إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / حداد الزوجات، في الإسلام









شُبُهات

10. المرأة بعد الحداد

علاقة الرجل بالمرأة قد لا تنبتّ وتنقطع بسبب الموت، فقد تبقى المحبة في النفوس، أو تبقى آثار العشرة في نفس أحد الطرفين. ولكن الرابطة الأساسية هي الذرية، فإذا خلّف أحد الزوجين بعد رحيله أولاداً، كان ذلك أدعى لبقاء الصلة وإن غاب شخص صاحبها. وكثيراً ما تدفع المحبة إلى أن يتمنى أحد الطرفين التقدم على الآخر حتى لا يعاني مرارة الفقد. ولكن إذا وقع القدر ورحل أحد الطرفين انكشفت متانة الصلة. فمن النساء والرجال من لا يرغب في الارتباط بزواج جديد خصوصاً إذا كان الأولاد طرفاً في ذلك، وهذا يقود إلى الوقوف قليلاً عند قضية الوفاء للزوج أو الزوجة بعد وفاة أحد الطرفين.

أمّا حديثهم عن الأثرة وحب التقدم في الموت فكثير في التراث العربي، ويظهر في أشعارهم ومخاطباتهم سواء أكان ذلك بين الأزواج، أو بين سائر الناس ممن تربطهم صلات المودة. فعبيد الله بن طاهر يخاطب محبوبته:

وإذا سألتُك رشفَ ريقك قلتِ لي                      أخشـى عقوبةَ مالكِ الأملاكِ

مـاذا عليكِ (دُفِعْتُ قبلك للثرى)                      من أن أكون خليفةَ اَلمسواكِ

أيجــوز عِنْدكَ أن يكون متيمٌ                       صباً بحبك دون عـودِ أراكِ

وعلى الرغم من هذا التحايل والقياس الفاسد، إلاّ أن الشاهد هو قول الشاعر: (دفعت قبلك للثرى) أي متّ قبلك.

وأشبه به قول الآخر، وهو الحارث بن خالد المخزومي:

وجودي عليّ اليوم منك بنائلٍ                         ولا تبخلي ( قُدِمْتُ قبْلَك للقبر )

فقوله (قدمت قبلك للقبر) هو المعنى الذي حاوله الأول، وفي كليهما دليل على الأثرة والتقدم في الموت على الأحباب هرباً من معاناة موقف الفراق ووطأة الحزن.

وهذا علي بن الجهم يحاول المعنى نفسه، ولكن بأسلوب آخر فيقول:

دعي البُخَل (لا أسمعْ بِيَوْمِكِ) إنما                     طلبتُك شَيْئاً ليس يُعْرِي لكم ظهْرا.

فقوله (لا أسمع بيومك) هو شاهد على الأثرة والمحبة، فهو لا يرجو أن يعيش حتى يسمع نعيها، وبعبارة أخرى يريد أن يمتد عمراهما، فإذا وقع القدر فعليه هو أولاً لأن سماعه بموتها يحزنه. وقال جعفر بن قدامة الكاتب (ت 319هـ):

تسمّع (مِتُّ قَبْلَكَ) بعض قولي                         ولا تَتَسـلَّلَنْ مـِنِّي لِوَاذا

إذا أسقمتَ بالهجران جسـمي                         ومِتُّ بغُصَّتِي فَيَكُونُ ماذا؟

وكتب البحتري إلى أبي العباس المبرِّد (ت 286هـ):

اسلَمْ أبا العباس وابقَ                                 فـلا أزالَ اللهُ ظِـلَّك

وكـن الذي يبقَى لنا                                 و(نموتُ حين نموتُ قَبْلَك).

هكذا جرت العادة أن يطلب الإنسان التَّقدمَ في الموت على من يحب حتى يتخلَّص من فاجعة فَقْدِه. ولكن بعضهم لا يريدون التقدم في الموت على المحبوب، وفي الوقت نفسه لا يُطيقون البقاءَ بعده. وهذا واضح في قول البحتري:

أَعْظَمُ الرُّزْءِ أن تُقَدَّم قَبْلي                            ومن الرُّزْءِ أن تُؤّخَّر بَعْدِي

وهذا غريب، لأن الناس حقاً أو مجاملة يظهرون الرغبة في التقدم على المحبوب، هَرَباً من وَحْشَة الفراق وَوَطْأَة الحزن. ولكن البحتري لا يطيق الحالتين فأثار القضية التي أغضبت عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي، وقد كان أديباً حافظاً ذَوَّاقةً للشعر، وكانت له مع الشعراء مواقف وطرائف. والذي أغضبه أنهم أنشدوه قول الشاعر:

أَهِيمُ بَدَعْدٍ ما حييتُ فإن أَمُتْ                         أُوَكِّلْ بَدَعْدٍ من يَهِيمُ بها بَعْدِي

فقال عبدالملك: بئس ما صنع! فقال جلساؤه: وأنت يا أمير المؤمنين لو كنت مكانه، ما كنت تقول؟ فقال الخليفة كنت أقول:

أهيم بدعد ما حَيِيْتُ فإن أَمُت                         فلا صَلَحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي

وهذه غاية الأنانية، ولعل الرجال والنساء جميعهم لا يختلفون عن أمير المؤمنين ـ في الواقع ـ ولكنهم لا يملكون شجاعته. فمن ذا الذي يطيب له أن يتخيل زوجته عند غيره بعد وفاته؟ إلاّ عَلْقَمَة المُحدِّث، فإنه لما حَضَرَتْهُ الوفاة قال لزوجته: خُذي أحسنَ زينَتِك واجلسي عند رأسي فلعلّ الله أن يرزقك من بعض عُوّادي (الذين يزورونه في مرضه). فقد نفى هذا العالم الجليلِ، الأنانية عن نفسه نفيَ الكِيْرِ خَبَثَ الحديد، وبرهن على عشرة طيبة ومودة صادقة لزوجته، فهو لا يريد لها أن تشقى من بعده، بل يريد أن يطمئن على سعادتها من بعده، وأراد أن يكون خليفته عليها أحد أصحابه الذين يعرفهم ويطمئن إليهم.

وفي قصة أبي سلمة مثل رائع، فقد حكت أم سلمة أم المؤمنين قالت قلت لأبي سلمة: تعال أعاهدك ألاّ أتزوج بعدك ولا تتزوج بعدي. فقال أبو سلمة: أتطيعينني؟ قالت: نعم، قال: إذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم ارزق أم سلمة زوجاً خيراً منّي، لا يحزنها ولا يؤذيها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت من هذا الذي هو خير من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت ثم تزوجني رسول الله.

وقصة عاتكة زوجة عبدالله بن أبي بكر مشهورة عندهم، فقد كانت تحبه ويحبها فلما قتل بالطائف جزعت عليه جزعاً شديداً وحرّمت الرجال من بعده، وأخذت ترثيه، وكان من رثائها له قولها:

وآلَيْتُ لاَتَنْفَكُّ عيني سَخِينةً                            عليكَ ولا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ أَغْبَرَا

ولها حداد معلن في أبيات كثيرة اشتهرت عنها وتناقلها الناس. ثم خطبها عمر بن الخطاب، t بعد مدة، فلما أولم للزواج قال عبدالرحمن بن أبي بكر أخو زوجها السابق: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أُدْخِلَ رأسي على عاتكة؟ قال عمر: نعم، يا عاتكة استتري. فأدخل عبدالرحمن رأسه في السِّتر وقال لها: يا عُدَيَّةَ نفسها أهكذا كان قولك:

وآليت لا تنفكُّ عيني سخينةً                           عليك ولا ينفكُّ جلديَ أَغْبَرَا؟

فبكت حتى سمعوا نَشِيجَها. فقال عمر: ما أردت بهذا؟ كل النساء يفعلن هذا! قال عبدالرحمن: أردت أن أُعْلِمَهَا  أنه لا عَهْدَ لَهُنَّ.

قال ابن عباس  حَدَّثني شيخ من بني ضّبَّة: قال كان رجل منّا ظريفاً شريفاً واحْتُضِرَ، فبينما هو يجود بنفسه، وله ابن صغير يسمى مَعْمَراً يَدِبُّ بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم التفت إلى امرأته فقال: يا هذه:

إني لأخشى أن أموتَ فتُنْكَحي                        ويُقْذَفُ في أيدي المراضِعِ مَعْمَرُ

فَحَالَتْ سُتُورٌ بعـده وَوَلِيدةٌ                           وأَشْغَلَهُم عنه بخورٌ ومِجْمَرُ

قالت: ما كنت فاعلة. قال الشيخ: فو الله ما انقضت عِدَّتُها حتى تزوَّجت بِشَابٍّ من الحي، ورأيت مَعْمراً كما وصف.

ومع ذلك، فبعض النساء عرفن بالوفاء، وكثيراً ما وردت الأخبار بموت من ماتت بسبب موت حبيبها، وقصة عفراء وعروة بن حزام مشهورة، حتى قال عمر  ( لو أدركت عروة وعفراء لجمعتُ بينهما )، لطهارة سيرتهما في الحبّ.

وقد ذُكر أن نائلة بنت الفرافضة، امرأة عثمان بن عثمان، هتمت فاها (كسرت أسنانها)، حتى لا يطمع فيها رجل. وأن زوجة هدبة بن الخشرم العذري أخذ عليها زوجها، حين قيد إلى القتل وأبصر طلعة الموت، ألا تتزوج أحمق أو لئيماً؛ فعمدت إلى سكين فقطعت أنفها، وقالت: أفيّ مَطْمَعٌ لما تقول بعد ذلك؟ فقال: الآن طاب ورود الموت.

ومات مالك بن النضر، وابنه أنس رضيع، وزوجه أم سليم شابة حدثة. فكثر خطابها، فقالت لا: أتزوج حتى يأمرني أنس. أي حتى يصير ابنها الرضيع رجلاً مُميِّزاً فوفت بعهدِها وبرّت، وكان ذلك مما أرضى رسول الله r عنها.

وقال الأصمعي: رأيت أعرابية بالبادية لا تتكلم، فقلت أخرساء هي؟ فقيل لي: لا، ولكن كان زوجها معجباً بنغمتها، فلما توفي أطبقت فمها فلا تتكلم بعده أبداً. حتى لا يعجب أحد بصوتها.

"قال زيد بن حارثة لرسول الله r: يا رسول الله انطلق بنا إلى فلانة نخطبها عليك أو عليّ إن لم تعجبك. فأتيناها فذكر لها زيد رسول الله r، فقالت: يا رسول الله إني عاهدت زوجي ألا أتزوج بعده أبداً وأعطاني مثل ذلك، فقال لها رسول اللهr: إن كان ذلك في الإسلام ففي له (أي: أوفي له) وإن كان ذلك في الجاهلية فليس بشيء"

وبالطبع فإن الإسلام لم يحض المرأة على كراهية الزواج بعد زوجها ولم يجعل ذلك ضرباً من الوفاء، ولكنه حين يقع طوع النفس فإنه يشكر عليه ويحمده، إذا كان وفاءً للأبناء، وخوفاً عليهم من الضياع عند غير أبيهم.

وهذا شيء لا يُلام عليه. فتربية الأطفال هي رسالة الحياة الزوجية الأولى، ولم تكن المتعة في ذاتها يوماً من الأيام هدفاً لذي لُبّ.

وخير مثال على ذلك ]أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهَا سَوْدَةُ، وَكَانَتْ مُصْبِيَةً، كَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَةٍ أَوْ سِتَّةٌ، مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: " مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي؟ ". قَالَتْ: " وَاللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ، أَنْ لاَ تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِيَّةِ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلاَءِ الصِّبْيَةَ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ". قَالَ: فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ؟ ". قَالَتْ: " لاَ وَاللَّه ِ". قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: "يَرْحَمُكِ اللَّهُ. إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ، وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 2774).