إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

المبحث الرابع

النظام الإسلامي

عَرِف الإسلام، الدولة بأركانها ودعائمها. وهذه قضية مسلّمة في الفكر الإسلامي، على الرغم من بعض ما أثير حولها.

وفي الحقيقة، يصعب إرجاع نشأة الدولة الإسلامية لأي من النظريات، التي تحاول الكشف عن نشأة الدولة، كالنظريات التيوقراطية، التي تُرجع مصدر السلطة إلى الله تعالى، وكنظرية تأليه الحاكم، ونظرية الحق الإلهي المباشر، ونظرية الحق الإلهي غير المباشر (التفويض الإلهي)، أو تلك النظريات، التي تُرجع نشأة الدولة إلى البشر، كنظرية التغلب والقوة، ونظرية التطور العائلي، ونظرية التطور التاريخي، ونظرية العقد الاجتماعي[1].

فكما لا يخفى، فإن واضعي هذه النظريات، في محاولة لتفسير نشأة الدولة، لم يعنوا أنفسهم بدراسة التجربة الإسلامية في الدولة، ضمن ما درسوه من تجارب الدول، مستخلصين ما توصلوا له من نظريات.

ولئن عَرِفَ التاريخ الإسلامي، نظام حكم إسلامي، فإن الإسلام ـ باعتباره شريعة سماوية خاتمة ـ لم يأت بنظام خاص محدد، يفرضه على المسلمين في كل زمان ومكان، وإنما أتى بمبادئ عامة تصلح لكل زمان ومكان، دون التعرض للتفصيلات، والأساليب والجزئيات، التي بطبيعتها تتطور وتتغير بتغير ظروف الزمان والمكان، لتُراعي فيها كل أمة ما يلائم حالها، وتقتضيه مصالحها.

وبناء على ذلك، فالإسلام فيما يتعلق بنظرية الدولة، لم يدخل في تفاصيل ذات قيم نهائية مطلقة، أو مزودة بحق الشرعية المطردة، التي لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً؛ وإنما اكتفي بوضع المبادئ العامة، والقواعد الكلية، التي ينبغي أن تعتمد عليها هذه النظرية. فالنظرية الإسلامية في الدولة ـ بالنسبة للجزئيات والتفصيلات ـ شأنها شأن سائر النظريات السياسية الإسلامية، قبالة للتغيير والتبديل والإضافة، وصيغها ليست نهائية ولا قطعية، ولا هي موضوعة في قالب جامد.

فالإسلام يسمح بتطوير وتحوير النظريات السياسية، التي اجتهد العلماء المسلمون في صياغتها، طبقا لمتطلبات العصر، وظروف الزمان والمكان، بشرط أن تستند تلك النظريات، إلى المبادئ العامة، التي جاء بها الإسلام في ميدان النظريات والأنظمة السياسية، أو ما يطلق عليه في الاصطلاح (القانون الدستوري).

ولهذا، فالذي يهم المسلمين اليوم، هو استنباط نظرية في الدولة مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، تحقق مقتضيات الحياة العصرية ومتطلباتها، ولا تخرج، في الوقت نفسه، عن أسس الشريعة الإسلامية ومقتضياتها.

أولاً: مبادئ النظام الإسلامي

تتجلى في الأتي:

1. الشريعة والفقه والقانون

فالقانون الإسلامي، أو كما يسميه الفقهاء المسلمون، (الفقه)، أوسع نطاقاً من القانون في التشريعات المعاصرة. ذلك أن القانون بالمعنى الحديث، يشتمل على قسمين، هما: القانون العام، والقانون الخاص. أمّا الفقه الإسلامي، فلا يقتصر على هذين النوعين فقط، بل هو أوسع نطاقا، لأنه يدرس مسائل خارجة عن نطاق القانون بالمعنى الضيق، كأحكام العبادات، وبعض قواعد الصحة العامة، وآداب السلوك والأخلاق.

كما أن الفقه الإسلامي يشتمل على شق آخر، هو علم الأصول، الذي يدرس مصادر التشريع (القرآن والسُّنة والإجماع والقياس وما إليها)، ويبحث في طرق استنباط الأحكام الفرعية، من تلك المصادر. كما يُعد الفقهاء دراسة العقائد علماً مستقلاً، هو علم الكلام أو التوحيد.

2. الدستور والقانون العام في الفقه الإسلامي

تدخل أحكام الخلافة، أو نظام الحكومة في الإسلام، بطبيعتها في نطاق (علم الفروع)، وعلى وجه التحديد، في شقه المتعلق بالقانون العام والقانون الدستوري، مع أن الفقهاء يعتبرونها من مباحث علم الكلام.

ولا شك في وجود قانون عام، وقانون دستوري في الفقه الإسلامي. ولكن الفقهاء المسلمين لم يستعملوا هذه المصطلحات، ولم يقروا بوضوح التفرقة القائمة في القوانين الحديثة، بين القانون العام والقانون الخاص، بل ساروا على بحث الأمور المتعلقة بهذين الفرعين معاً، من دون تمييز أحدهما عن الآخر. فيدرسون العقود مع الحدود، إلى جانب قواعد الإدارة، ونظام القضاء والولايات.

لذلك، فإن تحديد نطاق القانون العام في الفقه الإسلامي، واستنباط قواعد التنظيم الدستوري، أو الإداري، أو الدولي، على أسس مستقلة ومتميزة عن القانون الخاص، مهمة شاقة وعسيرة، لجدتّها على الفقه الإسلامي. ويزيد من صعوبة ذلك، أن مسائل القانون العام، لم تحظ من الفقهاء المسلمين في العصور السابقة، بالعناية نفسها، التي بذلوها في مسائل القانون الخاص.

3. نظام الحكومة الإسلامية (الخلافة)

تتسع نظرية الخلافة، لجميع القواعد المتعلقة بنظام الحكومة الإسلامية، سواء دخلت في نطاق القانون الدستوري، أو القانون الإداري، أو المالي. إلاّ أنها لا تمثل جميع قواعد القانون الدستوري في عُرف التشريعات الحديثة، ولا في نظر الفقه الإسلامي.

4. استقلال التشريع

تُعد القواعد المنظمة للسلطة التشريعية، من أهم مباحث القوانين الحديثة، ومن أهم أبواب الفقه الإسلامي كذلك. لكنها مع ذلك، لا تعتبر في نظر الفقهاء المسلمين، داخلة في نطاق نظام الخلافة، الذي يتمثل في أحكام الخلافة؛ لأن حكومة الخليفة، لا تملك أي سلطة تشريعية في الإسلام.

ومبدأ استقلال التشريع عن الحكومة، يحد من سلطاتها. فلا يستطيع الخليفة أن يكون حاكماً مطلقاً، وهذا من أهم خصائص نظام الحكم في الإسلام. فسلطة الخليفة مقصورة على المسائل التنفيذية، وتعيين القضاة. وإن كانت اختصاصاته واسعة في هاتين الناحيتين، إلاّ أنها لا تشمل حق التشريع. فليس لخليفة المسلمين مطلق السلطة، ولا يملك جميع السلطات.

والسبب في ذلك أن التشريع الإسلامي، في الأصل، تشريع سماوي، فالقرآن والسُّنة هما المصدران الأولان للتشريع، وبعد وفاة النبي r، بقى للشريعة الإسلامية مصدر متجدد يتولى إرشاد الأمة، وهو الإجماع، الذي يأتي في المرتبة الثالثة، من مصادر التشريع الإسلامي.

إن اعتبار إجماع الأمة من مصادر التشريع الإسلامي، هو نواة المبدأ الحديث، الذي يجعل إرادة الأمة مصدر السلطات، والذي يُعبر عنه بمبدأ "سيادة الأمة"، في النظم العصرية.

هذا المبدأ، الذي يقوم عليه التشريع الإسلامي، هو المبدأ نفسه، الذي يقوم عليه النظام النيابي الحديث. لكن الذي يميّز النظام الإسلامي، أن ممثلي الأمة ـ في القيام بوظيفة التشريع ـ هم المجتهدون، أي العلماء الذين يعترف لهم بالوصول إلى مرتبة الاجتهاد.

5. فصل السلطات

يعتبر مبدأ فصل السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، حجر الزاوية في النظم الدستورية الحديثة.

وكان الفقه الدستوري الحديث، يبالغ بادئ الأمر في تطبيق هذا المبدأ تطبيقاً كاملاً، لكنه أصبح الآن يميل إلى الاعتدال، ويراعى ضرورة التعاون بين الهيئات التي تباشر هذه السلطات الثلاث.

وأمّا الفقه الإسلامي فيجمع بين التشدد والاعتدال. فهناك فصل تام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل يبالغ الفقه الإسلامي في ذلك الفصل، إلى درجة لم تصل إليها النظم البرلمانية الحديثة، التي يعترف أغلبها لرئيس الدولة ببعض الاختصاصات في التشريع، عن طريق اقتراح القوانين، أو الاعتراض عليها، أو إصدارها، أو إصدار قرارات لها قوة القوانين.

إن مبدأ فصل السلطات، هو أساس نظام الحكم الإسلامي، على الأخص فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، لأنها مستقلة تماماً عن مؤسسة الخلافة.

أمّا بالنسبة للسلطة القضائية، فعلى الرغم من أنه يدخل ضمن اختصاصات الخليفة تولية القضاة، إلاّ أن الفقهاء قرروا، أن القضاة لا تنتهي ولايتهم بوفاة الخليفة الذي عينهم. وهذا يؤكد بوضوح مبدأ الإسلام في الخليفة، وأنه فقط نائبٌ عن الأمة في مباشرة السلطة التنفيذية، وفي تعيين القضاة. ومعنى ذلك، أن الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، ليس كاملاً في النظام الإسلامي، إلاّ أن السلطتين، معاً، يشتركان في تطبيق الشريعة، والخضوع لها خضوعا كاملاً.

وعلى هذا، يجوز الاعتراض، بشدة، على ما ذهب إليه أحد الباحثين المعاصرين، في قوله: (لا يأخذ نظام الخلافة بمبدأ الفصل بين السلطات، خلافاً للأنظمة الدستورية الغربية، فالخليفة هو صاحب السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي ذلك أحد المآخذ، بل لعله أكبر المآخذ والانتقادات، التي يوجهها البعض إلى نظام الخلافة، لأنه لا يأخذ بذلك المبدأ، الذي قُبِل في الفقه الدستوري الغربي كأهم ضمان للحرية).

إن مبدأ الفصل بين السلطات في الحكم الإسلامي، مقرر لا يخفى. فليس للحاكم أي سلطة تشريعية، وليس له أي سلطة قضائية. فالحاكم له حق التعيين بسبب نيابته عن الأمة، وليس له حق التدخل في القضاء، بل للأمة الاعتراض عليه إذا أساء اختيار بعض القضاة، وطلب عزلهم. وإن الراجح ـ فقهاً ـ من عدم عزل القضاة بموت الخليفة يؤكد هذا المعنى، وأن حق الأمة هو المراعى أولا وأخيرا، وأن تعيين الخليفة للقضاة هو أشبه بالإجراءات، ولا يعبر مطلقا عن حق التدخل في السلطة القضائية. والتاريخ الإسلامي يؤكد هذا الفهم لاستقلال القضاء، كما يؤكد على تقرير مبدأ الفصل بين السلطات، وأن ما وقع خلاف ذلك في التاريخ الإسلامي، فإنما هو خروج عن المبدأ.

ولهذا، سرعان ما وقع الباحث نفسه في الاضطراب، واضطر إلى الاعتراف بوجود مبدأ الفصل، حيث يقول، بعد أن ذكر بعض الوقائع التاريخية: (ومما تقدم يتبين أن الخليفة في عهد الخلفاء الراشدين لم يكن حاكماً مطلقاً، يجمع بين يديه سلطات التشريع والإدارة والقضاء، فالتشريع كان يقوم به في هذا العهد جماعة من المجتهدين، بصفة أساسية. وأمّا القضاء فكان وظيفة مستقلة. فالإسلام قد عرف جوهر مبدأ فصل السلطات، وهو الذي يقول إن السلطات يجب ألاّ تُجمّع في قبضة يد شخصية أو هيئة واحدة، بل يجب توزيعها وتقسيمها بين هيئات مختلفة).

ومما يؤكد هذا الاستقلال، إخضاع الحاكم في الإسلام لرقابة القضاء، التي ذكرها الباحث نفسه حتى إنه وافق على ما سبق ذكره، من أن تعيين الخليفة للقضاة، إنما هو بموجب نيابة الخليفة عن الأمة، فقال: (ولئن كان الخليفة هو الذي يولي ويعزل القضاة، فإن هؤلاء لم يكونوا نوابا عن الخليفة، بل كانوا نواباً عن جمهور الناس ... على أننا إذا رجعنا إلى صدر الإسلام، وإلى عهد الخلفاء الراشدين، فإنه يتبين لنا أن القضاء كان بمنأى عن تدخل الخليفة، على الرغم من أنه يُعين القضاة).

والأدلة الشرعية والوقائع التاريخية، على هذا المبدأ الرقابي (الذي يؤكد المبدأ الأهم، وهو فصل السلطات) كثيرة، قد استوعبتها المؤلفات الخاصة بالقضاء في الإسلام.

6. إجماع الأمة

إن الأمة في الإسلام هي المعبِّرة عن الإرادة الإلهية بإجماعها، وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته. فالإجماع نوع من التعبير عن الإرادة الإلهية، بينما الخليفة لا يملك أن يُعطي لنفسه حق التعبير عن الإرادة الإلهية، لأنه لا يملك سلطة التشريع.

إن كل صورة الديموقراطية الحديثة، لا يمكن أن ترقى إلى ما قرره الإسلام، من أن إرادة الأمة، المتمثلة في الإجماع (بشروطه المقررة أصولياً) هي، التي تعبر عن إرادة الله. فللأمة وحدها، من دون حكامها حتى لو كانوا خلفاء، حق التعبير عن الإرادة الإلهية، بعد القرآن الكريم والسُّنة المشرّفة.

والإجماع هو مصدر التشريع الفقهي المتجدد، وأهمية الإجماع كمصدر للتشريع، تزداد إذا لوُحظ أنه يمثل مع الشورى، أساس النظام النيابي في الإسلام. ولذلك، وصفه المستشرق جولدزيهر بأنه مفتاح التطور التاريخي الإسلامي، من الناحية السياسية والعلمية والتشريعية.

ويسد الإجماع حاجات المجتمع الإسلامي، إلى أحكام جديدة تزداد بمضي العصور، وتغير الظروف. فهو، إذن، أداة فنية ضرورية لصياغة أحكام الشرعية وتقنينها. ولكي يواصل الإجماع تطوره، لا بد من صياغته وصياغة أدواته، في صور معاصرة، تسمح بانطلاقه.

ولهذا، تبطل حجة بعض الباحثين المعاصرين، فيمن وقف موقفاً معارضاً من الإجماع عامة، ومن الإجماع في مجال القانون الدستوري خاصة، حتى قال: (الرأي عندنا أنه لا مكان للإجماع في عصرنا هذا بين مصادر الشريعة الإسلامية، ولا سيما بصدد الأحكام الشرعية الدستورية) وذهب في موضع آخر إلى أن الإجماع متعذر عملاً، في هذا العصر.

فمن الجهة الأصولية، فلا معنى لقصر الإجماع على القرون الثلاثة الأولى، لأن الإجماع، كغيره من مصادر الشريعة، باق إلى يوم الدين. وتبطل حجة من قالوا باستحالة الإجماع. لأن ذلك خلط من بين مستويين: مستوى الحجة، ومستوى الإجراءات.

فالقول باستحالة انعقاد الإجماع، هو حديث في الإجراءات، ولكن أقرب دليل على عدم استحالته إجرائياً هو وقوعه، ونقله في العديد من القضايا بما لا يدع مجالاً للشك في انعقاده، وإمكانه. وإذا كان هذا الإجماع قد وقع في ظل ظروف تقنية بدائية، فكيف نقول هذا في عصر الهاتف المحمول، فضلا عن غيره من وسائل الاتصال الحديثة السريعة.

وإذا كان الاقتراح القديم، بإيجاد مجمع لهيئة الاجتهاد، يضم أكابر العلماء من كافة بلاد الإسلام، تحول بينه العديد من المشكلات، أصعبها المشكلات السياسية، فإن تيسر سبل الاتصال اليوم، يقرب هذا الاقتراح من التنفيذ خطوات وخطوات.

وفي ضوء هذه المبادئ الثلاثة الأخيرة (استقلال التشريع ـ فصل السلطات ـ إجماع الأمة) يمكن الإجابة عن السؤال، الذي طرحه بعض الباحثين المعاصرين: هل يجوز الأخذ بالتشريع الدستوري الصادر من أولي الأمر، في نطاق مبادئ الشريعة الإسلامية، بين مصادر الأحكام الشرعية الدستورية في العصر الحديث، ولا ريب في حجية التشريع الصادر من الخليفة أو الولاة، في حدود أحكام الشريعة الإسلامية، (كما بينها القرآن والسُّنة) مستدلاً بما ورد فيهما من أدلة وجوب الطاعة؟

للرد على هذا يمكن القول: إذا كان المراد "بأولي الأمر"، أهل الحل والعقد، الذين هم نخبة الأمة وعقولها، وأصحاب الكفايات منها، ومن لهم الرقابة على الحاكم، ومن لهم عزله إذا فَعَل ما يقتضي العزل، فليس قولهم حجة شرعية قطعاً. وأولو الأمر بهذا المفهوم، بينهم عموم وخصوص نسبي، مع أهل الإجماع. فرب عالم لا يكون من أهل الحل والعقد، ورب مَنْ هو مِنْ أهل الحل والعقد وليس عالماً معتبراً قوله في الإجماع.

وأمّا إذا كان المراد بأولي الأمر: الولاة والحكام، فليس قولهم ـ مع وجوب طاعتهم ما نصحوا لله ورسوله والأمة ـ حجة شرعية، وعده حجة شرعية، هو أمرٌ منافٍ تماماً لمبادئ النظام الإسلامي.

والذي لا ريب فيه حقاً، وجود فارق قاطع بين حجية القول، وبين وجوب الطاعة، وأن الخلط بينها أمر غير محمود، وإن وجوب طاعة أولي الأمر، مبدأ مقرر شرعاً لا طعن فيه، إلاّ أنه لا يعنى أبدا الحجية الشرعية.

وبالاصطلاح القانوني: فإن الهيئات التشريعية المعاصرة، لا ينبغي أن تتجاوز في النظام الإسلامي حد تفسير القانون، أو شرح القانون، أو وضع اللوائح التنفيذية.

ويُقصد بالقانون هنا، الشريعة الإسلامية قطعاً، ويدخل في التفسير والتنفيذ، كافة الوقائع للإيمان القطعي بعموم الشريعة، وصلاحيتها. وأنه مهما وردت نازلة لا نعرف حكم الشرع فيها، فمرد ذلك لعجز البشر عن إدراك الحكم الشرعي، وليس لعجز الشريعة ـ في نفسها ـ عن الإجابة.

7. سيادة الأمة

إن مبدأ سيادة الأمة في الإسلام، يعني سيادة الشريعة، لأن روح التشريع الإسلامي تفترض، أن السيادة المطلقة، بمعنى السلطة غير المحدودة، إنما هي لله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك. وإرادته هي الشريعة، التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها هو القرآن والسنة والإجماع.

فالإجماع يعنى أن الأمة صاحبة السيادة، فكأن السيادة الإلهية والحق في التشريع أصبحا بعد انقطاع الوحي، وديعة في يد مجموع الأمة، لا في يد الحُكام ولو كانوا خلفاء.

فالسيادة في الإسلام لا يملكها فرد، مهما كانت مكانته، خليفة أو أميراً أو حاكماً، أو هيئة من أي نوع، وإنما هي لله القدير، الذي فوضها للأمة في مجموعها.

والواقع أن المتتبع لأقوال فقهاء الإسلام، بصدد الحاكم وسلطة الحكم، لا يشك في أن الأمة في مفهومهم، هي صاحبة السلطة السياسية، ومستقرها، وأن الحاكم ما هو إلاّ أداة في يد الأمة تمارس به سلطتها.

8. مصادر التشريع الإسلامي للقانون الدستوري

يهتم علماء القانون، عادة، ببيان مصادر التشريع للفروع القانونية المختلفة. إذ إن المصادر تختلف باختلاف تلك الفروع. فالقانون الدستوري الوضعي، تتلخص مصادره في التشريع الدستوري (الدستور)، وبعض القوانين العادية (كقانون الانتخاب)، والعرف (مع ملاحظة أن العرف الدستوري، يختلف عن العرف العادي المعروف في القانون الخاص. والمقصود بالعرف الدستوري، ما جرت عليه الهيئة الحاكمة).

ومهما اختلفت المصادر الوضعية، للفروع القانونية المختلفة، فإن المصادر الشرعية واحدة بالنسبة للجميع: القرآن، والسُّنة، والإجماع، وما يتبعها من مصادر تبعية، حيث تستنبط الأحكام الشرعية المختلفة من تلك المصادر، على اختلاف الأبواب والفروع.

ومن الأهمية بمكان، عند الحديث عن المصادر الشرعية للقانون الدستوري، أن يُنتبه لمِا للقواعد والضوابط الفقهية من أهمية تشريعية، حيث تُوظف فقهياً، لاستنباط الحكم الشرعي في النوازل المستجدة، فلا بد من العناية بجمع هذه القواعد والضوابط، وتنظيمها في إطار كلي.

9. البناء الأخلاقي والقيم الدينية

إن البناء الأخلاقي، القائم على قيم الدين وتعاليمه، يُعد أصلاً مقرراً ملزماً للجماعة المسلمة، وهي تمارس الحكم.

ويُؤسس البناء القيمي الإسلامي على العلم، والعمل بمقتضاه. وهذه القاعدة الثابتة تضم المبادئ المقررة، بمقتضى النصوص من الكتاب والسُّنة النبوية. وبذلك، فإن المجتمع المسلم، من خلال أسس التربية الدينية الإيمانية أولاً، ثم الخلقية السلوكية ثانياً، مجتمع مؤهل لإقامة السلطة السياسية والإدارية، خاصة وأن المواطن الفرد، وقد أحاطته التربية الصحيحة، يكون متوائماً مع فطرته الذاتية المستمدة من طاعة الله ورسوله، لا من سلطة تسلطية بشرية.

10. الالتزام بمقاصد الشريعة

وهذا مبدأ أساسي، فلا بد لأي نظرية مقترحة، أن تتحقق فيها المقاصد الشرعية، وأن تعمل على تحقيق تلك المقاصد، على أرض الواقع.

فلا بد عند صياغة نظرية إسلامية للحكم، أن تكون تحت مظلة المقاصد الشرعية. وعلى الناظر في هذه المقاصد، أن يميز بين مقامات الأقوال والأفعال، الصادرة عن النبي r، وبين أنواع تصرفاته المختلفة: في القضاء، والفتوى، والإمامة، والتشريع، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب.

فأمّا حال التشريع، فهو أغلب أحوال النبي، وأمّا حال الإفتاء فله علامات، وأمّا حال القضاء فهو حين الفصل بين المتخاصمين. وهذه الأحوال الثلاثة كلها شواهد التشريع، وليست التفرقة بينها إلاّ لمعرفة اندراج أصول الشريعة تحتها. والفتوى والقضاء كلاهما تطبيق للتشريع، ويكونان، في الغالب، لأجل المساواة بين الحُكم التشريعي، والحُكم التطبيقي.

وقد عُنيَ فقهاء الشريعة الإسلامية، باستنباط القواعد العامة، والأسس الكلية من تصرفاته، عليه الصلاة والسلام، بالإمامة. فحتى تلك التصرفات الخاصة بظرف سياسي خارجي، فإنها، وإن لم تكن عامة لغيرها من الظروف السياسية، فإنه يستفاد منها حكمة تشريعية، أو علة مستنبطة، يدور معها ذلك التصرف السياسي المأثور، وجوداً وعدماً. ولهذا، فإن للفقهاء من دقة البحث، والتجريد النظري، ما يستطيعون به أن يستخلصوا من التصرفات الخاصة المبادئ والقواعد العامة[2].

ففقهاء الشريعة فرقوا ـ وليس كما يرى بعض الباحثين[3] ـ بين ما يُعد وما لا يُعد تشريعاً عاماً، وصاغوا من الجميع قواعد عامة، ومقاصد شرعية لا ينبغي الخروج عليها.

ثانياً: خصائص النظام الإسلامي

تتميز الدولة الإسلامية بعدد من الخصائص، التي تميزها عن غيرها من الدول، فمن ذلك:

1. إنها دولة دينية، ولكن لا يعني ذلك أنها دولة ثيوقراطية، بالمعنى المسيحي الغربي.

2. إنها دولة عقدية، نشأت بناء على تعاقد حقيقي تم بين أفرادها، وبين قائدها ومؤسسها الأول.

3. إنها دولة شرعية ـ قانونية ـ يخضع فيها الحاكم والمحكوم لحكم الشرع، ويترتب على ذلك نتائج مهمة مثل:

أ. وجوب التزام منهج الشورى.

ب. إرساء دعائم الحق، والعدل، والمساواة، والحقوق، والحريات.

ج. وجوب السمع والطاعة، ـ للحاكم المسلم ـ على الأفراد في الدولة.

د. وجوب بذل المناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

4. إنها دولة واحدة، بمعنى أن الإسلام، كدين ودولة، لا يجيز فكرة التعدد، لأنه يفتح الباب للفرقة والشتات، اللذان نهى عنهما الدين، وأمر بخلافهما.

5. إنها دولة عقائدية، تقوم على أساس عقدي، هو توحيد الله عز وجل، والدخول في دينه والتزام شريعته. وهذه هي غاية الدولة الإسلامية، فهي لا تسعى فقط إلى تحقيق رفاهية الأفراد، ونشر الأمن بينهم، والحفاظ على حرياتهم وحسب، بل تسعى إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ودعوة الناس إلى الدخول في دين الله، وجهاد المعاندين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه[ (سورة آل عمران: الآية 110).

]لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[ (سورة الحديد: الآية 25).

6. تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، هي الغاية التي ترمي إليها دولة قامت على أساس من الإيمان.

ثالثاً: أسس النظام الإسلامي

يمكن تعريف الأسس والدعائم، التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام، بأنها القواعد التي تُبنى عليها دولة الإسلام، ويُستلهم منها النهج السياسي للحكم.

وقد اختلف أهل العلم، حول تحديد هذه الأسس وحصرها، وإن كان خلافهم لفظياً وليس جوهرياً، إذ لو اطلع كل فريق على ما زاده الفريق الآخر من أسس، لقال به. وأهم هذه الأسس، كما أوردها العلماء:

1. العبودية لله وحده، فلا معبود بحق سواه.

2. العدل والعدالة وهما من أسس نظام الحكم. ويشمل مفهوم العدل عدداً من الأسس، منها: عدل الحاكم، والعدل مع غير المسلمين، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية، والعدالة القانونية.

والآيات القرآنية، التي وردت في الحث على العدالة كثيرة، مثل قوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل[  (سورة النساء: الآية 58)، وقوله: ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان[ (سورة النحل: الآية 90).

كما وردت الأحاديث النبوية أيضاً، حاثة على وجوب العدل، ومنع الظلم، وفي مقدمتها قوله r، فيما يرويه عنه الإمام أحمد في مسنده: ]إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِر[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 11099).

وأجمع العلماء على أن العدالة، تعد أول الشروط الواجبة في الإمام (أو الحاكم). وقد ذهبت العدالة في الإسلام مدى بعيداً، أبعد مما عُرف في أي دين أو قانون آخر، إذ نجد القرآن يأمر بالعدل، حتى ضد النفس، ومع الأعداء، أو المحاربين. يقول سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا[ (سورة النساء: الآية 135)، فإن الله يأمر في هذه الآية أن يكون للناس عدولاً، حتى ولو جاء ذلك العدل ضد أنفسهم أو الوالدين أو ذوى القربى. وقوله تعالى: ]وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (سورة المائدة: الآية 8).

ولذلك، اشتهر العرب المسلمون في صدر الإسلام، بالعدالة والتسامح مع غير المسلمين من أهل الكتاب أو أهل الذمة، وذلك فيما يعترف به العلماء والباحثون الغربيون أنفسهم.

ونطاق العدالة في الإسلام عام شامل. فالإسلام لا يتطلب العدالة، كما قد يُظن، من رجال القضاء فحسب، بل هي واجبة على كل من يمارس سلطة أيا كانت؛ ذلك هو ما يفسر به المفسرون قوله تعالى: ]وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل[ (سورة النساء: الآية 58).

ومما تشمله العدالة، فيما يرى بعض رجال الفقه الإسلامي، أن يُحسن الإمام (أو الحاكم) اختيار من يتولون المهام أو المناصب.

والملاحظ أن الفقه الوضعي في العصر الحديث، لا يذكر العدالة إلاّ في صدد الحديث عن القضاء، حيث يُطلق على الوزارة، التي تتبعها المحاكم، "وزارة العدل". ولكن إذا ترك ميدان القضاء، إلى ميدان الحكم (أي الميدان الدستوري والسياسي) فلا يذكر العدالة ولا يُشير إليها، فرجال الفقه الدستوري يذكرونها بين خصائص النظام الديموقراطي، ولا نجدهم يشترطونها في رئيس الدولة (أو غيره من رجال الحكم)، كما يشترطها رجال الفقه الإسلامي. كما لا نجدهم يشترطونها في سياسة الحكم، كما يشترطها رجال الفقه الإسلامي.



[1] نظرية تأليه الحاكم وجدت في العصور السحيقة، وإلى العصر الحديث فقد كان الإنسان يعبد حاكمه، مثل ما في مصر الفرعونية، وفي بلاد فارس والروم والصين واليابان، حيث كان الحاكم يصطبغ بصبغة إلهية ونظرية الحق الإلهي المباشر تعني أن الحاكم ليس إلها، ولكنه يحكم باختيار الله، وقد سادت هذه النظرية أوروبا بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية ونظرية الحق الإلهي غير المباشر (التفويض الإلهي) تعني أن الله لا يتدخل بإرادته المباشرة، سواء في تحديد السلطة أو اختيار الحاكم، وإنما يوجه الحوادث بشكل معين يساعد الشعب على اختيار نظام الحكم، فالسلطة تأتي للحاكم من الله بواسطة الشعب ونظرية التغلب والقوة نعني أن البقاء للأقوى، وقد قامت وتقوم الكثيرة من الدول بناء على هذه النظرية ونظرية التطور العائلي نادى بها أرسطو، حيث رأى أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يكوِّن أسرته الصغيرة التي تتفرع مكونة العائلة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالمدينة، التي هي نواة الدولة ونظرية التطور التاريخي نادى بها دوجي، حيث يرى أن الدولة فقط واقعة اختلاف سياسي، فالدولة توجد في كل مرة يوجد في الجماعة اختلاف سياسي من أي نوع كان، ومن ثم فهي واقعة تاريخية تتحول بها جماعة بشرية إلى دولة ونظرية العقد الاجتماعي تناولها البحث بالتفصيل في محلها.

[2] يقول حازم عبدالمتعال الصعيدي: ولهذا فليس من المقبول ما أطلقه بعض الباحثين من أن فقهاء الشريعة، الذين عرضوا لبحث ما يعد وما لا يعد من السُّنة تشريعاً عاماً، يقررون أنه لا يعد تشريعاً عاماً ما صدر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، باعتبار ما له من الإمامة والرياسة العامة، وذلك لأنه إنما بُنِىّ على المصلحة القائمة في عصره.

[3] يقول حازم عبدالمتعال الصعيدي: (إنه لمما يثير الدهشة أن ننظر فنجد الكثيرين، بل الغالبية العظمى من علماء الشريعة، يغفلون إغفالاً تاماً تلك التفرقة بين ما يُعد وما لا يُعد من السُّنة تشريعاً عاماً، وهي تفرقة بالغة الأهمية)، ونرى أن كلامه في الحقيقة هو الذي غفل من مدارك الفقهاء ومسالكهم في استنباط الأحكام، وتفريقهم الحاسم بين مراتب أقوال وأفعال النبي، صلى الله عليه وسلم، بل واختلافهم في ذلك، ما ترتب على ذلك من اختلافات اجتهادية في الفروع الفقهية المختلفة، وكثرة ذلك وانتشاره سواء فيما يتعلق بأحكام الإمامة أو غيرها يغنى عن ضرب المثال.