إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الخلفاء الراشدون









مقدمة

المبحث الخامس

عمر بن عبدالعزيز

أولاً: اسمه ونسبه

عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم الأموي، أمه أم عاصم، ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وأمها من بني هلال. وسبب زواجها من عاصم ما حكاه أسلم مولى عمر قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يَعُسّ بالمدينة، إذ عيي فاتكأ[1] على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، (أي أخلطية بالماء).

قالت لها: يا أمتاه أو ما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين؟

قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟

قالت: إنه أمر مناديه فنادى: لا يشاب اللبن بالماء.

فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنه بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر.

فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع ذلك كله، فقال: يا أسلم علِّم الباب، واعرف الموضع ثم مضى في عسسه، فلما أصبح قال: يا أسلم امضي إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهما من بعل؟ وإذا تلك أمها، ليس لها بعل، فأتيت عمر وأخبرته. فدعا عمر ولده، فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج امرأة فأزوجه؟ لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية؟ فقال عبدالله لي زوجة. وقال عبدالرحمن: لي زوجة. وقال عاصم يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني.

فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت له بنتاً هي ليلى، فتزوجها عبدالعزيز فولدت له عمر بن عبدالعزيز.

وكان أبوه من كبار التابعين، ولد بالمدينة وتربى بها وروى عن الصحابة، وكتب حديث رسول الله r، وكان موثقاً عند أهل الحديث . ولي مصر لأبيه مروان بن الحكم، وبقي والياً عليها حتى أيام أخيه عبدالملك بن مروان، وتُوفي بمصر في جمادى الأولى عام خمسة وثمانين.

وأرجح الأقوال في ولادة عمر أنها كانت بالمدينة عام واحد وستين للهجرة، بعد عام واحد من وفاة معاوية ، ويذكر ابن سعد في طبقاته أنه ولد سنة ثلاث وستين، في السنة التي توفيت فيها ميمونة أم المؤمنين . ونشأ بالمدينة يُكثر التردد على عبدالله بن عمر ويتمنى أن يكون مثله. وصدقت فيه نبوءة عمر بن الخطاب عندما قال لابنه عاصم: "تزوجها فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب". وقد رأى عمر بن الخطاب رؤيا ذات ليلة، نهض على إثرها مستبشراً يقول: "ليت شعري من ذو الشج من ولدي الذي يملأها عدلاً، كما ملئت جَوْراً".

وكانت به شجة من أثر ضربة جواد، وكان أبوه يقول له: "إن كنت أشجَّ بني أمية، إنك إذن لسعيد".

ولما سار عبدالعزيز والياً على مصر واستقر بها، طلب من زوجه اللحوق به بولدها. فاستشارت عمها عبدالله بن عمر، فقال لها: زوجك فالحقي به، ثم قال لها لما أرادت الخروج: "خلفي هذا الغلام عندنا  ـ يعني عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت" فخلفته عنده. ولما أعلمت زوجها بذلك، كتب إلى أخيه عبدالملك، فأجرى عليه ألف دينار كل شهر، ثم قدم على أبيه فأقام معه مدة.

كان عمر ميالاً منذ صغره للعلم، فأخذ عن عبدالله بن عمر وعبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأنس بن مالك، واختار له أبوه صالحاً بن كيسان التابعي مؤدباً.

وشهد له مالك بن أنس وسيفان بن عيينة وقال عنه الذهبي "كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، ثبتاً حجة حافظاً، قانتاً لله أواهاً منيباً" .

ويروى أن أنس بن مالك، خادم رسول الله r، جاء المدينة من العراق للحج فصلى خلف عمر بن عبدالعزيز فقال: ما صليت خلف إمام بعد رسول الله r، أشبه بصلاة رسول الله r، من إمامكم". وكان علماء عصره يسألونه في التفسير ويستفتونه.

ومن جلائل أعماله تدوينه للسنة، فكتب إلى الصحابة والتابعين، والولاة في الآفاق أن: "انظروا حديث رسول الله r، فاجمعوه واحفظوه فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء". وكتب إلى ابن شهاب الزُّهري بذلك، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن محمد بن حزم: "اُنظر ما كان من حديث رسول الله r، أو سُنة ماضية، أو حديث عمرة بنت عبدالرحمن النجارية".

ثانياً: حياته قبل الخلافة

بدأ عمر حياته العملية مبكراً، إذ ولاه عمه عبدالملك بن مروان إمرة "خناصرة"، وهي بلدة قريبة من حلب جهة البادية، وأراد بذلك أن يواسيه في موت أبيه، فضلاً عن أنه كان معجباً به.

ثم ولاّه الوليد بن عبدالملك على المدينة، بعد عزل واليها هشام بن إسماعيل، الذي كان جباراً عنيداً، وذلك سنة ست وثمانين للهجرة. واستفتح عمر عهداً مباركاً، فدعا الفقهاء في المدينة وجعلهم مجلس شوراه، وخطب فيهم قائلاً: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغّكم عامل لي ظلامة[2]، فأحرِّج[3] بالله على أحد بلغَه ذلك إلا أبلغَني".

وقرّب إليه سعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين السجاد، وكان الوالي السابق يؤذيهما. وأمره الوليد بن عبدالملك بتوسعة المسجد النبوي بإدخال حجر أمهات المؤمنين فيه، ويشتري ما حوله من المباني ويدخلها فيه لتكون مساحته مائتي ذراع في مائتي ذراع. ويقول الوليد لعمر "إنك قادر على ذلك لمكان أخوالك (آل عمر بن الخطاب)، فإنهم (أي أهل المدينة) لا يخالفونك".

ففعل عمر، وأمده الوليد بالبنائين المهرة استقدمهم من ملك الروم، الذي بعث بهم مع هدايا قيمة من الذهب. وحفر عمر الآبار في نواحي المدينة، وأمّره الوليد على الحج سنين. وكان الهاربون من بطش الحجاج يلجأون إليه. وكان الود بينه والحجاج مفقوداً من قديم، منذ أيام عمه عبدالملك بن مروان. واستطاع الحجاج أن يستعدي الوليد بن عبدالملك على عمر، فعزله عام ثلاثة وتسعين، وولَّى مكانه عثمان بن حبان على المدينة، وخالد بن عبدالله القسريّ على مكة. فخرج عمر إلى الشام وقال لمولاه: "تخشى أن نكون ممن نفت المدينة". إشارة إلى الحديث "إنّ المدينة تنفي خبثها".

بقي عمر مع الوليد بالشام، ولمّا حاول الوليد عزل سليمان من ولاية العهد، وصَرْفِّها إلى ابنه عبدالعزيز، امتنع عمر حتى كاد الوليد أن يقتله. ثم ما لبث الوليد أن مات سنة ست وتسعين للهجرة، وولي الخلافة سليمان. وكان رجلاً ديناً بدأ عهده بإظهار شرائع الإسلام، وقرب إليه ابن عمه عمر بن عبدالعزيز وجعله مستشاراً، وقال له: "ما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب". فأشار عمر عليه بكثير مما فيه مصلحة العباد. فعزل نواب الحجاج، وأخرج المظلومين من السجون، وعزل عمال الوليد الظلّمة، وردّ المظالم، وكان يتحين الفرص لذلك. خرج سليمان بن عبدالملك يوماً إلى بعض البوادي، فأصابهم سحاب فيها رعد وبرق وصواعق، ففزع سليمان ونادى يا عمر، يا عمر! فإذا عمر ينادي هاأنذا، قال: ألا ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال: هذه مائة ألف وتصدق بها. فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟! قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لهم، لم يصلوا إليك. قال: فجلس سليمان فرد المظالم.

ثالثاً: استخلافه

كان رجاء بن حيوة عالماً جليلاً حكيماً، وكان وزيراً لسليمان بن عبدالملك ومستشاراً. ولمّا مرض سليمان مرضه الذي مات فيه، لم يجد في بنيه من يقوم مقامه. فابنه أيوب مات قبله، وابنه الآخر في جيش القسطنطينية، فنصحه رجاء قائلاً: "إنما يحفظ الخليفة في قبره، أن يستخلف الرجل الصالح" فاستشاره في عمر، فقال رجاء: أعلمه والله فاضلاً. وكان عمر يتوجس من هذا الأمر، فناشد رجاء ألا يذكره لسليمان، وإن ذكره فليصده إذ لا طاقة له. فقال له رجاء: لقد ذهب ظنك مذهباً ما كنت أحسبك تذهبه... أتظن بني عبدالملك يدخلونك في شيء من أمورهم؟

واشتد المرض بسليمان فكتب عهده: "من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده ليزيد بن عبدالملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم".

وانطلق صاحب الشرطة بالكتاب مختوماً، فبايع الناس. ولم يلبث الخليفة أن تُوفي، فجدد رجاء البيعة في المسجد لمن في الكتاب، فلما بايعوا أخبرهم بموت الخليفة. وأجلس عمر على المنبر وهو يسترجع، وكان ذلك في صفر من عام تسعة وتسعين على رأس المائة.

ولمّا فَرغ من دفن سليمان قُدمت إليه مراكب الخلافة فرفضها، وأراد صاحب الشرطة أن يمشي أمامه بالحربة كما يفعل مع من سبقوه فقال له عمر: "مالي ومالك؟! تنح عني فإنما أنا رجل من المسلمين. ثم لم يرض بالبيعة الخاصة بل ذهب إلى المسجد، وأعلن على الملأ أنهم في حل من بيعته فأبوا عليه، وبايعوه.

رابعاً: سياسته

بدأ عمر عهده بإصدار أوامر ثلاثة، أولها: رد الجيش الغازي المحاصر للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبدالملك، وكان الجيش قد حوصر وجاع وطالت مرابطته، وثانيها: عزل أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر وكان ظالماً يتعدى في العقوبات ويقطع الأيدي والأرجل بغير ما أنزل الله، وأمر بحبسه، وثالثها: عزل محمد بن يزيد والي أفريقيا، وكان يعذب الناس.

ثم عزل بعد ذلك جمعاً من الظالمين، كيزيد بن المهلب. وكان عهد عمر بن عبدالعزيز أشبه ما يكون بعهد الخلفاء الراشدين، ولذلك كان كثير من العلماء يعدونه منهم. قال الإمام أحمد بسنده عن وهب بن منه أنه قال: إن كان في هذه الأمة مهدي، فهو عمر بن عبدالعزيز، ونحو هذا قاله قتادة بن دعامة وسعيد بن المسيب. وعن سعيد أيضاً قال: الخلفاء أبو بكر والعمران، وعن سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبدالعزيز، وهكذا روى أبو بكر بن عياش والشافعي وغيرهم.

اهتم بالقضاء، وولى العلماء الصالحين، عن مزاحم بن زفر قال: "قدمت على عمر بن عبدالعزيز في وفد أهل الكوفة، فسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا ثم قال: خمس إن أخطأ القاضي منهن خصلة، كانت فيه وصمة: أن يكون فهيماً، وأن يكون حليماً، وأن يكون عفيفاً، وأن يكون صلباً، وأن يكون عالماً، يسأل عما لا يعلم.

وكان يجلس للقضاء بنفسه، ويساوي بين الناس في مجلسه. اختصم مسلمة بن عبدالملك مع أهل دير إسحاق فقال له عمر: لا تجلس على الوسائد وخصماؤك بين يدي، ولكن وكل بخصومك من شئت، وإلاّ فمجلس القوم بين يدي، فوكل مولى له بخصومة، فقضي عليه. وكان عمر t يتراجع عن الخطأ. "ويطبق في قضائه رسالة عمر بن الخطاب في القضاء لأبي موسى، وكان يتشدد في إقامة الحدود".

ناظر الخوارج ورد شرهم أيام ولايته، فلم يقاتلوه.

وكان من أهم أعماله سياسته المالية، فقد ألغى الرسوم التي كانت تفرض على عبور الجسور والمعابر. وساوى بين الناس، وجعل العرب والموالي سواسية في العطاء، وكان الأمويون يفضلون العرب. ومنع الولاة الذين يأخذون رواتب، من تقاضي أعطياتهم، على اعتبار أن مصدر المال واحد. ومنع التجار من العطاء، وكان يعطي المسجونين عطاءهم. واهتم بالفقراء عموماً وحظوا عنده بنصيب وافر، حتى أصبحت الصدقات في عهده لا تجد من يأخذها. قال يحيى بن سعيد الأنصاري: "بعثني عمر بن عبدالعزيز على صدقات أفريقيا فاقتضيتها، وطلبت فقراء أعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً، ولم أجد من يأخذها مني. قد أغنى عمر الناس فاشتريت بها رقاباً فأعتقتهم".

وتواترت الأخبار العجيبة في ذلك، ويذكر الليث بن سعد، أن عمر بن عبدالعزيز قدم على بعض أهل المدينة فجعل يسأله من أهل المدينة، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين وأغناهم الله. وكان من أولئك المساكين من يبيع كبب الخيط للمسافرين. فالتُمِسَ ذلك منهم بعد فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر.

ومن أعدل قراراته إنصاف بني هاشم الذين حرموا من العطاء منذ عهود من سبقوه. فحسب قدر العطاء الذي حرموا منه منذ عهد معاوية، فأمر بحصرهم حيث ما وجدوا وإعطائهم حقهم.

خامساً: فضائله

فارق عمر النعيم، المتمثل في طيب الطعام والشراب، وفاخر اللباس، يوم استخلف. وكان قبل الخلافة أحسن الناس لباساً. تتخير له الثياب. يُحكى أنه أمر رجلاً أن يشتري له ثوباً بأربعمائة درهم، فلمسه عمر بيده وقال: ما أخشنه.

وكان أحد تجار البصرة يعامل عمر بن عبدالعزيز، فأمره يوماً أن يشتري له جبة خز. يقول التاجر: فاشتريتها بعشرة دنانير ثم أتيته بها، فمسها وقال: إني لأستخشنها. فلما ولي الخلافة أمرني فاشتريت له جبة صوف بدينار، فأتيه بها فجعل يدخل يده فيها ويقول ما ألينها! قلت له عجباً تستخشن الخز أمس، وتستلين الصوف اليوم؟! قال تلك حال وهذه حال. وفارق كذلك طيب الطعام، بل ما شبع من طعام من يوم ولي إلى أن مات، وكان يكثر أكل العدس حتى آذاه، ويأكل كسر الخبز بالزيت، والتمر والماء. وكانت نفقته كل يوم درهمين، فربما اشتهى الطعام ولم يجد ثمنه فيتركه. وكان يقول لمولاه: إن لي نفساً تواقة، لم تتق إلى منزلة فنالتها إلاّ تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم تاقت إلى الجنة.

أما ورعه عن أموال المسلمين فقد بلغ مبلغاً عظيماً. وكان يضع الطعام للأضياف من الفقراء والمساكين من بيت مال المسلمين، فإذا أراد أن يأكل معهم، جعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم.

وطلب في يوم شاتٍ أن يسخنوا له ماء لغسل الجمعة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لا والله ما عندنا عود حطب نوقده به. فذهبوا بالقمقم إلى مطبخ المسلمين ثم جاءوا به فقالوا هذا القمقم يا أمير المؤمنين، وهو يفور! فقال ألم تخبروني أنه ليس عندكم حطب، لعلكم ذهبتم به إلى مطبخ المسلمين؟ قالوا نعم. قال: ادعوا لي صاحب المطبخ. فلما جاءه قال له: قيل لك هذا قمقم أمير المؤمنين فأوقدت تحته؟ قال صاحب المطبخ: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أوقدت فيه عوداً واحداً، وإن هو إلا جمر لو تركته لخمد حتى يصير رماداً. قال بكم أخذت الحطب؟ قال: بكذا. قال أدوا إليه ثمنه.

وكان مع تضييقه على نفسه يفيض على المسلمين، ويوزع أكثر من عطاء في العام. وخص المحتاجين والغارمين الذين لزمتهم الديون، وفرض للمؤذنين، وخصص لكل أعمى قائداً، ولكل اثنين من الزمنى (المرضى لا يستطيعون الحركة) خادماً .

وعن علاء بياع المشاجب قال: "قُرئ علينا كتابُ عمر بن عبدالعزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله. ومن تزوج امرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها، فأعطوه من مال الله".

وفرض للعلماء وطلاب العلم، حتى إنه فرض عطاء لمن يريد الحج ولا يستطيع، وكتب إلى أحد عماله: "أن اعمل خانات في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة، وتعهدوا دوابهم فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقووه ما يصل به إلى بلده".

وعلى الجملة كان عهده خيراً وبركة، وأمناً وسلاماً، فالظالم فيه مقهور والمظلوم منصور، والغني موفور، والعائل مجبور، فرحمة الله على أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز.

وقد أنحل جسمه الاهتمام بأمر المسلمين، مع الإقلال من الطعام. كان قبل الخلافة سميناً بض الجسم ممتلئاً، فإذا هو بعدها نحيلٌ حتى ما يكاد يعرف. يحكي أبو حازم الأسدي: "قدمت على عمر بن عبدالعزيز لمّا ولي الخلافة، فلما نظر عرفني ولم أعرفه. فقال: ادنُ مني، فدنوت منه، فقلت أنت أمير المؤمنين؟! قال: نعم. قلت: ألم تكن عندنا بالمدينة أميراً على المسلمين، فكان مركبك وطياً، وثوبك نقياً، ووجهك بهياً، وطعامك شهياً، وقصرك مشيداً، وخدمك كثيراً، فما الذي غيّرك وأنت أمير المؤمنين؟ قال: فبكى، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، ثم جفّ لساني، وانشق بطني، وجرت الديدان في بدني، لكنتَ أشدّ إنكاراً منك يومك هذا.

وقد بدأ عمر عهده برد الحقوق المغتصبة إلى أهلها، فبدأ بنفسه، وخرج عن متاعه، وطلب إلى زوجته أن تخرج من حليها وفاخر ثيابها، حتى خرج من فص خاتمه، وقال هذا مما كان الوليد بن عبدالملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب.

ورد إقطاعاته ـ أي الأراضي التي كانت أقطعت له ـ باليمن واليمامة وفدك، وهي من حصون خيبر، وكانت لرسول الله r. ولمّا ولي الصديق أرادت الزهراء أن يورّثها إياها فأبى، فظلت كذلك حتى عهد معاوية الذي أقطعها مروان بن الحكم. ثم صارت إلى عمر بن عبدالعزيز. فلمّا ولِّي الخلافة جمع إليه رؤوس الناس وقال: "إن رسول الله r، كانت له فدك ينفق منها، وإن فاطمة سألته، r، أن يجعلها لها، فأبى ... فرأيت أمراً منعه رسول الله r، بنته ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددته على ما كانت عليه في عهد رسول الله r".

كما كان لزوجته مواقف، فهي التي آزرته وكانت له عوناً في هذا السبيل. فقد رضيت معه بالعيش الخشن بعد اللين، وتنازلت عن جواهرها لبيت مال المسلمين، حتى إن يزيد أخاها أراد أن يرد عليها جواهرها بعد أن ولي؛ فأبت وقالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً.

ثم أخذ، بعد ذلك، يرد مظالم بني أمية، واتبع معهم سبيلي الشدة واللين، فضجوا من ذلك وجعلوا له الوسطاء ليدعهم، ولكنه ما كان لتأخذه في الله لومة لائم. ولنكتفي بقصة واحدة في هذا السبيل.

كان للوليد بن عبدالملك ولد يدعى روح، نشأ في البادية فكأنه أعرابي. فأتى رجل من المسلمين إلى عمر يخاصم روحاً في حوانيت بحمص، كانت له أقطعه إياها أبوه الوليد، فقال له عمر: أردد عليه حوانيته. قال روح: معي سجل من الوليد بها. قال: وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت حوانيته، قد قامت له البينة عليها؟ اُترك له حوانيته. فقام روح والحمصي منصرفين، فتوعد روح الحمصي، فرجع الحمصي إلى عمر فقال: هو والله متوعدني يا أمير المؤمنين، فقال عمر لكعب بن حامد وكان على حرسه: اخرج إلى روح يا كعب فإن سلم إليه حوانيته فذلك، وإن لم يفعل فاقطع رأسه، فخرج بعض من سمع ذلك ممن يهمه أمر روح فأخبره بالذي أمر به عمر فخُلع فؤاده. وخرج إليه كعب وقد سل من السيف شبراً فقال: قم فخل له حوانيته، قال: نعم، فخلاها له.

ومن أقبح المظالم تلك التي كانت تقع على الموالي،  ومن أسلم من أهل الذمة. فقد كان الموالي يحرمون العطاء، وكان عمال الأمصار يبقون الجزية على من أسلم. فعل ذلك الحجاج وغيره. فكتب عمر إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم. ولمّا كتب له عامله على مصر، حيان بن شريح، بأن ذلك ينقص الخراج رد عليه عمر رداً صارماً: "أما بعد فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطاً فضع الجزية عمن أسلم ـ قبح الله رأيك ـ  فإنّ الله قد بعث محمداً r هادياً لم يبعثه جابياً".

ورد عمر مظلمة أدبية كانت تصيب أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب، فقد كان الأمويون يسبونه في خطبة الجمعة، فأبطل عمر الِسباب وأمر أن يكون مكانه في آخر الخطبة قوله تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ (سورة النحل: الآية 90). وأكثر من ذلك أنه كان يقول: أنا مولى علي ويروي الحديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه".

ومدحه الشعراء على ذلك، فقال كثير عزة:

وليت فلم تشتم علياً ولم تخف                            برياً ولم تقبل إشارة مجـــرم

تكلمت بالحق المبين وإنمـا                             تبين آيات الهدى بالتكلــــم

فصدقت معروف الذي قلت بالذي                       فعلت فأضحى راضياً كل مسلم

وصدقت بالفعل المقال مع الذي                         أتيت فأمس راضياً كل مسلــم

سادساً: من أقواله المأثورة

1. كتب إليه بعض عماله: "أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمُّها به. فوقع في كتابه: أما بعد: فحصّنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه مرمَّتها، والسلام".

2. كتب إلى بعض عماله: "فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك" . وكثيرٌ من الناس يتمثلون بهذا القول ولا يعرفون قائله".

3. عن الأوزاعي قال، كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز "من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه".

4. مر برجل وفي يده حصاة يلعب بها وهو يقول: "اللهم زوجني من الحور العين! فمال إليه عمر فقال بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة وأخلصت إلى الله الدعاء".

5. وقال لابنه عبدالعزيز: "يا بني إذا سمعت كلمة من امرئٍ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير".

6. وقال لميمون بن مهران: "يا ميمون لا تخلون بامرأة وإن قلت أقرِئها القرآن، ولا تصلن عاقاً، فإنه لن يصلك وقد قطع أباه".

7. وقال: "ما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن عفوٍ إلى مقدرة".

8. وقال: "لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب".

9. وله خطب كثيرة أكثر فيها من ذكر الموت، تدل على قلب رقيق، خاشع، قطع نياطه الخوف من الله، وورود النار.

وكان شاعراً، ومن شعره: كان في جنازة، فنظر إلى قوم في الجنازة قد تلثموا من الغبار، وعدلوا من الشمس إلى الظل. فنظر في وجوههم وبكى، وقال:

من كان حين تصيب الشمس جبهته                      أو الغبار يخاف الشَّين والشعثـا

ويألف الظل كي تبقى بشاشتـه                          فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا

في قعر مظلمة غبراء موحشة                           يطيل في قعرها تحت الثرى لبثا

تجهزي بجهاز تبلغين بــه                            يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

ومن شعره

ولا خير في عيش امرئ لم يكن له                      مع الله في دار القرار نصيب

فإن تعجب الدنيا أناساً فإنهـا                            متاع قليل وللزوال قريـــب

ومنه

إني لأمنح من يواصلنــي                             مني صفاء ليس بالمـــذّق

فإذا أخ لك حال عن خلـق                              داويت منه ذاك بالرفــــق

والمرء يصنع نفسه ومتى                               ما تبله ينزع إلى العــــرق

ومما نسب إليه

كأن قد شهدت الناس يوم تقسمت                        خلائقهم فاخترت منهن أربعا

إعارة سمع كلّ مغتاب صاحـب                        وتأبى لعيب الناس إلا تتبعـا

وأعجب من هذين أنك تدعــي                        السلامة من عيب الخليقة أجمعا

وأنك لو حاولت فعل إسـاءة                            وكوفيت إحساناً جحدتهما معا

سابعاً: وفاته

بدأ مرضه أول رجب سنة إحدى ومائة، واشتكى عشرين يوماً. وكان سبب علته أن غلامه دس له السم في طعام أو شراب، ولما سأله: ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق. قال عمر هاتها، فجاء بها الخادم فألقاها عمر في بيت المال، وقال للخادم: اذهب حيث لا يراك أحد.

ودخل عليه مسلمة بن عبدالملك وقال: يا أمير المؤمنين إنك قد تركت بنيك عالة لا شيء لهم، ولا بد لهم مما لا بد لهم منه، فلو أوصيت بهم إليَّ أو إلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم!

فقال أجلسوني، فأجلسوه؛ فقال: أما ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فو الله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حق غيرهم، وأما ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم، فإن خليفتي عليهم الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين؛ ادعهم لي.

فدعاهم: وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه فقال: بأبي فتيةّ تركتهم عالة، وإنما هم أحد رجلين: إما رجل يتقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإما رجل وقع في غير ذلك لست أحب أن أكون قويته على خلاف أمر الله، وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذمة إلا سيرى لكم حقاً. انصرفوا رحمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.

واشترى موضع قبره من نصراني بثلاثين ديناراً. وقالت زوجه فاطمة: قلت له يوم مات، يا أمير المؤمنين ألا أخرج عنك عسى أن تغفو شيئاً فإنك لم تنم. قالت: فخرجت عنه إلى البيت الذي هو فيه، فجعلت أسمعه يقول: ]تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ (سورة القصص: الآية 83) مراراً ثم أطرق، فلبث طويلاً لا يسمع له حس، فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه والأخرى على عينيه. وكانت وفاته في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان من أرض حمص، وخلافته ثلاثون شهراً.



[1] عيي: من الإعياء وهو التعب. أتكأ: أسند ظهره إلى الحائط ونحوه.

[2] ظلامة: أي مظلمة.

[3] أحرج: أي استخلفه.