إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / استحضار الأرواح









شُبُهات

المبحث الأول

الروح وعلاقتها بالنفس والبدن ومآل الأرواح في الإسلام

أولاً: تعريف الروح، في اللغة والاصطلاح

1. في اللغة

قال صاحب معجم مقاييس اللغة: الراء والواو والحاء أصل كبير مطَّرد، يدل على سعة وفسحة واطِّراد، وأصل ذلك كلِّه الريح، وأصل الياء في الريح الواو، وإنما قلبت ياءً لكسر ما قبلها. فالروح روح الإنسان، وإنما هو مشتق من الريح، وكذلك الباب كله.

والروح بالضم : النَّفْس، يذكر ويؤنث؛ لأن العرب تذكِّر الروح، وتؤنث النفس، وجمعه الأرواح.

2. في الاصطلاح في القرآن والسنَّة

قال ابن قيم الجوزية: والروح في القرآن على عدة أوجُه:

أحدها: الوحي، قال تعالى: ]وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا[ (سورة الشورى: الآية 52)؛ وسمي الوحي روحاً لما يحصل به من حياة للقلوب والأرواح.

الثاني: القوة والثبات والنصرة، التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين، قال تعالى: ]أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ[ (سورة المجادلة: الآية 22).

الثالث: جبريل u؛ قال تعالى: ]نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ[ (سورة الشعراء: الآيتان 193، 194). وقال تعالى: ]فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا[ (سورة مريم: الآية 17).

الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود، وقد قيل: إنها الروح المذكورة في قوله تعالى: ]يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ[ (سورة النبأ: الآية 38)، وإنها الروح المذكورة في قوله: ]تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[ (سورة القدر: الآية 4).

الخامس: المسيح عيسى بن مريم.u قال تعالى: ]إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ[ (سورة النساء: الآية 171).

وقال الشيخ محمد متولي الشعراوي: "لا سبيل إلى تحديد البشر للروح، إلاَّ أنهم يعرفونها بظواهرها في الكائن، الذي تحل فيه الروح. وهناك أشياء كثيرة في عالمنا المادي، الداخل تحت تجاربنا، لا تستطيع أن تحدد كنها، وإنما تعرفها بظواهرها؛ فأنت لا تستطيع أن تحدد ما هي الكهرباء، وإنما تعرفها بظواهرها".

وهكذا، فالروح طاقة غامضة، محجوبة عن الإدراك؛ وإنما حقيقة، ونتائجها ليست مجهولة، ولا محجوبة عن الإدراك.

ثانياً: تعريف النفس، في اللغة والاصطلاح

1. في اللغة

النون والفاء والسين أصل واحد، يدلّ على خروج النّسيم، كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعه.

2. في الاصطلاح

هي الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله: (أنا).

ثالثاً: الروح والنفس بمعنى واحد، أم هما مختلفتان؟

اختلف العلماء في ذلك، فرأى بعضهم. أنهما بمعنى واحد، أعطاهما تعريفا واحداً. وقال بعضهم الآخر إنهما مختلفتان.

ولقد تعقب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور تعريف الروح، عند الفلاسفة وغيرهم، بقوله: لم يأتوا إلا برسوم ناقصة، وكلها لا تعدو أن تكون رسوماً خيالية وشعرية، معبرة عن آثار الروح في الإنسان.

ومن الملاحظ، أن العرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه، وفاضت نفسه، وخرجت روحه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متصلان، لا يقوم أحدهما دون الآخر.

وخلاصة أقوال العلماء في المسألة قولان رئيسيان:

الأول: الروح والنفس شيء واحد.

الثاني: الروح والنفس شيئان مختلفان.

وسبب الخلاف بين جمهور العلماء في هذا الموضع؛ أنه قد جاء في الحديث: ]عَنْ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ نَامُوا عَنْ الصَّلاةِ قَالَ النَّبِيُّ r: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرواحكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 6917). وورد كذلك: ]عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى، عَرَّسَ. وَقَالَ لِبِلالٍ: اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ. فَصَلَّى بِلالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ، اسْتَنَدَ بِلالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، مُوَاجِهَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْ بِلالاً عَيْنَاهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ r وَلا بِلالٌ، وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا. فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ: أَيْ بِلالُ! فَقَالَ بِلالٌ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ ـ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِنَفْسِكَ. قَالَ: اقْتَادُوا. فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَمَرَ بِلالاً، فَأَقَامَ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ. فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، قَالَ: مَنْ نَسِيَ الصَّلاةَ فَلْيُصَلِّهَا، إِذَا ذَكَرَهَا. فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[. (صحيح مسلم، الحديث الرقم 1097).

1. أدلة القول الأول

أ. قول الله تعالى: ]اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا[ (سورة الزمر: الآية 42).

روى ابن عباس، وسعيد بن جبير، أنهما قالا: "تُقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، تتعارف ما شاء الله أن تتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت: التي قد ماتت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى". قالوا: وهذا يدل على أن النفس والروح شيء واحد.

ويشهد على صحة ذلك قول الرسول الكريم r: ]إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرواحكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 560)؛ فضلاً عن أنه لم ينكر على بلال قوله: "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك".

ب. وقوله: ]إن المؤمن ينزل به الموت، ويعن ما يعاني، يودّ لو خرجت نفسه؛ والله ـ تعالى ـ يحب بقاءه. وإن المؤمن تصعد روحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين، فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا[ (رواه البزار، وأصله في الصحيحين).

فالقرآن والسنَّة يشيران إلى معنى واحد؛ بلفظ النفس مرة، وبلفظ الروح أخرى.

2. أدلة القول الثاني

أ. قوله تعالى: ]الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ[ (سورة غافر: الآية 17).

وقوله تعالى: ]هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ[ (سورة يونس: الآية 30).

وقوله تعالى: ]أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ[ (سورة الزمر: الآية 56).

وقوله تعالى: ]يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29) وَادْخُلِي جَنَّتِي[ (سورة الفجر: الآيات 27 ـ30).

ومثل هذا في القرآن كثير، فالنفس مخاطبة، منهية، مأمورة. أما الروح، فلم تُخاطب، ولم تُؤمر ولم تُنهَ في شيء من القرآن،ولم يلحقها شيء من التوبيخ، كما لحق النفس.

ب. قوله تعالى: ]اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا[ (سورة الزمر: الآية 42).

قالوا: في جوف الإنسان روح ونفس، بينهما في الجوف مثل شعاع الشمس؛ فإذا توفى الله النفسَ، كان الروح في جوف الإنسان؛ فإذا أمسك الله نفسه، أخرج الروح من جوفه؛ فإن لم يمته، أرسل الله نفسه، فرجعت إلى مكانها قبل أن يستيقظ. قال ابن جريح: "وأخبرت عن ابن عباس نحو هذا الخبر"

وقال ابن القاسم في تأويل الآية الآنفة: "ألا ترى أن النائم قد توفى الله نفسه، وروحه صاعد ونازل، وأنفاسه قيام؛ والنفس تسرح في كل واد، وترى ما تراه من الرؤيا؛ فإذا أذن الله في ردها إلى الجسد، عادت، واستيقظ بعودتها جميع أعضاء الجسد، وحرك السمع والبصر وغيرهما من الأعضاء.

قال: فالنفس غير الروح، والروح كالماء الجاري في الجنان؛ فإذا أراد الله إفساد ذلك البستان، منع الماء الجاري فيه، فماتت حياته، فكذلك الإنسان.

ولم ير ابن عبدالبر فيما استدل به الفريقان، من آيات وأحاديث وآثار عن السلف، ما يرجح أحد القولين على الآخر؛ ولعل الراجح هو القول بأن الروح والنفس شيء واحد.

وأما أرواح بني آدم، فلم ترد تسميتها في القرآن إلا بالنفس.

قال تعالى: ]يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ[ (سورة الفجر: الآية 27). وقال: ]وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[ (سورة القيامة: الآية 2). وقال: ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ (سورة يوسف: الآية 53). وقال: ]أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ[ (سورة الأنعام: الآية 93) وقال: ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[ (سورة الشمس: الآيتان 7، 8). وقال: ]كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[ (سورة الأنبياء: الآية 35) وأما في السنَّة، فجاءت بلفظ النفس والروح.

رابعاً: انفصال الأرواح بالموت

قال تعالى: ]اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ (سورة الزمر: الآية 42).

تنفصل الأرواح عن الأبدان، بالموت، فتبلى الأبدان وتزول. أما الأرواح، فتصعد إلى الله، فيأمر بإعادة أرواح المؤمنين إلى الأرض، بعد كتابة أسماء أصحابها وأعمارهم؛ ففي الحديث: ]إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ، وَانْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، تَنَزَّلَتْ إِلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، كَأَنَّ عَلَى وُجُوهِهِمْ الشَّمْسَ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ كَفَنٌ وَحَنُوطٌ، فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ، صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ؛ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ. فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ، قَالُوا: رَبِّ، عَبْدُكَ فُلانٌ. فَيَقُولُ: أَرْجِعُوهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ، فَيَأْتِيهِ آتٍ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ مَا دِينُكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. وَدِينِيَ الإِسْلامُ. وَنَبِيِّي ـ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَنْتَهِرُهُ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ مَا دِينُكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. وَدِينِيَ الإِسْلامُ. وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ. ثُمَّ يَأْتِيهِ آتٍ حَسَنُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِكَرَامَةٍ مِنْ اللَّهِ، وَنَعِيمٍ مُقِيمٍ. فَيَقُولُ: وَأَنْتَ ـ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ـ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، كُنْتَ، وَاللَّهِ، سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ، وَبَابٌ مِنْ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ، لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ هَذَا. فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: رَبِّ، عَجِّلْ قِيَامَ السَّاعَةِ، كَيْمَا أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ.

وَإِنَّ الْكَافِرَ، إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةٌ، غِلاظٌ شِدَادٌ، فَانْتَزَعُوا رُوحَهُ، كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشِّعْبِ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ، وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ، فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلاَّ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لا تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ. فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ، قَالُوا: رَبِّ، فُلانُ بْنُ فُلانٍ عَبْدُكَ. قَالَ: أَرْجِعُوهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ: فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ. قَالَ فَيَأْتِيهِ آتٍ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ مَا دِينُكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي. فَيَقُولُ: لا دَرَيْتَ، وَلا تَلَوْتَ. وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنْ اللَّهِ، وَعَذَابٍ مُقِيمٍ. فَيَقُولُ: وَأَنْتَ ـ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ ـ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا. ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ، فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ، إِلا الثَّقَلَيْنِ[ (مسند الإمام أحمد، الحديث الرقم 17872).

وكثيراً ما تضمّن القرآن الكريم آيات، تبدأ بقوله تعالى: ]يسألونك[، يليه الإجابة عن كل سؤال: عن الأهلة، وعما ينفقون، وعن الخمر والميسر، وعن ذي القرنين، وعن الجبال ـ ولكن لما سألوا رسول الله عن الساعة والروح، كانت الإجابة، عن الأولى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي[ (سورة الأعراف: الآية 187)؛ وعن الثانية: ]قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[ (سورة الإسراء: الآية 85).

والروح لا تجيب من يكلمها من البشر، ولا ترد عليه، مع أنها قد تسمعه. فقد روى أنس، عن أبي طلحة: ]أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ r أَمَرَ، يَوْمَ بَدْرٍ، بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ، الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ، فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى، وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، وَيَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أرواح لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ! قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ، تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 3679).

ولا علم لأحد بكُنْه الروح، ولا بمصيرها ومستقرها. وأما إمكان الاتصال بها، وما تدعيه العلوم الحديثة من إمكانية السيطرة عليها بعد الاتصال بها، فهي من الأمور الغيبية، التي لا يلزم التصديق بها.

خامساً: آراء ابن تيمية في الروح

الروح المدبرة للبدن، التي تفارقه بالموت، هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت. قال النبي r، لما نام عن الصلاة: ]إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرواحكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ. يَا بِلالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 560)؛ ]وقال له بلال:أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ ـ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ بِنَفْسِكَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 1097). وقال تعالى: ]اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ (سورة الزمر: الآية 42).

قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: يقبضها قبضتَين: قبض الموت، وقبض النوم. ثم في النوم، يقبض التي تموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، حتى يأتي أجلها وقت الموت.

وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي أنه كان يقول، إذا نام: ]بِاسْمِكَ، رَبِّ، وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ. إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 5845). وقد ثبت في الصحيح، أن الشهداء، جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وثبت كذلك أنه: r قَالَ: ]الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا، قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ؛ اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ؛ فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ. ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُفْتَحُ لَهَا. فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ؛ فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، الَّتِي فِيهَا اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ، قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ؛ فَلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ. ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلا يُفْتَحُ لَهَا. فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: لا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا لا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. فَيُرْسَلُ بِهَا مِنْ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 4252). وفى حديث آخر: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهَا اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَتْ صَدَقْتَ؛ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 15216) فقد سمّى الروح نسمة.

وكذلك في حديث المعراج: ]قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. مَعِي مُحَمَّدٌ r. فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ، عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ؛ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ، عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، نَسَمُ بَنِيهِ؛ فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ. فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 336). وفي الحديث أن ]أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا t هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ! مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلا فَهْمًا[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 6394).

وفي حديث صحيح: ]قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ[ (رواه مسلم، الحديث الرقم 1528). فقد سمّى المقبوض، وقت الموت ووقت النوم، روحاً ونفساً؛ فهو نفس لكونه يدبّر البدن. وهو روح، للطفه، فإن لفظ "الروح" يقتضي اللطف؛ ولهذا، تسمى الريح روحاً. وقال النبي الأمين r: ]الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ. فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا[ (مسند الإمام أحمد، الحديث الرقم 7311) أي من الروح التي خلقها الله. فإضافة الروح إلى الله، إضافة ملك، لا إضافة وصف.

وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خُلقت للبقاء؛ وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها، بعد المفارقة، إلى أن يرجعها الله في أجسادها. ولو ماتت الأرواح، لانقطع عنها النعيم والعذاب. وقد قال تعالى: ]وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[ (سورة آل عمران: الآية 169)؛ هذا مع القطع بأن أرواحهم فارقت أجسادهم، وقد ذاقت الموت.

ولا شك أن موت النفوس هو مفارقة لأجسادها وخروجها منها. فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت. وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، فهي لا تموت بهذا المعنى، بل هي باقية، بعد خلقها، في نعيم أو في عذاب؛ أي أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء، بعد قتلهم، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين.

سادساً: مَآل الأرواح، في الإسلام

إن الأرواح، بعد فراق الأجساد، بالموت، يستغرقها المصير والجزاء، المقدور من الله، على ما قدمت في حياتها الأولى. فإما أن تكون أرواحاً طيبة مسرورة، في نعيم ورياض من رياض الجنة؛ أو تكون أرواحاً شريرة خبيثة، تستقر في حفر من النيران، وتلقى من العذاب ما يشغلها عن أن تخرج لتتجول في الكون، وبين أرجاء البلاد، يستدعيها من يشاء، لتخبره بأمور غيبية، لا يعلمها إلاَّ الله.

وقد ذكر ابن قيم الجوزية، أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ، تفاوتاً كبيراً:

1. فمنها أرواح في أعلى عليين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ. وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي، في ليلة الإسراء.

2. ومنها أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، حيث شاءت. وهي أرواح بعض الشهداء؛ لأن من الشهداء مَن تُحبس روحه عن دخول الجنة، لِدَيْن عليه، أو غيره؛ كما في الحديث: ]أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا لِي ‏إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الْجَنَّةُ فَلَمَّا ‏‏وَلَّى ‏‏قَالَ إِلاَّ الدَّيْنُ ‏سَارَّنِي ‏بِهِ ‏جِبْرِيلُ ‏عَلَيْهِ السَّلام ‏‏آنِفًا[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 16616).

3. ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث: ]إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 19265).

4. ومنهم: من يكون محبوساً في قبره، كحديث صاحب الشملة (كساء من الصوف) التي غلَّها، ثم استشهد، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال النبي: ]قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا؛ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا، وَلا وَرِقًا؛ غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ. ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ، رَجُلٌ مِنْ جُذَامَ، يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ. فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي، قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ. فَقُلْنَا هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا؛ أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ، يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ. قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ، يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ[. (صحيح مسلم، الحديث الرقم 166).

5. ومنهم من يكون مقره باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: ] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ـ‏ الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا[. (رواه أحمد، الحديث الرقم 2268)؛ وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، الذي أبدله الله من يدَيه جناحَين، يطير بهما في الجنة، حيث شاء.

6. ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني. وأرواح في نهر الدم، تسبح فيه، وتُلقم الحجارة؛ وهي أرواح أَكَلَة الربا، كما في حديث البخاري؛ فليس للأرواح، سعيدها وشقيها، مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية، لا تصعد عن الأرض.

الأرواح، إذاً، لا تتجول بعد الموت، ولا تشتغل بالطب والجراحة، ولا تشارك الناس أحوالهم؛ ولا تنتظر ليستدعيها أحدهم، في غرفة مظلمة أو سلة أو دلو. وأما الكائنات، التي قد تحضر، في مثل هذه الجلسات، فهي الجن، ولا سيما القرناء؛ لأن القرين يلازم الإنسان، طوال حياته، ويعرف عنه كل شيء؛ قال الرسول الكريمr: ]مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ؛ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ، فَلا يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 5034).

وقال تعالى: ]وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ[ (سورة فصلت: الآية 25).

وقال تعالى: ]وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[ (سورة الزخرف: الآية 36).

وهكذا، إذا جاء مستحضرو الأرواح هؤلاء، واستحضروا روح أحد من الناس، وتكلموا معها؛ فإنما هم، في الحقيقة، يتكلمون مع القرين الجني لزيد، فيخبرهم عما يسألونه مما كان يعرف عن زيد".

سابعاً: رأي الإسلام في استحضار الأرواح

يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "إن استحضار الأرواح أو مخاطبتها، أقلّ ما يقال فيه، إنه خداع باطل".

ويقول الشيخ محمد الغزالي: "إننا لا نشك في أن مبادئ هذه الروحانية الحديثة، هي من عبث مردة الجن، الذي استغفلوا نفراً من أبناء آدم".

أما الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيقول: "وما الذي أعلمهم أنها أرواح؟‍ هل يعرفون الروح، حتى إذا ما حضرت قالوا: هذه هي الروح، التي نعرفها؟ يمكن أن يقولوا: إنهم يستحضرون قوى خفية؛ ولكن أرواحاً، فلا. وكل ذلك غير مقبول. ولقد اشتغل الناس بذلك من قديم، ولم يتقدم هذا العلم خطوة واحدة، على الرغم من أن بقية العلوم تقدمت وتطورت بشكل هائل؛ ما يدل على أنهم يبحثون في غير موضوع تجريبي؛ لأن البحث العلمي، يحتاج إلى المعمل، وإلى التجربة؛ وهذا لا تتهيأ له التجربة، ولا المعمل".

ويسهم الإمام محمود شلتوت، في "الفتاوى"، بقوله: "لم يَرِد شيء، فيما يختص بتحضيرها وتسخيرها لدعوة الإنسان. كما لم يدل عليه حس موثوق به، أو تجربة صادقة. وكل ما نسمعه في ذلك، لا يخرج عن مظاهر خداع وإلهاء بالخيالات، لا يلبث أن ينكشف أمره".

وتضمنت فتاوى الشيخ عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، قوله: من الحالات العجيبة، التي يضعها العلم في نطاق الأمراض النفسية ـ ما شاع في الناس، في كل زمان ومكان، من أن يلبس عفريت جسم امرأة، أو جسم رجل. وهذه الحالة، أصبحت شبه مألوفة، منذ أن كثرت التجارب، فيما يسمونه بالروحانية الحديثة؛ وليست الروحانيات الحديثة، إلاَّ أن يلبي عفريت جسم "الوسيط"، ويتحدث على لسانه؛ وليس "الوسيط" إلاَّ إنساناً، رجلاً أو امرأة، مهيأ النفس والجسم، لأن يحل فيه كائن من العوالم غير المنظورة. والسبب الأصيل في هذه التهيئة، هو ضعف الإرادة عند الوسيط، وسرعة استجابته للوهم وللإيحاء؛ إنه، عادة، شخص مهيأ، بسبب ضعف إرادته، لأن يكون مسرحاً لكل وهم ولكل إيحاء.

وأفتى الشيخ مصطفى الحديدي الطير ـ رحمه الله ـ بأن استحضار الأرواح بالعزائم، أو بآيات من كتاب الله ـ تعالى ـ أو بأي وسيلة أخرى ـ لم يرد في كتاب الله ولا سُنَّة رسوله، حتى يُجاب عن هذا السؤال بلسان الشرع الشريف. والذي ثبت، شرعاً، هو بقاء الأرواح بعد موت الأجساد؛ وأنها تسمع السلام، وتزور الأحياء، مناماً. وقال بعضهم إنها قد تزورهم، يقظة. ولم يثبت، شرعاً، أنها تخضع للأحياء، يحضرونها حيث شاءوا، ويسخرونها حيث أرادوا.

ثامناً: حُكم البحث في الروح

اختلف العلماء في هذه المسألة، على قولَين:

1. عدم جواز البحث في موضوع الروح؛ لأنه بدعة في الدين.

2. جواز التعرض لمعرفة حقيقة الروح.

ومنشأ الخلاف تأويلهم لقوله تعالى: ]قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[ (سورة الإسراء: الآية 85).

فعلى القول الأول، يكون أمر الروح من جنس ما، استأثر الله بعلمه، من الأسرار الخفية، التي لا تكاد تحوم حولها عقول البشر. وعليه فالحرف "من" بياني أو تبعيضي، ويكون نهياً لهم عن السؤال عنها، وتركاً للبيان. فالله لم يطلع أحداً من خلقه على سرها؛ فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود".

قال الإمام الشوكاني:" وقد حكى بعض المحققين، أن أقوال المختلفين في الروح، بلغت ثماني عشرة مائة قول. فانظر إلى هذا الفضول الفارغ، والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله ـ سبحانه ـ قد استأثر بعلمه، ولم يطلع عليه أنبياءه، ولا أذن لهم بالسؤال عنه، ولا البحث عن حقيقته؛ فضلاً عن أئمتهم المقتدين بهم".

وقال أبو الطيب القنوجي: هذه المسألة مما لم يأذن الله بالكلام فيه. وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته، بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه". وقالوا: لأن الله ـ سبحانه ـ لم يبيِّنه لرسوله بأكثر مما في الآية، فالاشتغال بالتفتيش عنه غلوّ فيما لم يرد به قرآن، ولم يعم به برهان؛ وما كان كذلك فهو عناد.

ورد القائلون بالجواز: "وقد جرى ذكر الروح في هذه الآية، وصُرف السائلون عن مرادهم، لغرض صحيح، اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم. فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرّف حقيقة الروح، بوجه الإجمال؟ فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة، ما تغيرت به الحالة، التي اقتضت صرف السائلين، في هذه الآية، بعض التغيير. وقد تتوافر تغيرات، في المستقبل، تزيد أهل العلم استعداداً لاستجلاء بعض ماهية الروح".

وقالوا إن هذه الآية، لا تصد العلماء عن البحث في الروح؛ لأنها نزلت لطائفة معيّنة من اليهود، ولم يُقصد بها المسلمون.

وإن الآية، لا يدل معناها على ما ذُكر دلالة قطعية، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها؛ لا على أنه r لم يكن يعلمها. وغاية الأمر، أنه ترك الجواب عنها تفصيلاً؛ إما لأن الإمساك عن ذلك، كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوّته؛ أو لأن سؤالهم كان تعنتاً؛ فإنها تطلق على معانٍ، منها: الراحة وبرد النسيم، وعلى جبريل، والقرآن، وعيسى ـ عليه السلام ـ والحياة والقلب والرحمة، وغير ذلك؛ فأضمروا على أنَّه إذا أجاب بأحد هذه الأمور، قالوا: لم يزده؛ وإنَّما أردنا كذا".

تاسعاً: حُكم استحضار الأرواح

أسفر الاختلاف في البحث في الروح، عن اختلاف في مسألة استحضار الأرواح.

فالقائلون بعدم جواز البحث في أمر الروح، لا يمكن الجزم بقولهم بعدم جواز استحضار الأرواح؛ لأنهم إذا كانوا قد منعوا الكلام النظري في ماهيتها، فما بالهم في محاولة التعامل معها بأسباب مادية؛ وهو الحكم الذي ينسحب على القائلين ببدعية البحث في الروح.

أما الذين لم يروا مانعاً من البحث في الروح، فلا يبعد أن يقول بعض منهم بجواز استحضار الأرواح، وقد وجد ذلك واقعاً من بعض المشايخ، كالأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق؛ والشيخ الطنطاوي جوهري.

يقول الأول:" وعلم استحضار الأرواح، فسَّر للناس كثيراً مما كانوا فيه يختلفون؛ وأعان على فهْم تجرد الروح، وإمكان انفصالها؛ وفهْم ما نستطيعه من السرعة في طي الأبعاد. وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا، في تقريب قصة الإسراء، فأتى بشيء طريف".