إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها




نتائج الزلازل التدميرية
نتائج السيول التدميرية
مرض الإيدز
تأثير الفيضانات المدمرة
تسونامي مدمر
عاصفة الهيريكين المدارية
عاصفة التورنيدو الرعدية

الطير الأبابيل
الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا
اسلوب إهلاك أصحاب الفيل
حجارة من سجيل




مقدمة

المبحث التاسع

إحقاق العقاب الإلهي وتحديد موعده (المرحلة الثانية)

قال تعالى: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( (الإسراء: الآية 16)، وكلمة )فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ( تعني حق عليها العذاب، أو حق عليهم القول بالعذاب الذي لا مرد له, فاستأصلناهم بالهلاك التام. وفي قوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ( (ص: الآيات 12 - 14)، وكلمة )فَحَقَّ عِقَابِ( بمعنى وجب عليهم العقاب (بالتعذيب أو بالإهلاك)، وتتحدث الآيات السابقة من سورة ص، عن القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات، وذلك نتيجة مخالفتهم الرسل وتكذيبهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبرغم أنهم كانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، إلا أن ذلك لم يدفع عنهم من عذاب الله من شيء حين حق عليهم عقابه، ولهذا قال U )إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ(، فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم لرسلهم.

سبق وأن ذكرنا أن إهلاك القرى الظالمة أو تعذيبها لا يأتي عشوائياً، بل إن وراء ذلك الإهلاك أو التعذيب جنود تأتي من عند الله لتنفذه، فإذا حق عقاب الله على الظالمين، فإنه I يحدد وقته وموعده، وتنفيذ العقاب يكون إما بالتعذيب أو بالإهلاك، وتوقيتاته محددة بدقة بالغة للغاية، تنفذ الملائكة خلال تلك التوقيتات إجراءات كثيرة ومتشابكة ومعقدة!!، ليس ذلك فحسب، بل إن الله I يحدد أسلوب الإهلاك ووسائل تنفيذه وأدواته أيضا للملائكة المنفذين، كما أن الله يمهل المكذبين حتى يحق عليهم عقابه ولا يعجل عليهم به، وحين يحدد الله موعد العقاب، فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، هذا الموعد وهذا التوقيت المحدد يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، أو يأتيهم جهرة وهم ينظرون، يأتيهم وهم في غمرتهم ساهون، يأتيهم وهم يتصرفون في شؤونهم على الطبيعة كأنهم خالدون.

إن إحقاق العقاب وتحديد موعده، يحدث دون علم من حق عليهم العقاب، فهم قد كذبوا المُنذرِين من قبل ولم يحدث لهم شيئ!!، تجبروا في الأرض ومع هذا لم يعاقبوا!!، فلم يخطر ببالهم أن عقاب الله قدم إليهم، وهم لا يتوقعونه ولايصدقونه!، ولو أخذنا مثلاً بإسرائيل الآن، نجد أنها تتجبر في أرض فلسطين منذ عام 1948، ولا تعلم أن قد حق عليها عقاب الله وحدد موعده وهم لا يشعرون، فهم لا يدرون عن ذلك شيئاً ولا يصدقون به، ولو كانوا يصدقون بعقاب الله لهم ما كانوا ليفعلوا ما يفعلونه الآن، وإن تأخير عقابهم حتى الآن إنما هو استدراج لهم من ربهم، ليملي لهم!!، حتى إذا جاء موعدهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

أولاً: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد دون عقاب

قال تعالى: )لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ( (آل عمران: الآية 196)، يقول الله تعالى لا تنظر إلى هؤلاء الكفار وما هم مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، والمعنى لا يغرنك يا محمد تقلب الذين كفروا في البلاد، وتصرفهم في الأرض وضربهم فيها، وقد نهى الله I نبيه e عن الاغترار بضرب هؤلاء في البلاد، وبين له أنه يمهلهم رغم شركهم وجحودهم لنعمه وعبادتهم غيره، وقد خرج الخطاب بذلك للنبي e، إلا أن المَعْنِي به غيره من أتباعه وأصحابه، وقيل الخطاب للنبي e والمراد به الأمة، وقيل الخطاب للجميع، وذلك أن المسلمين قالوا هؤلاء الكفار لهم تجارة وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع فنزلت هذه الآية.

المعنى: لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم رغم ما يفعلونه من ظلم، فالعقاب آتيهم لا محالة، فهي مسألة وقت ليس ألا، فلا يغرنك تقلبهم في البلاد، فعقاب الله للمكذبين واقع لا محالة، وعلى المنذرين أن يصبروا على تكذيبهم وسخريتهم وتهديداتهم، فالمسألة مسألة وقت لا أكثر، قال تعالى: )وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( (المزمل: الآيتان 10 و11).

إن الله يمهلهم حتى وقت عقابهم الذي حدده لهم، وهو توقيت دقيق محسوب باليوم والساعة والثانية وأقل من ذلك وأدق!!، فوقت إهلاك الظالمين هو نفسه يوم عيد النجاة للمظلومين!!، وهو نفسه يوم الكارثة للمكذبين، فالله يستدرجهم من حيث لا يعلمون، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر يوم إهلاكهم أو تعذيبهم، قال تعالى: )فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( (القلم: الآيتان 44 و45).

ثانياً: الملائكة تعرف من الله موعد الهلاك ووقته

بعد أن يحق عقاب الله على الظالمين، وبعد أن يحدد الله موعد ووقت العقاب، فإن الله I يخبر ملائكته المنفذين بموعد ووقت العقاب، قد يكون توقيت العقاب بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون!، وأياً كان توقيت الإهلاك فهم على علم به من الله، فالوقت محدد للملائكة بدقة بالغة قبل ساعة التنفيذ (ساعة الصفر)، دقة يعجز عن تصورها الإنسان، دقة لا تدخل في قواميس الانضباط التى يعرفها الإنسان، لقد كانت الملائكة تعلم بموعد إهلاك قوم لوط ووقته بكل دقة، وقد حدد الله له وقت (الصبح)، كما أنهم أخبروا لوطاً u بهذا التوقيت قبل حدوثه: )إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( ( هود: من الآية 81).

والملائكة تنفذ عقاب الله في موعده فهم يفعلون ما يؤمرون به من ربهم، بأعلى درجات الدقة والانضباط، إنها أوامر من رب العالمين، أوامر من القوى العزيز، أوامر لا تقبل التردد أو العصيان، وحساب الوقت عند الملائكة بالغ الدقة والتعقيد، لا تقديم فيها ولا تأخير، تذهب الملائكة وتحضر في مكان الحدث قبل الحدث، وتعد ترتيباتها قبل (ساعة الصفر)، أى قبل ساعة تنفيذ عقاب الله على الظالمين، والظالمون في غفلتهم لا يدرون شيئاً عما يُدَبر لهم وما يشعرون!!، فبعد ساعات ستمطر الملائكة قوم لوط بمطر السوء (حجارة من سجيل منضود) ، فيلقون مصارعهم مرجومين وهم ينظرون ويستغيثون،

هناك حقائق مهمة

1. أن الملائكة تعلم تفصيلاً موعد إهلاك قرية لوط.

2. أن الملائكة قد تخبر الرسل بتفاصيل إهلاك القرى الظالمة وموعده بإذن من الله، فقد أخبروا إبراهيم u من قبل بأنهم سيذهبون إلى قرية لوط لتدميرها، ثم أخبروا لوطاً u بعدها حين دخلوا قريته بمعلومات أكثر تفصيلاً، أخبروا إبراهيم u بكيفية إهلاك قرية لوط، وأخبروا لوطاً u بوقت إهلاك القرية.

3. أن الملائكة تعلم تفصيلا أسلوب نجاة المؤمنين قبل إهلاك القرى الظالمة (قاعدة ثابتة)، فالملائكة لا تترك المؤمنين يُهلكون مع الهالكين لأن الله أمرهم بنجاتهم، كل شيء محسوب فلا عشوائية في إهلاك الظالمين، ولا عشوائية في نجاة المؤمنين، فكل شيء عند الله بحسابات دقيقة ومعقدة ومتشابكة، حسابات بالغة الدقة وفوق مستوى تفكير البشر، حسابات وترتيبات وتدابير، يدبرها الله من فوق سبع سماوات، وما على الملائكته إلا السمع والطاعة والتنفيذ، ينفذون كل شىء بحسابات دقيقة ومتشابكة ومتشعبة بين (الهالكين والناجين).

4. يتحركون في اتجاهات متعددة بنظام محكم وتوقيتات محددة بالتتالي وعلى التوازي، فلا احتمالات عندهم لخطأ في التنفيذ ولا غفلة عندهم ولا غفوة!!، فلا احتمالات أن تترك الملائكة أحداً من المؤمنين ليهلك مع الهالكين، ولا احتمالات أن يهرب أحد من الذين كُتِب عليهم الهلاك لينجو مع الناجين، فما أراده الله أن يحدث لا بد أن يحدث، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!.

ثالثاً: تعليمات الملائكة للناجين محددة وواضحة ومفصلة

لم يترك الملائكة للناجين أي استنتاجات أو استفسارات، فقد حددوا للوط u كل شيء، وفى نفس الوقت حجبوا عن الهالكين كل شيء!!، أحاطوا الأحداث المقبلة بالسرية والكتمان، وأخفوها عن الهالكين، بينما كانت هناك تعليمات محددة وأوامر صارمة واضحة ومفصلة للناجين. إنه هجوم مدبر ومفصل ومباغت في نفس الوقت، هجوم لا يحتمل من الملائكة أى خطأ في تنفيذه أو تهاون.

تدبر تلك التعليمات الواضحة التى حددتها الملائكة للوط u: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

هكذا صدرت تعليمات محددة وتفصيلية من الملائكة إلى لوط u، أمروه بأن يصطحب أهله، وأن يسرى بهم ليلاً خارج القرية، وألا يلتفت منهم أحد عند سماعهم أصوات مروعة خلفهم، كما أخبروه أيضا بهلاك إمرأته قبل إهلاكها في الصباح مع قومها، لا تتعجب ولا تتعجل!!، فبعد ساعات قليلة تنكشف الأستار، وتتجلى (ساعة الصفر) للجميع، ويرى قوم لوط الموت في كل مكان، وتخرب ديارهم ويحل الدمار بقريتهم!!، بعد قليل ترفع الملائكة القرية إلى أعلى ثم تهوى بها إلى أسفل، ويمطرون أهلها بحجارة من سجيل منضود.

رابعاً: موعدهم في كتاب مسطور

الله هو الخالق البارئ المصور لكل خلقه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل شيء عند الله بمقدار وحسابات، ليس كما يظن البعض بأنها أمور تسير وحدها هكذا!!، فحقيقة الأمر أن هناك حسابات دقيقة ومعقدة يعجز الوصف عن ذكرها، قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (آل عمران: من الآية 120)، وقال تعالى: )وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (الأنفال: من الآية 47)، وقال شعيب لقومه: )إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (هود: من الآية 92)، وقال تعالى: )أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ( (فصلت: الآية 54).

الآيات السابقة تبين وتوضح أن الله بكل شيء محيط، فبدء الخلق عنده ونهاية الخلق عنده، وكل شيء عنده بمقدار وهو العليم الخبير، وما نراه بعيداً يراه I قريباً، وإن يوماً عنده كألف سنة مما يعده البشر، وكل شيء مسطور عنده في كتاب، وعند الله كل أسرار الخلق، وكل أوقات الخلق وكل أعمال الخلق، عالم الغيب وحده لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى I من عباده، والله I يخبرنا في القرآن الكريم بتلك الحقائق، حيث حكم وقضى بما كتب عنده في اللوح المحفوظ، بأن ما من قرية من القرى سيتم إهلاكها أو تعذبيها إلا في كتاب مسطور، قال تعالى: )وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا( (الإسراء: الآية 58).

إن توقيت إهلاك القرى أو تعذيبها ليس عشوائياً كما يظن الدهريون، بل إن إهلاك القرى مكتوب في كتاب مسطور، سبق الله بعلمه الواسع أفعال هؤلاء البشر، ويعلم متى سيفسدون في الأرض وكيف يفسدون، ومتى يتجبرون فيها ويسفكون الدماء ويهلكون الحرث والنسل، وبعلمه المسبق الواسع يعلم أنهم سيكذِبون المُنذِرين، ويعلم في أي قرن من الزمان سيصلون إلى ذروتهم في التكذيب، ويعلم متى يحق عليهم عقابه، ومتى يرسل عليهم ملائكته لتنفيذ عقابه، كل تلك الأمور مسجلة عند الله في كتاب مسطور.

كتاب مسطور، محدد فيه موعد إهلاك كل ظالم على وجه الأرض، ومحدد فيه وقت العقاب، ومحدد فيه متى يتم إخراج المؤمنين من تلك القرى قبل إهلاكها وكيف؟، ومحدد فيه الأسلوب والوسيلة والأداة التى سيتم بها تنفيذ عقابه عليهم، كل شيء مسجل عند الله I، وكل قرية ظالمة لها (كتاب معلوم)، محدد فيه وقت إهلاكها، فلا شيء يحدث عشوائياً في هذا الكون، كما يتصور الدهريون، قال تعالى: )وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ( (الحجر: الآية 4)، فكل شيء مسجل عند الله في كتاب معلوم قبل أن يخرج إلى أصحابه، وما يؤكد تلك الحقائق، قوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( (الحديد: الآية 22).

يخبر الله I عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ(، أي في الآفاق وفي نفوسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم من قبل أن نبرأها عائد على النفوس، وقيل عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها.

قال ابن جرير عن منصور بن عبد الرحمن: كنت جالسا مع الحسن فسأله رجل عن قوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا(، فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا؟، كل مصيبة بين السماء والأرض هي في كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة، وقال قتادة ما أصاب من مصيبة في الأرض، هي السنون، يعني الجدب، )وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ( أى الأوجاع والأمراض، قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.

والآية السابقة من أدل الأدلة، على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله. قال الإمام أحمد "حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: ]قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[ (مسند أحمد: 6543).

وقوله تعالى: )إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(، أي أن علمه تعالى للأشياء قبل كونها، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل وأيسر عليه I، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

خامساً: لا تهلك القرى الظالمة إلا في موعدها المكتوب

قال تعالى: )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا( (الكهف: الآية 59)، إن القرى الظالمة التي كذبت الرسل من قبل، والقرى الظالمة التي استمرت في بغيها حتى الآن، والقرى الظالمة التي ستستمر في بغيها، حدد الله موعد إهلاكها، فلا يأتيها الهلاك قبل ذلك الموعد ولا بعده، فقد جعل الله لمهلكهم موعداً والله لا يخلف الميعاد، هذا الموعد الذي حدده الله لهلاك القرى الظالمة بالغ الدقة!!، هذا الموعد لايعلم عنه الظالمون شيئا، قد يأتيهم بغتة دون أن يشعروا باقترابه، أو جهرة وهم في انتظاره (كما يحدث في تسونامي)، موعد محدد عند الله لكنهم يجهلونه، موعد لا يمكن للظالمين توقعه أو انتظاره، أو الاستعداد له، أو الإفلات منه.

سادساً: قد يأتيهم عقاب الله بياتاً أو نهاراً

قال تعالى: )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ( (يونس: الآية 50)، قد يأتيهم العذاب وهم في ظلمات الليل وسكونه ووحشته، وقد يأتيهم بياتاً وهم نائمون، وقد يأتيهم نهاراً وهم على آرائكهم متكئون، قد يأتيهم في المساء وهم يلهون ويضحكون ويتسامرون، وقد يأتيهم نهاراً وهم في أعمالهم أو بيوتهم مشغولون، وقد يأتيهم في مصانعهم أو مزارعهم وهم يصنعون ويزرعون، وقد يأتيهم وهم في متاجرهم ومؤسساتهم ومصالحهم أو حتى وهم على مكاتبهم يعملون، فذلك عقاب الله المباغت الذي لن يتوقعوه!!.

سابعاً: قد يأتيهم عقاب الله بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون

قال تعالى: )أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ( (الأعراف: الآية 97)، وقد يأتيهم نهاراً وهم قائلون، لقوله تعالى: )وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ( (الأعراف: الأية 4). في قوله فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون، أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتاً أي ليلاً، أو وهم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة، وقيل بياتاً أي ليلاً، ومنه البيت لأنه يبات فيه، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً، وقائلون من القائلة وهي القيلولة نوم نصف النهار، وقيل استراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم.

والمعنى أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين، تصور ذلك الهلاك المباغت القادم من عند الله U، سواء جاء وسط النهار والناس تذهب وتجيء!!، أو وهم في حالة استرخاء وقت القيلولة!!، يأتيهم بلا علامات ولا مقدمات، لقد كانوا من قبل يستهِزئون بالرسل ويسخرون، بل ويستعجلونهم بالعذاب ويستهزئون، يسألونهم: )مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (يونس: من الآية 48)، فهم لا يتصورون أن يأتي عقابهم بصورة مفاجئة!.

إنهم لا يصدقون بقدوم العقاب برغم تحذير المُنذِرين لهم من قبل!!.. لا يصدقونهم لأنهم قالوا كلاماً كثيراً ولم يحدث لهم شيء، فما هذا الهلاك الذي يتحدثون عنه ويُنذِرونهم به؟، وكان الأجدر بهؤلاء المكذبين أن يلاحظوا بغتة الزلازل وثورة البراكين، ومفاجآت الرياح والأعاصير، وسقوط الطائرات وغرق السفن في البحار، وانقلاب القطارات والسيارات، أو نشوب حرائق في المنشآت دون تحذير!!، فتلك علامات إنذار للمكذبين قد تغنيهم عن المُنْذِرين، وتلك الأمور التي تحدث من حولهم، تؤكد لهم بأن الهلاك يأتيهم في أى وقت وفي كل مكان، وسوف يرون ما وعد به المنذِرون رأى العين، ولن يجدوا وقتها من يصرفه عنهم، قال تعالى: )مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ( (يس: الآيتان 49 و50)، ثم يوم القيامة يقص الله عليهم ما فعلوه مع النذر السابقين، ويسألهم I: )مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ( (القصص: من الآية 65).

الله يسألهم وهو يعلم ماالذي فعلوه برسلهم، وسوف يقص عليهم كل شيء لأنه I لم يكن غائباً عنهم، قال تعالى: )فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( (الأعراف: الآية 7)، وتدبر أيضاً قوله تعالى وهو يؤكد تلك الحقائق في كتابه الكريم: )وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( (الأعراف: الآيات 4-7).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: )فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، )وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا وَبِمَا عَمِلُوا، مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. ويقول I: فلنخبرن الرسل ومن أرسلتهم إليهم بيقين علم بما عملوه في الدنيا، وفيما كنت أمرتهم به وما كنت نهيتهم عنه، وما كنا غائبين عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.

فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم, وهو يخبر أنه يقص عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟ قيل: إن ذلك ليس بمسألة استرشاد من الله ولا مسألة تعرف منهم ما هو به غير عالم!!, إنما هو مسألة توبيخ وتقرير, كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟، وألم أصلك فقطعت؟، فكذلك مساءلة الله المرسل إليهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟، ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم لكل من كفر بي وعبد غيري؟

ثامناً: قد يأتيهم عقاب الله ضحى وهم يلعبون

قال تعالى: )أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ( (الأعراف: الآية 98)، أوأمن أهل القرى أن يأتيهم عذاب الله وقت الضحى وهم غافلون متشاغلون بأمور دنياهم؟، وخص الله هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يكون أغفل ما يكون فيهما. فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد، هذا الوقت من اليوم، حيث يكون الظالمون مستقبلون أول النهار ذاهبون إلى أعمالهم، أو في قمة حالات الاسترخاء في أجازاتهم على الشواطئ أو في النوادي والمنتزهات، يقترب بأس الله منهم وهم لا يشعرون!!، فهذا يلعب مع أصدقائه أو أولاده، وأخر يلهو ويستمتع بإجازاته، وآخرون يلهون ويلعبون في الشوارع والطرقات، الكل مشغول بحاله!!، وفى وسط هذا الجو المبهج المليء بالضحك واللعب، يأتيهم بأس الله بغتة، فلا يستطيعون دفعه عنهم، أو الهروب منه.

تاسعاً: يستعجلون العذاب والله يملي لهم

من العجيب والغريب!!، أن هناك طائفة من البشر تستخف بعقاب الله، وأحيانا يصل الأمر بهم إلى استعجاله، تدبر قوله تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ( (الحج: من الآية 47)، إن موعد هلاك الظالمين محدد لا يتقدم ولا يتأخر كما ذكرنا، والله يمهل الظالمين حتى وقت إهلاكهم، ومن العجيب أنهم يسخرون من المٌنذِرين ويستعجلون هذا العذاب إمعاناً منهم في التكذيب، تدبر قوله تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( (العنكبوت: الآيتان53 و54).

فإذا آخر الله عنهم العذاب إلى أجل معدود، قالوا بسخرية واستهزاء (ما يحبسه؟) أي ما يمنعه من إنزال العذاب بنا؟، ويرد الحق I عليهم: )وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( (هود: الآية 8)، ذلك لأنهم لا يعلمون أن الله يُملي لهم ويمهلهم لعلهم يرجعون!!. فإذا جاء موعد عقابهم فلن يجدوا من يصرفه عنهم، وسوف يحيق بهم ما كانوا به يستهزءون.

قال تعالى: )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ( (الحج: الآية 48)، إن الله يمكر فيملي لهم، ويتركهم في غفلتهم قبل أن يهلكهم، يأكلون من رزقه في الوقت الذي يعصون فيه رسله، ويتمتعون بخيراته مع أنهم يظلمون عباده، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، تركهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، قال تعالى: )ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( (الحجر: الآية 3)، فسوف يعلمون وقت عقابهم حين يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.

إن موعدهم في كتاب مسطور، يأتيهم بياتاً أو نهاراً، وهم مستيقظون أو وهم نائمون.. وقد يأتيهم نهاراً أيضا وهم قائلون، وقد يأتيهم ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله؟، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، قال تعالى: )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ( (الأعراف: الآية 99).