بعيد، فكان كلما جاءهم نوح u بالحق جادلوه بالباطل وهكذا، تدبر قوله تعالى: )قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( (هود: الآية 32).

(4) مرحلة الاتهام بالضلال

استمر قوم نوح u في تصعيد تكذيبهم ليصلوا به إلى مرحلة توجيه الإتهام إليه بالضلال، مع أنهم هم الضالون، لكن المكذبين هكذا يكونون، يقلبون الأمور ويعكسون الحقائق!!، قال تعالى مصوراً لنا قولهم المنكر: )قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( (الأعراف: الآية 60).

(5) مرحلة الزجر والاتهام بالجنون

إن الاتهام بالضلال لا شك أنه أقل حدة من الاتهام بالجنون، ويتضح لنا من الآية التالية حدة التعامل مع الرسول المُنذر، حيث تتصاعد أعمال التكذيب ودرجات الاتهام، لقد تحمل نوح u الكثير من قومه طوال تلك الفترة الزمنية التى تقدر بمئات السنين، لم يكتفوا بتوجيه اتهامهم الباطل له بالجنون، بل زجروه ونهروه أيضاً!!، فما أصبرك يا نوح على قومك، قال تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ( (القمر: الآية 9).

(6) مرحلة التهديد بالرجم

هكذا بلغ التكذيب مداه، ووصل إلى ذروته!!، فلم يبق بعد التهديد سوى التنفيذ، لقد تصاعد تكذيبهم خطوة بعد خطوة، ودرجة بعد درجة، حتى بلغ مداه ووصل الأمر إلى تهديده بالرجم، قال تعالى: )قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ( (الشعراء: الآية 116)، إن التهديد بالرجم أو القتل هو أعلى درجات التكذيب، فلا يبقى بعدها سوى البطش والتنكيل بالمُنذِرين وسفك دمائهم، أي الانتقال من مرحلة التكذيب المعنوي، إلى مرحلة التكذيب المادي الذى يصل إلى حد القتل، وهذا الأسلوب مستمر منذ عصر نوح u وحتى الآن، فلا يسلم منذر من بطش قومه، ومن تصعيد مراحل التكذيب كما صورناه في مراحل تكذيب قوم نوح لرسولهم u.

ما سر المقارنة الدائمة بقوم نوح u في تكذيبهم؟!، وما سر تكرار تلك العبارة القرآنية في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(!!، قد يكون الأمر هو مبالغتهم في تكذيب رسولهم، لكن كلما تذكرنا ما فعله قوم نوح أساتذة التكذيب وعتاته مع رسولهم u، قَلَّ ضيق صدر المنذرين من تكذيب المكذبين، لأنهم حين يسترجعون ما لاقاه نوح u من قومه في الماضي، يهون من دونه كل المكذبين في الماضي والحاضر، وهذا الأسلوب الوارد في القرآن الكريم عن تكذيب قوم نوح لرسولهم، يجعل منهم نموذجاً للمكذبين في كل عصر، فقد بين القرآن الكريم كيف كان تكذيبهم دائماً ومتصاعداً، قولاً وفعلاً بما ليس لها مثيل، والمعروف بداهة أن المكذبين يفرحون كثيراً حين ييأس المنذرون منهم ومن إيمانهم، فهذا هو أملهم وحلمهم ومناهم!!، لذلك تراهم دائماً يضعون العقبات أمامهم، ويجعلون أصابعهم في أذانهم حتى لا يسمعوا دعواتهم.

لقد كذب بنو إسرائيل رُسُلهُم في الماضى، حتى إنهم كانوا يقتلونهم غيظاً وحقداً، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، هكذا اليهود، مكذبون وقتله، قال تعالى عنهم: )لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ( (المائدة: الآية 70).

لقد أخبرنا القرآن الكريم عن نفسية أولئِك المسرفين في التكذيب، الذين لا يفلح معهم نصح ولا كثرة المُنْذِرين، ولو رجعنا إلى قوم يس، لوجدنا أن الله I قد أرسل إليهم رسولين فلم يفلحا معهم!، فعززهم الله برسول ثالث فلم ينجح هو الآخر معهم!، فقوم يس هم من ذلك النوع المكذب من البشر، الذين لا يفلح معهم كثرة المنذرين، لقد هددوا الرسل الثلاثة بالرجم، قال تعالى على لسان أصحاب القرية وهم يكذبون المرسلين: )إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (يس: من الآية 18)، لقد هددوا الرسل بالرجم، تماماً كما هدد قوم نوح رسولهم u بالرجم من قبلهم.

ج. تكذيبهم هوداً u

كذبت قوم عاد هوداً u، ولم يسلم من سخريتهم واستهزائهم به قالوا: )إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ( (هود: من الآية 54)، وقالوا: )إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (الأعراف: من الآية 66)، وقالوا: )يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( (هود: من الآية 53). هكذا كذبوا هوداً u كما كُذِب نوح u من قبل.

د. تكذيبهم صالحا ً u

لم يسلم صالح u من سخرية قومه (ثمود) أيضاً، ولم يسلم من استهزائهم، قالوا : )يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا( (هود: من الآية 62)، أي أنك كنت محط رجائنا فيك من قبل، فكيف أصبحت هكذا ؟، وأضافوا: )وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( (هود: من الآية 62)، هكذا يفعل المُكذِبون!!، كلامهم غير منطقى، وغير مقنع، وأمرهم غريب وعجيب !!، هكذا كذبوا صالحا ًu كما كُذِب نوح u من قبل.

هـ. تكذيبهم لوطاً u

كذبت قوم لوط نبيهم لوطاً u، وكانت سخريتهم من نوع مختلف، فهي سخرية الفاجر المتبجح، إذا جاز التعبير، يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ومع ذلك يريدون أن يُخرِجوا آل لوط u من قريتهم، لأنهم أُناس يتطهرون، ولأن لوطا u يأمرهم بالطهارة من تلك الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين، قال تعالى على لسان قوم لوط: )قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ( (الأعراف: من الآية 82).

تكذيب معكوس فهم يعلمون أن نبيهم يأمرهم بترك تلك الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، ومع ذلك يريدون إخراجه وأهله من قريتهم لأنهم أُناس يتطهرون!!، أسلوب تكذيب غاية في الفجور والتبجح، فلا حياء عندهم ولا استحياء. وعندما يعرض عليهم ما هو أطهر لهم في بناته بقوله: )يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ( (هود: من الآية 78)، أي إن زواجكم بهن أطهر لكم إن كنتم فاعلين، وبالطبع هو أطهر مما يفعله الرجال بالرجال، فمعاشرة الرجال للنساء بالزواج هو الأمر الطبيعي، الذي فطر الله الناس عليه، حتى ذكور البهائم لا تأتي إلا الإناث، ولا يوجد حتى في الكائنات الأخرى، حيوانات أو طيور أو حشرات، ذكوراً تجامع ذكور، كما كان يفعل قوم لوط، لذلك كان ردهم الفاجر المتبجح على نصحه لهم: )لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ( (هود: من الآية 79).

سخرية فاجرة ليس فيها حياء ولا استحياء، وهو قول كان يجب أن يخجلوا منه وهم ذكور!!، ولك أن تتخيل كم عانى لوط u من تكذيب قومه الشواذ الفجرة المتبجحون؟. هكذا كذبوا لوطاً u كما كُذِب نوح u من قبل

و. تكذيبهم شعيباً u

لم يسلم شعيب u مما لم يسلم منه جميع الرسل والأنبياء من قبل، قال الملأ الذين كفروا من قومه: )لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ( (الأعراف: من الآية 90)، وقالوا: )يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( (هود: من الآية 87)، هكذا تهكم وسخرية واستهزاء، ثم تهديد بالطرد، حيث قال الملأ الذين استكبروا من قومه: )لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ( (الأعراف: من الآية 88).

ثم يتصاعد تكذيبهم إلى حد التهديد بالرجم قالوا: )يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ( (هود: الآية 91). لقد قيل إن شعيباً u كان ضعيف البصر وقيل إنه كان ضريراً، ولولا رهطه أي (عشيرته) التى كان يستند إليها ويتقوى بها، لرجموه بالحجارة، هكذا كذبوا شعيباً u كما كُذِب نوح u من قبل، وكذلك لم يسلم رسول ولا نبي من أذى المكذبين (تكذيب ـ سخرية ـ استهزاء ـ وتهديد ووعيد).

إن سيناريو عقاب المكذبين إذا جاز التعبير والذى يصوره لنا القرآن الكريم، له أسلوب لا يتبدل ولا يتغير على مر العصور، فتلك سُنة الله مع المكذبين، حيث يرسل الله I المٌنذِرين إلى أهل القرى الظالمة لينذروهم من عقابه، فإن استجابوا عفا الله عنهم وغفر لهم وكشف عنهم عذابه، فإن الله لا يريد عذاباً لأحد كما ذكرنا من قبل، فما يفعل الله بعذاب الناس إن آمنوا به وشكروه على نعمه؟!.

إن موقف المكذبين المستكبرين الذين لا يستجيبون لدعوة المُنذِرين ويصرون على التكذيب، يحق عليهم غضب الله وعقابه كما حق على الذين من قبلهم (قوم نوح، عاد، فرعون ذي الأوتاد، ثمود، قوم لوط، أصحاب الأيكة). قال تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ( (ص: الآيات 12 – 14)، فتلك هي العلة!!.. يحق عقاب الله على أهل القرى عندما يظلمون ويُكَذِبون الرسل.

فحينما كُذِب نوح u   حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب هود u   حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب صالح u   حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب لوط u   حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب شعيب u   حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب موسى u   حق على قومه عقاب الله.

وهكذا يحق عقاب الله على المكذبين في كل مكان وزمان!!، فسنة الله لا تتبدل ولا تتغير باختلاف المكان والزمان.

4. عقاب الله للمكذبين يكون إما بالإهلاك او بالتعذيب أو بالاثنين معاً

أ. الإهلاك، لقوله تعالى: )فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ( (المؤمنون: الآية 48).

ب. العذاب، لقوله تعالى: )وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ( (النحل: الآية 113).

وقد بينا أن الإهلاك ليس هو التعذيب، فالإهلاك شيء، والتعذيب شيء آخر، لقوله تعالى: )وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( (الأعراف: الآية 164)، وقد يسبق الإهلاك شيء من التعذيب، كما حدث لقوم فرعون حين أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ليذوقوا العذاب قبل إهلاكهم لعلهم يرجعون، وحين استمروا في كبرهم وعنادهم، أهلكهم الله في نهاية الأمر.

5. ماذا يحدث للمكذبين حين يستيئس منهم الرسل؟

قال تعالى: )حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( (يوسف: الآية 110)، فعندما يصل المُنذِرون مع المكذبين إلى مرحلة لا عودة بعدها، وبعد تأكد المُنذِرين من تكذيب قومهم لهم، وبعد يأسهم من إيمانهم، هنالك ينصر الله رسله والذين أمنوا معهم وينجيهم، وهنالك أيضا يذيق الله المجرمين بأسه وعقابه، ومثال ذلك ما حدث مع نوح u وقومه، فحين يئس نوح u من إيمانهم، وعلم أن لافائدة منهم ولا رجاء فيهم، وأوحى الله إليه بأنه لن يؤمن له من قومه إلا من قد آمن من قبل، هنا تأكد نوح u من إصرار قومه على تكذيبه، ويئس من إيمان المزيد منهم، ولاحت له بوادر عقاب الله لهم، وعلامات النجاة والنصر وعليهم، واقتراب موعد إهلاكهم، كأنه يراهم وهم يصارعون الغرق أمام عينيه!! لتتجلى تلك الحقائق أمامه بعد حين.

6. التعامل مع المكذبين يحتاج إلى سياسة وفصاحة وقدرة على الإقناع

إن التعامل مع المكذبين يحتاج إلى فصاحة اللسان، وشيء من السياسة والحكمة والقدرة على التعبير والإقناع، ويوضح لنا القرآن الكريم في قصة موسى u وفرعون هذا الأمر، فقد أمر الله موسى u بالذهاب إلى فرعون عندما طغى في الأرض وتكبر، وخشى موسى u من تكذيب فرعون وقومه له فلا ينطلق لسانه ليفصح عما يريد، فطلب من الله عز وجل أن يَحُل عقدة لسانه أولاً كي يفقهوا قوله، وأن يرسل معه أخاه هارون الذي يمتاز بفصاحة اللسان، كي يشدد به أزره ويعاونه ويعضده في مهمته، فاستجاب الله لدعائه.

والمُكذِبون عادة لا يؤثر فيهم إلا فصيح اللسان، القادر على مواجهة مكرهم بالحجة والبيان، فحين خاف موسى u من تكذيب فرعون وقومه له، وهو يعلم حقيقة مابه من رتة (لثغة في لسانه)، وأنهم لن يفقهوا كل ما يريد أن يقوله لهم، طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون u، ليس ليتولى المهمة بدلاً منه بالطبع!، إنما كان طلبه من الله عز وجل واضحاً ومحدداً، إنه يريد هارون u معه لكى يكون له عوناً، في إقناع فرعون بما أرسل به من عند الله، وأيضاً لتصديقه حينما يكذبه فرعون وقومه.

استجاب الله لموسى u ودعمه بأخيه هارون u، الذى يتسم بفصاحة اللسان، لقول موسى u: )وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي( (القصص: من الآية 34)، فموسى u يعلم فصاحة أخيه هارون u، من أجل ذلك طلب من الله أن يرسله معه، فلم يتول هارون u المهمة بدلاً من موسى u لفصاحته وقدرته على الإقناع، حاشا لله أن يحدث ذلك!!، فموسى u كليم الله ولكلٍ مقامه عند الله، إنما أرسل هارون u معه ليعضده في مهمته الصعبة، فهم ذاهبون إلى جبار من الجبابرة، كافر بالله ومستخِف بقومه، والمهمة صعبة، تحتاج إلى سياسة وفصاحة وقدرة على الإقناع.

يمكن القول بأن ما يفعله وزراء الخارجية في الدول الإسلامية هو شيء من هذا القبيل، ويشبه ما كان يقوم به هارون u مع موسى u في مهمة إقناع المكذبين مثل فرعون وقومه، فوزراء الخارجية يذهبون إلى بعض الدول، وهم يتميزون بالدبلوماسية والسياسة وفصاحة اللسان، وعندهم القدرة على الإقناع، فهم خير من يمثل دولهم لإقناع الآخرين بمهامهم، التى يكلفون بها من رؤساء بلدانهم، وهي تحتاج بالطبع لفصاحة اللسان والقدرة على التعبير والكلام، واستخدام أساليب الإقناع المشروعة مع الآخرين، فهم يعضدون بذلك رؤساء بلدانهم في تلك المهام ويمثلونهم، وكل ما يستخدمونه من فصاحة وقدرة على الإقناع إنما هي لإنجاح المهام، وليس ليحلوا مكان رؤسائهم بالطبع!!.

إن سمة الرسل هي الصبر على تكذيب وإيذاء المكذبين لهم، وهذا ما كان يسري به الله على محمدٍ e قال تعالى: )وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ( (الأنعام: الآية 34).

7. التدبر والنظر في عاقبة المكذبين (البحث عن الكيفية)

إن تكذيب المُنذِرين موضوع مهم للغاية، فإن الله لم يعاقب قرية من القرى بالتعذيب أو بالإهلاك، إلا لأنهم كذبوا ولم يبالوا بما جاءت به النذر، فإذا تحقق التكذيب حق عليهم العقاب وهذا مكمن الخطر، فإن تكذيب المُنذِرين، هو بداية مرحلة معاناة للرسل، يعقبها غضب من الله وإحقاق عقابه عليهم بالتعذيب أو بالإهلاك كما وعد، ولقد خلت أمم كثيرة كذبوا الرسل والأنبياء من قبل فأهلكهم الله جميعاً.

انتهي عصر الأنبياء والمرسلين، لم يبق لنا سوى سُنة الرسول الكريم e، وكتاب الله (القرآن الكريم) الذي قص الله علينا فيه من سير الأولين، وبين لنا عاقبة المكذبين، وأمرنا بالرجوع إلى القصص التى جاءت عن أهل القرى الظالمة، لننظر كيف يفعلون مع الرسل، وكيف كانت عاقبتهم، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11).

تدبر كيف يحث الله الناس على الانتباه!!، إلى (الكيفية) التي عاقب الله بها المكذبين، يقول I: )اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: من الآية 11)، تلك العبارة القرآنية )كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين( تتكرر في أكثر من آية للفت الأنظار إلى هذا الأمر، قال تعالى: )قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَاُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (آل عمران: الآية 137).

يريد الله لنا التدبر ليس في فكرة إهلاك المكذبين، بل في (كيفية) عقابهم وعاقبتهم وكيف كانت عاقبتهم، ويلاحظ أن القرآن الكريم قد بين فرقاً جوهرياً بين كلمة )فَاُنظروا(، وكلمة )ثُمَّ اُنظروا(، والواردة في الآية 137 من سورة آل عمران، والآية 11 من سورة الأنعام على الترتيب، (اُنظر شكل الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا).

إن هناك آيات تدفعنا للنظر والبحث الفوري عن عاقبة المكذبين، في فعل الأمر (فاُنظروا) التي تفيد التعقيب، أي النظر الفوري في عاقبة المكذبين فور حدوث العقاب!، وهذا ينطبق على كل عقاب أوقعه الله على المكذبين في العصر الحاضر، والذي يحتاج النظر الفوري والتدبر في أمرهم ليكونوا عبرة وعظة لأمثالهم في الحاضر.

إن فعل الأمر )ثُمَّ اُنظروا( يفيد التراخي، ويحتاج أمرهم إلى بحث وتدقيق وإلى وقت للتحليل، وهذا ينطبق على القرى التي أهلكها الله في الماضي، مثل عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح وغيرهم لمعرفة (كيف كان عاقبة المكذبين في عصرهم)، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهد ووقت للبحث والتنقيب.

تلك القاعدة تجعلنا نفكر في عاقبة المكذبين في الماضي وما لحق بهم من هلاك ودمار، وعاقبة المكذبين في الحاضر وما يلحق بهم من هلاك ودمار، فتلك القاعدة لا تقتصر على المكذبين السابقين وحدهم، بل تنطبق على المكذبين في كل عصر، والنظر في أمر المكذبين وعاقبتهم إنما هو ذكرى وإنذار للمكذبين في كل عصر، ليعلموا أنهم لن يفلتوا من عقاب الله المنتقم الجبار.