إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

المبحث الخامس

الخلافة الإسلامية

أولاً: وجوبها

إذا كان العدل هو أول خصائص النظام الإسلامي، فإن الخلافة هي أميز تلك الخصائص، في إطار اختيار الخليفة، عن طريق بيعة الخاصة (أهل العقد والعقد)، ثم بيعة العامة.

فالخلافة في حقيقتها، رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي r.

وقد ميزّ العلماء، بين ثلاثة أنواع من نظم الحكم: الحكم الواقعي، الذي تسيطر فيه القوة؛ والحكم السياسي، المبني على قواعد العقل؛ والحكم الإسلامي المبني على الشريعة.

والحاكم أو الخليفة في الإسلام، لا يُمارس السلطة على أنها امتياز شخصي له، بل هو أمين على السلطة، يمارسها بصورة مؤقتة ونيابة عن الأمة.

ويرى الدكتور عبدالرازق أحمد السنهوري، في مؤلفه عن الخلافة، أن عقد الإمامة عقد حقيقي مبني على الرضا، وأن الخليفة أو رئيس الدولة في الإسلام، يتولى السلطة نيابة عن الأمة، فالأمة صاحبة السلطة، تفوض الحاكم في ممارسة السلطة، نيابة عنها، ووفقا لعقد صحيح بينها وبينه.

ثانياً: تميُّزها مفهوماً ومصطلحاً

ظهر الإسلام، بعد أن سبقته ديانات سماوية وغير سماوية، فلم يُعْرف ولم يُسمَّ بغير الإسلام. ثم قامت الخلافة، بعد النبوة، ونيابة عنها، بعد أن سبقتها أنظمة سياسية متعددة، في أنحاء كثيرة من العالم، بعضها ديني خالص، وبعضها مدني خالص، وطائفة خضعت للملكية، وأخرى نَعِمت بالجمهورية. ومع ذلك فلم يُعْرف نظام الإسلام السياسي، ولم يُسمَّ إلاّ بالخلافة. وبقيت الخلافة أربعة عشر قرناً، عنواناً على نظام إسلامي، ورمزاً لحضارة إسلامية.

وقد نشأت بعد الإسلام، وبعد قيام نظام الخلافة، أنظمة متعددة، ومذاهب وفرق شتى، اختلفت في الدين، وفي السياسة، وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، وفي كل شؤون الحياة. وكان للدراسات العربية نصيب في هذه التيارات العديدة، التي نشأت، وكان لبعض هذه التيارات أنصار ومعجبون، وربما كان لها متبعون معتقدون، يدعون إليها بمختلف الوسائل والطرق، وربما حمّلوا النصوص ما لا تطيق، وربما فسّروا حوادث التاريخ على غير وجهها، وربما خلطوا بين النص والواقع التاريخي، فحمّلوا النصوص أوزار الواقع. وقد صدرت كتب متعددة هذه الأيام، تحاول أن تجر نظام الإسلام إلى هذا النحو أو ذاك، وأن ترى فيه ما هو بعيد عنه في الحقيقة والواقع.

إن الخلافة، كنظام سياسي في الإسلام، نظام مستقل، إذا أشبهته بعض الأنظمة السياسية القديمة أو الحديثة في بعض نواحيه، فهذا لا يقرّبه منها، ولا يبعده عنها، وإنما يجعله نظاماً خاصاً قائماً بين النظم القديمة والحديثة. لا يمكن أن يكون ملكياً؛ لأن الخليفة يحكم الناس طول حياته، ولا جمهورياً لأنه يفترض أن يُنتخب انتخاباً، ولا اشتراكياً لأنه أمرَ بالعدل، والإحسان، والمساواة، ورعاية اليتيم، والفقير، والمسكين، وفرض الزكاة، ولا رأسمالياً لأنه احترم الملكية الفردية، ولم يلغ الغنى، وإنما الخلافة نظام ديني سياسي فريد، بين هذه النظم، لا يجوز أن يُطلق عليه اسم من الأسماء القديمة أو الحديثة، ولا يُسمى بغير اسمه. هذا ما يقرره العلم الخالص، وما تفرضه الدراسة المتجردة للإسلام، باعتباره نظاماً مستقلاً، بالمقارنة مع الأنظمة السياسية الأخرى.

أضف إلى ذلك، إن هذه المصطلحات السياسية الحديثة، كالديموقراطية، والجمهورية، والاشتراكية وغيرها، أصبحت لها مدلولات خاصة لا تحيد عنها تقريباً، على الرغم من أن الملكية مثلاً مطلقة، ودستورية، وبين بين؛ والجمهورية برلمانية، ورئاسية، وشعبية ديموقراطية؛ وغير ذلك، والاشتراكية أنواع وطبقات، واختلاف في التطبيق. غير أن هذه المصطلحات جميعاً ترجع إلى أصل واحد، له تعريفات محددة في المعاجم السياسية، وفي الكتب التي يتداولها أهل الاختصاص. لذلك، فليس من العدل، ولا من العلم، أن يُسمى نظام عمره أربعة عشر قرناً، باسم حديث قد يتفق معه في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى، وربما كانت مواضع الاختلاف، أكثر بكثير من مواضع الاتفاق.

ثالثاً: طبيعتها

يمثل نظام الخلافة ـ بلا شك ـ أهم ما تجسدت فيه مبادئ الإسلام السياسية. وقد كثرت أقوال الباحثين في ذلك، من العرب والأعاجم. وربما كان طه حسين من أفضل المفكرين، الذين تحدثوا في هذه الموضوع، قال:

(الذين يظنون أن نظام الحكم، في هذا الصدر من حياة المسلمين كان إلهياً، يُخدعون عن رأيهم هذا بما يجدون في أحاديث الخلفاء وخطبهم، وفي أحاديث الناس عنهم وإليهم، من ذكر الله وأمره وسلطانه وطاعته. يحسبون أن هذا كله يدل على أن نظام الحكم، منزلٌ من السماء، مع أنه لا يدل في حقيقة الأمر، إلاّ على شيء يسير خطير في وقت واحد، وهو أن الخلافة عهد بين المسلمين وخلفائهم، وأن الله أمر المسلمين بأن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا، سواء أكان هذا العهد متصلاً بشؤون الحكم أم متصلاً بالعلاقات الخارجية، أم متصلاً بما يكون بين الأفراد من العهود والمواثيق؛ فالله يأمر باحترام العهود، والله شاهد على ضمائر الناس حين يوفون بالعهود، أو ينكثونها، والله يثيب من وفى بالعهد، ويعاقب من نكثه عقاباً شديداً.

فليس بين الإسلام وبين المسيحية، مثلاً، فرق من هذه الناحية. فالإسلام دين يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويوجه إلى الخير ويصد عن الشر، ويريد أن تقوم أمور الناس على العدل، وتبرأ من الجور، ثم يُخلي، بعد ذلك، بينهم وبين أمورهم يدبرونها كما يرون، ما داموا يرعون هذه الحدود؛ ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه؛ ولأمر ما قال عيسى u، للذين جادلوه من بنى إسرائيل: (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، وما أشك في أن عيسى u، لم يرد أن يُعطى ما لقيصر لقيصر بغير حقه، أو أن تقوم الصلة بين قيصر وبين الناس على الظلم والجور والخوف).

لم يكن نظام الحكم، إذن، أيام النبي تيوقراطية مقدسة، وإنما كان أمراً من أمور الناس، يقع فيه الخطأ والصواب، ويُتاح للناس أن يعرفوا منه وأن ينكروا، وأن يرضوا عنه ويسخطوا عليه.

ويظن آخرون، أن نظام الحكم أيام النبي وصاحبيه، كان نظاماً ديمقراطياً، وهذا تجوّز في الألفاظ، وخروج بها عن الدقائق من معانيها؛ وقد ينبغي أن نتبين معنى الديموقراطية بالدقة، قبل أن نقول إن نظام الحكم، هذا أو ذاك، كان أو لم يكن ديموقراطياً.

الديموقراطية لفظ يدل به على حكم الشعب بالشعب وللشعب، أي على أن يختار الشعب حكامه اختياراً حراً، ويراقبهم مراقبة حرة، ليتبين أنهم يحكمونه لمصلحته هو، لا لمصلحتهم هم، ويعزلهم أن لم يرض عن حكمهم، ولم يطمئن إلى الثقة بهم.

على هذا النحو فُهمت الديموقراطية، في العصور القديمة عند اليونان، وكذلك تفهم الديموقراطية في العصور الحديثة عند الأمم، التي تصطنع هذا النظام، على اختلاف مع ذلك في فهم كلمة الشعب؛ فهذه الكلمة كانت تضيق في أيام اليونان، مثلاً، حتى لا تدل إلاّ على جماعة ضئيلة من المواطنين، لهم وحدهم جميع الحقوق، يستوون فيها أمام القانون. على حين لا تستمتع الكثرة الكثيرة من الناس بشيء من هذه الحقوق، ولا تُسهم في أمور الحكم بنصيب. وكان هذا اللفظ يتسع بعد الثورة الفرنسية، إلى حيث يشمل عدداً ضخماً من المواطنين، يكون لهم الاستمتاع بالحقوق السياسية، ولكنه لا يشملهم جميعاً؛ فهو محدد بملك مقدار من المال، أو أداء مقدار معين من الضرائب، أو تحصيل قدر معين من الثقافة؛ ثم اتسع في آخر القرن الماضي حتى شمل المواطنين جميعاً من الرجال، منذ بلوغهم الرشد، ثم اتسع في هذا القرن حتى شمل الرجال والنساء منذ بلوغهم الرشد. وللديموقراطية بعد ذلك، سواء أكانت ضيقة أم واسعة، نظم مقررة تكفل استمتاع الشعب بحقوقه، واختياره لحكامه، ومراقبته لهؤلاء الحكام.

فإذا فُهمت الديموقراطية على هذا المعنى الدقيق، فليس من شك في أن نظام الحكم، في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطياً؛ فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق، وليس الشعب هو الذي اختار النبي r ليبلغه رسالات ربه، وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل؛ ولكن الله أرسل رسوله فاتبعه من اتبعه، وخالف عنه من خالف عنه؛ وإذا قيل إن الذين اتبعوا النبي r من أصحابه، قد اختاروه ليكون لهم حاكماً، فهم لم يختاروه على النحو، الذي يُختار عليه الحكام في النظام الديموقراطي، وهم لم يكونوا يراقبونه ولا يحاسبونه، وإنما كان النبي r يستشيرهم فيشيرون عليه، وكانوا يشيرون عليه حسبة أحياناً، وكان يقبل منهم، أو لا يقبل.

وليس من الدقة في شيء أن يُقال، إن حكم أبى بكر وعمر كان حكماً ديموقراطياً، بالمعنى الدقيق، فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، هم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، على ما كان بينهم في ذلك من اختلاف أول الأمر.

ولم يُستأمر العرب، الذين مات النبي وهم مسلمون، من أهل مكة والطائف والبادية في اختيار أبى بكر أو عمر، وإنما اختارهما أهل المدينة، فسمع لهم سائر المسلمين وأطاعوا.

فإذا أطلق لفظ الديموقراطية على هذا المعنى العام، الذي يُفهم منه حاجة الحكام إلى رضا الشعب عنهم، وثقة الشعب بهم، وأخذ الحكام أنفسهم بأن يسيروا في الشعب سيرة تقوم على العدل والمساواة، وتبرأ من التسلط والاستعلاء، يُمكن أن يُقال إن نظام الحكم في الصدر الأول للإسلام، كان نظاماً ديمقراطياً بهذا المعنى، الذي ليس له مقاييس، ولا معايير، ولا حدود. وسيُرى أثر ذلك، فيما عرض للمسلمين من أمور الفتنة أيام عثمان.

وقد يظن بعض الناس، أن نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، كان نظام السلطان الفردي العادل؛ فلم يكن للنبي، ولا لصاحبيه من بعده شركاء في الحكم، وإنما كان لهم من أصحابهم مشيرون، لا يُلزمهم بمشورتهم أحد؛ ولكن النبي وصاحبيه كانوا على ذلك يتوخون العدل، ولا يتوخون غيره.

وهذا النحو من التفكير، يَقْرُب نظام الحكم، إلى حد ما، من النظام الذي عرفه الرومان أيام الملوك والقياصرة؛ فقد كان ملوك روما وقياصرتها لا يتوارثون الحكم حتماً، وإنما يُنتخب أكثرهم انتخاباً، وكان أحدهم إذا انتُخب، وَلِي الأمر حياته كلها، إلاّ أن تخلعه من الحُكم ثورة أو موت.

إن الفرق بين هذا النظام الروماني، وبين النظام الإسلامي، أيام النبي r وصاحبيه، هو أن العدل كان وحده قوام الحكم، فيما عَرِف المسلمون من هذا النظام. على حين كان ملوك الرومان وقياصرتهم، يتجاوزون العدل والقسط في كثير من الأحيان.

فمن المعروف أن الدين كان له سلطانه، في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي، هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس، وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين، الذي سيطر على ملوك الرومان خاصة، وعلى قياصرتهم إلى حد ما، من النقاء والسّمو ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد؛ إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة، والزجر، واستطلاع ضمائر الغيب بطرق تثير الضحك والسخرية، وكان تطور الشعب الروماني، من حياته الساذجة الأولى إلى حياته المعقدة، مُباعداً كل البعد لتطور الشعب العربي، من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني مادياً، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلاً قليلاً. على حين كان التطور العربي معنوياً، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، وكأنه كان تطوراً من داخل إلى خارج. تغيرت النفس العربية، فتغيرت الحياة المادية للعرب، على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيرت ظروف الرومان الخارجية، فتطورت نفوسهم وضمائرهم.

والبيئتان، من بعد ذلك، مختلفان بمقدار ما يكون الاختلاف، بين إيطاليا والحجاز. إذن فليس غريباً ألاّ يكون هناك تشابه، بين نظام الحكم الروماني أيام الملوك، أو أيام القياصرة، ونظام الحكم في الصدر الأول للإسلام.

ولعل تشابهاً، بعيداً أو قريباً، كان بين نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية، ونظام الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي r. فقد كان الرومان يختارون قناصلهم، على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم؛ وإلى شيء من ذلك نحا الأنصار حين قالوا للمهاجرين : منا أمير ومنكم أمير، ثم كان سلطان القنصل بعد اختياره، يشبه في عمومه وشموله سلطان الخلفاء؛ إلاّ أن سلطان القنصل كان موقوتاً بسنة واحدة، وكان سلطان الخلفاء يمتد مدى الحياة، بعد اختيار الخليفة؛ وكان سلطان القنصل مقيداً بالقوانين، التي تصدرها جماعة الشعب، والقرارات التي يصدرها مجلس الشيوخ، كما كان سلطان الخليفة مقيداً بالحدود التي رسمها الدين، وبما يرى كبار الصحابة من رأي، وبما تميل إليه، أو تنحرف عنه، عامة المسلمين.

ولكن هذه كلها وجوه للتشابه، يظهر فيها التكلف والتصنع والإبعاد؛ فإذا أضفنا إليها مظاهر الحكم، التي كانت تحيط بالقنصل، ولم يكن يحيط منها شيء بالخليفة، وإذا أضفنا إلى ذلك بعض النظم، التي اقتضتها ظروف الجمهورية الرومانية، لتقييد سلطان القنصل، وحماية العامة من تحكمه، كنظام الزعماء، الذين كانت الدهماء تنتخبهم ليكفوا عنها جور القنصل إن هَمَّ القنصل بشيء من الجور؛ إذا أضفنا هذه الفروق إلى وجوه الشبه تلك المتكلفة، كان من الواضح أن ليس هناك صلة، بين نظام الحكم العربي، في ذلك العهد القصير، وبين نظم الرومان في عهد الملوك، أو عهد الجمهورية، أو عهد القياصرة.

لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد، نظام حكم مطلق، ولا نظاماً ديمقراطياً، على نحو ما عرفه اليونان، ولا نظاماً ملكياً، أو جمهورياً أو قيصرياً مقيداً، على نحو ما عرفه الرومان. وإنما كان نظاماً عربياً خالصاً، بيّن الإسلام حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملؤوا ما بين هذه الحدود، من جهة أخرى.

فنظام الحكم العربي الإسلامي في ذلك العهد، لم يكن ملكياً، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء، كما كان يؤذيهم أن يُظهر لهم الملك؛ وهو لم يكن جمهورياً، فلم يُعْرف في نظم الجمهورية، نظاماً للرئيس المنتخب يرقى فيه إلى الحكم، فلا ينزله عنه إلاّ الموت؛ ولم يكن قيصرياً بالمعنى، الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء. فهو إذن نظام عربي إسلامي خالص، لم يُسبق العرب إليه، ثم لم يقلدوا بعد ذلك فيه.

رابعاً: خصائصها

تتميز الخلافة الإسلامية، عن الحكومات الأخرى، بالخصائص الآتية:

1. أن اختصاصات الخلافة الإسلامية، بصفة عامة، تقوم على التكامل، بين الشؤون الدنيوية والدينية.

2. أن حكومة الخلافة ملزمة، بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية.

3. أن الخلافة الإسلامية، تقوم على وحدة العالم الإسلامي.

فالخلافة الإسلامية حكومة من نوع خاصٍ، له خصائصه المميزة له؛ فإذا لم تؤخذ بعين الاعتبار هذه الخصائص، فلا يُمكن فهم الجدل الطويل، الذي يدور حول وجوب الخلافة أو عدم وجوبها.

1. وجوب الخلافة

يرى أهل السُّنة والمعتزلة، أن الخلافة واجب شرعي؛ ولكن يختلفون في أساس هذا الوجوب، فبينما يرى أهل السنة أن سند وجوب الخلافة هو الإجماع، يرى عامة المعتزلة أن سند الوجوب هو العقل.

وهناك طائفة من المعتزلة، ترى أن سند وجوب الخلافة، شرعي وعقلي في وقت واحد.

بينما يرى الشيعة وجوب الخلافة، لكن استناداً إلى النص على الإمام، حسب ما تقرره أصولهم.

فأهل السُّنة يستندون إلى الإجماع، حيث توجد سوابق تاريخية مؤكدة، أجمع الصحابة فيها على ضرورة اختيار واحد منهم رئيساً يقوم مقام النبي r، بل شرعوا في انتخاب الخليفة قبل أن يُدفن النبي r، مما يؤكد صفة الاستعجال والخطورة لهذه المسألة (تنصيب الخليفة)، في نظرهم.

ومهما كان الخلاف بين الأنصار والمهاجرين، أو بين بعض المهاجرين وبعض آخر، فإنه كان مقصوراً على اختيار شخص الخليفة من بين المرشحين، ولكنه لم يَنْصَبْ قط على مبدأ وجوب اختيار الخليفة، ولا على وجوب الخلافة.

ويستند المعتزلة في القول بوجوب الخلافة، إلى أنها واجبة بحكم العقل. فوجود حكومة للمجتمع الإسلامي، ضرورة يحتمها العقل، لأنه لا يمكن وجود مجتمع دون رئيس.

وواضح أن حجة المعتزلة، تنصب على مبدأ وجود حكومة في المجتمع الإسلامي، كغيره من المجتمعات. لذلك، كانت حجتهم، مقارنة لما قال به غيرهم من فلاسفة الحكم الأوربيين، على أساس وجوب الخلافة، ولم يحاولوا وضع تنظيم كامل لحكومة الخلافة، على الأساس العقلي الذي يتميز به مذهبهم.

ويستطيع أهل السُّنة أن يردوا على حجج المعتزلة، بأنها تبرر وجود حكومة، ولكنها لا تصلح أساساً لوجوب ذلك النظام المتميز من أنظمة الحكم، وهو الخلافة.

ولهذا، فإن الدليل العقلي إذا كان يستوجب وجود سلطة عامة، أيا ما كان شكلها، فإن الدليل الشرعي هو الذي يستوجب أن تكون هذه الحكومة، قد توفرت فيها الخصائص المميزة لنظام الخلافة.

والفرقة الإسلامية الوحيدة، التي خرجت على الإجماع بوجوب الخلافة، هي فرقة الخوارج، حيث ذهبوا إلى أن الخلافة ليست ضرورية دائما، فإن الناس يمكن أن يحققوا مصالحهم وينظّموا أمورهم من دون حاجة إلى سلطة نظامية تحكمهم. كما أن الخلافة ليست نافعة دائما، حيث لا يمكن الوصول إلى الخليفة والانتفاع به في جميع الأوقات، إلاّ لعدد قليل. كما أن الخلافة أدت في كثير من الأحيان، إلى الفتن والحروب. كما أن تنصيب الخليفة ليس ممكناً دائماً، إذ الشروط اللازمة في الخليفة لا يمكن توافرها في جميع الأوقات. وفي هذه الحالة إذا فرضنا على المسلمين إقامة خليفة، فمعناه أننا نلزمهم باختيار خليفة لم تتوفر فيه الشروط الشرعية، وهذا يخالف الشرع، أو نلزمهم بعدم اختيار خليفة، وهذا مخالف أيضا للشرع.

2. موقف الشيخ علي عبدالرازق[1]

أخذ الشيخ علي عبدالرازق برأي الخوارج، مضيفاً إليه بعض ما رآه حجة في نظره، وقد بنى نظريته في الخلافة، على فكرتين أساسيتين:

أ. أنه لا سند لوجوب الخلافة في العقل، ولا في الشرع، وأن الإجماع الذي يستند إليه أهل السُّنة، في وجوب الخلافة، لم يوجد. وحجته في ذلك أنه إذا استثنينا الخلفاء الراشدين، نجد أن الخلافة، قامت بعد ذلك على القوة، كما أن العقل الذي يستند إليه المعتزلة في وجوب الخلافة، إنما يستلزم إقامة حكومة نظامية من أي نوع، وليس الخلافة في حد ذاتها.

ويُرد القائلون بوجوب الخلافة، على الشيخ علي في هذه الفكرة بأنه خلط بين أمرين، كان من الواجب أن يميز بينهما. فهو يخلط بين وجود نظام الخلافة، وبين اختيار الخليفة، والمسلمون لم يخلطوا قط بينهما. فمن ناحية مبدأ وجوب نظام الخلافة، أجمع المسلمون عليه منذ قيام أبي بكر فيهم خطيباً معلناً ضرورة إقامة الخلافة الإسلامية، لضمان تنفيذ الشريعة، وأقره الصحابة على ذلك، وأجمع عليه المسلمون من بعد.

أمّا القوة والعنف، فكانت تهدف إلى فرض خليفة بعينه، واضطهاد منافسيه. والفتن بين المسلمين إنما كان سببها تنافس المرشحين على الوصول إلى منصب الخلافة، وهو أمر طبيعي في جميع الأمم. وقد كان الخلاف محصوراً في دائرة المناقشات السلمية، في عهد الخلفاء الراشدين، حينما كانت حرية الرأي مكفولة. لكن بعد ذلك لجأ بعض الفرق إلى السيف ليستولوا على المنصب بالقوة، وهي ظاهرة معروفة في تاريخ جميع الإمبراطوريات الكبرى، ولم تكن خاصة بالتاريخ الإسلامي، ولا مقصورة على الخلافة الإسلامية.

فمن الخطأ، إذن، أن يُقال: إن المسلمين لم يجمعوا قط على وجوب الخلافة، بسبب أنهم كانوا مختلفين على الأشخاص، الذين يتولون هذا المنصب، فالخلاف كان منصباً على الأشخاص، لا على المبدأ ذاته.

ب. أمّا الفكرة الثانية، التي استند إليها الشيخ علي عبدالرازق، وجعلها أساساً لادعاءاته، فهي: أن الإسلام نظام ديني بحت، ولا شأن له بالحكم، وأن النبي، r، جاء برسالة روحية دينية، وأنه لم يقصد قط إلى إنشاء دولة إسلامية. ويؤيد هذا الزعم بدراسة نظام الحكومة في عهد النبي. وينتهي في دراسته إلى أن ما وضعه النبي من أنظمة، كانت فقط أنظمة فطرية غير محكمة.

ويسأل بعد ذلك، عما إذا كان النبي r، قد قصد من هذه الأنظمة إنشاء حكومة، أم أنه كان يعتبر الغاية الوحيدة نشر ديانته؟ ثم يناقش الرأي القائل بأن الرسالة النبوية تضمنت الأمرين: تبليغ الرسالة، وإقامة حكومة تنفّذ الشريعة.

ويرد عليه القائلون بوجوب الخلافة، أن ضعف الأنظمة التي أقامها، النبي للحكم، ينقض هذا الرأي. فلو كان إنشاء الدولة داخلاً في الرسالة حقيقة، لوضع النبي r للدولة أُسسا وقواعد واضحة ومحددة.

بم إذن يفسر علي عبدالرازق، مظاهر السلطة الحكومية، التي مارسها النبي r؟

هناك تفسير يرفضه الشيخ علي، وهو التفسير القائل بأن النبي r، أقام هذه النظم، باعتباره رئيس دولة.

أمّا التفسير الذي يراه، فهو أن هذه النظم، كانت من مقتضيات سلطته الروحية لتبليغ الرسالة، وهذه السلطة خاصة بشخص النبي r، ولا تنتقل بعد وفاته. ويؤيد ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث، التي تدل في نظره، على أن النبي r ما أُرسل إلاّ ليبلغ الناس رسالة ربه، من دون أن يكون له سلطان عليهم.

ويرد عليه القائلون يوجب تأسيس الخلافة في الإسلام، بأن علينا أولاً أن نحدد المقصود من (الدين) و(الدولة). فقد استعمل الشيخ علي هذين المصطلحين في معرض حديثه، وكأنه يقصد بهما المعنى الأوروبي المعاصر، أي: أن الدولة هي مجموع سلطات ثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وأن الدين هو القواعد، التي تتعلق بعقيدة الفرد وعلاقته بربه وعباداته. وعلى هذا الأساس يرى أن النبي، لم يؤسس دولة بالمعنى المعاصر.

والحقيقة أن فكرتي الدين والدولة، لم يكن التمييز بينهما قائماً في عهد النبي r، على نحو ما هو قائم الآن. وهذا ما يفسر الصبغة الدينية، التي اصطبغت به النظم السياسية في الإسلام.

أمّا القول بأن النُظم في العهد النبوي غير محكمة، فقولٌ لا يصلح سنداً لنظريته، لأن عدم الإحكام كان سببه الحالة الفطرية، التي كان عليها مجتمع شبه الجزيرة العربية، وكانت لا تسمح بوجود نظم دقيقة معقدة. فالنبي r قد وضع لحكومته، أصلح النظم الممكنة في زمنه، لأنها تناسب حالة المجتمع، ولا يُعاب عليه أن حكومته لم تشمل النظم الموجودة في الدول الحديثة، لأن هذه النظم ما كانت تناسب المجتمع الذي يعيش فيه، ومع ذلك، فإن حكومة النبي، أقامت دولة حقيقية، لا تقل في نظمها عن الدولة الرومانية أو الفارسية.

كما أن هذه النُظم، كانت تحمل في طياتها عوامل التطور والنمو. وقد تطورت بالفعل من دون أن تخرج بذلك، عن كونها مؤسسة على الإسلام. فالسلطات التي باشرها النبي، إنما كانت أنظمة مدنية حقيقية، كأي حكومة أخرى، وكان يفرض بمقتضاها عقوبات جنائية، على من يُخالف أحكام التشريع الإسلامي، ولم يكتف بالجزاءات الأخروية التي يفرضها الدين. وكان له عمال إداريون، وجيش مسلح، أي أنه كان حاكماً دنيوياً.

وعلى كلٍ، فإن التجاوزات التاريخية، كاستغلال الخلفاء للقوة والسيطرة، والصفة الدينية للخلافة، فهي ممارسات لا تعيب نظام الخلافة نفسه، وإنما تقع تبعتها على الشعوب، التي رضخت للحكومات الاستبدادية، التي أخلّت بالنظم الإسلامية، وخالفت الشريعة مخالفة صريحة.

خامساً: الفروق الأساسية بين الديموقراطية، والخلافة الإسلامية

تتمثل أهم الفوارق بين الديموقراطية والخلافة الإسلام، في الأمور الثلاثة التالية:

1. الأمر الأول

إن المراد بكلمة (شعب) أو (أمة) في الديموقراطية الحديثة، كما هي في عالم الغرب، كيان بشري محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم، والجنس، واللغة، والعادات المشتركة. أي أن الديموقراطية مقترنة، لا محالة، بفكرة القومية، أو العنصرية، وتسايرها نزعة التعصب أو العصبية.

وأما في الإسلام، فالأمة ـ في الأصل ـ ليست فقط الكيان البشري، الذي يربط بين أعضائه وحدة المكان، أو الدم، أو اللغة. فهذه روابط صناعية، أو عارضة، أو ثانوية؛ ولكن الرابطة أصلاً هي الوحدة في العقيدة: أي في الفكرة والوجدان. فكل من اعتنق الإسلام من أي جنس، أو لون، أو وطن، فهو عضو في دولة الإسلام.

فنظرة الإسلام إنسانية، وأُفُقه عالمي، وإن كان هذا لا يمنع، بل قد يكون ضرورياً لتحقيق الصالح العام، أن يوجد في داخل تلك الدائرة العامة دوائر خاصة: إقليمية أو قومية، من أجل التنظيم، أو تحقيق أغراض وطنية، أو محلية، لا تتعارض مع الأغراض العامة. وإذا وجدت الروابط الأخرى، وهي وحدة الوطن والأصل واللغة وغيرها، إلى جانب الرابطة الأساسية، وهي وحدة العقيدة، كان هذا أقوى تأكيداً لوجود الأمة، وظهور الدولة.

ودليل ما تقدم قوله تعالى مخاطباً نبيه r: ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[ (سورة سبأ: الآية 28)، وقوله تعالى: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[ (سورة الأعراف: الآية 158)، وقوله تعالى ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[ (سورة الأنبياء: الآية 107).

2. الأمر الثاني

إن أهداف الديموقراطية الغربية الحديثة، أو أي ديموقراطية ظهرت في الأزمنة القديمة، هي أهداف دنيوية، أو مادية؛ فهي ترمي إلى تحقيق سعادة كيان بشري بعينه، من حيث تحقيق مطالبه في هذه الحياة الدنيا. فترمى إلى إنماء الثروة، أو رفع الأجور مثلاً، أو كسب حربي.

ولكن أغراض النظام الإسلامي، أو الديموقراطية الإسلامية إن صح هذا التعبير، فتشمل مثل هذه الأهداف في الدنيا، وتعطيها ما يجب لها من أهمية، مع إبعاد فكرة التحيز القومي. فتجمع إلى جانبها أهدافاً روحية، بل إن الأهداف الروحية هي الأساس، والأوْلى، والأسمى.

فدولة الإسلام تنظر في أعمالها، إلى الآخرة على أنها الغاية، فتقوم بكل أعمال الخير، التي يأمر بها الدين، وتؤدي إلى رضوان الله، وتحقق المطالب الروحية للإنسان. كما أنها تجعل الدين، أو القانون الأخلاقي، المقياس، الذي تقيس به أعمالها، وكل تصرفاتها.

3. الأمر الثالث

إن سلطة الأمة في الديموقراطية الغربية مطلقة، فالأمة هي صاحبة السيادة؛ فهي، أو المجلس الذي تنتخبه، تضع القانون، أو تلغيه. والقرارات التي يصدرها هذا المجلس تصبح قانوناً واجب النفاذ، وتجب لها الطاعة، حتى وإن جاءت مخالفة للقانون الأخلاقي، أو متعارضة مع المصالح الإنسانية العامة. فالديموقراطية الحديثة مثلاً، تُعلن الحرب من أجل سيادة شعب على غيره، أو الاستيلاء على سوق، أو استعمار مكان، أو احتكار منابع الثروات، وفي سبيل ذلك تسفك دماء، وتُزهق أرواحٌ، وتشقى الإنسانية كلها بذلك.

ولكن في الإسلام ليست سلطة الأمة مطلقة من دون قيد، وإنما هي مقيدة بالشريعة: بدين الله، الذي اعتنقه، والتزم به كل فرد منها. فهي لا تستطيع أن تتصرف إلاّ في حدود هذا القانون، وهذا القانون مستمد من الكتاب والسُّنة.

وإذا كان هذا القانون قد اعترف، بأن إرادة الأمة الكلية، هي أحد مصادر القانون، فالمفهوم أن هذه الإرادة تعتمد على ما جاء في الكتاب والسُّنة أيضاً، في صورة ما، فلا بد للإجماع من مستند من الكتاب أو السُّنة.

فالأمة في الإسلام، أو الديموقراطية الإسلامية، ملتزمة بالقانون الأخلاقي، ومقيدة بمبادئه، وقد فرض الدين عليها واجبات، وكلفها بمسؤوليات.

هذه هي أهم الفروق، بين الديموقراطية والخلافة الإسلامية. وفي ضوء ذلك تكمُن الإجابة على السؤال: أين إذن مقر السيادة؟ أو من هو صاحب السيادة، بالمعنى الدستوري الحديث، في الدولة الإسلامية؟

إن كان الإسلام لا يتطابق مع أي من النظم المعروفة، التي ذُكرت، فليس الحاكم، إذن، هو صاحب السيادة؛ لأن الإسلام ليس أوتوقراطية؛ ولا رجال الدين أو الآلهة، لأنه ليس ثيوقراطية؛ ولا القانون وحده لأنه ليس نوموقراطية؛ ولا الأمة وحدها، لأنه ليس ديموقراطية، بهذا المعنى الضيق.

والجواب الصحيح أن السيادة في الإسلام مزدوجة، فالسيد أمران مجتمعان، ينبغي أن يظلا متلازمين، ولا يتصور قيام الدولة وبقاؤها، إلاّ بوجود هذا التلازم. هذان الأمران هما:

أ. الأمة.

ب. القانون أو شريعة الإسلام.

فالأمة والشريعة، معاً، هما صاحبا السيادة في الدولة الإسلامية.

فالدولة الإسلامية، إذن، على هذه الصورة نظام فريد، خاص بالإسلام. لا يصح القول بأنه يتطابق مع أي من النظم المعروفة؛ ولذا ينبغي أن يوضع للدولة الإسلامية اصطلاح خاص بها، وتسمى باسم يمثل حقيقتها.

وما دام مثل هذا الاسم لم يوضع، أو لم يُهتد إليه بعد، فيكتفي بأن يشار إليها على أنها (النظام الإسلامي).

فإن كان لابد من استعمال لفظ ديموقراطية، مع مراعاة الفوارق الأساسية، فيمكن أن يوصف هذا النظام على وجه تقريبي بأنه: ديموقراطية، إنسانية، عالمية، دينية، أخلاقية، روحية، ومادية معاً، أو يجوز أن تجمع كل هذه الصفات في تعبير موجز، فيقال : إنها هي (الديموقراطية الإسلامية).

هكذا ذهب الدكتور ضياء الدين الريس في اقتراحه، بخصوص تسمية النظام الإسلامي، وإن كان ثمة اقتراح آخر، وبناء على ما تقدم من الحديث عن الخلافة الإسلامية، وأنها أميز خصائص النظام الإسلامي، أن يسمى بـ: النظام الخلافي، أو "نظام الخلافة"؛ لعدة أمور منها:

أ. إن مصطلح الخلافة هو مصطلح إسلامي خالص، لا يخشى معه من إسقاط أي دلالات غربية على الفكر الإسلامي.

ب. إن الخلافة هي أميز خصائص النظام الإسلامي.

ج. إن لهذا الاسم من الشهرة والخصوصية، ما يجعل معناه يتبادر من دون أدنى لبس.

د. إنه محدد الدلالة عن المصطلح الإسلامي الآخر (الإمامة)، لاشتراكه بين الإمامة الصغرى والكبرى، ولو قلنا: (الإمامة الكبرى) لتميز عنه مصطلح الخلافة، بكونه أكثر اختصاراً.

سادساً: البيعة الإسلامية، ونظرية العقد الاجتماعي

إذا كانت نظرية العقد الاجتماعي، تُعد من أهم النظريات الديموقراطية، فلا بد من عقد مقارنة، بينها وبين ما يقدمه الفكر الإسلامي في هذا الصدد، وهي نظرية البيعة، حيث يُدخل بعض المفكرين في إطار فكرة العقد الاجتماعي، ما قيل به في الفقه الإسلامي، من أن الخلافة عقد حقيقي معناه الاختيار من الأمة، ووسيلته البيعة الصحيحة القائمة على الرضا.

فمن الأمور البينة، أن الدولة الإسلامية لا يرجع الأصل في نشأتها إلى عقد اجتماعي. فلا يوجد مثل هذا العقد في تاريخ الدولة الإسلامية (كما هو الشأن في سائر الدول الأخرى)، وإن كانت نظرية العقد الاجتماعي (ومثلها سائر النظريات الديموقراطية)، تقوم على أساس أن السلطة مصدرها الشعب، وتتفق مع ما هو مقرر في الإسلام، من أن الأمة هي مصدر السلطة.

ويُلمح في التاريخ الإسلامي مشابهة ـ إلى حد ما ـ بين بيعتي العقبة المعروفتين في هذا التاريخ، وذلك العقد الاجتماعي. فالنظرية الغربية ترجح أساس الدولة إلى فكرة العقد، ومن الأمور المعلومة أن بيعتي العقبة، اللتان تم الاتفاق أو التعاقد فيهما، بين رسول الله r، ووفود المدينة، كانتا نقطتي التحول في حياة الإسلام، وحجرا الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، إذ لم تكن هجرة الرسول r إلى المدينة، وتأسيسه للدولة الإسلامية، إلاّ إحدى النتائج التي ترتبت عليهما.

ولكن يلاحظ أن بين العقد الاجتماعي وبيعتي العقبة، أوجه خلاف جوهرية، تتمثل في الآتي:

1. العقد الاجتماعي، الذي تحدث عنه روسو وغيره من الفلاسفة، كان خيالاً فقط، لم يجد أي سند من الواقع. ولا يوجد في التاريخ مطلقاً ما يماثل هذا العقد المزعوم، ولا يمكن قبول هذه النظرية على اعتبار التعاقد افتراضا ومجازاً. ذلك، لأنه لا يخفى ما وراء هذا الافتراض من خطر عظيم، لأن هذه الفكرة سيترتب عليها إعطاء الحاكم، سلطة تحديد مدى ما تنازل عنه الأفراد من حريات، ومدى ما تحملوه من التزامات وقيود.

أمّا عقد البيعة فيستند، كما هو معروف، إلى ماض تاريخي ثابت. فقد حدث مرتين في العهد النبوي عند العقبة، وكان له أثرٌ واضح في قيام الدولة الإسلامية، فهو عقد تاريخي، وحقيقة يعرفها الجميع.

ثم إن الحاكم في الإسلام، ليس له سلطة تحديد مدى ما للأفراد من حريات وحقوق. فهذه الحريات نصت عليها مصادر الشريعة الإسلامية، وقررت الضمانات الكفيلة بالمحافظة عليها.

2. يُرجح العقد الاجتماعي أصل الدولة إلى اتفاق، أو إلى تعاقد الأفراد فيما بينهم، على الحياة في جماعة.

ومعلوم أن الاتفاق في بيعتي العقبة، لم يكن على تأسيس دولة. فقد كان الاتفاق في البيعة الأولى على التوحيد، وقواعد الأخلاق الاجتماعية. وأمّا البيعة الثانية، فقد كان التعاقد فيها، إلى جانب الأمور السابقة، على التضامن في الحرب والسلم، وعلى الطاعة في المعروف، والمجاهرة بالحق.

3. تقول نظرية العقد الاجتماعي، إن الحاكم أو رئيس الدولة، يستمد سلطانه بناء على عقد بينه وبين الأمة.

ومن الأمور البينة أن النبي r، لم يكن يستمد سلطانه، كرئيس للدولة الإسلامية، نتيجة للاتفاق، أو التعاقد، الذي تم في بيعتي العقبة، وإنما ثبت له هذا السلطان بحكم الله، ووحي السماء. وقد صرح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: ]مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه[َ (سورة النساء: الآية 80)، وقال: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[ (سورة الأحزاب: الآية 36).

4. العقد الاجتماعي ليس في حقيقته، وسيلة لإبداء رأي الأمة أو المجتمع، في شأن عام من شؤونها، أو أمر مهم من أمورها، كالبيعة. وإنما هو تعاقد واتفاق بين الأفراد، على الحياة في جماعة. فهو أمر شخصي يتتبع الأفراد، لأن العقد الاجتماعي يكون الاستيعاب فيه شاملا لجميع الأفراد المكونين للجماعة، ومن يخطئه التعاقد لا يعتبر داخلا في الجماعة، ولا منتميا إليها.

أمّا البيعة، فهي وسيلة للتعبير عن رأي الأمة، في شأن عام من شؤونها. وليس يلزم لسلامة هذا التعبير شرعاً، أن يشترك فيه كل أفراد الأمة، بل يكفي الأغلبية، كما هو الشأن في الدساتير الحديثة.

ومن المعروف أن بيعتي العقبة، لم يحضرهما كل أفراد المجتمع الإسلامي في وقت حدوثهما، فقد حضر البيعة الأولى اثنا عشر رجلاً من أهل المدينة، بينما حضر البيعة الثانية ثلاثة وسبعون رجلاً، وامرأتان.

5. بيّن التاريخ الإسلامي، أنه بعد وفاة الرسول r، تولى الخلفاء الحكم عن طريق بيعة الخلافة. وهنا يُلاحظ شبهٌ كبير وعجيب بين فكرة هذه البيعة، ونظرية العقد الاجتماعي. فعلماء الفقه الإسلامي قالوا: إن (الإمامة عقد)، أي إن الإمامة (أو الخلافة) تثبت بالاختيار والاتفاق، لا بالنص والتعيين.

وحجتهم في ذلك، أن الإمامة لا يمكن أن تنعقد، إلاّ بأحد طريقين: النص ـ ويقصدون به التعيين من الله ـ والاختيار، أي من الأمة، وما دام الطريق الأول لم يقم عليه دليل، فلا يبقى إلاّ الطريق الثاني، وهو أن الأمة هي التي تختار من يتولى أمورها، وذلك بواسطة البيعة الصحيحة، القائمة على الرضا.

فالعقد الاجتماعي، إذن، يماثل البيعة من حيث إن كلاً منهما تعاقد، يستهدف تزويد الحاكم أو رئيس الدولة بالسلطات اللازمة، لأداء ما يُناط به من واجبات.

6. ترد النظرية الغربية أساس الحريات والحقوق العامة، إلى العقد الاجتماعي عند نشوء الجماعة السياسية، ولكن الحقوق والحريات الفردية في الإسلام، لا يرجع الأساس فيها إلى البيعة، ولا إلى التعاقد.

7. يظل العقد الاجتماعي، إلى الأبد، منتجاً آثاره على الإنسانية كافة، وملزماً إياها مهما تعاقبت الأجيال، ولكن عقد البيعة بين الأمة وبين الخليفة، يظل منتجا لآثاره ما دام سليماً، فإذا طرأ على البيعة ما يبطلها بطلت، وكان لذلك صداه على مركز الخليفة.

إن البيعة الإسلامية، لها أهمية بالغة في الفكر الدستوري الإسلامي، لأنها تبعد تماماً عن نظام الخلافة كُل شبهة ثيوقراطية، وتؤكد ما سبق تقريره، من أن الأمة هي أساس السلطة.



[1] بدأ الجدال حول هذه المسألة حين خرج الشيخ علي عبدالرازق بكتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وزعم فيه أن الإسلام دين ورسالة سامية، ولا علاقة له بالحكم والسياسية، وقد انبرى العديد من كبار العلماء بالرد عليه ومن أهمهم: رد الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر سابقاً، في كتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ومحمد ضياء الدين الريس، في كتابيه ` النظريات السياسية الإسلامية`، و`الخلافة الإسلامية في العصر الحديث`، ومحمد سليم العوا في ` النظام السياسي للدولة الإسلامية`، وغير ذلك من المقالات والأبحاث. وقد وجدت هذه الفكرة صدى عن دعاة العلمانية، ممن يحاولون إنشاء تيار يسمونه بالاستنارة والاستناريين، تشبها بعصر الاستنارة الأوروبي، الذي استطاع مفكرو أوروبا خلاله الخروج من أسر الكنيسة الغربية، والنهوض بأممهم. ومع احترام التجربة الأوروبية في إطار خصوصيتها، واحترم ما ترتب عليها.