إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

مقدمة

أولاً: تعريف الديموقراطية لغة ومصطلحاً

الديموقراطية (Demoskratia) مصطلح يوناني الأصل، يتكون من شقين: الأول (Demos) وتعني الشعب، والشعب في لسان العرب: القبيلة العظيمة، والجمع شعوب، قال تعالى: ]وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[ (سورة الحجرات: الآية 13).

أمّا الشق الثاني من الديموقراطية (Skratia) فيعنى حكم أو سلطة، بمعنى التحكم في المصير الشخصي، وأحياناً تعني مصير الغير.

ومجموع شقي المصطلح يعني: حكم الشعب، أو سلطة الشعب.

ويلاحظ أن الكلمة في النطق العربي لها، أقرب إلى أصلها اليوناني، مما هو عليه في اللغات الأوروبية الحية.

ويرى منتسكيو ـ وهو من أبرز مفكري عصر النهضة، وممن أسهموا في إرساء نظرية الديموقراطية ـ أنها حكم الشعب، أو من يمثلونه، وفق قواعد نيابية خاصة. فإذا كان الحكم في أيدي فئة من أغنياء الشعب، فتلك هي الأرستقراطية.

ففي الديموقراطية يستطيع كل شخص، وفق قواعد خاصة، تمثيل الشعب، أو حكم الشعب باسم الشعب، أمّا في حالة الأرستقراطية، فإن الحكم محصور في طبقة معينة أو عدة طبقات لا يتعداها. وأحسن شكل للحكم الأرستقراطي هو، ذلك الحكم الذي يقترب من الحكم الديموقراطي.

أمّا الحكم الملكي ـ في رأي مونتسكيو ـ فهو الذي يقوم على هيئات تتوسط، بين الملك والشعب، وتكون لها اختصاصات محددة، تحديداً دقيقاً يحد من سلطان الملك.

ومونتسكيو عندما يتحدث عن هذه الأنواع من الحُكم، إنما ينطلق في الأساس من الواقع، الذي ساد الشعوب الأوروبية في القرن الثامن عشر. إلاّ أن الأمر ليس بهذه السهولة اللغوية، فالاتفاق اللغوي يخفي وراءه خلافاً فكرياً عميقاً حول المفهوم.

وأول هذه الاختلافات يتعلق بالشق الأول (الشعب)، الذي لم يَخْلُ حتى على أيام اليونان القدامى من الغموض. فقد كانت دلالة هذه الكلمة تنصرف إلى هيئة الشعب بكاملها، أو العامة، وقد يقصد بها الكثرة الكثيرة، أو الأغلبية فقط[1].

ولذلك، لم يعد مصطلح الشعب يفي بالغرض، الذي كان مخصصاً له، بعد أن توسع مفهوم الدولة لتصبح (دولة/ أمة)، وأحياناً (دولة/ قارة). ولم يعد مجتمع الدولة هو ذلك المجتمع الصغير المترابط، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً من خلال شعبية واحدة. ولذلك، لم يكن مستغربا مطالبة بعض المفكرين والكتّاب، استبدال مصطلح الشعب بمصطلح جديد مثل (الجماهير)، وجاء هذا الاقتراح كرد فعل، على الشعور بفقدان الترابط الاجتماعي، الذي تُعاني منه مجتمعات اليوم، مجتمعات الاغتراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وقد استعمل مصطلح الجماهير، أول مرة على نحو شائع، في فرنسا، خلال السنوات القليلة، التي فصلت بين ثورتي سنة (1830) و(1848). وكان يشار به إلى ذلك الجزء المبعد عن المشاركة السياسية. كما استعمله كارل ماركس في كتاباته، إشارة إلى الطبقة العاملة.

وعلى كلٍ، فالمعنى اللغوي للديموقراطية لا يتطابق مع المعنى الواقعي. وقد عبّر أحد الفلاسفة بصدق عن هذا الواقع، حين وصف الأنظمة السياسية السائدة اليوم بأنها: (ليست طريقة للحكم، سواء عن طريق الأغلبية أم غيرها، ولكنها طريقة لتقرير من سيحكم، فالديموقراطية السائدة اليوم هي رقابة الشعب على الحكومة).

فالنظام السياسي القائم، يمكن أن يوصف بأنه ديموقراطي إلى المدى، الذي يكون فيه صانعو القرارات السياسية، خاضعين لرقابة شعبية فعّالة.

ولذلك، نلحظ اتجاها متزايداً نحو الأخذ بالمعيار الواقعي، في تحديد مفهوم الديموقراطية. ويتزعم هذا الاتجاه مجموعة من المفكرين، ينادون بنظرية النخبة، المبنية على أن الحكم هو دائماً بيد قلة من أفراد المجتمع هم النخبة أو الصفوة. وعلى هذا فالديموقراطية النظرية ليست ممكنة عملياً. وتلا هؤلاء مفكرون آخرون، ربطوا بين الديموقراطية والصراع الدائر بين جماعات (نخب أو أحزاب سياسية). فقالوا إن السلطة يجب أن تكون من نصيب القلة، وأن العامل المميز لهذا النمط من الديموقراطية، هو أن ممارسة السلطة من قبل القلة يجب أن تكون لصالح الكثرة.

والمنطلق الأساسي لهذا الاتجاه، أنه ليس في إمكان جماعة (نخبة أو حزب سياسي)، أن تعتمد على مؤازرة الهيئة الناخبة بصورة تلقائية؛ إذ يتحتم على كل (نخبة) للحصول على التأييد، أن تدخل في حلبة التنافس، مع غيرها من النخب الأخرى، من أجل الظفر بأصوات الهيئة الناخبة. وهذه المنافسة تضمن خلق سياسات معتدلة، وتضمن الإطاحة بأية جماعة تفشل في تحقيق وعودها الانتخابية، في أول فرصة سانحة[2].

وقد عبر بعض المفكرين الغربيين عن هذا الاتجاه، حين وضعوا تعريفاً للديموقراطية حصرها في كونها فقط طريقة سياسية، أو (تنظيم تأسيسي لغرض الوصول إلى قرارات سياسية، يحرز الأفراد عن طريقها سلطة التقرير بالوسائل التنافسية من أجل أصوات الشعب).

كما اقترح آخرون، تحديداً جديداً للديموقراطية المطبقة. فبدلاً من التعريف التقليدي، بأنها سلطة الشعب، قالوا هي (حكم الأقليات المتعددة).

وعلى هذا، أضحت الديموقراطية مجرد طريقة، أو إجراء يتم من خلاله اختيار الحُكام عن طريق الآلة الانتخابية. ولم يعد الحديث عن إمكانيات المشاركة السياسية ممكناً، ولا مرغوباً، وأضحى البديل عن الديموقراطية (تنافس النخب)، هو الشمولية (حكم النخبة الواحدة).

ثانياً: الديموقراطية في الحضارة الغربية

في كل مرحلة من مراحل الصراع، وفي أي شكل من أشكاله، فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً، تتلاحم قوى عديدة، وتشتبك آراء ومثل وقيم، لتسفر عن غلبة بعضها وتفوقها، تفوقاً يجعل لها السيادة على العصر، ويتخذ هذا التلاحم أو الاشتباك صورة صراع بين القديم والجديد، بما يقف وراء كل منهما من قوى، تشده وتسنده.

وتتجمع في هذا الصراع، كل قوى الماضي أمام القوى الناشئة النامية. وينصهر في بوتقته كل تناقض، بين القوى المتحالفة للجديد أمام القديم، في كيانه الفكري والسياسي والاقتصادي، وإن بقيت بذور التناقض الخفي كامنة، تهيئ لمرحلة جديدة من مراحل التطور والصراع، تغلب فيه الحركةُ الخفية الدائبة مظاهرَ السكون البادي.

وقد اجتمعت وتلاحمت وتشابكت في القرن التاسع عشر، كل قوى الماضي بما حققه من تطور ونمو، وبما حفل به العصر من أفكار ومُثُل، وبما جناه من تغيير للقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة. فتركت لمستها البارزة في هذا القرن، ما يشهده القرن العشرين من صور الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي والعلمي، الذي أخذ يسفر ـ كما يُعتقد ـ عن تغير هائل في شكل هذا العالم وصورته، يُعلي من شأن الحياة والكرامة الإنسانية، ويمهد في الجانب العلمي لعصر الفضاء القادم، بما يمكن أن يكتنفه من تغيرات متوقعه.

فالقوى التي أثبتت وجودها على مسرح الحياة الأوروبية، في أعقاب القرون الوسطى، بقيت تثبت وجودها وتؤكد كيانها خلال القرون التالية، حتى بدأت قوى جديدة تعلن عن نفسها في القرن التاسع عشر وتثبت وجودها. وبدأت مرحلة الصراع بينها وبين القوى القائمة، ـ ولمّا تنتهي بعد ـ حتى أخذت قوى أخرى جديدة تعلن عن نفسها في وجه القوتين المتناحرتين. ولا يُدرى ما يمكن أن تسفر عنه هذه القوى الأخرى. ولكن أَقْيَم ما فيها، أنها تؤمن بالإنسان والكرامة الإنسانية.

وكان العامل الرئيسي الأول في هذه القوى الجديدة، التي خرجت بأوروبا من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، ظهور طبقة التجار الغنية، التي تكونت منها الطبقة الوسطى أو الطبقة البورجوازية، التي أخذت تحسد أمراء الإقطاع، ورجال الكنيسة على امتيازاتهم التقليدية، وترى فيها وفيهم عائقاً صلباً يحول من دون تقدمها ونموها. فعملت على القضاء على تلك الامتيازات وتحطيمها، بما تبنته من مُثُل وأفكار، تعبر عن إرادتها ومصالحها.

أمّا العامل الثاني، فهو اتجاه الثورة التجارية إلى القضاء على النظام الإقطاعي، وتبني فكرة الدولة القومية، التي تمنح مصالحها اتساعاً وعمقاً إلى أبعد مدى تصل إليه الدولة، مما أدى في النهاية إلى تقلص حدود المجتمع الإمبراطوري، وانهيار المثل الأعلى لعالم مسيحي واحد، تتمثل وحدته في سلطة الكنيسة الروحية، وتضعف من وحدته السياسية والاجتماعية سيادة النظام الإقطاعي.

وكان أن بحثت هذه الطبقة الجديدة، عن مثل أعلى جديد، قوامه دولة قومية مستقلة، تتمتع بكافة حقوق السيادة على أراضيها، مسؤوليتها في ذاتها، وتجد الضمان لوجودها وسيادتها في القوة. تستعر فيها حُمّى الوطنية، وتعلو كلمة المَلك، الذي وجدت فيه هذه الطبقة البورجوازية النامية مناط مصالحها، ومعقد أملها، وحمايتها من سلطة البابوية، وسيطرة الكهنوت، وأمراء الإقطاع، تسعى لنقل السلطة العليا من الكنيسة إلى حكومة مدنية.

وسخّرت هذه الطبقة الجديدة، الكبرياء القومي للجماهير، التي بقيت تعيش في إطار الاقتصاد الزراعي، لتثبيت الدولة القومية. فقد أزكت الحرب هذا الشعور القومي، وأبرزته، فامتزج السكسون والكلت، مع الغزاة النورمنديين في بريطانيا، لمواجهة تحالف المقاطعات الفرنسية في حرب المائة عام.

واتحد الأمراء المسيحيون في أسبانيا ضد المسلمين، واستطاعت أسبانيا أن تتحد تحت راية شارل الخامس، لتمضي في ظل السيادة القومية إلى كشف العالم الجديد.

ونما الشعور ذاته في دول صغيرة، كسويسرا واسكتلندا، في كفاحهما ضد جيران أقوياء. كما أدت الحروب الأهلية، إلى اتحاد الجماهير حول الملك. فحروب إنجلترا، حملت الناس على الالتفاف حول إدوارد الرابع، الذي يمثل لديهم الأمن والنظام، وحماية السلام الذي ينشدونه. وانتهت الحروب الأهلية في فرنسا، ثم الحروب الدينية بعد ذلك، إلى تنصيب هنري الرابع، ملكاً على فرنسا.

وعملت الطباعة وانتشار الكتب، على تقليل الفروق بين اللهجات الإقليمية. فنشأت لغة موحدة أخذت تحل محل اللاتينية. وأصبح للشعب الواحد، أداة تعبير واحدة، غدت على مر الأيام لها آدابها القومية المميزة، وازداد عدد القراء، فانتشرت الثقافة وامتدت إلى طوائف، كانت من قبل محرومة منها.

ومع قيام الدولة القومية، نشأت النظرية السياسية الحديثة، لتبرير انتقال السلطة من البابا وأمراء الإقطاع، إلى الملك الذي يحكم لمصلحة الشعب، وتسنده البورجوازية التجارية لتحقيق مصالحها النامية.

وكان أول ما يجب على النظرية السياسية الجديدة فعله، هو أن ترد على ادعاء البابا أنه "المصدر الإلهي" للسلطة، فنشأت نظرية "الحق الإلهي للملوك".

ورداً على سلطة أمراء الإقطاع، نشأت نظرية "سلطة الملك المطلقة" على أراضه، وامتزجت النظريتان في النهاية في نظرية سياسية جديدة، هي نظرية "المَلِك المُطْلَق الإرادة"، العالِم المُسْتَنِير الذي يستند في حكمه إلى "الحق الطبيعي"، من دون "الحق الإلهي".

وقد زالت الحاجة إلى مثل هذا الزعم، بعد أن قضت الدولة القومية على كل سلطة كهنوتية، وأصبح الأساس النظري للحكم علمياً، وليس دينياً.

وتتسق نظرية "السلطة المطلقة"، مع مضمون العصر، الذي عاشته، وسيطرت فيه على اتجاهات الفكر السياسي، وإن تأثرت من حيث الشكل، من دون الجوهر، بالصورة الغالبة على المجتمع، الذي نشأ فيه أصحابها ودعاتها من المفكرين.

فمكيافللي، على الرغم من ميله إلى النظام الدستوري، نادى بالسلطة المطلقة لتحقيق الوحدة والنظام لإيطاليا.

بينما رأى بودان، الذي نجح في تتويج هنري الرابع سنة 1589 ملكاً على فرنسا، أن الملكية المطلقة هي أفضل أنواع الحكم. فالدولة في تعريفه (مجموعة من الأسر تحكمها سلطة عليا، ويحكمها العقل أيضاً)، وهي سلطة تعلو على المواطنين والرعايا، لا تخضع لغير القانون الإلهي، فهي مصدر القانون، بل والعرف أيضاً، ولها حتى أن تحدد القانون الإلهي؛ لأن مسؤوليتها تجاه الله وحده، فإنها إذ تجل وتُعلي من التشريع الإلهي، تحظى من الرعايا بطاعة القانون.

ويتفق هذا الاتجاه، مع ما كانت عليه فرنسا من انقسام وتناحر ديني، أدى بها إلى الحرب الأهلية. فكان لا بد من سلطة عليا، تقضى على الفرقة الدينية، وتُقر النظام.

وكان الحال في إنجلترا غيره في إيطاليا وفرنسا، فعلى الرغم من التناحر الديني، الذي قاد الفيلسوف هوبز (في كتابه "العملاق") إلى النظرية نفسها، التي انتهى إليها بودان. فبودان أمام قوة الطبقة التجارية النامية في إنجلترا، وتطلعها إلى السلطة، يبنى نظريته على أساس شعبى، ولكنها تناقض في نتائجها ما كانت تتطلع إليه البورجوازية التجارية القوية، ولجأ إلى فكرة العقد الاجتماعي يستهديها منطقه وغايته.



[1] وهذا الخلط في الأصل اللغوي القديم، أدى إلى خلط في اللغات الأوروبية المعاصرة. فمصطلح الشعب في الإيطالية والفرنسية والألمانية، يدل على اسم مفرد، بينما يدل في الإنجليزية على اسم جمع. ففي اللغات الثلاث الأول، يشير هذا المصطلح إلى كينونة مفردة، بينما يشير في الإنجليزية إلى الجمع والتعدد. وفَهْمُ مصطلح الشعب على أنه كينونة مفردة أو وحدة عضوية، كان تبريراً لأعتى الشموليات، التي شهدتها البشرية في النصف الأول من هذا القرن، في إيطاليا وألمانيا.

[2] ويلاحظ هنا أن الفكر السياسي الغربي بهذا الصورة، يقترب بصورة فاعلة من نظرية أهل الحل والعقد الإسلامية، التي تعني وجود نخبة مسؤولة أمام عموم الأمة. ومن جهة أخرى، فإن هذا يعنى أن محك الاختلاف بين النظريات السياسية، هو في كيفية اختيار النخبة، ومدى إعطائها ضمانات لرقابة سائر الأمة على النخبة.