إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

المبحث الثالث

الديموقراطية في الميزان

أولاً: الإسلام والديموقراطية

يرى كثير من الباحثين في العصر الحديث، ولا سيما في البلاد الإسلامية، تشابهاً، أو تطابقاً، بين الإسلام والديموقراطية. وبصرف النظر عن أن الدافع الذي دعا بعضهم إلى القول بهذا الرأي، فالحقيقة الثابتة، هي أن بين الإسلام والديموقراطية من التخالف، مثل ما بينهما من التوافق. وربما كان الأقرب إلى الصواب القول إن وجوه الخلاف تغلب، أو هي أهم، من وجوه التماثل.

فمن خلال مفهوم الإسلام للعَقْد السياسي، ومسؤولية الحكم، وطبيعة التعاقد، ومكانة الأمة، وخصائص إرادتها، والعلاقة بينها وبين الحاكم، نتبين أنه ليس فقط بين الإسلام من الوجهة السياسية والنظام الديموقراطي أوجه تشابه، بل إن أهم ما تحتوى عليه الديموقراطية من عناصر، وأفضل ما تتميز به من صفات، يشتمل عليه الإسلام.

فإن كان يُراد بالديموقراطية، كما عرفها أبراهام لنكولن[1]: (حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب)، فهذا المعنى متمثل، ولا شك، في نظام الدولة الإسلامية، باستثناء أن الشعب ينبغي أن يُفهم في الإسلام على نحو خاص، أو شامل.

وإن كان يراد بالديموقراطية ما صار يُقرن بها عادة، من وجود مبادئ سياسية، أو اجتماعية معينة: مثل مبادئ المساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقق العدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك، أو كفالة حقوق معينة، كحق الحياة والحرية والعمل، وما أشبه، فلا شك في أن كل تلك المبادئ متحققة، وهذه الحقوق مكفولة في الإسلام.

ويُلاحظ أن نظرة الإسلام إلى هذه الحقوق، من حيث المنشأ الطبيعي تختلف. فقد تُعد حقوقاً، أو تقرر على أنها هي الأصل في الأشياء، أو أنها هي القانون، الذي وضعه الله للوجود، أو الفطرة، ولكن مع كل ذلك، لا يؤثر هذا الاختلاف في النظرة في طبيعة تلك الخصائص أو الحالات؛ والنتيجة واحدة، وهي أن الإنسان تُضْمن له كل هذه الحقوق.

والشريعة الإسلامية، إنما ترمي إلى أن تحقق العدالة المطلقة في أكمل صورها، وأن تتحقق للإنسان أسمى وأكرم حياة، يمكن أن تليق بإنسانيته.

أمّا إن كان المراد من الديموقراطية، ما تعارف عليه الناس من أنها نظام يستتبعه، مبدأ الفصل بين السلطات، فهذا أيضاً مقرر في النظام الإسلامي. فالسلطة التشريعية في الإسلام، وهي أهم السلطات في أي نظام ديموقراطي، مودعة في الأمة كوحدة، ومنفصلة عن سلطة الإمام، أو رئيس الدولة. فالتشريع يصدر عن الكتاب والسُّنة، أو إجماع الأمة، أو الاجتهاد، وهو بهذا مستقل عن الإمام، بل هو فوقه، والإمام ملزم ومقيد به؛ وما الإمامة في الحقيقة إلاّ رئاسة السلطة التنفيذية. والقضاء مستقل أيضاً، لأن القاضي لا يحكم وفقاً لرأي الحاكم، أو الرئيس، وإنما يحكم وفقاً لأحكام الشريعة، أي أمر الله وسُّنة رسوله.

وإن فكرة الإجماع، وهي من خصائص الشريعة الإسلامية، التي انفردت بتقريرها، لتؤيد أن للأمة وإرادتها مكاناً في النظام الإسلامي، أرقى مما يمكن أن تناله في أي نظام ديموقراطي، مهما كمل.

فالمسلمون قد قرروا أن إرادة الأمة معصومة، وأنها من إرادة الله. لذا جُعلت مصدراً للتشريع، وإن كانت تعتمد في النهاية على مصدري الكتاب والسُّنة. ومن الناحية العملية، تُمثل هذه الإرادة إجماع المجتهدين من علماء الأمة.

وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسير الآية الكريمة: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[ (سورة النساء: الآية 59)، ما يلي: أَمْرُ الله بالطاعة هنا وارد على سبيل الجزم، ومن أَمَر الله بطاعته هكذا يجب أن يكون معصوماً؛ لئلا يترتب عليه أمر الله بفعل الخطأ ومتابعته ثم قرر أن المعصوم لا يجوز أن يكون بعض الأمة، وإنما هو مجموعها ممثلا في أهل الاجتهاد.

واستنتج من هذا أن الآية حجة على الإجماع، وخلص إلى أن المراد "بأولي الأمر"، أهل الحل والعقد، من علماء الأمة القادرين على الاجتهاد والاستنباط إذا أجمعوا؛ وهم المعروفون بهذه الصفة في كتب أصول الفقه. وقد قرر الشيخ محمد عبده مثل هذا التفسير، مع تعديل يسير كما اختاره غيره من علماء المعاصرين.

ثانياً: خصوصية التجربة الديموقراطية

يستشعر المتتبع لتاريخ الديموقراطية في العالم الغربي، مدى تأثير خصوصية الظرف التاريخي، على نشأتها وتطورها. فلعله إن لم يكن في أوروبا كنيسة تحكم بالحق الإلهي، وأمراء يحكمون بالإقطاع، لمَا كانت هناك ديموقراطية، أو على الأقل في صورتها الراهنة. فلو كان هناك ظرف تاريخي مغاير، لنتجت عنه نظرية سياسية مغايرة، والدليل على ذلك، أن الديموقراطية في الغرب ليست صورة واحدة، ولا نظرية واحدة، ولا تَعْريف واحد. وبين تطبيقاتها كثير من الاختلاف بين الدول الغربية، نتيجة الاختلاف بين الظروف التاريخية لتلك الدول.

ومرد ذلك أن على كل حضارة الاحتفاظ بخصوصيتها، الفكرية والتاريخية والثقافية. وينبع التطوير، أول ما ينبع ـ عادة ـ من الخصوصية. فالحضارة العالمية الواحدة وهمُ سراب وكذبة كبرى، يراد من ورائها تثبيت وتدعيم السيطرة الغربية المهيمنة على سائر الحضارات، خاصة تلك التي تطرح مفهوما مغايرا لها، كالحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية، مثلاً. لذلك ينبغي مراعاة خصوصية كل حضارة، خاصة في الزمان والمكان.

والديموقراطية في تطورها، لا تدين بالشكر للمفكرين والرأسماليين فقط، بل تدُين أيضاً ببالغ الشكر للآلاف من العمال الفقراء، الذين طحنتهم ماكينة النفعية، وغلواء الفلسفة الفردية، حتى أخذ فلاسفة النفعية ومفكرو الفردية يقيّمون، ويلمسون الآثار السيئة، لبعض أفكارهم على فقراء المجتمع، ويسعون في تعديل تلك الأفكار. فالسعادة حق لكل المواطنين، وليست، كحق الانتخاب، حكراً على طبقة النبلاء والممولين فقط.

وعندما أصبحت العدالة الاجتماعية أكثر المطالب إلحاحاً، تبنتها الاتجاهات الاشتراكية الجديدة، التي كان الراديكاليون والنفعيون والفرديون يحاربونها. فالمبادئ والفلسفات، التي كانت وراء الديموقراطية لم تكن لتؤدي بنفسها إلى العدالة الاجتماعية، لولا نشوء تيارات أخرى معارضة، استطاعت أن تحصل للطبقات الدنيا من العمال على حقوقها.

ومما يؤكد خصوصية كل حضارة، إشكالية الأصول الفكرية. فبقدر ما تحاول كثيرٌ من التيارات الفكرية، داخل المجتمعات المسلمة، التخلص بأكبر قدر، وأسرع وقت، من أصولها الفكرية الخاصة، يحاول الفكر الغربي الحديث، أن يبني بنيانه على أساس من خصوصيته الحضارة الخاصة به، بدءاً من الفكر اليوناني والروماني القديم.

ولا يخفي على متتبعي النهضة الغربية الحديثة، مدى ما لاقاه الفكر اليوناني والروماني من إحياء وبعث، ولو عن طريق مصادر وسيطة (كالمصادر العربية المترجِمة لكثير من ثقافة اليونان)، ثم الاعتماد عليه بعد ذلك، في التطوير والتجديد.

فلا بد، إذن، من التراكم في البناء الحضاري، ولم يصح قط لحضارة أنها بدأت من (الصفر الحضاري)، كما لم يصح لها أنها بدأت، على أساس حضاري مغاير لها.

ولهذا، فإن كل المحاولات الحديثة، لإفقاد المسلمين الخصوصية الحضارية، هي إمّا محاولات للسيطرة، إن كانت من الآخرين، أو محاولات للالتحام بهم والتبري من الحضارة الإسلامية، إن كانت من الداخل.

ولا يمكن أبدا أن تكون هناك محاولة مخلصة، للتقدم والرقي والتجديد والإصلاح، إلاّ وهي تُعنى تماماً بالارتكاز على الخصائص، والأسس الحضارية والفكرية، للأمة المسلمة.

في ضوء ما سبق من خصوصية التجربة، واختلاف الأصول الفكرية، التي تُميز الحضارات بعضها عن بعض، يتقرر التميز الشديد للفكر الإسلامي، في تصوراته ومبادئه وأطروحاته.

فحتى القرن السابع عشر، كان الفيلسوف هوبز يدافع عن الحكم الشمولي المطلق، ويسلب الأفراد كل حقوقهم، بينما لا يُعطي الإسلامُ الحاكمَ مثل هذا الشمول ولا الإطلاق، ولا يسلب الأفراد حقا من حقوقهم.

وفي القرن الثامن عشر، هاجم الفيلسوف جون مل، فكرة حق الانتخاب السياسي لكل مواطن، وجعل في كتابه "الحرية" حريته تلك، حقاً لشعوب من دون شعوب، في حين يسوي الإسلام بين الناس جميعاً على أساس واحد من التقوى. خطب رَسُولِ اللَّهِ r فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ" ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ rَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 22391).

فالإسلام يُعطي كافة الأمة حق البيعة العامة، بعد البيعة الخاصة (بيعة أهل الحل والعقد)، وللإنسان الحق في أن يرتضي البيعة أو يرفضها.

وتكشف السيرة النبوية المشرفة، أن مما صدّ سادة قريش وكبراءها عن الدعوة الجديدة، أنها تسوّي بين الناس، مما يعنى خسرانهم (في تصورهم) للكثير من المصالح المادية، وهؤلاء هم الذين يقابلون في التاريخ الأوروبي طبقة النبلاء والرأسماليين.

ففي حين يقرر الإسلام العدالة الاجتماعية منذ البداية، تضطر ديموقراطية النبلاء والرأسماليين إلى الاعتراف بها، تحت وطأة ثورات العمال الدامية.

ويؤكد هذا المؤلف اختلاف المركز الحضاري نفسه، لكل من الحضارتين الإسلامية والغربية. فبينما يمثل النص (القرآن) مركز الحضارة الإسلامية، يمثل الإنسان مركز الحضارة الغربية. فالاختلاف يبدأ من مركز الحضارة، من نقطة الانطلاق الحضاري، فكيف تتأتى نقطة التقاء بين حضارتين افترقتا ابتداء منذ لحظة انطلاقهما، ومن هنا كان الإسلام يمثل التحدي الحضاري الحقيقي للهيمنة الغربية.

وكذلك اختلاف المصدر بين الحضارتين، له تأثيره وخطره. فمفهوم المصدر، أحد المفاهيم الفارقة، الذي يتحدد بناء عليه كثير من القضايا، التي يفترق فيها الفكر الإسلامي عن الفكر الغربي، حيث تتشكل في ضوء المصدر، مفاهيم أخرى مهمة، تمثل حجر أساس في نظرية الديموقراطية، كالإرادة العامة والسلطان والدولة.

فالإرادة العامة تمثل أحد الأسس النظرية للديموقراطية. ومن جانب آخر، فهي داخلة في مفهوم الأمة في الإسلام. ومن هنا يكون الفرق، بين مفهوم الإرادة العامة في الغرب وفي الإسلام. فهذه الإرادة ـ وحدها في الغرب ـ هي مصدر القانون، وهي وحدها، التي تُمارس السلطان، وتوجه قوى الدولة. على حين أن مصدرية القانون في الإسلام هي للشرع، والأمة بأسرها مؤتمنة على هذا الشرع وعلى تطبيقه، وعلى رقابة من أسند إليهم مهمة التطبيق، فالإرادة العامة في الإسلام مسؤولة عن مراقبة تطبيق الشريعة، وليست هي مصدر التشريع. بل إن هذا الإشكال، ينبني على اختلاف المركز الحضاري نفسه لكل من الحضارتين، الإسلامية والغربية؛ فبينما يمثل النص مركز الحضارة الإسلامية، يمثل الإنسان مركز الحضارة الغربية.

ويتفرع على ذلك اختلاف كبير في مفهوم السلطان والدولة، وواجبات كُلٍ وحقوقه. ففي الحضارة الإسلامية يدور الكل حول الشرع، أخذاً وتطبيقاً، وحماية ودفاعاً، وخدمة. وفي الحضارة الغربية يدور الكل حول الإنسان، سعياً لتحصيل المتعة والسعادة له.

إن النموذج الذي يقدمه الغرب، في دعوته للتخلص من المصدرية الإسلامية بخصوصيتها، بل التخلص من الإيمان بالله ـ مطلق الإيمان ـ حتى يمكن التقدم والتطور، هو نموذج لم يصنعه كل مفكرو الغرب، بل وجد منهم ـ وممن ساهموا بشكل أساسي في تكوين تلك الحضارة ـ من يدعو بقوة إلى الإيمان بالله. ولا شك أن هؤلاء تُمثل أزمتهم مع الإيمان، أزمة كنسية في المقام الأول، حتى اضطروا إلى الخروج إلى مطلق الإيمان بالله، بعد أن عجزت الكنيسة عن إقناعهم.

بل وجُد من هؤلاء المفكرين الغربيين، من قرُبَ بفكرته عن الله، وعلاقته بالموجودات، من فكرة شرع الله في الإسلام.

فمونتسكيو في كتابه "روح القوانين" ـ الذي يعد أحد أعظم ثلاثة كتب قادت الفكر السياسي والاجتماعي الأوروبي في القرن الثامن عشر، - على الرغم من تعصبه الشديد لديانته المسيحية ضد الإسلام يرى أن هناك عقلاً مبدئياً، وهو الله، والقوانين عبارة عن العلاقات، التي توجد بينه وبين الموجودات المختلفة، وفيما بينها وبين بعضها. فعلاقات الله بالكون تتلخص في أنه خلقه وفق قواعد وضعها هو، وهو يحفظه ويصونه، وفق القوانين نفسها التي خلقه بمقتضاها، فالعالم المادي والحال هذه مَسُود بقوانين لا تتغير لأنها أساس وجوده واستمراره.

كما يرى مونتسكيو ضرورة الاستعانة بالدين، والروح الديني، في تهذيب الأخلاق، وتمسك الأفراد بالفضيلة، التي هي في إطاعة القوانين. وأن يعتقد الناس في وجود الله؛ لأن في نكران وجوده تأكيداً لاستقلال الأفراد (أي لضياع حقوقهم)، فحيث لا يكون لديهم إيمان، فإنه يتبعه بالضرورة عصيانهم وتمردهم.

ويرى مونتسكيو أن الحاكم، الذي يحب الدين ويخشى الله، هو كالأسد الذي يخضع لليد التي تحنو عليه، أو الصوت الذي يهدئه. والحاكم، الذي يخشى الله ويكره الدين، كالأسد الذي يقرض السلسلة، التي تحول بينه وبين الهجوم على المارة في طريق. والحاكم، الذي لا يدن لله أبداً، كالأسد المخيف، الذي لا يشعر بحريته، إلاّ عندما يهجم ويفترس. ويذهب مونتسيكو إلى أن التدين، بأي دين، خير ألف مرة من عدم التدين مطلقاً.

على حين يرى الفليسوف الهولندى الشهير سبينوزا، أن العالم يسير بالقضاء والقدر، وأن كل ظواهر هذا العالم، فيزيقية كانت أم إنسانية، إنما تعتمد على الإرادة الإلهية.

بل إن علماء القانون في عصر النهضة، وعلى رأسهم الرئيس داجسو الفرنسي، يذهبون إلى أن القوانين تصدر عن فكرة أو فلسفة خاصة، لسلطة عليا، متحكمة في المجتمع، ومشبعة بتلك الفكرة، والقانون الوضعي في المجتمع، ليس في هذا المعنى إلاّ تعبيراً عن إرادة الله. ذلك أن القانون، صادر عن الحاكم الذي يتولى السلطة، والذي يعد نظرياً ممثلاً عن الله في المجتمع، فهو قد اختاره لينوب عنه في حكمه، وهو إذ يتصرف إنما يعبر عن الإرادة الإلهية، مستهدفاً من ذلك تحقيق أكبر نفع للمجتمع، الذي ولى أمره، وهو بعد مسؤول أمام الله عن هذا التصرف.

إن هذا الفكر أقرب إلى روح الإسلام، منه إلى الوضع، الذي انتهت إليه الحضارة الغربية اليوم. فالشريعة، في إطار هذا التصور، هي الأساس التي يصدر من خلالها الحاكم، ويعتمد في تصرفاته. فهي مجموعة القواعد والقيم، التي يلتقي حولها أفراد المجتمع ويؤمنون بها، وبسلامتها كشريعة خاتمة، بينما اضطر مفكرو الغرب إلى الخروج عن ديانتهم، حيث قصرت عن إعطاء الإجابات الصحيحة والملائمة للنمو والتقدم. فالخروج عن الكنيسة ـ وليس عن الإيمان ـ ضرورة في إطار الفكر الغربي، وليس هو كذلك في إطار الفكر الإسلامي.

إذن، فليس من الضروري أن تكون مصدرية الشرع الإسلامي فكرة ثيوقراطية (أي ربط الدين بالسياسة)، وليس من الضروري أن تكون الحكومة القائمة على هذه الفكرة هي حكومة ثيوقراطية، كما يحلو لمعارضي الحكم الإسلامي أن يصورها.

ثالثاً: نظرية السيادة، وأثرها على الديموقراطية

قبل أن تنضج ثمرة الفكر الغربي الحديث، استطاع روسو ـ بشفافية تسجل له ـ أن يستبطن مدى ما ستؤدي له حركة التطور الفكري والسياسي في أوروبا، من محق لإنسانية الإنسان.

ويبدو أن الغرب الديموقراطي، في سعيه الدؤوب إلى تقدم الإنسان، ينسى الإنسان نفسه، وسط زحام الاهتمام بالتقدم. فيصبح "التقدم فقط"، وليس تقدم الإنسان، هو الغاية المنشودة.

فعندما أُعلن عن انتهاء عصر الفروسية، وبدأ عصر الأنانية وحب الذات، انتهي عصر الإنسان، وبدأ عصر المادة. لذلك، كانت فكرة السيادة في الغرب، منتزعة من الصراع بين الكنيسة، كسلطة إلهية، وبين الجهات المعادية لها، وهي جهة الملوك والإقطاعيين، ومؤيديهم من الفلاسفة والمفكرين.

والأسئلة التي تطرح نفسها، بعد ذلك، هي:

·   هل لأسباب نشأة السيادة، كما هي في المفهوم الغربي، اعتبارٌ ما في النظام الإسلامي؟

·   وهل مضمون نظرية السيادة وأساسها، يتفقان مع ما تقدمه النظرية الإسلامية في سلطة الدولة من مضمون، وما تستند عليه من أساس؟

·   وهل لهذا الجدل الفكري في الغرب، وما نشأ عنه من مذاهب ونظريات، اعتبار عام في كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، بحيث يصلح، كله أو بعضه، لأن يُردد في بيئة أخرى؟

فالمسيحية فصلت بين الدين والدولة، حتى تميزت البلاد المسيحية بوجود سلطتين منفصلتين: سلطة الكنيسة، والسلطة الزمنية. وقد أدى ذلك الفصل، مع أسباب أخرى، إلى ذلك الصراع المرير، الذي استمر طيلة القرون الوسطى، حتى القرن الثامن عشر، والذي ما زال يجد صداه في الخطابات البابوية والقرارات الكنسية للفاتيكان إلى هذا اليوم.

لئن حدث هذا في الغرب المسيحي وفي ظل المسيحية، فإن الإسلام لم يعرفه، بل هو بطبيعته لا يمكن أن يعرفه. فالإسلام لا يقر وجود سلطتين منفصلتين، لأن الإسلام نظام شامل.

وقد قرر مفكرو الإسلام هذه الحقائق، وبينوا خصائص الإسلام، حتى أصبح كل ذلك بديهياً، حتى في أذهان كثير ممن كانوا ينكرون على دينهم ذلك.

وبعد هذا، فالسلطة في الإسلام لم تمر في نشأتها، بما مرت به السلطة والسيادة في الغرب، والإسلام لا يعرف فكرة ازدواجية السلطة. لذلك، لم يكن للفقه الإسلامي أن يعرف "نظرية السيادة" كما عرفها الغرب، فضلاً عن أنه لا يعرف تعبير "السّيادة".

وإذا كان الإسلام لا يعرف السيادة، ـ نظرية أو تعبيراً ـ فإنه يعرف، ولا ريب، نظرية السلطة والسلطان. فالسلطة طبقاً للنظرية الإسلامية، مقيَّدة بأحكام القرآن والسنة، التي تشكل نوعاً سامياً من القانون الدستوري، الذي يعلو على القانون الوضعي.

وتوجد ضمانات لتقييد السلطة في النظرية الإسلامية، بينما نظرية السيادة ـ كما هي في الفكر الغربي ـ لا تعرف هذه الضمانات، بحكم أنها لا تعرف فكرة التقييد ذاتها، ولا تعترف بها. على حين أن النظرية الإسلامية، لم تكتف بوضع قيود على السلطة فقط، بل عُنيت، أيضاً، بوضع ضمانات لهذا التقييد. وهذه الضمانات على نوعين:

تمثل أولهما في مبدأ الشورى، بما يمثله من ضرورة رجوع الحكام إلى الأمة، في الأمور المهمة.

وتمثل ثانيهما في مبدأ الرقابة من الأمة نفسها على تصرفات الحكام، وحقها في عزلهم إن صدر عنهم ما يبرر ذلك.

إن هذه النتيجة لا تدعو فقط، إلى تبرئة الفكر القانوني الإسلامي من كل صلة بنظرية السيادة، بل تدعو كذلك، إلى تخليص الفكر القانوني المقارن من هذه النظرية؛ لأنه ونظرية الاستبداد سواء بسواء.

ولا توجد سوى نظرية واحدة صالحة للسيادة، هي تلك التي تُقرر أن الله الخالق، هو صاحب السيادة على العالم المخلوق.

ولكن في النظام السياسي، وبيد حكام من البشر، لا يمكن استخدام نظرية السيادة استخداماً صحيحاً، لأنه طبقاً للتحليل النهائي لفكرة السيادة، لا توجد سلطة دنيوية يمكن اعتبارها صورة الله على الأرض، أو نائبة عن الله في الأرض. فالله هو مصدر السلطة، التي يوليها الشعب هؤلاء الحكام. وعلى ذلك فإن هؤلاء الحكام ليسوا نواباً عن الله، وإنما هم نواب الشعب، ولا يمكن أن ينفصلوا عن الشعب ويتميزوا عنه، ليحكموه من علِ.



[1] رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1860، عُرف "محرر العبيد في أمريكا".