إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / غزوة الخندق





معركة الخندق




مقدمة

ثانياً: وقائع ونتائج المعركة

1. لما اقتربت طلائع الأحزاب من المدينة المنورة من ناحية جبل أحد، ظهر أمامهم الخندق معترضاً طريقهم، فكانت مفاجأة لم يكونوا يتوقعونها حتى قال بعضهم: "هذه مكيدة لم تكن العرب تكيدها". ولمّا عجزت قوات الأحزاب عن عبور الخندق، للانقضاض على قوات المسلمين المدافعة عن المدينة خلف الخندق، ضربوا خيامهم وأقاموا معسكرهم محاصرين قوات المسلمين من الشمال، والجيوب اليهودية المتمركزة في الآطام تحاصر المسلمين من جهة الجنوب.

مكث الجيشان أياماً يراقب كلٌّ منهما الآخر، وكتائب الأحزاب لا تنفك تطوف بالخندق ليلاً ونهاراً علهم يجدون منفذاً ينفذون منه. وكلما دنت طلائعهم من الخندق أمطرهم المسلمون بوابل من الحجارة والسهام، فيردونهم على أعقابهم.

تناوب المشركون مناوشة المسلمين في الغداة والعشي؛ فيغدو في كل يوم واحد من هؤلاء القادة في أصحابه، وهم: أبو سفيان، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجبيرة بن وهب، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب. فلا يزالون يجتمعون ويتفرقون ويناوشون. ومكثوا على هذه الحالة أياماً لم يكن بينهم حرب، إلاّ الرمي بالنبل والحصى.

2. ظل المشركون محاصرين المدينة المنورة شهراً أو أقل، ولم يكن بين الفريقين قتال سوى التراشق بالنبال في بعض الأحيان، وتم ذلك على النحو التالي:

أ. تحرك بعض فرسان قريش، وفيهم (عمرو بن ود العامري، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس بن فهر)، ومروا ببني كنانة واستثاروا حميتهم للقتال، وقالوا لهم: "تهيئوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم". وتيمنوا مكاناً ضيقاً من الخندق فعبروه بخيلهم، ودعوا إلى المبارزة.

ب. انتُدب لعمرو بن ود العامري عليٌّ بن أبي طالب t فبارزه وقتله؛ وبارز الزبير بن العوام t نوفل بن عبدالله فشقه باثنتين حتى فلّ حدّ سيفه فلاً وانصرف جريحاً، ولما تورط نوفل في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول: "قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب". فنزل عليٌّ إليه فقتله. وانهزم الباقون من فرسان المشركين وفروا إلى أصحابهم.

3. خلال الحصار بعث المشركون إلى رسول الله r، يشترون جثة القتيلين، عمرو بن ود ـ الذي كان من شجعان المشركين وأبطالهم ويقدره العرب في الجاهلية بألف فارس ـ ونوفل بن عبدالله، وعرضوا مبلغاً من المال. فقال r ". هو لكم لا نأكل ثمن الموتى". وفي قول آخر: "لا خير في جسده ولا في ثمنه".

4. دور المرأة في تأمين المدينة

أدت المرأة دوراً مهماً في تأمين المدينة. فقد روى محمد بن إسحاق عن عبّاد بن عبدالله بن الزبير. tأن رسول r خرج إلى الخندق فجعل نساءه وعمته صفية في أطم (حصن) يقال له فارع، وجعل معهن حسان بن ثابت، وخرج رسول الله r إلى الخندق. وتصف السيدة صفية بنت عبدالملك الموقف وتقول إنه أقبل عشرة من يهود، فجعلوا ينقمعون (يستترون) ويرمون الحصن، ودنا أحدهم إلى باب الحصن، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله r في نحر العدو، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آتٍ، فقلت لحسَّان: قم إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبدالمطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، ولو كان ذلك فيَّ لخرجت مع رسول الله r قالت صفية: فلمّا قال ذلك، ولم أر عنده شيئاً احتجزتُ (شددت وسطي) ثم أخذت سيفاً فربطته على ذراعي، ثم تقدمت إليه حتى قتلته... فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبدالمطلب. فقلت خذ الرأس وارم به على اليهود، قال: ما ذاك فيَّ، فأخذتْ هي الرأس فرمتْ به على اليهود، فقالوا: قد علمنا أنّ محمداً لم يترك له خُلُوفاً ليس معهم أحد، فتفرقوا. زاد أبو يعلي: فأخبر بذلك رسول الله r فضرب لصفية بسهم كما يضرب للرجال. (أي أعطاها نصيبها من الغنائم كما يعطي المحارب من الرجال).

وكان دور المرأة، أثناء حصار المشركين للمدينة المنورة، مؤازرة المسلمين وتشجيعهم للصمود في وجه المشركين. كما كنَّ يضمدن الجراح ويسقين العطشى ويعددن الطعام ويقدمنه للمدافعين. ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق: أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير، قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله r وأنا ألتمس أبي وخالي؛ فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبدالله بن رواحة يتغديانه؛ قال: هاتيه. قالت: فصببته في كفي رسول الله r فما ملأتهما، ثم أمر بثوبٍ فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسانٍ عنده: اصرخ في أهل الخندق: أن هلمّ إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنَّه ليسقط من أطراف الثوب".

وفي هذه الرواية دلالة على وقوف النساء بجانب الرجال وتقديم العون لهم، كما فيها إظهار لمعجزات النبي r أمام رجاله ليثبت قلوبهم ويزيد من ثقتهم بالله وبرسوله في مثل هذه المواقف.

ومما يدل على مشاركة نساء المدينة في مداواة الجرحى، أن سعد بن معاذ، سيد الأوس، عندما أُصيب أثناء الحصار، كانت تعالجه سيدة صحابية جليلة صالحة يقال لها "رُفيدة"، وكانت قد أقامت لها خيمة في المسجد تحتسب فيها عند الله القيام بمداواة جرحى المعارك من الصحابة ممن لم يكن لهم من يعالجهم من أهلهم. وأمر الرسول r، أن يكون هذا الزعيم الأوسي قريباً منه فيعوده ويتعرف حاله متى شاء.

5. نتائج المعركة

أ. هزيمة الأحزاب ورحيلهم عن المدينة

منذ أن قدم الأحزاب من مكة كانوا يعانون من نقص المؤن وعلف الخيل والإبل. فقريش أطلقت دوابها لترعى في أشجار وادي العتيق، ولم تجد فيه شيئاً إلا ما حملت من علفها من الذرة. وسرّحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها[1]  وطرفائها[2]، وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم، وكادت من أجل ذلك خيل غطفان تهلك.

وهكذا بعد نقص المؤن، وطول مدة الحصار، ضعفت إرادة الأحزاب القتالية، وخذّل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم.

حينئذ قال لهم أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف (أي الخيل والإبل)، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما تَرون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء؛ فارتحلوا فإني مرتحل؛ ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم". مما يدل على شدة خوفه ورعبه، وإسراعه للرحيل للنجاة بنفسه من هول ما رأى.

وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا (أي أسرعوا) راجعين إلى بلادهم أيضاً. وأرسل الرسول r الصحابي، حذيفة بن اليمان، يأتيه بخبرهم، واشترط عليه المصطفى r قائلاً: ]لا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 22244).

أثبت حذيفة كفاءته الفائقة في العمل كرجل استخبارات في المهام الدقيقة. يدل على ذلك أنه تعرض أثناء وجوده في صفوف قريش لموقف مفاجئ شديد الحرج، لكنه تخلص منه بذكائه وسرعة تصرفه، ذلك أنه سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ (أي ليتعرف كل رجل على من يجلس بجواره، وذلك خشية أن يندس في صفوفهم أحد من معسكر المسلمين). قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان. وفي شرح المواهب: "فضربت بيدي على يد الذي عن يميني، فأخذت بيده فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان؛ ثم ضربت بيدي علي الذي عن شمالي، فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص".

فهذا التصرف الذكي أبعد به حذيفة التهمة عن نفسه إذ سارع وبادر جليسيه بالسؤال قبل أن يسألاه، ولو لم يتصرف بهذه السرعة، وأصابه الارتباك لانكشف أمره ولضاع عن المسلمين الهدف الذي أرسلوه من أجله.

وجد حذيفة المشركين على هذه الحالة وقد تهيئوا للرحيل، فانصرف بخبرهم إلى رسول الله r والمسلمين؛ عندها قال الرسول r: ]الآن نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3801).

ب. إجلاء يهود بني قريظة

كان من أهم نتائج غزوة الخندق، إجلاء يهود بني قريظة عندما استبانت خيانتهم ونقضهم لعهدهم. لذلك حاصرهم الرسول r من يوم الأحد 29 شوال سنة 5 هجرية إلى يوم الخميس 25 ذي القعدة سنة 5 هـ، أي ما يقارب خمسة وعشرين يوماً حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم يستطيعوا الصمود، فانهارت مقاومتهم.

وعلى الرغم من تعب المسلمين الشديد لبقائهم مدة طويلة محاصرين، وعلى الرغم من برودة الطقس، فقد أسرع المسلمون لتنفيذ أمر رسولهم r وقائدهم. فاحتشدوا حول حصون بني قريظة قبل حلول الظلام، امتثالاً لدعوته  للمسلمين بقتال اليهود، حينما أمر r مؤذناً فأذن في الناس: "من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلاّ ببني قريظة".

بعث اليهود إلى رسول الله r أن أبعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر الأنصاري المدني ـ أخا بني عمرو بن عوف حلفاء الأوس ـ لنستشيره في أمرنا. فأرسله رسول الله r إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى في وجهه النساء والأطفال من شدة تعب الحصار، فرقّ لهم. وقالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله r ثم انطلق ولم يأت رسول الله r حتى ربط نفسه في المسجد إلى عمود من عمده، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعتُ، وعاهد الله: أن لا أطأ بني قريظة، ولا أُرى في بلدٍ خنتُ فيه الله ورسوله أبداً.

وأنزل الله في أبي لبابة قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[ (سورة الأنفال: الآية 27).

ولمّا أصبح الصباح، نزل بنو قريظة على حكم رسول الله r أن يرضوا بحكم حليفهم سيّد الأوس سعد بن معاذ فيهم؛ وكان حكم سعد بن معاذ فيهم أن قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء.

وحينها قال رسول الله r لسعد: ]قَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3315).

ثم استُنزل اليهود من حصونهم فسيقوا إلى المدينة وحبسوا في دار "نسبة بنت الحارث" زوجة عبدالله بن عامر الأنصاري، ثم ضربت أعناقهم في خنادق أُعدت لذلك. وقسم الرسول r أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين. يقول الله تعالى: ]وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا[ (سورة الأحزاب: الآيتان 26، 27).

وقال تعالى أيضاً في السورة نفسها ]لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً[ (سورة الأحزاب: الآيتان 60، 61).

ج. خسائر الطرفين

(1) المسلمون

احتسب المسلمون في سبيل الله ستة شهداء، هم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبدالله بن سهل الأشهلي، وثعلبة ابن عتمة، وكعب بن زيد، والطفيل بن النعمان.

(2) المشركون

هلك من المشركين ثلاثة قتلوا، هم عمرو بن ودّ العامريّ، ونوفل بن عبد الله، ومنبِّه بن عثمان بن عبيد، أصابه سهم فمات منه بمكة.



[1] الأثل: شجر واحدته أثلة.

[2] الطرفاء شجر، ومن أنواعه الأثل.