إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الديموقراطية في الإسلام









مقدمة

المبحث السادس

مبادئ نظام الحكم في الإسلام

أولاً: الشورى

هي ملزمة للحاكم، مع تفويض صورتها للأمة. ويُعد مبدأ الشورى أهم المبادئ الدستورية، أي تلك المبادئ، التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام. فطبيعة نظام الحكم، الذي يقره الإسلام، أن يكون نظاماً شورياً. فقد أوجب الله، سبحانه وتعالى، الرجوع إلى الأمة في آيتين، ورد فيهما النص صريحاً على وجوب إتباع هذا المبدأ؛ جاء النص الأول في صورة أمر للرسول، r، فمن باب أولى أن تكون أمته مأمورة به، فقال تعالى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر[ (سورة آل عمران: الآية 159).

وجعل الله من بين صفات المؤمنين، تبادل الرأي والتشاور في أمورهم، فذكر في سورة الشورى ]فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون[ (سورة الشورى: الآيات 36ـ 38)، فبيّن أن من صفات المؤمنين الأساسية، أنهم يتصرفون في الأمور، ويقررون الآراء، بالتفاهم والمشاركة، وتبادل الرأي : أي بالشورى.

وبيّن المفسرون ـ في وجوه ـ الفائدة، من أمر الله سبحانه رسوله r بالشورى. فمن ذلك أن الرسول r أُمِرَ بالشورى، ليَقتدي به غيره في المشاورة. وأن هذه الآية الكريمة نزلت عقب ما ابْتُليً به المسلمون يوم أحد. ومع أن ما وقع في ذلك اليوم قد أبان أن رأي من أشار على الرسول r، بالخروج لم يكن صواباً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الأمر بالعفو عنهم، ومشاورتهم أيضاً : أي إن الأمر هو أمر بالاستمرار في مشاورتهم، على الرغم مما ظهر من خطأ رأيهم. وهذا يؤكد أهمية الشورى، ويبيّن مقدار عناية الدين بها. ومن الوجوه، التي ذكرها المفسرون أيضاً، أن الرسول، r، أُمر بالشورى، لا لأنه محتاج إلى آراء من يستشيرهم، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر، اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها. وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد، مما يعين على حصوله. وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة، أفضل من صلاة المنفرد.

وجاءت الأحاديث مؤيدة لما ورد في القرآن، من الإشادة بشأن الشورى والحث على اتباعها، والتنويه بفضائلها. وقد روي عن الرسول r أحاديث كثيرة تدعو إلى المشورة، وأخذ الرأي قبل البت في الأمور. وقد ورد في مأثور القول: ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار. فقد ورد عن رَسُولُ اللَّهِ r قوله: ]إِذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 3737) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللَّهِ r قال: ]الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ[.(سنن أبو داود، الحديث الرقم 4463)، وكثيراً ما كان، r، يقول لأصحابه، في مواطن كثيرة : (أشيروا على).

أمّا السنة العملية، فمليئة بالشواهد، التي تدل على أن رسول الله r، كان دائم التشاور مع أصحابه، يكره الاستبداد بالرأي؛ وكثيراً ما نزل عند حكمهم، وإن كان رأيه في بادئ الأمر يخالف ما ذهبوا إليه. والوقائع في ذلك كثيرة : فمنها استشارته، r، المسلمين في شأن اختيار المكان الذي ينزلون فيه يوم بدر، وأخذه برأي الحباب بن المنذر. واستشارته فيما يعمل بشأن من أسروا في تلك الموقعة، فوافق على رأي أبى بكر، الذي أشار حينئذ بالفداء. وقبوله لرأي الكثرة من المسلمين حين أشارت بالخروج يوم أحد. وعمله بمشورة السَّعدين: ابن معاذ وابن عبادة، إذ أشارا يوم الأحزاب بعدم مصالحة رؤساء غطفان، إلى غير ذلك من أمثلة متعددة. ومما ورد عن أبى هريرة t قوله: ]مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [r (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1636) وقد اقتدى أصحاب رسول الله r، به واتبعوا سُنته.

والروايات عن عمر t، في جمعه للقراء (أي العلماء) واستشارتهم في كل ما يهم المسلمين، كثيرة متواترة، ومن ذلك تشاوره معهم في أمر الخراج، وهكذا كان مَثلُ غيره من باقي الولاة والخلفاء، في صدر الإسلام. فهذا كله يقطع، بأن نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، كان نظاماً شورياً، أساسه الشورى.

والواقع أن كتب التاريخ والتفسير والحديث زاخرة بالأمثلة، التي تدل على أن الرسول r كان دائم التشاور مع أصحابه. كذلك، كان شأن الخلفاء الراشدين. فقد كانوا يرجعون إلى الصحابة في كل ما يهم المسلمين. ولا يخلو مؤلف إسلامي، يبحث في أمور الحكم والولاية، من الحديث عن الشورى، والتنويه بفضائلها، ومحاولة إقامة الأدلة على وجوب إتباعها، والدعوة لأن تكون هي القاعدة في كل حكم إسلامي.

وإذا كان مبدأ الشورى يبدو هذه الأيام، من المبادئ البدهية، التي لا يجادل فيها اثنان، فإنه لم يكن كذلك إلى عهد قريب، في أكثر بلدان العالم. ويحدثنا تاريخ الحضارات، أن الشورى نشأت في الإسلام نشأة طبيعية، خلافاً لنشأتها عند الأمم الأخرى، حيث كانت ثمرة جهاد طويل، وصراع بين الحُكام والمحكومين. وساعد على ظهورها آثار الكُتّاب، والمصلحين، والحكماء، والفلاسفة، ومؤلفاتهم، وأخذت في الانتشار رويداً رويداً، غالباً، بالعنف والقتل والدم، ونادراً باللين والحكمة.

وإذا كانت فرنسا أوضح الأمثلة على ذلك، فإن تاريخ الشورى فيها (أو الديموقراطية على المصطلح الغربي) لا يعدو نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، من حيث نشأته. أمّا من حيث الدعوة إليه، فلعله قد بدأ في أساطير لافونتين، خلال القرن السابع عشر، ثم جاء المفكرون المصلحون في القرن الثامن عشر، من أمثال فولتير ومنتسكيو وروسو وديدرو وغيرهم، وأخذوا ينبهون الأمة إلى حكم نفسها بنفسها، أو إلى حكم الديموقراطية، كل على طريقته، وبما اختار من أسلوب الدعوة. ولقي بعضهم من الاضطهاد والإبعاد، ما يلقى معظم المصلحين، إن لم نقل كلهم، في كل عصر ومصر. فلمّا اندلعت الثورة الفرنسية، رافقتها الدماء، وركب الناس الذعر نتيجة للإرهاب، وقضى كثير من الأبرياء بجريرة العاصين، وشهدت الأمة الفرنسية من عواصف الظلم والجور، ما لم تلق من قبل، وأصبح مشهد "المقصلة" (المشنقة) من المشاهد اليومية التي ألفها الشعب. ونادى المنادي بالقانون الأساسي، وبحقوق الإنسان، وأخذ الحاكمون يتعثرون في طريق محفوفة بالمكاره، وظلت فرنسا قرناً وبعض القرن، حتى استقامت فيها الأمور، ووُطد نظام الديموقراطية على النحو الذي نراه اليوم فيها، وفي كثير من الدول المتحضرة، وأصبح يجري في دم كل مواطن، لا يرى عنه بديلاً.

أمّا في بلاد الشام، فلم يُسمع بكلمة الشورى قبل عام 1908، يوم استؤنفت الحياة الدستورية في الإمبراطورية العثمانية، وأخذ الناس يسألون: ما معنى القانون الأساس؟ ما معنى المشروطية؟ وراح المثقفون يشرحون للناس معنى هذه المصطلحات، وقد نسى عامة الناس مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، بعد أن رزحوا دهراً طويلاً بعيدين عن مثله العليا، وأهدافه السامية.

وحينما قرر الإسلام مبدأ الشورى، قضى بذلك على عدو الإنسانية الفاضلة ومفسدها، وهو الاستبداد بالحكم والرأي، واحتكار التشريع والتصريف والإرادة، وحقق للفرد كرامته الفكرية، وللجماعة حقها الطبيعي في تدبير شؤونها.

والقرآن لا يريد من الشورى، حين يضعها بين عنصري الصلاة والإنفاق في سبيل الله، تلك الصورة الهزيلة التي ألفتها الأمة في الماضي، وجرى عليها أهل البغي والاستبداد، واتخذوها شعاراً يخفون به طغيانهم، وإنما يريدها القرآن حقيقة نقية في واقعها، كما يريد من الصلاة والإنفاق حقيقتهما المحققة لأثرهما، الخالصة مما يكدر صفوهما.

فالإسلام رفع الشورى إلى الحد، الذي اعتبرها فيه من دعائم الإيمان، وصفة من الصفات المميزة للمسلمين. فسوّى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله ]وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[ (سورة الشورى: الآية 38).

فجعل للاستجابة إلى لله نتائج، بيّن أبرزها، وأظهرها، وهي: إقامة الصلاة، والشورى والإنفاق.

وإذا كانت الشورى من الإيمان، فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، ولا يحسن إسلامهم، إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة.

وترتيباً على ذلك، فإن الشورى فريضة إسلامية، واجبة على الحكام والمحكومين. فعلى الحاكم أن يستشير في أمور الحكم والسياسة، وكل ما يتعلق بمصلحة المسلمين، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم، أم يستشرهم.

وقد تنبه فقهاء الإسلام إلى هذا كله، فقرروا: إن الشورى من أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، ومن عزائم الأحكام التي لا بد من نفاذها. ورتبوا على ذلك، أن مَنْ ترك الشورى من الحكام، فعزله واجب بلا خلاف. ذلك أن السلطة، طبقاً للنظرية الإسلامية، مقيَّدة بأحكام القرآن والسنة، التي تشكل نوعاً سامياً من القانون الدستوري، الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي.

وهناك ضمانات تقييد السلطة في النظرية الإسلامية للشورى. وفي الحقيقة فإن نظرية السيادة ـ كما هي في الفكر الغربي ـ لا تعرف هذه الضمانات، بحكم أنها لا تعرف فكرة التقييد ذاتها، ولا تعترف بها.

أمّا النظرية الإسلامية، فلم تكتف بوضع قيود على السلطة، وإنما عُنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد. وهذه الضمانات على نوعين:

تتمثل أولاهما في الشورى، بما تمثله من ضرورة رجوع الحكام إلى الأمة في الأمور المهمة.

ويتمثل الثاني في الرقابة من الأمة نفسها على تصرفات الحُكام، وحقها في عزلهم إن صدر عنهم ما يبرر العزل. لذلك فإن الشورى مقيدة للسلطة.

لزوم الشورى وتنوع صورها: كانت خلافة أبى بكر، مستندة إلى الانتخاب العام المباشر. وكانت خلافة عمر، بالاستناد إلى عهد أبى بكر، الموثّق بالشورى والتفويض. أمّا خلافة عثمان، فقد تمت استناداً إلى هيئة انتخابية، ابتكرها عمر بن الخطاب قبيل وفاته، عرفت فيما بعد باسم (أهل الشورى)، وهي تسمية اصطلاحية حادثة.

وهكذا نرى، أن دلالة تنوع صور الشورى، في عصر الخلافة الراشدة، يُعطي تأكيداً على لزوم الشورى كمبدأ، مع ترك مساحة واسعة للظرف السياسي، ليحدد صورة الشورى المناسبة.

ثانياً: المساواة

المساواة بين الناس قائمة في أشياء كثيرة: فمساواة في أصل الخلقة، ومساواة أمام القانون، ومساواة أمام القضاء، ومساواة بين المسلم والذمي، ومساواة بين الرجل والمرأة.

وحين قرر الإسلام هذا المبدأ، فيما يرى بعض الباحثين، جاء بمبدأ جديد، وكان أسبق في هذا المقام، مما هو معروف من التشريعات في العصر الحديث.

وكان المبدأ الجديد، الذي جاء به الإسلام، وهو مبدأ المساواة، أهم المبادئ التي جذبت قديماً نحو الإسلام الكثير من الشعوب الأخرى. وكان مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين، وذلك فيما يقرره بعض المستشرقين أنفسهم.

وفي مقدمة الآيات، التي تدعو إلى المساواة قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[ (سورة الحجرات: الآية 10)، وقوله سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ (سورة الحجرات: الآية 13).

وأحاديث النبي r وسننه العملية في المساواة، لا يدركها الحصر. وهي تتضمن المساواة، التي قررها الإسلام، مساواة الأفراد جميعاً أمام القانون. فليس هناك فرد، مهما علا مقامه، يعلو على آخر في تطبيق القانون فأمير المؤمنين والولاة، كل أولئك متساوون أمام القانون مع غيرهم من أفراد الأمة، فلا امتياز لأولئك في شيء على هؤلاء، كما أنهم جميعا متساوون أمام القضاء، فليس لطائفة خاصة محاكم خاصة، وليس في الإسلام، بوجه عام، منزلة، أو ميزة لطائفة، أو أسرة معينة من الطوائف أو الأسر، فلا امتياز إلاّ بالتقوى والعلم وصالح الأعمال، ولا تفرقة بسبب الأصل، أو الجنس، أو اللون، أو الثروة.

ويتبين مما تقدم أن الإسلام حين قرر مبدأ المساواة، قرره بصوره المختلفة المعروفة في الفقه الدستوري الحديث: مساواة أمام القانون، مساواة أمام القضاء، مساواة في الحقوق السياسية.

ثالثاً: الطاعة لأولي الأمر

تجب الطاعة في المعروف، وما وافق الشرع. وتستلزم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أن يتقبل الأفراد طاعة هذه السلطة، لأن الأصل في هذه الأوامر والنواهي، أنها بقصد تحقيق الصالح العام ومقاصد الشرع.

ويمثل الخضوع للسلطة العامة، تعارضاً بين حرية الفرد وطبيعته، التي تأنف من الخضوع للغير، وتسعى للتمرد على أوامر السلطة الحاكمة إرضاء لنزواته. لذلك، لا يُذعن الفرد لأوامر السلطة ونواهيها، إلاّ إذا ارتبطت بجزاء مادي يُوقّع على المخالف لها، ولهذا كان الجزاء المادي ركنا مهماً من أركان القاعدة القانونية، لكي تنال احترام الأفراد.

وحتى هذا الجزاء، لا يكفي لتحقيق الاحترام والتقديس للقانون. فإن الفرد كثيراً ما يسعى لمخالفة القانون، مع حرصه على التفلت من الجزاء المرتب على المخالفة. ولهذا، نجد فقهاء القانون عاجزين عن توفير الاحترام لهذه القواعد القانونية، منفصلة عن الجزاء المرتب عليها، وكذلك نجد دعاة الأخلاق، لم يصلوا بعد إلى إقناع الأفراد، بضرورة الانقياد إلى أوامر السلطة.

أمّا في الإسلام، حيث يرتبط الأمر والنهي بالعبادة لله وحده، فإن هذه المشكلة تكون غير ذات بال. فالمسلم، الذي رضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، يجد في نفسه الباعث على احترام أوامر الله تعالى ونواهيه.

ومن هذا المنطلق الإيماني، الذي يسود المجتمع الإسلامي، نجد الجاني، الذي ارتكب جريمته في الخفاء وتحت جنح الظلام، يتقدم إلى السلطة الحاكمة لإقامة الحد عليه، كما في حديث ماعز والغامدية ]أَنَّ ‏مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأَسْلَمِيَّ‏ ‏أَتَى رَسُولَ اللَّهِ r‏ ‏فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَزَنَيْتُ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ‏ ‏تُطَهِّرَنِي ‏فَرَدَّهُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ r‏ ‏إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إِلاَّ‏ ‏وَفِيَّ‏ ‏الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ وَلا بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ‏ ‏فَرُجِمَ ‏ ‏قَالَ فَجَاءَتْ‏ ‏الْغَامِدِيَّةُ‏ ‏فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ‏ ‏مَاعِزًا ‏فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى قَالَ إِمَّا لا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ قَالَ اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ‏ ‏فَرَجَمُوهَا ‏ ‏فَيُقْبِلُ ‏ ‏خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ‏ ‏بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا ‏ ‏فَتَنَضَّحَ ‏الدَّمُ عَلَى وَجْهِ‏ ‏خَالِدٍ ‏فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ r‏ ‏سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ مَهْلاً يَا ‏خَالِدُ‏ ‏فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ‏ ‏لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ ‏مَكْسٍ ‏لَغُفِرَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3208)، معترفاً بجرمه من غير إكراه، يطلب توقيع العقوبة.

وبعد هذا البيان، فإن الأدلة الشرعية على وجوب الطاعة مشهورة، كقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[ (سورة النساء: الآية 59)، وغيرها من الآيات.

كما تواترت الأخبار النبوية الصحيحة، بالحث على طاعة الأئمة والولاة، ففي الحديث المتفق عليه فعن أبي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r: قَالَ ]مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6604) وعن ابن عمر قال: كان رسول الله، r، في نفر من أصحابه فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ: ]يَا هَؤُلاَءِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قَالُوا بَلَى نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ قَالُوا بَلَى نَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتَكَ قَالَ فَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعُونِي وَإِنَّ مِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ أَطِيعُوا أَئِمَّتَكُمْ فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 5421).ولا يخفى أن طاعة أولي الأمر، لم تأت استقلالاً، وإنما جاءت تبعا لطاعة الله ورسوله، فأولي الأمر لا يفردون بالطاعة في كل ما أمروا به، ولكن يطاعون فيما هو طاعة لله.

رابعاً: الشريعة الإسلامية

إن عقيدة التوحيد، التي قامت الدولة الإسلامية عليها، تعني أن يكون الحُكم لله، بما شرع في كتابه، وعلى لسان رسوله، r.

والشريعة الإسلامية لها خصائصها، فهي ربانية من حيث المصدر، ومن حيث الغاية والوجهة، مما يترتب عليه كمال المنهج، وعصمته من التناقض والاختلاف، والبراءة من التحيز والهوى، والتحقق بالاحترام وسهولة الانقياد، والتحرر من عبودية الإنسان للإنسان.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية ربانية من حيث المصدر والغاية، فإنها إنسانية من حيث إنها تخاطب الإنسان وتكّرمه، وتتوائم مع طبيعته، ولا تفصل بين الجانب الروحي والمادي فيها.

ومن خصائص الشريعة الإسلامية، الوسطية ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[ (سورة البقرة: الآية 143).

فعن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ r وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] وَالْوَسَطُ الْعَدْل[(صحيح البخاري، الحديث الرقم 3091).

كما تتميز الشريعة الإسلامية، بالوضوح التام في الأصول والعقائد، والوضوح في الشرائع، والوضوح في الغايات والأهداف، والوضوح في المناهج والطرائق.

كما تتميز الشريعة الإسلامية بالثبات والمرونة، في الوقت ذاته، محققة بذلك الحل لتلك المشكلة، التي تواجه المشرعين الوضعيين. فقد أودع الله تعالى في الشريعة عنصري الثبات والخلود، والمرونة والتطور، في آن واحد، بما لها من خلود، وبما أنها الشريعة الخاتمة.

خامساً: الحرية

اعترف الإسلام بالفرد وحرياته وحقوقه، وكان ذلك في زمان لم يكن للفرد فيه حق، أو حرية تجاه السلطة.

سادساً: مسؤولية أولي الأمر

من المبادئ الدستورية، التي قررها الإسلام وأخذ بها، مبدأ مسؤولية الحاكم. فالخليفة يعد مسؤولاً عن أعماله جميعاً، ومسؤوليته مزدوجة. فهو مسؤول أمام الأمة، كما هو مسؤول أمام الله، وإذا ثبت أن الخليفة قد خان الأمانة حق عزله.

سابعاً: الاستعانة بالأمناء

ويجب على الأمة أن تستعين بالأمناء في النيابة عنها في تنفيذ الشريعة، وتولي المسؤولية. كما يجب على الحاكم أن يستعين بالأمناء، في كافة الأعمال التي ينيبهم فيها.

ثامناً: الوحدة السياسية للأمة

تنقسم الدول في الفقه الوضعي ـ من حيث شكلها وتكوينها ـ إلى قسمين رئيسيين: الدول البسيطة أو الموحدة، والدول المركبة أو الاتحادية. وهذه الأخيرة تنقسم بدورها إلى عدة صور.

ومن جهة أخرى، فإن الدولة الإسلامية على مستوى الواقع، أخذت أشكالاً مختلفة على اختلاف المراحل التاريخية، التي مرت بها، بدءاً من الدولة الإسلامية في صدر الإسلام، ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، ثم الدولة العثمانية، وأخيرا الدولة الإسلامية في العصر الحديث.

تاسعاً: كفالة الحقوق والحريات في الإسلام

أقر الإسلام حق الملكية الفردية، وكفله بأحكام عدة. فقد نهي القرآن، في مواضع مختلفة، عن الاعتداء على مال الغير، من ذلك قول الله تعالى: ]لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[ (سورة النساء: الآية 29)، ومن ذلك أيضاً تقرير عقوبة شديدة على السرقة ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 38).

ولكن الإسلام لم يجعل حق الملكية حقا مطلقا، وإنما قيده بما يجعل صاحبه أشبه بالوكيل عن الجماعة، فيما تحت يده من أموال. والآيات القرآنية الدالة على أن المال، الذي في أيدي البشر، هو مال الله، كثيرة، منها قوله تعالى: ]وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ[ (سورة النور: الآية 33).

ولذلك، فرض الله على المسلمين الزكاة عن أموالهم، ثم جعل للحاكم الحق في أن يأخذ منهم فوق الزكاة ما يلزم لحاجة الجماعة، كلمّا دعت الضرورة إلى ذلك، دفعا للضرر، ورفعا للحرج، وصونا لمصالح المسلمين. بل قد ذهب الإمام علي كرم الله وجهه، إلى وضع حدٍ أعلى لحاجة المسلم، وقدره بأربعة آلاف درهم سنوياً لمدة عام، فما زاد على ذلك فهو فضل يجب إخراجه، ولا يحق له إمساكه، وأكثر الفقهاء على ذلك.

أقر الإسلام الملكية بنوعيها، الفردية منها والجماعية. والآيات الدالة على إقراره للملكية الفردية كثيرة، وهذا الإقرار يتجلى، أيضاً، فيما فرض الدين من فرائض، وفيما ندب إليه من صدقات. ولذلك، لا يجوز لوليّ الأمر أن يعتدي على ملك فرد من الأفراد، وليس له أن يجعله في منفعة عامة مملوكة لجماعة المسلمين، إلاّ إذا تطلبت مصلحة المسلمين ذلك، فيأخذه الإمام عن رضا أو عن قهر ببدله (أي مقابل تعويض) من دون غبن على صاحبه، وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

ولا يجوز أن يؤخذ مُلْك إنسان، بلا عوض لمصلحة عامة، بل يجب تعويضه من بيت مال المسلمين تعويضا عادلاً. فإن لم يكن فيه ما يقوم بذلك، كان لوليّ الأمر أن يفرض على القادرين من الوظائف المالية، ما يقوم بحاجة الدولة، ويدفع ما نزل بها بالقسطاس المستقيم، فيعم بذلك جميع القادرين كلاً بقسطه، ولا يقصره على بعضهم، وبذلك يشترك كل قادر في دفع ما لَمَّ بالأمة مما يجب دفعه.

وقد كفل الإسلام للفرد حرية إبداء الرأي. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الصدد، مثل قوله تعالى: ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة آل عمران: الآية 104). ومن الأحاديث قول النبي r: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ]خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ r خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ حَفِظَهَا مِنَّا مَنْ حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مِنَّا مَنْ نَسِيَهَا فَحَمِدَ اللَّهَ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَلاَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ أَلاَ إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا أَلاَ إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالأَرْضَ الأَرْضَ أَلاَ إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ وَسَرِيعَ الْغَضَبِ وَسَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا أَلاَ إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ وَشَرَّ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ أَوْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا بِهَا أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ أَلاَ وَأَكْبَرُ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ أَلاَ إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ قَالَ أَلاَ إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 10716).

وكان الخلفاء الراشدون، رضوان الله عليهم، يدعون الناس للمجاهرة بآرائهم، ويذكرونهم بأن إبداء الرأي، ليس فقط حقاً للفرد، بل هو واجب عليه.

على أن الشأن بصدد حرية الرأي، يختلف من الوجهة الشرعية باختلاف ما إذا كان الرأي متعلقاً بأمر من الأمور ذات الصبغة غير الدينية، أو ما إذا كان من الأمور ذات الصبغة الدينية.

ففي الأمور الدنيوية، غير ذات الصبغة الدينية، فإن للفرد الحرية أن يُبدي من الآراء ما يشاء، ولكن من دون عدوان (أي من دون أن يكون قاذفاً أو ساباً أو داعياً إلى فتنة الخ) فقد قال سبحانه وتعالى: ]لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ[ (سورة النساء: الآية 148).

وأمّا في الأمور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية)، فإن لكل مجتهد في غير موضع النص، أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية وقد جاء في السُّنة: أن كل مجتهد مأجور: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ[ (سنن النسائي، الحديث الرقم 5286) فالمثوبة على الاجتهاد حتى في حالة الخطأ، دليل على أن الإسلام يقدر حرية الرأي، ويحث على إبدائه.

وقد شهد العالم الاجتماعي الفرنسي الكبير، الدكتور جوستاف لوبون، أن العرب أول من علّمَ العالم، كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.

وقد كفل الإسلام أيضاً حرية العقيدة الدينية، وهناك العديد من الآيات القرآنية، التي تكفل هذه الحرية، ومن أولها قول الله تعالى: ]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[ (سورة يونس: الآية 99)، وقوله: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[ (سورة البقرة: الآية 256).

كما نجد من الآيات القرآنية، ما يحث الفرد على أن يكوِّن عقيدته عن طريق البحث والنظر والتأمل، لا عن طريق المحاكاة وتقليد الآباء، كقوله سبحانه وتعالى: ]أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[ (سورة الأعراف: الآية 185)، وقوله: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ[ (سورة البقرة: الآية 170).

وقد شهد التاريخ الإسلامي في مختلف عهوده، كفالة لحرية العقيدة، كما شهد تسامحاً من حكام المسلمين مع غير المسلمين (من أهل الكتاب أو أهل الذمة) لم يُشهد مثله في غير عهد الحكم الإسلامي من عهود الحكم الأخرى، وذلك مما اعترف به الكثيرون من المستشرقين والعلماء الغربيين بل إن بعض أولئك المستشرقين ورجال الدين من الغربيين، يعترفون للحُكام العرب بأنهم أشد الأمم الأسيوية تسامحاً.

لم يقف الإسلام عند تقرير حرية التملك، وحرية الرأي، وحرية العقيدة، بل اعترف بالحريات جميعا، فالحرية الشخصية مكفولة. ففيما يتعلق بحرية التنقل، نجد أن هذه الحرية هي مما تشمله، في نظر بعض علماء الفقه الإسلامي، حرية المأوى، وفي أحكام الإسلام ما يكفل هذه الحرية، فإن النفي أو الإبعاد إنما يُعد عقوبة، لم يذكرها القرآن الكريم إلاّ جزاء للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ]إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 33).

أمّا حق الأمن، أو حرية الذات، أو الحرية الفردية، كما يُعبر بعض علماء الإسلام، فقد كفله الإسلام بما قرره من عقوبات، تشمل ما هو معروف بالحدود والتعازير. وقد اتفقت كلمة المسلمين على أن العقوبات، مما لا تثبت بالرأي والقياس، وأنها لا تثبت إلاّ بالنص. وقد قال تعالى: ]فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ[ (سورة البقرة، الآية 193)، كما قال سبحانه وتعالى: ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[ (سورة البقرة، الآية 194)، ففي النهي عن العدوان إلاّ على ظالم، وفي الأمر بأن يكون الاعتداء على الظالم مماثلا لاعتدائه لا يزيد، في ذلك كله كفالة لحق الأمن.

وقد جاء النص على حرمة المسّكن صريحاً، في قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا[ (سورة النور: الآية 27).

ومن كل ما تقدم، يتبين أن الإسلام أقر الحريات والحقوق الفردية في صورها، وأشكالها المختلفة. وكان له في هذا المجال، دور عظيم وفضل السبق في وقت كان مبدأ السلطة في أشد قوته.

على أن الإسلام لم يجعل من تلك الحقوق حقوقاً مطلقة، وإنما عمل على التوفيق بين حقوق الفرد وحرياته ومبادئ التكافل الاجتماعي، وسار في طريق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفوارق بين الثروات، طريقاً بعيداً، حتى وصف بعض الباحثين أو المفكرين الإسلام، بأنه نظام اشتراكي.

روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله، r، أنه قال: ]بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ r إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3258).

ومما يذكر عن عمر، t، أنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء ورددتها على الفقراء" ، وقد قال هذا حين أحس أن بعض بذور الخلافات في النظام الاجتماعي، قد بدأت تظهر في أواخر خلافته، بسبب الغنى المفرط، الذي بلغه بعض المسلمين، نتيجة للغنائم، التي آلت إليهم عقب انتصارهم على الفرس وعلى الروم، ونتيجة لما جرى عليه عمر، من الإغداق على المجاهدين الأوائل في العطاء.

وقد كان مذهب الصحابي الجليل أبى ذر الغفارى t، في التملك، أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من حاجته. بل إن أبا ذر ذهب إلى أكثر من ذلك، فطالب الخليفة عثمان باستعمال سلطة الدولة في تحقيق مذهبه الاقتصادي. ولم يكن أبو ذر يكتفي بالدعوة إلى مذهب نظري، بل جعل من حياته شاهداً على صدق ما يقول، والروايات عنه في ذلك كثيرة ومتواترة.

ومما سبق نستخلص خصائص الدولة الإسلامية فيما يلي:

1. إن الدولة الإسلامية تعتمد في تكوينها على الوحدة الدينية، وأن جميع من شملتهم هذه الوحدة، هم أمة واحدة، وإن اختلفوا في اللغة أو الجنس، أو الحكومات أو سائر المميزات القومية. فولاية الإسلام واحدة، وهي تشمل الشعوب والأقاليم، التي تنبسط عليها هذه الولاية. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجنسية، لأن الإسلام دين وجنسية معاً.

2. للولايات الأعضاء في دار الإسلام، في المجال الداخلي، شخصيتها الذاتية غير الخارجة على الإسلام. والولاة، كقاعدة عامة، لهم حرية كاملة في تصرفاتهم، فهم يبرمون الأمور على وفق ما يرون، على أنهم يخطرون الخليفة بما يحدث من عظائم الأمور. وكان للولايات كثير من مظاهر الاستقلال الاقتصادي والمالي والإداري.

3. الدولة الإسلامية في تكوينها وشكلها، دولة متحدة، على أساس أن حكم الإسلام يسودها، وأن ولايته تمتد إلى الأمصار، التي يعيش في أقاليمها مَن تربط بينهم الأخوة الإسلامية، قال تعالى: ]وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[ (سورة المؤمنون: الآية 52)، وقال تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[ (سورة الحجرات: الآية 10)، إلى غير ذلك من النصوص الصريحة.

شرع الإسلام العديد من الوسائل، التي تحقق خضوع الحاكم في الدولة الإسلامية للقانون، وتكفل تحقيق حريات الأفراد، فمن ذلك:

1. وجود تشريع أساسي إلهي: إن مبدأ خضوع الدولة للقانون، يعني التزام الحاكم في جميع تصرفاته بما ارتضته الجماعة من قواعد عامة ملزمة، وإذا كانت تلك القواعد للجماعات في عالم اليوم من صنع البشر، فالدولة الإسلامية لها تشريع أساسي إلهي، يجب على الجميع الخضوع له.

2. الاعتراف بالحقوق الفردية في الإسلام: اعترف الإسلام بحقوق الإفراد وحرياتهم العامة، وجعلها سداً حصيناً أمام سلطان الحاكم.

3. تنظيم أمور الحكم في الإسلام: لم يقف الإسلام عند حد تقرير الحقوق الفردية، وجعلها حواجز منيعة أمام سلطات الحاكم، بل نظم شؤون الحكم، ولم يجعل للحاكم سلطة مطلقة.

4. الفصل بين السلطات في الإسلام: وهذا المبدأ هو، أيضاً، أحد الوسائل الأساسية، في ضمان الديموقراطية في الإسلام.

5. إخضاع الحاكم في الإسلام لرقابة القضاء: إن الأدلة الشرعية، والوقائع التاريخية، على هذا المبدأ الرقابي المهم، (والذي يؤكد المبدأ الأهم من فصل السلطات) كثيرة، قد استوعبتها المؤلفات الخاصة بالقضاء في الإسلام. وقد قاد[1] النبي r من نفسه، واستبرأ[2] الأمةَ مما قضى فيه. ومن المشهور في هذا المقام كذلك، مواقف عمر بن الخطاب، وعلي بن أبى طالب، وغيرهم.

6. مسؤولية الحاكم في الإسلام: إن الحاكم مسؤول تمام المسؤولية عن تصرفاته، وتصرفات نوابه وعماله، مما يعد وسيلة حاسمة في خضوع الحاكم للقانون، وَجْعُل الحاكم تحت رقابة القضاء، يحول تماماً من دون الاستبداد والظلم.

وقد قال بعض المفكرين المعاصرين، أننا: (إذا أردنا الموازنة بين الإسلام وسواه من النظم الحديثة، هالنا الفرق، بين دين لحمه وسداه الديموقراطية الحقة، ومذاهب تضلل باسم الديموقراطية الناس والأمم، لتوسع نفوذها في الأرض.

إن جميع عناصر الديموقراطية موجودة في الإسلام، فالحريات مكفولة، والمساواة بين الناس تامة، والحاكم يُحاسب على أعماله، ويقدم للقضاء، ومسؤوليته كاملة عن كل صغيرة وكبيرة يرتكبها، والحكم أساسه مشيئة الشعوب، والعدالة لا تنتهي فيه عند حد، ولم يستثن من أحكامها فرد مهما عظم، ولا طائفة أو عنصر أو شعب. يقول عمر في وصيته للخليفة من بعده: (اجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ثم لا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة، والمحاباة فيما ولاك الله)، وحقوق الإنسان في الحياة والحرية والأمن والتعليم والتأمين الاجتماعي، يحميها الله ورسوله.

جاء الإسلام فحرر الإنسان من الوهم والتقليد، والجمود والجهل، والفاقة والاضطهاد والاستبداد ودعا إلى تحرير الأرقاء، ورفعهم إلى منزلة السادة، وحرر المرأة من جور الرجل، وساواها به في الحقوق والواجبات، وحرر الطبقات من طغيان العصبيات، والثروة والحسب، وحرر المجتمع من الخرافات والأضاليل، وحرر الأمم من استبداد الطغاة والزعماء والفوضى والأثرة، ومن جموح الشهوات وتقديس الماديات، والجنوح إلى الشر والفساد في الأرض، ومن التقليد الضار، والإيمان الأعمى بما كان يؤمن به الآباء والأجداد.

والإسلام يقرر أن الناس أصلهم واحد، فالمساواة تامة بين الناس جميعا، والعلاقات بين الأمم علاقة محبة وتعاون ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ (سورة الحجرات: الآية 13).

ويمكن أن نلخص أسس الديموقراطية في الإسلام فيما يلي:

1. مبدأ حكم القانون.

2. حكم الشعب للشعب.

3. الحكومة وجدت لخدمة الشعب، والعمل على رفاهيته.

4. روح التسامح والحرية الاجتماعية، وحرية الرأي للأفراد والجماعات.

5. الحرية الاقتصادية التي تتجه إلى تحقيق رفاهية الناس أجمعين، والتي تؤدي التزاماتها للدولة والفقراء.

6. محاربة أي لون من ألوان التمييز بين الناس.



[1] قاد: أي طلب القود، وهو قتل القاتل أخذاً بدم القتيل.

[2] استبرأ: طلب الإبراء من الدَّين والذنب.