إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحسد









المصادر المراجع

ثانياً: حقيقة الحسد وحكمه ومراتبه

1. حقيقة الحسد المذموم

يرى الإمام الغزالي أن الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب؛ فهو فرع فرعه، والغضب أصل أصله. ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى.

ولا حسد إلا على نعمة. فإذا أنعم الله على أحد بنعمة، فللناس فيها حالتان.

الأولى: أن يكره تلك النعمة، ويحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسدا. فالحسد حقيقة كره النعمة، وحب زوالها عن المنعم عليه.

الثانية: أن لا يحب زوالها، ولا يكره وجودها ودوامها، ولكن يشتهي لنفسه مثلها.

وهذه تسمى غبطة. وقد تختص باسم المنافسة. وقد تسمى المنافسة حسدا، والحسد منافسة، ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر. وقد يستخدم لفظ الحسد في المعنيين وسياق الكلام يدل على أحدهما.

2. حُكم الحسد

الحسد، حسب الحالة الأولى، وهو كره النعمة وتمني زوالها، حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة، وإفساد ذات البين، وإيذاء الخلق، فلا يضر المسلم كراهيته لها، ومحبته لزوالها فإنه لا يحب زوالها من حيث هي نعمة، بل من حيث هي آلة الفساد. ولو أُمن فساده، لم يحسد ويدل على تحريم الحسد الآيات التي سبقت، وأن هذه الكراهة تسَخُّط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض.

قال تعالى: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ[ (سورة البقرة: الآية 109). فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل: ]وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[ (سورة النساء: الآية 89). وذكر الله تعالى حسد أخوة يوسف عليه السلام، وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى ]إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُم[ (سورة يوسف: الآيتان 8، 9). فلما كرهوا حب أبيهم له، وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه، فغيبوه عنه. وقال تعالى ]وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَهً مِمَّا أُوتُوا[ (سورة الحشر: الآية 9). أي لا ضيق صدورهم به ولا يغتمون. فأثنى عليه بعدم الحسد.

3. أقسام الحساد وحكم كل قسم

أ. أن يحب الحاسد بطبعه أن يسوء المحسود ولكنه في الوقت نفسه يكره هذا الخلق فيه ويحب لو أنه يجد علاجاً له، فهذا معفو عنه ولا يؤاخذ إن بذل الجهد في معالجة هذا النوع من الحسد.

ب. أن يحب الإساءة، ويظهر الفرح بها، إما بلسانه أو بجوارحه، فهذا هو الحسد المحظور المحرم قطعاً.

ج. وهو بين الطرفين، أن يحسد بالقلب، ومن غير إنكار منه على قلبه، ولكن يحفظ جوارحه عن طاعة الحسد في الإيذاء بالقول أو الفعل، وهذا في محل الخلاف، هل يأثم أم لا.

والنوعان الأخيران يدخلان في مراتب أربعة يأتي تفصيلها.

4. حكم الغبطة والمنافسة

وأما الغبطة والمنافسة، فليست بحرام. بل هي إما واجبة، وإما مندوبة، وإما مباحة.. وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة، والمنافسة بدل الحسد، وكذلك الغبطة تُستخدم في مكان الحسد والعكس.

أراد قثم بن العباس هو وأخوه والفضل أن يأتيا  النبي r، فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة، فقال علي بن أبي طالب لهما: لا تذهبا إليه، فإنه لا يؤمركما عليها، فقالا له ما هذا منك إلا نفاسة. والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك، أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزوج إياك فاطمة، والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة. والذي يدل على إباحة المنافسة، قوله تعالى: ]وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[ (سورة المطففين: الآية 26). وقال تعالى: ]سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[ (سورة الحديد: الآية 21). وإنما المسابقة عند خوف الفوت، وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما، إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه، فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها.

وقد صرح رسول الله r بذلك فقال: ]‏لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا[ (مسند أحمد: الحديث الرقم 3900)، ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأنماري فقال: ]مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلاَ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ[ (سنن ابن ماجة، كتاب الزهد: الحديث الرقم 4218) فإذا أحب الرجل أن يكون له مثل ما لفلان، فيعمل مثل ما يعمل، من غير حب زوال النعمة عنه فهذا مباح، أما المذموم فهو من ذمه رسول الله r من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ماله.

إذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة، ويشتهي لنفسه مثلها، إذا لم يحب زوالها عنه، ولم يكره دوامها. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة، كالإيمان والصلاة، والزكاة، فهذه المنافسة واجبة. وهو أن يحب أن يكون مثله، لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضيا بالمعصية، وذلك حرام. وإن كانت النعمة من الفضائل، كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات، فالمنافسة فيها مندوب إليها. وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح، فالمنافسة فيها مباحة. وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته، واللحوق به في النعمة، وليس فيها كراهة النعمة ولكنه يكره تخلف نفسه، ويحب مساواته للآخر. ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات ولكن ذلك ينقص من الفضائل، ويناقض الزهد، والتوكل، والرضا، ويحجب عن المقامات الرفيعة، ولكنه لا يوجب العصيان.

5. مراتب الحسد

الأولى: أن يحب الشخص زوال النعمة عن المحسود: وإن كان ذلك لا ينتقل إليه. وهذا غاية الحسد.

الثانية: أن يشتهي الشخص عينها لنفسه، بل يشتهي مثلها. فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما، وهذا مذموم محرم، وإن كانت هذه المنزلة دون الأولى.

الثالثة: أن يحب الشخص انتقال النعمة إليه، لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة معينة، أو امرأة جميلة معينة، أو ولاية نافذة، أو سعة نالها غيره، وهو يحب أن تكون له، ويحب تلك النعمة لا زوالها عن الآخرين. وهذه تسمى حسداً وفيه توسع وتجوز وهي مرتبة أخف.

الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه. وهذا معفو عنه إن كان في أمر من أمور الدنيا، وأما في الدين فمندوب.

6. الفرق بين الحاسد والعائن

قال الإمام ابن قيم الجوزية: تأثير العين غير موقوف على  الاتصالات الجسمية بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجيه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية. وكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائناً، فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين، تصيبه تارة وتخطئه تارة أخرى، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذراً شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها.

7. هل يحسد الحاسد نفسه وماله وأولاده؟

نعم يمكن للحاسد أن يحسد نفسه وماله وأولاده، ودليل ذلك ما رواه سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "إذا رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه وماله فليُبَرِّك عليه، فإن العين حق".

قال ابن القيم: قد يعين الرجل نفسه وقد يعين بغير إرادته بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني.

ماذا يجني الحاسد من حسده؟

أ. حسرات الحسد، وسقام الجسد، قال ابن المعتز: الحسد داء الجسد.

ب. انخفاض المنزلة، لانحراف الناس عنه ونفورهم منه.

ج. مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محباً وعداوتهم له.

إسخاط الله تعالى في معارضته واجتناء الأوزار في مخالفته إذ أنه لا يرى قضاء الله عدلاً ولا لِنِعَمِهِ من الناس أهلاً، ولذلك قال النبي r: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.