إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / حداد الزوجات، في الإسلام









شُبُهات

7. النياحة

حزن الإنسان لفقد عزيز عليه أمر فطري لا يقاوم، والإسلام دين الفطرة، يسايرها ولا يغايرها. فقد حزن سيد الخلق r ودمعت عيناه. وقال عبارته المشهورة حين افتقد ابنه إبراهيم: ]إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1220). وروى البخاري: ]سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ r أَرْسَلَت ْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ r وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلاَمَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ r وَقُمْنَا فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ r وَنَفْسُهُ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ r فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الرُّحَمَاءَ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5223). هذا هو المشروع من أمر الفطرة التي لا تقاوم. أما غير ذلك من المغالاة والمبالغة في الحزن والجزع والفزع والنَّدب والنياحة، فهو مما حرّمه الإسلام لأنه يمثل سخطاً على القدر، ويشير إلى شيء من ضعف الإيمان، وعدم الرضا بقضاء الله. ورد في صحيح مسلم: ]وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 149). فالصالقة هي التي ترفع صوتها وتدعو بدعوى الجاهلية، وهي أيضاً النادبة التي تندب وتقول: وا ولداه أو وا كبداه أو جبلاه وأشباه ذلك. والشاقة هي التي تشق ثيابها وتمزقها. وقد كانت العرب تتواصى بذلك قبل الإسلام. قال طرفة:

إذا مت فانعيني بما أنا أَهْلُه                           وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا ابنة معبد

أمّا الحالقة فهي التي تحلق شعرها حزناً. وقد أنكرت الخنساء هذه العادة مع أن أشعارها في رثاء أخويها، صخر ومعاوية، طبقت الآفاق. وقد قالت في معاوية:

فلا والله لا تَسْلاَكَ نفسي                              لفاحشة أتيتُ ولا عقــوق

ولكني رأيتُ الصبرَ خيراً                             من النَّعْلَيْن والرأسِ الحليق

وفي الحديث الصحيح: ]لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 3997).

قد أثبتت الخنساء وجود عادة الحلق وإن لم تمارسها، وذلك أنّ نساء العرب كانت المبُالغة منهن في الحزن تلبس نعلين في كفيها كالقفاز. وتلطم الوجه والرأس الحليق. وهن في ذلك طبقات فيهن الصابرة والمتوسطة والمغالية.

ثم جاء الإسلام ومحا رسوم الجاهلية، وأمر بالصبر ونهى عن تلك الأفعال الشنيعة. والآثار في ذلك كثيرة متواترة. ففي حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ]أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r فِي الْبَيْعَةِ أَلاَّ تَنُحْنَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 1553). وكان العرب قبل الإسلام يوصون النساء بالبكاء، يرونه حقاً من حقوقهم. ولكن تبدل الحال بعد الإسلام، فهذا قيس بن عاصم، وكان سيداً مشهوراً سماه رسول الله r (سيد أهل الوبر)، فلمّا حضرته الوفاة جمع بنيه وقال لهم: يا بنيّ خذوا عني فإنكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني، لا تنوحوا عليّ فإن رسول الله لم يُنَحْ عليه وقد سمعته ينهى عن النياحة.

فالبكاء غير النواح، لأنه فيض النفس وتلبية لأمر الفطرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً، فَصَاحَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ r: ]دَعْهَا يَا عُمَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ، وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ[ (مسند ابن ماجه، الحديث الرقم 1576). وهذا عمر نفسه لما استشهد زيد بن الخطاب في اليمامة، فاضت عيناه بالدمع. وقال لمن كان مع زيد وحضر قتله: وخَلَّيْتَ زيداً ثاوياً وأتيتني؟ وقيل إن نساء المدينة كنّ إذا مات ميت لم يبدأن النياحة حتى ينحن على حمزة سيد الشهداء. وقال معاوية بن أبي سفيان يثني على البنات: ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى مثلهن. فكأن في هذا مسامحة في البكاء على الميت ـ ما لم يكن مفتعلاً أو بصورة يبدو منها الاعتراض على القدر والمشيئة ـ لأن البكاء يخفف الحزن، وبه تشتفي النفس من ألم الفقد. قال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة:

لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة                        من الوجد أو يشفي شجيّ البلابل

قال فخلوت فبكيت فسلوت،.(يعني أنه ارتاح لما بكى).

أمّا قول عمر، t، يا صهيب أما علمت أن رسول الله قال ]إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ[ (سنن النسائي، الحديث الرقم 1833) فلهذا الحديث روايات أخرى منها: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: ]الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 1538) وفي رواية ثالثة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 5011) . وقد ناقش الشريف المرتضى في كتاب "الأمالي" هذه الأحاديث، وملخص نقاشه: أن الله تعالى لا يعذب أحداً بذنب غيره، كما قال وهو أصدق القائلين:" ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وذهب العلماء في تأويله إلى عدة وجوه منها، أنه إذا أوصى موصٍ بأن يناح عليه ففُعِل ذلك بأمره، فإنه يعذّب بالنياحة عليه. وكان الناس في الجاهلية يؤكدون في الوصية على ذلك، كما قال بشر بن أبي حازم:

رهين بلى وكل فتى سيبلى                            فأذري الدمع وانتحبي انتحابا

وقد تقدمت أمثلة على هذا.

وعن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ زَوْجَ النَّبِيِّ r قَالَتْ: ]إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا. فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1207).

قال المرتضى ويمكن أن يكون لقوله (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) وجه آخر، وهو أن يكون المعنى أن الله تعالى إذا أعلمه ببكاء أهله وأعزائه عليه وما لحقهم بعده من الحزن والهمّ تألم بذلك، فكان عذاباً له والعذاب ليس بجار مجرى العقاب، الذي لا يكون إلاّ على ذنب، ومنه قول القائل: "قد عذبتني بكذا وكذا"، يريد: آلمتني، وما في معناه.

أمّا أول نياحة في الإسلام، بعد أن محا الإسلام رسومها، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني أن عبدالمجيد بن عبدالوهاب الثقفي مرض مرضاً شديداً ثم شفي منه، وتردى بعد ذلك من سطح فمات. ورثاه الشاعر ابن مناذر وجزع عليه كثيراً، وأنكر على النائحات عليه من قومه نواحهن بأنه على غير استواء، فأنشد بيتين في رثائه قال فيهما:

زُهْراً يلطمن حُمْرَ الخدود

لأقيمن مأتماً كنجوم الليل

عليه وللفــؤاد العَميدِ

مُوْجَعَاتٍ للكبد الحَرَّى

فأقسمت أم عبدالمجيد وقالت: والله لأبرن قسمه، فأقامت عليه مأتماً وقامت مع أخوات عبدالمجيد يَنُحْنَ عليه ويَصِحْنَ واهٍ ويهِ، فيقال إنها أول من فعلت ذلك في الإسلام.

واستمرت العادة مع الأيام، فهذا الشميم الحلِّي الشاعر ( ت 601هـ ) قال: حضرت في بعض أسفاري في مدينة نصيبين (في تركيا حالياً) وقد اشتد وخمها ومات أهلها، فكنت كثيراً ما أرى الجنائز وخلفها النساء يَنُحْنَ، فأصغيت إليهن فلم يعجبني قولهن، فصنعت لهن نواحاً ينحن به. ثم قام على قدميه وأمر من معه بالقيام ووقف على صُفَّةٍ وهم وسط القاعة وقال: قولوا كما أقول والطموا على خدودكم كما ألطم.

وكان الشعراء وراء هذه الظاهرة يساعدون النساء عليها، وفي أشعارهم ما يدلّ على ذلك. فهذا أحدهم يقول:

إذا اغترب الحرُّ الكريمُ بدتْ له                       ثلاثُ خِلاَلٍ كُلُّهن صعَابُ

تفـــرُّق أُلاّفٍ، وبَـذْلٌ لهيْبةٍ                      وإن مات لم تُشْقَقْ عليه ثيابُ

فهم يأسفون على موتهم بعيداً عن أهلهم إذ لا أحد يهتم لموتهم، فينوح عليهم ويقوم بواجب تعديد المآثر والمناقب.

وقال أبو الحسن الأنباري، في رثاء الوزير ابن بقية، وقد صلبه عز الدولة البويهي، وهي من أحسن ما رثي به مصلوب:

ولو أني قَدِرْتُ على قيامٍ                              بفرضك والحقوقِ الواجباتِ

ملأتُ الأرضَ من نظم القوافي                        ونُحْتُ به خلافَ النائحاتِ

فأصبحت النياحة عندهم أمراً مألوفاً يتعهده الشعراء، فيمدون النساء بالأشعار التي يتُرنم بها وتصاحب البكاء والعويل، الذي هو من الظواهر التي لا تخطئها العين حتى إن مكان البكاء ليكون عندهم ظاهراً معروفاً لارتفاع الأصوات بالعويل وأصوات النائحات.

قالوا مرّ أبو العيناء الأعمى ـ وكان ساخراً شكساً ـ على دار عدوٍ له، فقال: ما خبر أبي محمد، فقيل له: كما تحب. فقال فما لي لا أسمع الرَّنَّة والصياح؟ يريد أنه يحب موته، ولكنه لم يمت لأنه لا يسمع رنة البكاء وصياح النائحات.

وهذا أبو العلاء المعري يؤكد ظاهرة الندب والنياحة، فيخاطب بنات الهديل ( الحمائم ) ويقول:

فَتَسَلَّبْنَ واستعـرن جميعـاً                           من قيمص الدُجى ثيابَ حَدادِ

ثم غَرِّدن في المآتم واندبن                            بشجـوٍ مع الغواني الخِرَادِ

فهو يوجه الخطاب للنساء خاصة، متمثلات في الحمائم، ولكنه حين خاطب الرجال، أمرهم بما يناسبهم فطلب أن يدفنوا الميت بين الحشا والفؤاد، وأن يذكروا الله ولا يفعلوا ما تفعل النساء فقال:

واغسـلاه بالدمع إن كان طُهْراً                      وادفناه بين الحشا والفؤاد

واتلوا النعش بالقراءة والتسبيح                       لا بالنحـيب والتعــداد

فأثبت ظاهرة النحيب والتسلُّب ولبس السواد والتعديد، ولكنه جعل لكل من النساء والرجال مهمة تناسبهم.

ومن شدة تمسك بعض المجتمعات بالنياحة، أصبحت حركات النائحة وتصرفاتها مضرب المثل. ولم تكن النياحة بكاءً تؤديه المرأة صاحبة الفقد وحدها، بل كانت تجاملها النساء في ذلك، وربما ذهبوا إلى أبعد من هذا فاستأجروا نساءً متخصصات في النياحة، كما يستأجرون الماشطة وغيرها. فالنياحة في عهد من العهود أصبحت مهنة ولها نائحات يعرفن فنونها. وقد ذكرهن الشعراء وسموهن بأسمائهن، مثل ابنة الجون وأضرابها. ويدل على وجود هذه المهنة عندهم وأنهم يعرفونها جيداً أن من أمثالهم قولهم: (ليست النائحة كالثكلى)، لأن النائحة مستأجرة والثكلى هي صاحبة الفقد الحقيقي، وإنما النائحة ممثلة أوتيت لساناً وَصَّافاً، وصوتاً يصلح للحزن، مع معرفة بنفوس الناس، بعد أن تعرض عليها سيرة المتوفى ومآثره فتبدأ تنظمها وتؤديها بطريقة تثير الأخريات فيتبعنها مرددات ما تقول.

وقد التقط الشعراء صورة الثاكلة في جزعها وولولتها وشدة الحركة والاضطراب، فجعلوها صورة ثابتة حية يشبهون بها الإبل في سيرها. يقول الأخطل الشاعر الأموي في أول قصيدته التي مدح بها الوليد بن عبدالملك:

كلمع أيدي مثاكيل مُسَلّبة                              يندبن ضِرَسَ بنات الدهرِ والخُطبِ

فيصف الإبل وهي تسرع في السير قاصدة الممدوح، أنها في سرعتها واضطراب أرجلها بالحركة، ترفع أرجلها الأمامية في السير بإيقاع منتظم وحركة قوية واضحة، مثلما تفعل النساء الثواكل اللائي فقدن عزيزاً، فصرن يركضن بالأرجل ويرفعن الخِرَق في أيديهن يُشِرْنَ بها. ويبدو أن النائحات كُنَّ يحملن في الأيدي خرقاً يلوِّحن بها. وهي خرق سوداء أو قطع من الجلد يحملنها ويلبسن السِّلاب، وهي ثياب الحداد السوداء.

وهي صورة كثيرة الورود في شعر الجاهلية والإسلام. قال كعب بن زهير يصف الناقة وسيرها في قصيدته المشهورة (بانت سعاد):

كأن أوب[1] ذراعيها إذا عرقت                        وقد تلفّـع[2] بالقـور[3] العساقيلُ[4]

نواحة رخوة الضبعين[5] ليس لها                      لمّا نعى بكرها [6] الناعون معقولُ[7]

فالنائحة هنا عجوز ارتخى لحم عضدها، وهذه تكون أكثر خبرة بكثرة الممارسة، وهو يشبه بها ناقته السريعة الشديدة الحركة. وهذه النائحة موجعة لأنها فقدت بكرها، وفقد البكر عزيز أليم، لذلك فهي والهة لم يبق لها عقل. وكذلك ناقته فهي تسير سيراً أشبه بسير المجنون، لكثرة الاضطراب والحركة.

والذي يدل على أنهم كانوا يستأجرون النوائح، قول الآخر يصف الناقة:

يا ليت شعري والمنى لا تنفع                         هل أَغْدُوَنْ يوماً وأمري مُجْمَعُ

وتحت رِجلي زَفَيانٌ[8] مِيْلَعُ[9]                           كأنها نائحة تَفَجَّعُ

تبكي لميتٍ وسواها المُوجَعُ

فالزفيان الناقة الخفيفة، والميلع: السريعة. فشبه رجع يدي ناقته في السير، لنشاطها بيدي نائحة تنوح لقوم على ميت لهم بأجرة، فهي تزيد في الإشارة بيديها لِيُرَى مكانها وتستحق الأجرة. ويؤيده أيضاً قول ذي الرّمة في وصف الإبل:

مجانيقُ تُضْحي وهي عُوجٌ كأنها                     بِجَوْزِ الفلا مُسَتأجراتٍ نوائحُ

فهو يذكر إبلاً تظهر وتختفي مسرعة، وهي ضامرة من عناء السير. وخص النوائح المستأجرات، لأنهن يبذلن جهداً أكبر لقاء الأجرة.

وكل ما سبق يدل على أن عادة النياحة على الموتى، كانت شائعة معروفة في الجاهلية، ثم خبت واختفت بعض مظاهرها في صدر الإسلام، ثم عاد الناس إليها من جديد. ولولا أنها شائعة لما أصبحت صورة واضحة يستعيرها الشعراء في تشبيه الإبل. والشاعر لا يستخدم من التشبيهات، ولا يلتقط من الصور إلا ما كان واضحاً شائعاً معلوماً في البيئة حتى تكون صورته أقرب إلى الذهن فيتصور المُطّلع على شعره ما أراد.

وما تزال عادة النياحة شائعة في كثير من البلدان العربية، وحتى النائحات المستأجرات ربما وجدت لهن بقية في بعض بيئاتنا المعاصرة. ولكنها مع مرور الزمن، وازدياد الوعي والصحوة الدينية بدأت تختفي رويداً رويداً.

 



[1] الأَوب: العَوْدَة أو الرجوع.

[2] 'تلفّع : اشتمل وتغطي.

[3] 'القور: الأرض المجدبة.

[4] العساقيل: السراب أو القطع المتفرقة من السحاب.

[5] الضَبْع : وسط العضد.

[6] البكر: الفحل من الإبل.

[7] معقول : صاحب عقل.

[8] زَفْيانٌ : الناقة السريعة النشيطة.

[9] ميلع: سريعة.