إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

المبحث الأول

نظرية العقد الاجتماعي

أولاً: نشأتها وتعريفها

ظهرت فكرة العقد الاجتماعي سابقة لنشأة المجتمع السياسي عند السفسطائيين الإغريق. فالنظام السياسي في نظرهم، هو نظام اتفق الأفراد على تكوينه للسّهر على مصالحهم. ومن ثم فلا يجوز أن يكون هذا النظام حائلاً من دون تمتعهم بحقوقهم الطبيعية، ولا يتقيد الأفراد بالقانون، إلاّ إذا كان متفقاً وهذه الحقوق الطبيعية. ويبنون الدولة على أساس تعاقدي.

وفكرة العقد الاجتماعي، ليست من خلق مفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنها ترجع إلى أبعد من ذلك بكثير. فهي تعود إلى الفلسفة، التي دعا إليها أبيقورس (سنة 347 ـ سنة 275 ق. م) فلقد أكد هذا الفيلسوف، أن الدولة ليست شيئاً مقدساً من عند الله، لخدمة عقائد الإنسان وتوجيهه إلى الحقائق الأزلية، ولا هي مجرد اكتشاف بالعقل، وإنما هي تقوم على فكرة المنفعة المبنية على التعاقد. فهي تنظيم وضعه الإنسان بيده، بقصد ترتيب حياته على أساس المنفعة، بما يُوفِق بين مطالبه ومطالب غيره، وبين حقوقه وحقوقهم، وواجباته وواجباتهم.

ثم انتقلت الفكرة من المدرسة الأبيقورية، إلى بعض مفكري الرومان، في أواخر العصر الإمبراطوري. حيث توصلوا في بحثهم عن السلطة العامة، إلى مقدمات فكر ديموقراطي. فقد انتهوا إلى أن هذه السلطة، وما تنطوي عليه من حق الأمر والنهي، هي ملك الشعب الروماني، ولكنه لا يمارسها بنفسه، وإنما يفوض فيها الحكام بموجب عقد سياسي، تنتقل به السلطة من الرعايا إلى الإمبراطور.

واستمرت الفكرة، كذلك، في العصور الوسطى، حيث فسر بعض المؤرخين نظام الإقطاع، على أساس نوع من التعاقد، يتمثل في يمين الولاء والخضوع، بين الأمير والتابعين له، بما يولده من رابطة شخصية تحمّل الطرفين التزامات متبادلة، هي الخضوع من جانب الأفراد، والالتزام بحمايتهم من جانب الأمير.

كذلك، استعان بهذه الفكرة كل من الكاثوليك والبروتستانت، لمحاربة السلطان المطلق للملوك، الذين ليسوا على دينهم، وذلك فيما قرروه في شأن التفويض الإلهي. فقد ذهبوا إلى أن السلطة، وإن كانت تأتي من الله إلى الحُكام، إلاّ أنها تنتقل إليهم بواسطة الشعب، عن طريق عقد، يتبادل فيه كل من الشعب والأمير الالتزامات.

كما استعان بهذه النظرية، أيضاً دعاة المبادئ الحرة، منذ عصر النهضة. وأخذت بها مدرسة القانون الطبيعي.

وقد كان الاهتمام بفكرة العقد، استمراراً لتلك المعركة، التي ثارت في العصور الوسطى حول سلطة الكنيسة، ثم حول سلطة الملك.

ثانياً: تطور نظرية العقد الاجتماعي في العصور الوسطى

كانت مدرسة القانون الطبيعي قد بدأت تتكون، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبدأت نظرية القانون الطبيعي، تحاول أن تتخلص من صبغتها الدينية، التي لحقت بها إبان العصور الوسطى، وتنمو تدريجياً نحو الطابع القانوني. وقال فلاسفتها إن للإنسان حقوقاً طبيعية سابقة على وجود الدولة، ولا يجوز لها انتهاكها، أي: أكدوا قيمة مطلقة للإنسان (غير أن هذا التأكيد كان نظرياً، وقد أهُدر بالفعل عندما وُضع موضع التجربة والاختبار، حينما برزت إلى الوجود سلطة الدولة الحديثة، مهددة الوجود الإنساني في صميمه، أي في حريته).

ولذلك، كان لا بد من البحث عن أفكار جديدة، تُقام على أساسها السلطة الحاكمة، بدلاً من الأفكار التي كانت سائدة، والتي كانت تُعطى لها حقوقاً مطلقة تجاه الأفراد، لا تحدها حدود، وتعجز الأفكار الفلسفية وحدها، أن تقف في وجهها.

وقد وجد الفلاسفة هذه الوسيلة ـ للحد من سلطة الدولة ـ في تأكيد الأصل التعاقدي لسلطة الدولة والفرد، وذلك بتقرير أن العقد هو الأساس الوحيد للمجتمع المدني، وأن الدولة ذاتها مظهر من مظاهر التعاقد السياسي بين الأفراد. وقد قصد بهذا التصوير التعاقدي للسلطة، عدة نتائج محددة، منها:

1. إبراز الصفة الرضائية للحكم.

2. المحافظة، في الوقت نفسه، على الحقوق المقدسة للفرد، استناداً إلى قوة العقد ذاته.

3. التهديد بانفساخ العقد إذا أخلت السلطات بما التزمت به، من المحافظة على هذه الحقوق.

ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتحت تأثير الانتقادات، التي وجهت لفكرة وجود قانون طبيعي مطلق لا يجري عليه التعديل والتبديل، بدأ الفلاسفة ينظرون إلى العالم على أنه جهاز آلي من خلق إرادة الإنسان، وليس كائناً عضوياً طبيعياً، كما ذهب إلى ذلك فلاسفة اليونان، وأخذوا، لذلك، يتحمسون لفكرة العقد الاجتماعي، ويستندون إليها.

ولم يجد الفلاسفة والمفكرون في تلك العصور، إلاّ إرادة الفرد الحرة معولاً وأساساً يقيمون عليه نظرياتهم، ويكيّفون الظواهر الاجتماعية، خاصة أصل الدولة والسلطة، على أساسه. وكان العقد هو الوسيلة المعقولة لدى الفلاسفة، لكي تستعملها الإرادة الفردية، سواء في إقامة المجتمع في ما بينهم، أو لتنصيبهم السلطة في ذلك المجتمع. وهكذا ظهرت نظرية العقد الاجتماعي.

ورأى الإمبراطور في القرون الوسطى، في فكرة العقد الاجتماعي، سنداً لحقوقه أمام سلطان الكنيسة، واعتنقها الأمراء، فقامت العلاقات بين الحاكم والمحكوم على أساس من الواجبات المتقابلة، التي تحكمها عقود ضمنية، أو حقيقية.

والأساس الذي تقوم عليه هذه النظرية، هي أن كل سلطة مصدرها الشعب، وهو الذي يحولها إلى الحاكم ليقوم بالوظائف التي تقتضيها الولاية، مما يُمكن أن يكون سنداً للحاكم باعتباره مصدر السلطات، التي آلت إليه من الشعب، أو سنداً للشعب باعتباره المصدر الأصلي لتلك السلطات. وقد واجه الأمراء الكنيسة، بالتفسير الأول، كما واجه خصوم الاستبداد السياسي ـ من رجال الكنيسة والطبقة الوسطى ـ الحاكم، بالتفسير الثاني.

كما أن هناك أساساً آخر تقوم عليه نظرية العقد الاجتماعي، هو نظرية القانون الطبيعي، التي تبناها مفكرو أوروبا في ذلك الوقت. وتقول هذه النظرية إنّ حياة الفطرة كانت تسودها الفوضى والنزاع، بدافع المصلحة، والأنانية؛ فاضطر الأفراد إلى التعاقد سوياً للخروج من هذه الحالة، إلى مجتمع منظم تحكمه سلطة، قد تنازلوا لها كلية عن كل حقوقهم الطبيعية، غير أنها لا تلتزم قِبَلهَم بشيء، لأنها لم تكن طرفاً في العقد.

بينما يرى آخرون أن حياة الفطرة كانت تسودها الحرية والمساواة، لأن الأفراد كانوا يعيشون في ظل مبادئ القانون الطبيعي العادلة، ولكنهم في سبيل تنظيم هذه الحريات وحمايتها، اتفقوا فيما بينهم على الخروج من حياة الفطرة، إلى مجتمع منظم تحكمه سلطة، فتنازلوا عن بعض حقوقهم الطبيعية، وهو القدر اللازم لإقامة السلطة فقط، واحتفظوا بالقدر الآخر من الحقوق الطبيعية.

لذلك رآها بعضهم حرب الجميع ضد الجميع؛ بينما رآها آخرون حرية كاملة يمارس الناس فيها أعمالهم ويتصرفون في ذواتهم وممتلكاتهم على ما يرونه ملائماً لهم، لا يستأذنون فيها إنساناً، ولا يعتمدون على أحد.

وهي حرية تسودها المساواة؛ فليس لإنسان أن ينال أكثر مما يناله الآخر، فحيث يتساوى أفراد النوع الواحد في الانتفاع، بكل ما تمنحه الطبيعة بالمواهب نفسها، فمن حقهم أن يتساووا تماماً مع بعضهم بعضاً، وهي حرية أيضاً يحكمها القانون الطبيعي، وأحكامه ملزمة، فحيث يتمتع الناس بالمساواة والاستقلال؛ فليس لأحد منهم أن يؤذي إنساناً آخر في حياته، أو صحته، أو حريته، أو أملاكه، أو يعتدي عليه، أو يوقع به نوعاً من الضرر. وعلى كل منهم أن يصون قانون الطبيعة، ويحافظ عليه، ويعاقب كل من يتجاوزه أو يعدوه.

وحين يتجاوز الحاكم حدود القانون، ويفشل في تأمين الحقوق الطبيعية للأفراد، يحق لهم الثورة عليه. فالشعب هو الفيصل الأخير في كل سلطة مدنية.

وقد كان الفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو، من أشهر المفكرين الذين أدلوا برأيهم في نظرية العقد الاجتماعي.

ويرى أن حياة الفطرة، كانت حياة تسودها الحرية والمساواة، ولكن الأفراد اتفقوا على الانتقال إلى حياة الجماعة المنظمة؛ لأنها أسعد من حياة الفطرة، وهي ترتقي بالإنسان ومعنوياته، وتُحل العدالة والفضيلة محل الغرائز، والشهوات، وتحكيم العقل في التصرفات، وهم في سبيل ذلك تنازلوا كأفراد طبيعيين، عن كل حقوقهم إلى أنفسهم، باعتبارهم جماعة سياسية منظمة.

ويرى روسو أنه قبل مرحلة تكوين السلطان السياسي والمدني، كان الأفراد أحراراً، متحللين من كل قيد، إلاّ من واجب كل منهم الطبيعي نحو المحافظة على نفسه. ولكن حدثت ظروف جعلت من الصعب استمرار هذه الحالة الطبيعية، ووجد الأفراد أنفسهم مهددين بالفناء، إن لم يبحثوا عن مخرج، بالبحث عن شكل للوحدة، أو الاجتماع من شأنه أن يحمي ويقي الشخص، بحيث يظل متمتعاً بالحرية نفسها التي كان يتمتع بها من قبل، وتلك هي المشكلة الحقيقية والرئيسية، التي يبحث العقد الاجتماعي عن حلها.

ويرى روسو أن طبيعة الإنسان، تجعله لا يتنازل عن حريته، إلاّ في نظير ميزة أكبر منها ستعود عليه. ويقرر أن الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة الاجتماعية، يحدث في الإنسان تغيرات عميقة. فهو يجعله خاضعاً للعدل، بدلاً من الخضوع للغريزة، وتصبح أعماله ذات قيمة أخلاقية، بعد أن كانت خلواً منها وهو في الحالة الطبيعية، لأن الإنسان في الحالة الطبيعية كان بريئاً عادلاً، وكان يفعل الخير طواعية، وبشكل طبيعي. أمّا في الحالة الاجتماعية، فإنه يتصرف وفق معايير أخلاقية محددة، وعن علم تام بها، فهو يفعل الخير لذاته، ويقدس الواجب لذاته، فالحالة الاجتماعية تحوّل الإنسان من كائن خاضع للغريزة، إلى إنسان خاضع للواجب الأخلاقي.

وقد سادت نظرية العقد الاجتماعي، الفكر السياسي الحديث حتى الثورة الفرنسية، التي مجدت تعاليم روسو. فأعلت من شأن الحرية والإخاء والمساواة، مما يستهوي أفراد الطبقة الوسطى، أو البورجوازية النامية، التي ظفرت بالحكم والسلطة، وجماهير الطبقة الدنيا من العمال، والمزارعين وإن لم تظفر هذه الجماهير بكسب يذكر.

ثالثاً: نظرية العقد الاجتماعي في الشرق

إن الباحث في مدى أصالة نظرية العقد الاجتماعي عند روسو، يجد أن فكرة الاتفاق أو العقد بين الحاكم والأفراد، أو بين الأفراد بعضهم بعضاً، على الخضوع إلى نوع من نظم الحكم، هي فكرة قديمة. فيذهب كونفشيوس، الفيلسوف والحكيم الصيني (551 ـ 449 ق .م) إلى أن الحاكم مفوض من الله على الأرض، ليحكم وفق عقد يحدد نصوص هذا التفويض.

وفي العصر نفسه، الذي عاش فيه كونفشيوس، نجد أتباع موتسي، وهو من الفلاسفة الصينيين البارزين، يضعون كأساس للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، عقداً أُبرم بينهم في العصور السحيقة، وعلى كل فرد احترام هذا العقد.

بينما نجد في الحضارة الإسلامية، دلالات خاصة لطبيعة التعاقد بين الحاكم وبين الأمة. فبدءاً من (عقد البيعة)، ومروراً بـ (أهل الحل والعقد)، وانتهاء بالآثار المترتبة على المبايعة من أحكام الخليفة، كالإبقاء والعزل طبقاً لقيامه بما جرى التعاقد عليه، أو إخلاله به، حتى إنه ينعزل بنفسه في بعض الصور، إلى أحكام المبايعين، من وجوب الوفاء، ولزوم الطاعة ما الْتُزِمَت أحكام الشريعة الإسلامية.

بل إن الجانب الإجرائي لعملية مبايعة الخليفة نفسه، يؤكد هذا المعنى التعاقدي.

كل هذه الصور تؤكد الصفة التعاقدية للبيعة بالخلافة. فالخلافة عقد بين الخليفة والأمة بأن يحكم الخليفة بالشريعة، وأن تطيعه الأمة فيما أمر به في حدود الشريعة.

وقد يبدو لمن يفرّقون بين العقد الاجتماعي والعقد السياسي، أن عقد البيعة ما هو إلاّ عقد سياسي لا اجتماعي، لكن، في حقيقة الأمر، لولا وجود عقد اجتماعي، بين أفراد الأمة الإسلامية على الالتزام بالشريعة، ومن ضمنها تنصيب خليفة، ما كان لهذا العقد السياسي أن يوجد. فالعقد السياسي ببيعة الخليفة، ما هو إلاّ أثر من آثار العقد الاجتماعي، بين الأمة الالتزام بالشريعة.

رابعاً: نقد نظرية العقد الاجتماعي

تمثل نظرية العقد الاجتماعي، أحد الجذور الفكرية للديموقراطية. وهناك الكثير من النقد الذي وجِّه إليها، تمثل أبرزه، في النقاط التالية:

1. إنها فكرة خيالية، لا تجد لها سنداً من الواقع أو التاريخ. فهي خاطئة علمياً، فالتاريخ لا يؤيد فكرة التعاقد هذه، كأساس لوجود الجماعة. ولا يوجد في التاريخ مثال لدولة نشأت عن طريق العقد. وكذلك، لا يمكن قبول هذه النظرية على اعتبار التعاقد افتراضاً ومجازاً، لأن ما وراء هذا الافتراض من خطورة لا يخفى، ولأن هذه الفكرة سيترتب عليها إعطاء الدولة سلطة تحديد مدى ما تنازل عنه الأفراد من حريات، ومدى ما تحملوه من التزامات وقيود. وبهذا يُمهد السبيل للحكم المطلق المعيب.

إلى جانب هذا كله، يُلاحظ أن فكرة التعاقد نفسها، بعيدة كل البعد عن خيال الإنسان، في العصور الأولى.

2. تقوم النظرية على افتراض وهمي خاطئ، فحواه أن الفرد كان في عزلة قبل قيام الجماعة. وهذا غير صحيح؛ فالإنسان لا يمكن أن يعيش إلاّ في الجماعة، وبالجماعة، وكل ما يقال غير ذلك لا يعدو أن يكون من وهم الإنسان وخياله.

3. إنها نظرية غير متصورة الوقوع؛ لعدم إمكان رضاء الأفراد، والرضا ركن أساسي في العقد.

4. إن النظرية غير سليمة منطقياً؛ ذلك أن فكرة القوة الملزمة، تقتضي وجود قاعدة تقرر هذه القوة قبل إنشاء العقد نفسه. ومثل هذه القاعدة لا يتصور وجودها إلاّ في مجتمع منظم، لذلك يُستبعد أن يكون العقد، الذي يحتاج إلى حماية السلطة، هو ذاته الذي يقيمها.

5. إن النظرية تناقض نفسها، حين تخول الأفراد الاحتفاظ بحريات طبيعية بعد قيام الدولة. فمعنى ذلك أن لهم حق الخروج من العقد، وفسخه، وتكوين دولة أخرى على إقليم الدولة.

6. إن النظرية عند بعض اتباعها تبرر السلطان المطلق، وعند آخرين لا تمنع من ذلك صراحة، وتُقيم من سلطان الجماعة ومن الإرادة العامة، عند مجموعة ثالثة، سلطاناً رهيباً، لا يستطيع الأفراد في مواجهته دفعاً؛ وسبب ذلك تنازلهم عن كل حقوقهم.

7. إن الحريات والحقوق السياسية، لا يصح أن تكون محلا للتعاقد.

8. من الصعب تصور عقد يمضيه الأفراد عند نشوء الجماعة البشرية، ويظل إلى الأبد مؤثراً على الإنسانية كافة، وملزماً إياها، مهما تعاقبت الأجيال.

ومع هذا فلنظرية العقد الاجتماعي العديد من المزايا، كما كان لها آثار بالغة الأهمية، فمن ذلك:

1. إنها قامت على أسس فلسفية، أوضح من تلك التي قامت على أساسها نظرية القانون الطبيعي، وأكثر تحديداً منها.

2. على الرغم من القول بأنها فكرة خيالية، إلاّ أن هناك من يذكر أمثلة واقعية لمجتمعات قامت في القديم على أساس العقد الاجتماعي[1] ويُدخل بعض الناس في إطار فكرة العقد الاجتماعي، ما قيل به في الفقه الإسلامي من أن الخلافة عقد حقيقي، معناه: الاختيار من الأمة، ووسيلته البيعة الصحيحة القائمة على الرضا[2]. ولكن توجد فروق كبيرة بين نظرية العقد الاجتماعي، وبين نظرية البيعة الإسلامية.

3. اعتدت النظرية بالإرادة الفردية، وجعلتها المصدر الوحيد لإنشاء المجتمع والسلطة، فهي بذلك تُعتبر المصدر الفكري، الذي تأكدت بسببه فكرة الفصل بين السيادة، وسلطة الدولة، وأشخاص الحكام، في التاريخ الحديث.

4. توجد وقائع في التاريخ تؤكد أن أفكار الفيلسوف جان جاك روسو، في نظرية العقد الاجتماعي، كانت هي المحرك الأول للثورة الفرنسية. فعندما اختلف ممثلو العامة مع النبلاء ورجال الدين على كيفية أخذ الأصوات، والجلوس معاً في قاعة واحدة، أو قاعات مختلفة، وعدم رضاء الطوائف الأخرى الجلوس مع العامة، أطلق العامة على أنفسهم اسم (الجمعية الوطنية)، وقرروا أنهم مكلفون بالتعبير عن الإرادة العامة للأمة، وأن عليهم أن يبدأوا ـ بصفتهم نواب الشعب الحقيقيين ـ في وضع دستور لبلادهم، تصان فيه حقوق الشعب، سواء اشترك معهم بقية المندوبين أم لا.

وعلى الرغم من هذه الانتقادات، فإن المجتمع الأوروبي سيذكر لنظرية العقد الاجتماعي فضلها الأكبر في مد الثورة الفرنسية بروحها وحيويتها، وفي إقامة الحكومة القانونية مقام الحكومة الاستبدادية. كما أنه بفضل هذه النظرية استقرت المساواة، ووضحت الحقوق، والحريات العامة في العالم الغربي، وتحققت نهائيا سيادة الشعوب في أوروبا، وتم إعلاء كلمتها.

5. كان جوهر الديموقراطية، كما كشف عنه روسو، يكمن في أن السيادة للشعب، وبذلك تصبح إرادته القانون. وبهذا التصوير نقل روسو ـ فلسفياً ـ كل السلطة للشعب، وترك لرجال القانون تحويل ذلك إلى أساليب ونظم.

وقد وجدت ـ بالفعل ـ أساليب دستورية لوضع السيادة موضع التنفيذ، من أبرزها الاستفتاء الشعبي، الذي يُعطي للشعب رقابة حقيقية على السلطة في الدولة.

وعلى كلٍ، فالنظرية كانت معيناً فكرياً لا ينضب للحركات السياسية، والتعديلات الدستورية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

6. لا زالت النظرية حتى اليوم، تتمتع ببريق فكرى، وجاذبية للمفكرين والاقتصاديين يلجؤون إليها لتبرير التغيرات، التي يريدون إحداثها في المجتمع. وأقرب الأمثلة على ذلك أن خبراء التخطيط في مصر نشروا ـ في مجال الدأب لتصحيح مسار الاقتصادي المصري ـ: إن وزارة التخطيط، بلورت المقترحات الجديدة في شكل (عقد اجتماعي جديد) بين الحكومة والشعب، يتمثل في أن تُعيد الدولة توزيع مواردها، لصالح الطبقات ذات الدخل المحدود، وحرمان غير المستحقين من سياسة الدعم. كما يستند العقد الجديد إلى أن إصلاح المسار الاقتصادي، لن يتأتى على حساب الطبقات الكادحة، وأن القطاع العام يجب أن يُعطى فرصة للازدهار للحفاظ على المكاسب الاشتراكية.

ولا شك أن هذا البيان، استخدام جديد لفكرة العقد الاجتماعي وليد القرن العشرين. فالفكرة لم يخبو بريقها بعد.

7. إذا كانت النظرية قد وضَعَت، بصفة رئيسية، الأساس الفكري لحقوق الإنسان وحرياته، حيث افترضت له حقوقاً طبيعية سابقة على وجوده في جماعة منظمة، لا يجوز المساس بها أو حرمانه منها؛ فإن القيمة الحقيقة، التي انبعثت من فكرة التعاقد، هي أنها وضعت، لأول مرة في تاريخ الفكر السياسي، الأساس الفلسفي لفكرة الرقابة الشعبية على السلطة وحدودها، ترتيباً على ما ينتجه العقد من آثار، ولضمان عدم خروج السلطة على مقتضى هذا العقد وشروطه.

8. كانت نظرية العقد الاجتماعي، عاملاً أساسياً في تطوير الفكر السياسي الأوروبي، وكانت عاملاً أساسياً أو مساعداً، في ظهور نظريات الفلسفات السياسية، التي ظهرت بعدها.



[1] يذكر محمد عصفور أن فكرة العقد الاجتماعي ليست مجرد أمر نظري من خلق (روسو) أو غيره، وإنما كانت أمراً واقعياً مارسته بصفة عملية كثير من المجتمعات الدينية القديمة، ومن قبيل ذلك ما جرى عليه أنصار (كالفين) في القارة الأوروبية، والمتطهرون الإنجليز، والاسكتلنديون .. الخ.

[2] وكان الدكتور عبدالرزاق السنهوري، من أوائل الذين عبروا عن هذا المعنى في الفقه الدستوري الحديث، حيث يذكر عن عقد الإمامة إنه عقد حقيقي.