إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / غزوة الخندق





معركة الخندق




مقدمة

ثالثا: أسباب الهزيمة والدروس المستفادة

1. تعدد القادة

لم تكن للأحزاب قيادة موحدة تستطيع أن تصدر أوامرها، التي يلتزم الجميع بتنفيذها. وقد كان من المستحيل اتفاقهم على قائد لأن هذا القائد سينال شرفاً يمتاز به على الآخرين.

2. المباغتة بالخندق

لم يعهد العرب استخدام الخنادق في حروبهم، ولم يكن بمقدور الأحزاب تجاوز الخندق إلى داخل المدينة مما جعلهم يقفون في حيرة أمام هذه المكيدة الجديدة.

3. طول مدة الحصار

استمر حصار المشركين للمسلمين مدة تقرب من الشهر، مما فتِّ في عضد المشركين وأضعف من روحهم المعنوية.

4. قلة المؤن

لم تكف المؤن التي حملها المشركون معهم خيلهم وأبلهم، ولم يجدوا ما يقدمونه لها من تبن وعلف. ذلك أن أهل المدينة كانوا قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا محصولهم وأتبانهم إلى مخازنهم.

5. برودة الطقس

كان الحصار في فصل الشتاء في ليال شديدة البرودة، دلل على ذلك، ما ورد من أن رسول الله  كان في يوم الخندق يختلف إلى ثلمة يحرسها، فإذا آذاه البرد دخل بيته، فأدفأته عائشة، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة يحرسها.

ولم يكن لدى الأحزاب ما يحميهم في هذا البرد، من الخيام المهيئة للسكن والإعاشة والتدفئة على النحو الذي يمكنهم من البقاء طويلاً.

6. الخداع، وسفارة نعيم، وما حققته من اختلال وحدة الأحزاب

تمكن نعيم بن مسعود من تفريق كلمة القوم، والقضاء على تجمعهم بشدة ذكائه، وعدم ذيوع نبأ إسلامه في المشركين.

الدروس العسكرية المستفادة

كشفت غزوة الأحزاب عقب هزيمتهم، عن تشتت تلك الأحزاب وتفرق كلمتهم. وقد شاء الله تعالى أن ينصر رسوله وأصحابه في تلك المعركة، نصراً كبيراً له دلالته. ففشل هذا التجمع الهائل من الأحزاب، أنهم لن يستطيعوا الاجتماع مرة أخرى ضد المسلمين، ولن يستطيعوا أن يفعلوا في المستقبل شيئاً ذا بال لأن كل الذي بذلوه من تأليب الأحزاب على المسلمين لم يجد شيئاً. لذا قال عليه الصلاة والسلام: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".

وكانت هذه الغزوة سبباً في فضح نوايا اليهود تجاه المسلمين، واستئصال شأفتهم لتحقيق الأمن الداخلي للدولة الإسلامية الناشئة. ودلّ فعل الرسول r معهم على جواز قتل من نقض العهد، وما زالت بعض الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

فكانت غزوة الأحزاب انتصاراً للمسلمين ورفعاً لراية الإسلام عالية خفاقة، وعودة الأحزاب عن حصار المدينة المنورة في خيبة وخزي.

أما الدروس العسكرية المستفادة، فيمكن تلخيصها في الأتي:

1. أهمية الاستخبارات في المعركة

كان للاستخبارات شأن كبير في تأمين سلامة جيش المسلمين من خطر المشركين. فقد علم الرسول r بيقظته وقوة استخباراته عزم كفار قريش على مهاجمته في المدينة عن طريقين:

أ. عن طريق عمه العباس رضي الله تعالى عنه.

ب. عن طريق قبيلة خزاعة وقد كانوا "لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة".وقد كان بين عبدالمطلب، جد الرسول r، وخزاعة حلف قديم، قال عمرو بن سالم بن حصير الخزاعي.

لا همّ إني ناشداً محمـداً                                حلف أبينا وأبيه الأتلدا[1] .

وقد عجزت استخبارات المشركين، على المستويين الإستراتيجي والتكتيكي على حدٍ سواء، عن اكتشاف أمر الخندق قبل وصولهم إلى المدينة، مما يدل على ضعف استخباراتهم ومدى حرص المسلمين على كتمان خطتهم الحربية، وحرمان العدو من الحصول على معلومات عنها.

2. أهمية الشورى بين القائد ومرؤوسيه، وتشجيع المرؤوسين على الإدلاء بآرائهم

كان الرسول r كثيراً ما يستشير أصحابه في الأمور المهمة التي تمس مصالحهم، وقد تجلى هذا الأمر في غزوة الخندق في موقعين أساسيين:

أ. أولهما: عندما علم الرسول r بقدوم الأحزاب إلى المدينة، استشار أصحابه في هذا الأمر، وأقر رأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في الجهة المفتوحة من المدينة المنورة، لمنع توغل العدو فيها، وتحقيقه الأمن الذاتي للأطفال والنساء.

ب. ثانيهما: استشارته لزعيمي الأنصار، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، بأن يرد بعض الأحزاب (قبيلة غطفان) عن المدينة لقاء ثلث ثمارها، ولكنهما اقترحا عليه ألا يعطي المشركين شيئاً من ثمارهم، وقالا في ذلك: "... والله لا نعطيهم إلا السيف". فصوّب رأيهما عليه الصلاة والسلام.

3. تحقيق المفاجأة بتطبيق أسلوب جديد في القتال

استفاد الرسول r كثيراً من حفر الخندق للدفاع عن المدينة، وهذا الأسلوب الجديد من أساليب القتال لم تعهده العرب في تاريخها الحربي من قبل. وقد أخذ الرسول r بفكرة حفر الخندق من سلمان الفارسي، الذي قال فيه الرسول كلمته الخالدة: "سلمان منا أهل البيت" ليشجع التفكير المثمر، ويشيد بالعاملين للمصلحة العامة، ويقطع دابر العصبيات.

4. وحدة القيادة، واستمرارية السيطرة

كانت قيادة الرسول r قبل الحصار وخلاله، الذي دام شهراً، قيادة متزنة وحكيمة وشجاعة. وكانت سيطرته على قواته مستمرة طوال هذه المدة الصعبة والأحوال القاسية والحرجة. وتجلت حسن قيادة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه في المواقف التالية:

أ. قراره البقاء بالمدينة، وأمره بحفر الخندق، وتوزيعه أعمال الحفر بالتساوي بين أصحابه.

ب. سيطرته على العمل، فلا يستطيع أحد ترك واجبه إلاّ بأمر منه، حتى أُنجز الحفر قبل وصول المشركين.

ج. اليقظة والحذر الدائم، كان في الخندق ثلمة "مضيقاً" نبه الرسول r إلى خطرها، وكان يتولى حراستها بنفسه، ويقول لأصحابه: ]ما أخشى أن يؤتى الناس إلاّ منها[.

وقد روى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كنت مع رسول الله r في الخندق، وكنا في قرّ شديد (أي برد) فإني لاُنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، ثم نادى عباد بن بشر، فقال عبَّاد، لبيك، قال: أمعك أحد؟ قال: نعم، أنا في نفر من أصحابي حول قبتك. قال: انطلق مع أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيل المشركين تطيف بكم، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة، اللهم فادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم فلا يغلبهم أحد غيرك. فخرج عباد في أصحابه، فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق، وقد نَذِرَ بهم المسلمون ( أي علموا وحذروا)، فرمومهم بالحجارة والنبل حتى أذلقهم المسلمون بالرمي، فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم.

د. سيطرته على أصحابه حين نكث بنو قريظة عهدهم، وأصبح الخطر يهدد المسلمين من الداخل والخارج، فرفع r من روحهم المعنوية بقوله: "أبشروا بفتح الله ونصره".

5. أهمية صلة الجندي بقائده، وتأثير ذلك في سير المعركة

إن صلة الجندي بقائده تكون فوق الضبط والنظام، وهذه العلاقة تؤثر كثيراً في سير المعركة وفي نتائجها.

أحبَّ المسلمون الرسول r حباً شديداً، ولم يعلم التاريخ قائداً أحبه جنوده كحب جنود محمد له، "ولم ير الناس قائداً مثل محمد، ولم يعلم العالمون قائداً في شرق المعمورة أو غربها أثّر في جنوده عن طريق الحب هذا التأثير الكبير".

وقد انطلق هذا الحب من قوله تعالى: ]قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ (سورة التوبة: الآية 24).

وقد ظهر حب جنود محمد r في السمع والطاعة والاستجابة في كل أمر، وفي كل قضية، خاصة القضايا العسكرية التي تحتاج إلى سرعة البت والحركة والتنقل وسرعة المفاجأة، وتجلى ذلك فيما يلي:

أ. استخدام الرمز (الشفرة) لكتم الأسرار

فمن جوانب عظمة الرسول r العسكرية جانب تطبيق عامل الكتمان. وكانت تدابيره في الكتمان بالغةّ حداً رفيعاً حتى ليمكن أن تكون مثالاً يحتذى في كل زمان ومكان. فقد كان له في المدينة عيون وأرصاد يطلعونه على كل صغيرة وكبيرة تضر بالمصلحة العامة، في السلم والحرب على السواء.

وأكبر دليل على استخدامه لهذا العامل ـ كتم الأسرار ـ بعثته r لسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعهما عبدالله بن رواحة وخوَّات بن جبير لتحري صحة نقض بني قريظة للعهد، وقوله لهم: "فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاء الناس".

ب. أثر العمل الاستخباراتي

ولمّا أراد الرسول r أن يتعرف على آثار دعوة نعيم بن مسعود الغطفاني، التي استهدفت الوقيعة بين زعماء الأحزاب، دعا إليه حذيفة بن اليمان، الذي كان يعرف فيه كتمانه الشديد للأسرار، وحضور بديهته وذكائه الخارق، دعاه في ليلة شديدة البرد قائلاً له: "يا حذيفة، اذهب وادخل في القوم فانظر ما يصنعون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا". وعاد حذيفة بعدما علم برحيل القوم في سرية تامة، وقال: "فرجعت إلى رسول الله r وهو قائم يصلي، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح عليّ طرف المرط (الكساء) ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر".

وفي هذا دلالة تامة على صدق محبة حذيفة للرسول r وامتثاله لتنفيذ أوامره وكتم نتائجها.

6. أهمية الخداع وتأثيره في الأحداث

كان لنعيم بن مسعود دوره المحمود في هذا النصر، الذي أيد الله تعالى به المؤمنين في غزوة الأحزاب. وقد أثرت الإشاعات التي بثها في تفريق كلمة الأحزاب. وتعتمد الحروب الحديثة على بث الإشاعات لتصديع الصفوف وبلبلة الأفكار، وقسم بث الإشاعات من أهم أقسام شعب الاستخبارات في تشكيلات الجيوش.

ومن مكائد الحرب ووسائلها للنصر تلك الحرب النفسية التي تشحذ عزائم المحاربين من جهة، وتلقي الرعب في قلوب العدو من جهة أخرى... فهذا سلاح من أمضى الأسلحة في الحروب، لذا لم يغفل الرسول r عنه في حروبه ضد المشركين.

7. أهمية معاونة القائد لمرؤوسيه

ساوى الرسول r نفسه مع أصحابه عند حفر الخندق، فكان ينقل التراب، ويضرب بالفأس، ويضع الحجر على بطنه من قلة الطعام وشدة الجوع. بل كان يساعدهم على المستعصي من الصخور بأن يضربها بالفأس فتنقلب بين يديه كالكثيب. وكان يرتجز الحماسي من الشعر ترغيباً لأصحابه في العمل كقوله.

اللهمّ إِنّ العيش عيش الآخرة                             فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له.

نحن الذين بايعوا مَحمَّدا                                  على الجهاد ما بقينا أبدا

8. ضرورة أخذ الحذر من المتخاذلين

كان المنافقون كثيراً ما يتسللون إلى أهليهم بغير إذن رسول الله r فبينّ الله عز وجل الفرق بينهم وبين المؤمنين في قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة النور: الآية 62).

وكان المنافقون يسعون إلى التثبيط والتخاذل وتوهين العزائم بين صفوف المسلمين، وليس أشد على الجيش المحارب من أن يكون دعاة التخذيل وإشاعة الروح الانهزامية من داخله ومن بين صفوفه، وقد صوّر الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب مواقفهم هذه أبلغ تصوير حيث قال تعالى: ]وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا[ (سورة الأحزاب: الآيات 12-14).

وهكذا، كشفت هذه الغزوة كيف صبر المسلمون في مواجهة الأعداء، في الخارج وفي الداخل. وكيف أخفق المنافقون ونجح المؤمنون الصادقون. وقد أظهر المؤمنون، من الجلد والصبر وقوة الاحتمال، ما يدل على قوة إيمانهم، وصدق يقينهم بالله، وثقتهم بأن وراء الشدة فرجاً، وأن الله أراد اختبارهم وامتحانهم، بمواجهتهم لأضخم عمل عسكري في تاريخ الصراع بينهم وبين المشركين.

فلمّا نجحوا في هذا الامتحان، مدَّ الله إليهم يد العون، فأخذ مسير المعركة يتطور على نحو لا يعلم كنهه إلا الله سبحانه وتعالى، فكان النصر الذي وعد الله ـ عزّ وجلّ ـ رسوله والمؤمنين.



[1] الأتلدا: أي العريق.