إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / مبادئ الدين الإسلامي









المبحث الثاني

المبحث الثاني

الخصائص العامة للإسلام

تميز الإسلام بخصائص واضحة، منها:

أولاً: الربانية

الربانية مصدر منسوب إلى "الرب"، ومعناه: الانتساب إلى الرب سبحانه وتعالى. ويطلق على الإنسان أنه "رباني"، إذا كان وثيق الصلة بالله، عالماً بدينه وكتابه، معلماً له، عاملاً بأحكامه. وفي القرآن الكريم ]وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ[ (سورة آل عمران: الآية 79).

والمراد من الربانية أمران:

1. ربانية الغاية والوجهة

المراد بها، أن الإسلام، يجعل غايته الأخيرة، وهدفه البعيد، حسن الصلة بالله ـ تبارك وتعالى ـ، والحصول على مرضاته. فهذه هي غاية الإسلام، وهي غاية الإنسان، كذلك ووجهته، ومنتهى أمله، وسعيه، وكدحه في الحياة. ولا جدال في أن للإسلام غايات وأهدافاً أخرى، إنسانية واجتماعية، تؤدي الهدف الأكبر، وهو مرضاة الله تعالى، وحسن مثوبته. فهذا هو هدف الأهداف، أو غاية الغايات.

وفي الإسلام تشريع ومعاملات، المقصود منها تنظيم حياة الناس، حتى يستريحوا، ويبرأوا من الصراع على المتاع الأدنى، ويفرغوا لمعرفة الله تعالى ، وعبادته، والسعي في مرضاته.

وفي الإسلام جهاد وقتال للأعداء، ولكن الغاية هي القضاء على الفتنة، وإزاحة الكفر، وليس وراء الجهاد مطامع دنيوية ]وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[ (سورة الأنفال: الآية 39).

وفي الإسلام حث على المشي في مناكب الأرض، والأكل من طيباتها؛ ولكن الغاية هي القيام بشكر نعمة الله، وأداء حقه ]كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ[ (سورة سبأ: الآية 15).

وكل ما في الإسلام، من تشريع وتوجيه وإرشاد، إنما يقصد إلى إعداد الإنسان، ليكون عبداً خالصاً لله، لا لأحد سواه. ولهذا، كان روح الإسلام وجوهره، هو التوحيد.

ومما لا ريب فيه، أن لهذه الربانية، ربانية الغاية والوجهة، فوائد وآثاراً جمة، في النفس والحياة، يجني الإنسان ثمراتها، في هذه الدنيا وفي الآخرة. وهي في غاية الأهمية.

من ثمرات هذه الربانية، في النفس والحياة

أ. معرفة غاية الوجود الإنساني

أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة. وبهذا، يحس أن لحياته قيمة ومعنى، بعد أن عرف الله، وأقر له بالوحدانية.

ب. الاهتداء إلى الفطرة

وهي الفطرة، التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله ـ تعالى ـ، ولا يعوضها شيء غيره. يقول ـ تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ (سورة الروم: الآية 30).

فالكون كله رباني الوجهة، يسبح بحمد الله: ]وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ (سورة الإسراء: الآية 44). والحقيقة، أن في فطرة الإنسان فراغاً، لا يملؤه علم، ولا ثقافة، ولا فلسفة؛ وإنما يملؤه الإيمان بالله ـ جل وعلا ـ. هذه الفطرة، أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات؛ ولذا، قالوا: "لقد عُثر على مدن بلا قصور، ولا مصانع. وعُثر على مدن بلا حصون. ولكن، لم يُعثر قط على مدن بلا معابد".

ج. سلامة النفس من التمزق والصراع

لقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة، هي إرضاء الله ـ تعالى ـ وركز همومه في هم واحد، هو العمل على ما يرضيه سبحانه. ولا يريح النفس الإنسانية شيء، كما يريحها وحدة غايتها، ووجهتها في الحياة؛ فتعرف من أين تبدأ، وإلى أين تسير، ومع من تسير.

ولا يشقي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته. فهو، حيناً يشرق؛ وحيناً، يغرب؛ وتارة، يتجه إلى اليمين؛ وطوراً، يتجه إلى اليسار؛ ومرة يرضي زيداً، فيغضبُ عمرو؛ وأخرى يرضي عمراً فيغضبُ زيد؛ وهو في كلا الحالين حائر، بين رضى هذا وغضب ذاك.

إن عقيدة التوحيد، قد منحت المسلم يقيناً بأن لا رب إلا الله يُخاف، ويُرجى. ولا إله إلا الله، يُجتنب سخطه، ويُلتمس رضاه. وبهذا، أخرج المسلم كل الأرباب الزائفة من حياته، وحطم كل الأصنام، المادية والمعنوية في قلبه، ورضي بالله وحده رباً، عليه يتوكل، وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وإليه يتودد، وإليه يحتكم، وبه يعتصم ]وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[ (سورة آل عمران: الآية 101).

د. التحرر من العبودية للأنانية والشهوات

ومن ثمرات هذه الربانية، أنها تحرر الإنسان حين تستقر في أعماق النفس، من العبودية لأنانيته، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية، ورغباته الشخصية.

ذلك أن الإنسان "الرباني"، يوقفه إيمانه بالله، وباليوم الآخر، موقف الموازنة بين رغبات نفسه، ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهواته، وما يأمره به ربه، بين ما يمليه عليه الواجب، بين متعة اليوم، وحساب الغد، أو بين لذة عاجلة في دنياه، وحساب عسير، ينتظره في أخراه.

وهاتان الموازنة والمساءلة، جديرتان أن تخلعا عنه نير العبودية للهوى والشهوات، وأن ترتفعا به إلى أفق أعلى من الأنانية والبهيمية، أفق الإنسانية المتحررة، التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي بطنها وفرجها وغرائزها. وإذا تورط الإنسان المؤمن في معصية، وغلبته شهوته وهواه، فإنه سرعان ما يتوب، وينوب إلى الله.

2. ربانية المصدر والمنهج

إن المنهج، الذي رسمه الإسلام، للوصول إلى غاياته وأهدافه، منهج رباني خالص؛ لأن مصدره وحي الله ت تعالى إلى خاتم رسله محمد r. ولم يأت هذا المنهج نتيجة لإرادة فرد، أو إرادة أسرة، أو إرادة طبقة، أو إرادة حزب، أو إرادة شعب؛ وإنما جاء نتيجة لإرادة الله، الذي أراد به الهدى والنور، والبيان والبشرى، والشفاء والرحمة لعباده. قال تعالى يخاطبهم ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا[ (سورة النساء: 174). ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[ (سورة يونس: الآية 57).

والله تعالى هو صاحب هذا المنهج. ولهذا، يضاف إليه، فيقال: منهج الله، أو "صراط الله"، على حد تعبير القرآن العزيز. وإضافته إلى الله، تعني أن الله جل شأنه هو واضعه ومحدده، كما أنه غايته ومنتهاه.

أمّا الرسول، فهو الداعي إلى هذا المنهج أو هذا الصراط، المبيِّن للناس ما اشتبه عليهم من أمره. يقول تعالى ـ مخاطباً رسوله ]وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[ (سورة الشورى: الآيتان 52، 53).

ميزة الإسلام، بين المناهج القائمة في العالم

إن الإسلام هو المنهج أو المذهب أو النظام الوحيد في العالم، الذي مصدره كلمات الله وحدها، وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام غير محرفة، ولا مبدلة، و لا مخلوطة بأوهام البشر وأغلاطهم وانحرافاتهم. فإن المناهج أو الأنظمة الموجودة في العالم، اليوم، ثلاثة، عدا الإسلام طبعاً:

أ. منهج، أو مذهب، أو نظام مدني بشري محض، مصدره التفكير العقلي أو الفلسفي، لبشر فرد، أو مجموعة من الأفراد، كالشيوعية، والرأسمالية والوجودية، وغيرها.

ب. منهج أو نظام ديني بشري كذلك، مثل الديانة البوذية القائمة في الصين، واليابان، والهند، والتي لا يُعرف لها أصل إلهي، أو كتاب سماوي، فمصدرها مجرد فكر بشري.

ج. منهج أو مذهب ديني محرف، فهو، وإن كان إلهياً في أصله، عملت فيه يد التحريف والتبديل فأدخلت فيه، وحذفت منه، واختلط فيه كلام الله بكلام البشر؛ فلم يبق ثمة ثقة بربانية مصدره، كاليهودية والنصرانية، بعد ثبوت التحريف في التوراة والإنجيل أنفسهما؛ فضلاً عما أضيف إليهما من شروح وتأويلات ومعلومات بشرية، بدلت المراد من كلام الله.

أما الإسلام، فهو المنهج الفذ، الذي سلم مصدره من التحريف أو التشويه أو الغرض؛ ذلك أن الله تعالى تولى بنفسه حفظ كتابه، ودستوره الأساسي، وأعلن ذلك، فقال ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (سورة الحجر: الآية 9). 

ثانياً: الإنسانية

إن الإنسان مخلوق لله، ولكنه مخلوق ذو مكانة خاصة، له شأن ودور في هذا الوجود. والذي منحه هذه المكانة، وجعل له هذين الشأن والدور، هو خالقه نفسه، هو الله تبارك وتعالى، الذي جعله أكرم المخلوقات عليه.

والإسلام، على ربانيته، في غايته ووجهته، هو إنساني فيهما كذلك؛ إذ لا تنافي بين الغاية الربانية، والغاية الإنسانية، بل هما متكاملتان. وإذا كان مصدر الإسلام ربانياً، فإن الإنسان هو الذي يفهم هذا المصدر، ويستنبط منه، ويجتهد على ضوئه، ويحوله إلى واقع تطبيقي ملموس.

وإذا كانت الربانية هي غاية المجتمع المسلم، كما هي غاية الفرد المسلم، فإن مضمون هذه الغاية هو سعادة الإنسان، وفوزه بالنعيم المقيم، في جوار رب العالمين.

وإذا كانت الربانية، هي رسالة المسلم، فإن أهداف هذه الرسالة، هي تحقيق الخير للإنسان، والسمو به، والحيلولة بينه وبين الانحراف والسقوط.

والمعاني الربانية، التي توجه المسلم، من الإيمان والتوحيد والإنابة والرجاء والخوف، وغيرها، هي في حقيقتها معانٍ إنسانية؛ لأنها جزء من كيان الإنسان، كما فطره الله، وهي سر من أسرار قوله تعالى ]فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[ (سورة الحجر: الآية 29).

إن الربانية، باعتبارها غاية ووجهة، تقتضي إخلاص النية، والعمل والوجهة لله وحده، وجعل رضوانه ومثوبته نهاية المقصد، وغاية السعي وراء كل حركة، وكل قول أو عمل. والمقصود بهذا كله، هو تحرير الإنسان، وإسعاده، وتكريمه، وحمايته، والسمو به.

إن كلمة "الإنسان" تكررت في القرآن (63) ثلاثاً وستين مرة؛ فضلاً عن ذكره بألفاظ أخرى، مثل "بني آدم"، التي ذكرت ست مرات؛ وكلمة "الناس"، التي تكررت مئتين وأربعين مرة في القرآن.

ولعل من أبرز الدلائل على ذلك، أن أول ما نزل من آيات القرآن على رسول الإسلام، محمد  ، خمس آيات من سورة العلق، ذكرت كلمة "الإنسان" في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان.

هذه الآيات هي ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[ (سورة العلق: الآيات 1 ـ 5).

1. الجانب الإنساني في رسالة الإسلام

الزكاة إنسانية في جوهرها، تؤخذ من الإنسان الغني، لترد إلى الإنسان الفقير؛ فهي للأول تزكية وتطهير، وللثاني إغناء وتحرير.

والشعائر الأخرى، لا تخلو من جانب إنساني، كامن في ثناياها.

فالصلاة عون للإنسان على معركة الحياة ]وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ[ (سورة البقرة: الآية 45).

والصوم تربية لإرادة الإنسان على الصبر، في مواجهة المصاعب، وتربية لمشاعره على الإحساس بآلام غيره، فيسعى إلى مواساته. ولهذا، سمى النبي شهر رمضان "شهر الصبر" و "شهر المواساة".

والحج مؤتمر رباني إنساني، دعا الله إليه عباده المؤمنين ]لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ[ (سورة الحج: الآية 28)، فشهود المنافع ،هنا، يمثل الجانب الإنساني في أهداف الحج.

كما رفع النبي r إلى درجة العبادة، كل عمل يؤديه المسلم، ويترتب عليه نفع مادي، أو سرور نفسي لإنسان.

2. من ثمرات الإنسانية في الإسلام

أ. المساواة الإنسانية

إن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه، من حيث هو إنسان، لا من أي حيثية أخرى، الإنسان من أي سلالة كان، ومن أي لون كان، من غير تفرقة بين عنصر وعنصر، وبين قوم وقوم، وبين لون ولون. يقول القرآن ]يا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ (سورة الحجرات: الآية 13).

قد يختلف الناس في أجناسهم وعناصرهم، وفي أنسابهم وأحسابهم، وفي ثرواتهم، فيكون منهم الغني، والفقير، والمتوسط الحال. وقد يتفاوتون في أعمالهم ومناصبهم، فيكون منهم الحاكم والمحكوم، والمهندس الكبير والعامل الصغير، وأستاذ الجامعة والحارس ببابها.

ولكن هذا الاختلاف أو التفاوت، لا يجعل لواحد منهم قيمة إنسانية أكبر من قيمة الآخر، بسبب جنسه، أو لونه، أو حسبه، أو ثروته، أو عمله، أو طبقته، أو أي معيار آخر؛ إنما الفضل يكون بتقوى الله فقط.

ومن المساواة العملية، التي قررها الإسلام قولاً، وطبقها فعلاً: المساواة أمام قانون الشرع وأحكام الإسلام. فالحلال حلال للجميع، والحرام حرام على الجميع، والفرائض ملزمة للجميع، والعقوبات مفروضة على الجميع.

حاولت إحدى القبائل، عند الدخول في الإسلام، أن تُعفى من الصلاة، حيناً من الزمن، فأبى عليها ذلك الرسول r، وقال: ]وَلا خَيْرَ فِي دِينٍ، لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2631).

وحاول الصحابة أن يشفِّعوا أسامة بن زيد، حب رسول الله r، وابن حبه، في امرأة من قريش، ومن بني مخزوم، سرقت، فاستحقت أن يقام عليها حد السرقة: قطع اليد. فكلمه فيها أسامة، فغضب النبي r غضبته التاريخية المعروفة، وقال كلمته التي خلدها التاريخ ]أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ! ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأيْمُ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا[. (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3216).

ومن ذلك ما حدث في قصة جبلة بن الأيهم، الأمير الغساني، مع الأعرابي، الذي شكا إلى عمر، أمير المؤمنين، كيف لطمه جبلة، بغير حق. فلم يسع عمر إلا أن يحضر جبلة، ويطلب إليه أن يمكن الأعرابي، ليقتص منه، لطمة بلطمة؛ إلا أن يعفو عنه ويصفح. وعز على الأمير الغساني، أن يفعل ذلك. وقال لعمر، بصراحة: كيف يقتص مني، وأنا ملك!

فقال عمر: إن الإسلام، قد سوى بينكما.

ولم يع الأمير المسكين هذا المعنى الكبير، وخرج من المدينة هارباً، مرتداً عن الإسلام، الذي يفرض المساواة بين الملك والسوقة، أمام شرع الله. وغلبت عليه شقوته، فكان من الخاسرين.

ولم يبال عمر، ولا الصحابة، بهذه النتيجة؛ لأن ارتداد رجل عن الإسلام، أهون كثيراً من التهاون بتطبيق مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، كالمساواة؛ وخسارة فرد، لا تقاس بخسارة مبدأ.

ثالثاً: الشمول

من خواص الإسلام، أنه جاء لعموم البشر، ولم يأت لطائفة معينة؛ ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[  (سورة سبأ: الآية 28).  ]قُلْ يا أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[ (سورة الأعراف: الآية 158). وشمول الإسلام غير مقصور على فترة زمنية معينة، أو جيل من البشر. إنه شمول يستوعب الزمن كله، ويستوعب الحياة كلها، ويستوعب كيان الإنسان كله.

إنها رسالة لكل الأزمنة والأجيال، فقد كان كل نبي، يبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت، بعث الله نبياً آخر. أما محمد r، فهو خاتم النبيين. ورسالته هي رسالة الخلود، التي قدر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة، ويطوى بساط هذا العالم؛ فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية. فليس بعد الإسلام شريعة، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد محمد r نبي. ولم يسبق لنبي، قبل محمد r، أن أعلن أن رسالته هي الخاتمة، وأن لا نبي بعده؛ بل بشرت التوراة بمن يأتي بعد موسى u؛ وبشر الإنجيل بمن يأتي بعد المسيح، عيسى u، وهو "الفارقليط"، الذي سيبين كل الحق، ولا يتكلم من عند نفسه.

إنها رسالة الإنسان كله: روحه وعقله، وجسمه، وضميره، وإرادته ووجدانه؛ في كل مراحل حياته ووجوده، طفلاً، ويافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً. وترسم له، في كل هذه المراحل المتعاقبة، المنهج الأمثل، الذي يحبه الله ويرضاه؛ لا، بل إنها تعنى بالإنسان قبل أن يولد، وبالإنسان بعد أن يموت.

ومن معاني الشمول في الإسلام كذلك، أنه رسالة للإنسان في كل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري؛ فلا يدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية، إلا كان له فيه موقف، قد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغير والتبديل. وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين. وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة. وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة؛ كل في موضعه.

المهم، هنا، أنه لا يدع الإنسان وحده، من دون هداية الله، في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به، مادياً كان أو روحانياً، فردياً أو اجتماعياً، فكرياً أو عملياً، دينياً أو سياسياً، اقتصادياً أو أخلاقياً؛ عاملاً لروحه أو عاملاً لجسده، وناظراً إلى دنياه، أو ناظراً إلى آخرته، ومسالماً أو محارباً، ومعطياً حق نفسه، أو معطياً حق حاكمه وحكومته. فلا يكون مسلماً، وهو يطلب الآخرة من دون الدنيا. ولا يكون مسلماً، لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى؛ وإنما المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده، أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.

هذا الشمول، الذي تميز به الإسلام، بحيث فاستوعب الحياة كلها، والإنسان كله، في كل أطوار حياته، وفي كل مجالات حياته ـ يجب أن يقابله شمول مماثل من جانب التزام المسلمين، أي الالتزام بهذا الإسلام كله، في شموله وعمومه وسعته. فلا يجوز الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه، وطرح جانب آخر، أو جوانب أخرى منها، قصداً أو إهمالاً؛ لأنها كل، لا يتجزأ.

وقد عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل تجزئتهم أحكام دينهم، تبعاً لأهوائهم، يأخذون منها ما راقهم، ويدعون ما لم يرقهم؛ فقرعهم الله أشد التقريع، إذ قال ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ[ (سورة البقرة: الآيتان 85، 86).

ولا يجوز، في نظر الإسلام، العناية بالعبادات والشعائر، وإهمال جانب الأخلاق والفضائل؛ لأن الفضائل الأخلاقية، من شعب الإيمان الحق، وثمرة للعبادة الصحيحة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، عَنْ النَّبِيِّ r، قَالَ: ]الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ[ (صحيح مسلم: الحديث الرقم 50). ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر[ِ (سورة العنكبوت: الآية 45). ولأن الشريعة الإسلامية شاملة، فقد جاءت كاملة تامة؛ قال تعالى ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا[ (سورة المائدة: الآية 3).

رابعاً: الوسطية

قال تعالى ]وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ(8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[ (سورة الرحمن: الآيات 7 – 9). كان من حكمة الله تعالى، أن اختار الوسطية شعاراً متميزاً لهذه الأمة:  ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ (سورة البقرة: الآية 143).

والوسطية تعني الاعتدال والتوازن، وتعني استقامة المنهج، والبعد عن الميل والانحراف. لذا قال العرب: "خير الأمور الوسط". والوسطية تعني القوة، فالوسط مركز القوة؛ والشباب هو المرحلة الوسطى بين الطفولة والشيخوخة.

والإسلام وسط في عباداته وشعائره، بين الأديان والنحل، التي ألغت الجانب "الرباني"، جانب العبادة والتنسك والتأله، من فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الإنساني الأخلاقي وحده؛ وكالأديان والنحل، التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة، والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية المسيحية.

ولعل أوضح دليل، هنا، الآيات الآمرة بصلاة الجمعة ]يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ (سورة الجمعة: الآيتان 9، 10).

فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة، حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا، قبل الصلاة. ثم سعي إلى ذكر الله، وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء، وما أشبهه من مشاغل الحياة. ثم انتشار في الأرض، وابتغاء الرزق من جديد، بعد انقضاء الصلاة؛ مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيراً، في كل حال؛ فهو أساس الفلاح والنجاح.

والإسلام وسط في الأخلاق، بين غلاة المثاليين، الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب، ما لا يمكنه، وبين غلاة الواقعيين، الذين حسبوه حيواناً أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك، ما لا يليق به. فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية، فعدوها خيراً محضاً؛ وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شراً خالصاً. وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء.

فالإنسان، في نظر الإسلام، مخلوق مركب، فيه العقل، وفيه الغريزة، وفيه روحانية الملاك. قد هدي النجدين، وهيئ بفطرته لسلوك السبيلين؛ إما شاكراً وإما كفوراً. فيه استعداد للفجور، واستعداد للتقوى. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها، حتى تتزكى ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[ (سورة الشمس: الآيات 7 – 10).

وفي النظام الإسلامي، تلتقي الفردية والجماعية، في صورة متزنة رائعة، تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات، بالقسطاس المستقيم. بينما كان اليهود، الذين تفرقوا في الأرض، يؤيدون الفردية، بتفكيرهم وسلوكهم القائم على الأنانية ]وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ[ (سورة النساء: الآية 161).

وجاءت المسيحية كذلك، فاهتمت بنجاة الفرد، قبل كل شيء، تاركة شأن المجتمع لقيصر، أو على الأقل، هذا ما يفهم من ظاهر ما يحكيه الإنجيل عن المسيح، حين قال: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!!

ومع تأمل صفحات الواقع، يظهر أن عالمنا، اليوم، يقوم فيه صراع مستعر، بين المذهب الفردي والمذهب الجماعي. فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية، واعتبار الفرد هو المحور الأساسي، له حرية التملك، وحرية القول، وحرية التصرف، وحرية التمتع؛ ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره. ما دام يستعمل حقه في "الحرية الشخصية"، فهو يتملك المال، بالاحتكار والحيل والربا، وينفقه في اللهو والخمر والفجور، ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين؛ ولا سلطان لأحد عليه، لأنه "حر".

والمذاهب الاشتراكية، وبخاصة المتطرفة منها، كالماركسية، تقوم على الحط من قيمة الفرد، والتقليل من حقوقه، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل. وما الأفراد إلاّ أجزاء صغيرة، في تلك "الآلة" الجبارة، التي هي المجتمع؛ والمجتمع، في الحقيقة، هو الدولة؛ والدولة، في الحقيقة، هي الحزب الحاكم. ليس للفرد حق التملك، إلا في بعض الأمتعة، والمنقولات. وليس له حق المعارضة، ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته.

والنظام الصالح، هو الذي يراعى هذين الجانبين: الفردية والجماعية، فلا يطغى أحدهما على الآخر. فلا عجب أن جاء الإسلام، وهو دين الفطرة، نظاماً وسطاً عدلاً، لا يجور على الفرد لحساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد. لا يدلل الفرد بكثرة الحقوق، التي يُمنحها، ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تُلقى عليه؛ وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وسعه، من دون حرج، ولا إعنات. ويقرر له من الحقوق، ما يكافئ واجباته، ويلبي حاجته، ويحفظ كرامته، ويصون إنسانيته.

1. من هنا قرر الإسلام حرمة الدم، فحفظ للفرد "حق الحياة"، وأعلن القرآن أن ]مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[ (سورة المائدة: الآية 32). وأوجبت الشريعة، في قتل العمد، القصاص؛ إلا أن يعفو أولياء المقتول، أو يقبلوا بدلاً. وأوجبت في قتل الخطأ الدية والكفارة.

2. وقرر حرمة العرض، فصان للفرد "حق الكرامة"؛ فلا يجوز أن يهان في حضرته، أو يؤذى في غيبته، بأي كلمة أو إشارة تسوؤه]يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ[ (سورة الحجرات: الآية 11). ]وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ[ (سورة الحجرات: الآية 12). 

3. وقرر حرمة المال، فصان للفرد "حق التملك"، فلا يحل أخذ ماله، إلا بطيب نفس منه؛ ولا يجوز للدولة، ولا لفرد آخر، نهب ماله وأخذه بغير حق. قال النبي r، في حجة الوداع ]فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 65). 

4. وقرر حرمة البيت، فصان بذلك للفرد "حق الاستقلال الشخصي"؛ فلا يجوز لأحد أن يتجسس عليه، أو يقتحم عليه بيته، بغير إذنه. قال تعالى ]يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا[ (سورة النور: الآية 27). وقال]:وَلا تَجَسَّسُوا[ (سورة الحجرات: الآية 12).

5. وقرر للفرد "حرية الاعتقاد"، فلا يجوز أن يكره على ترك دينه، واعتناق دين آخر ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[ (سورة البقرة: الآية 256). ]أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[ (سورة يونس: الآية 99). 

6. وقرر للفرد "حرية النقد". فمن حق كل فرد، أن يعارض ما يراه من عوج، وما يلاحظه من تقصير؛ بل من واجبه ذلك، إذا لم يقم غيره به؛ وهو ما سماه الإسلام "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

7. وقرر الإسلام "المسؤولية الفردية". وأكدها تأكيداً بليغاً، في كتابه، فقال تعالى ]كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[ (سورة المدثر: الآية 38). ]لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[ (سورة البقرة: الآية 286). ]وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ (سورة الأنعام: الآية 164). 

وهذه الآيات تطبق على الإنسان، في الدنيا والآخرة؛ فهو في الحياتين، لا يحمل وزر غيره.

ومع هذه الحقوق والحريات، التي منحها الإسلام الفرد، فقد فرض عليه للمجتمع واجبات تكافئها، وقيد هذه الحقوق والحريات الفردية، بأن تكون في حدود مصلحة الجماعة؛ وألا يكون فيها مضرة للغير. وليس للفرد أن يستخدم حقه في ما يؤذي الجماعة ويضرها؛ إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، أي لا يضر الإنسان نفسه ولا يضار غيره.

1.     فالحياة التي صانها الإسلام للفرد، إذا اقتضى المجتمع المسلم بذلها لحمايته، وجب عليه أن يقدمها، راضي النفس، قرير العين، معتقداً أن الموت، هنا، هو عين الحياة. وكذلك إذا اعتدى على حق نفس أخرى، كقاتل العمد؛ أو على حق المجتمع في الأمن والاستقرار، كقاطع الطريق؛ أو خرج على دينه، وفارق الجماعة، كالمرتد ـ فقدت حياته ما لها من عصمة.

2. حق التملك مقيد بأن يأخذ المال من حله، وينفقه في محله؛ ولا يبخل به، إذا طلبته الجماعة. كما أن للجماعة عليه حقوقاً في هذا المال، بعضها دوري ثابت، كالزكاة بأنواعها؛ وبعضها غير دوري، كما في الحديث ]إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 596). وبعضها يفرضه ولي الأمر، عند الحاجة.

3. والحريات والحقوق، كلها مقيدة برعاية أخلاق المجتمع وعقائده ومثله العليا. فليس معنى حرية الاعتقاد أو الرأي، إباحة الطعن في الإسلام وأهله، وإذاعة الكفر بالله ورسوله وكتابه، والتشكيك في القيم العليا، ونشر الخلاعة والفجور؛ إذ إن حرية الإفساد، لا يقرها عقل، ولا شرع.

4. أكد الإسلام، كذلك، مسؤولية الفرد عن الجماعة. فكل فرد في المجتمع المسلم راع، في مجال من المجالات؛ كما في الحديث الصحيح]كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ[ (صحيح البخاري: الحديث الرقم 844). فكما أن الإمام راع مسؤول عن الأمة، فإن الرجل في بيته راع مسؤول عن الأسرة؛ والمرأة راعية في بيت زوجها؛ والخادم راع في مال مخدومه. وكل مسؤول، فلا يجوز له إهمال مسؤوليته. وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقتضي مسؤولية المسلم عن المجتمع، وتوجب عليه مراقبة أحواله، وتقويم عوجه، إن اعوج، بكل ما استطاع، بيده أولاً. فإن لم يستطع، فبلسانه. فإن لم يستطع، فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان.

إن النصيحة لكافة المسلمين، خاصتهم وعامتهم، واجبة؛ ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وليس لمسلم أن يعتزل الحياة والناس، ويقول: نفسي نفسي! ويدع نار الفساد تلتهم الأخضر واليابس من حوله؛ فإن هذه النار، إذا تركت وشأنها، لم تلبث أن تحرقه هو، وتحرق كل ما يحرص عليه. ولهذا، يقول القرآن ]وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ (سورة الأنفال: الآية 25). وفي الحديث ]إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2094). 

5. ومن معاني الجماعة في الإسلام، ما عرف في الشريعة باسم "فروض الكفاية". فكل علم أو صناعة أو حرفة أو نظام أو مؤسسة، تحتاج إليها الجماعة المسلمة، في دينها أو دنياها، فتحقيقها فرض كفاية على المسلمين، على معنى أنه إذا قام بها عدد كاف، فقد ارتفع الحرج، وسقط الإثم عن باقي الجماعة؛ وإلا أثمت الجماعة كلها، واستحقت عقوبة الله.

6. المسلمون مسؤولون مسؤولية تضامنية، عن تنفيذ شريعة الإسلام، وإقامة حدوده. ومن هنا، كان خطاب التكليف، في القرآن، إلى الجماعة. وتكرر قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[، بهذه الصيغة الجماعية، ليؤكد وجوب التكافل بين الجماعة كلها، بمثل قوله تعالى: ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[ (سورة المائدة: الآية 38)، ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[ (سورة النور: الآية 2). وإن كان الذي يقوم على هذه الحدود، هو الدولة والحكام؛ فإن الجماعة كلها مسؤولة عن إقامتها، مؤاخذة بعقاب الله إذا عطلتها.

7. حتى العبادة، التي هي صلة بين العبد وربه، أبى الإسلام إلا أن يضفي عليها روحاً جماعية، وصبغة جماعية. فدعا إلى صلاة الجماعة، ورغَّب فيها، حتى جعلها أفضل من صلاة المسلم وحده، بسبع وعشرين درجة. وكلما كان عدد الجماعة أكبر، كان ثواب الله عليها أعظم؛ بل هم الرسول أن يحرق على قوم بيوتهم، لتخلفهم عن الجماعة في المسجد. ولم يرخص لأعمى، يسمع الأذان، أن يصلي في بيته، ويترك صلاة الجماعة؛ إذ ]أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَأَى رَجُلاً، يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ، قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، الصَّلاةَ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 584). كراهية منه للشذوذ والانفراد، ولو في المظهر. وإذا صلى المسلم منفرداً في خلوة، لم تزل الجماعة في وجدانه وضميره؛ فهو إذا ناجى الله، ناجاه بصيغة الجمع؛ وإذا دعاه، دعاه باسم الجميع ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ (سورة الفاتحة: الآيتان 5، 6).

كما شرع الإسلام صلاة الجمعة، في كل أسبوع مرة؛ وصلاة العيد، في كل عام مرتين. وفرض الحج، في العمر مرة، على كل مسلم. وكلها شعائر، لا بد أن تؤدى في صورة جماعية.

8. في مجال الآداب والتقاليد، حث الإسلام على جملة من الآداب الاجتماعية، أراد بها أن يخرج المسلم من الفردية والانعزالية، التي قد تروق الانطوائيين من الناس. فتحية الإسلام، والمصافحة عند اللقاء، وتشميت العاطس، والتزاور والتهادي، وعيادة المريض، وتعزية المصاب، وصلة الأرحام، وإحسان الجوار، وإكرام الضيف، وحسن الصحبة في السفر والحضر، والبر باليتامى والمساكين وابن السبيل، وغير ذلك من الآداب والواجبات، هي التي جعلت الشعور الجماعي، والتفكير الجماعي، والسلوك الجماعي، جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلم.

10. وفي مجال الأخلاق، حث الإسلام على المحبة والإخاء والإيثار. وأمر بالتعاون على البر والتقوى. ودعا إلى توحيد الكلمة، وجمع الصف. كما دعا إلى التراحم والتسامح، وإلى البذل والتضحية، واحترام النظام، والطاعة لأولي الأمر في المعروف.

وبجوار ذلك، حذر من الحسد والبغضاء والحقد، والفرقة والتنازع؛ وسائر الرذائل، التي تنشأ من الأنانية والغلو في حب الذات، وحب الشهوات.

وبهذا كله، أقام الإسلام الموازين القسط بين الفرد والمجتمع، أو بين الفردية والجماعية، في حياة الإنسان. فقد اعترف بالفرد والمجتمع، وقرر لكل منهما حقوقه، بالعدل؛ وألزمه واجبات تقابلها، بالمعروف. وهذه هي الوسطية، أو هو التوازن، الذي اختص به الإسلام.

خامساً: الواقعية

لا يغفل الإسلام طبيعة الإنسان، وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع، الذي يرسمه لهم. وفي ضوء هذا النظر الواقعي، جعل الإسلام حداً أدنى، أو مستوى أدنى من الكمال، لا يجوز الهبوط عنه؛ لأنه ضرورة لتكوين شخصية المسلم، على نحو معقول؛ ولأنه أقل ما يمكن قبوله، ليكون في عداد المسلمين؛ ولأنه وضع على نحو، يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال. إن هذا المستوى الأدنى، يتكون من جملة معانٍ، يجب القيام بها، وهي المسماة بالفرائض. كما يشمل جملة معان، يجب هجرها، وهي المسماة بالمحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات، جعلت بقدر طاقة أقل الناس استعداداً لفعل الخير، وابتعاداً عن الشر. ومن ثم، يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، ولا يعذر في التخلف عنها. ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي، الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر، أرفع منه، وأوسع منه، وحببته إلى الناس؛ ولكنها لم تلزمهم؛ لأن إلزامهم به إرهاق لهم وحرج شديد؛ والحرج في شرع الإسلام مرفوع؛ لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية. قال تعالى ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ (سورة الحج: الآية 78). وقال تعالى]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[ (سورة البقرة: الآية 286). وهذا المستوى العالي، يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها؛ والمكروهات، التي ترغب الشريعة عنها.

وهذان المستويان، الأدنى والأعلى، موجودان في تشريعات الإسلام، منها على سبيل المثال ما يأتي:

1. الصلاة: منها ما هو فرض. ومنها ما هو مندوب. فالأول، يدخل في معاني المستوى الأدنى. والثاني، يدخل في معاني المستوى الأعلى. وفيها قال رسول الله r ]مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ، يُصَلِّي لِلَّهِ، كُلَّ يَوْمٍ، ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تَطَوُّعًا، غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلاَّ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 1199).

2. الصيام: الفرض منه صيام شهر رمضان، وهذا من معاني الحد الأدنى المطلوب. بينما صيام ست من شوال، والأيام البيض من كل شهر، وكل إثنين وخميس، هو من معاني المستوى الأعلى.

3. الحج: فرض مرة في العمر. وما زاد، فتطوع. وهو من معاني المستوى الأعلى.

4. في إنفاق المال في سبيل الله، فريضة الزكاة، قال تعالى ]وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءاَتُوا الزَّكَاةَ[ (سورة البقرة: الآية 43). وفي صدقة التطوع، يقول الله تعالى: ]وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون[ (سورة البقرة: الآية 272).

5. في القتل العمد، شُرع القصاص، قال تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى[ (سورة البقرة: الآية 178). فلأهل القتيل المطالبة به، وهذا حقهم، ولا تثريب عليهم فيه. ولكن الإسلام ندب إلى العفو، وهو من معاني المستوى الأعلى. وفيه قال تعالى في الآية نفسها ]فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[ (سورة البقرة: الآية 178).

6. في الاعتداء بصورة عامة، تجوز المعاقبة بالمثل؛ والعفو والصبر أفضل. وهما من معاني المستوى الأعلى، قال ـ تعالى ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[ (سورة النحل: الآية 126). 

7. في البيوع والأشربة: حبب الإسلام إلى المسلم، أن يكون سهلاً في بيعه وشرائه ومقاضاته. وهذه كلها من معاني المستوى الأعلى. قال رسول الله r ]رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً، سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى[. (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1934).

8. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هو فرض كفائي، يجب وجوده في الأمة، ويسوغ تركه باليد واللسان؛ والاكتفاء بإنكار القلب، بالنسبة إلى حاكم ظالم طاغية، لا يتسع صدره لسماع النصيحة، ويقتل من يأمره أو ينهاه. ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه، ولو أدى ذلك قتله؛ وهذا من معاني المستوى الأعلى. يدل على ذلك الحديث الشريف ]إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2100). فإن الاستشهاد في سبيل الله مكرمة، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باليد أو باللسان، ضرب من ضروب الجهاد المشروع؛ لما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين، وخذلان المبطلين، وإيقاف الظالمين عند حدهم.

9. الكلام بالباطل حرام: يجب تركه؛ والترك، هنا، من معاني المستوى الأدنى، والثرثرة بما لا يفيد، ولا ينفع هي مكروهة، وإن لم يكن فيها باطل؛ لما جاء في الحديث الشريف ]إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1383). فالكلام الكثير في ما لا ينفع مكروه، وتركه أفضل؛ وهذا من معاني المستوى الأعلى.

10. الإكراه على الكفر: بالتهديد بالقتل، يسوغ للمكره أن يقول كلمة الكفر، بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، رخصة من رخص الإسلام؛ وهي من معاني الحد الأدنى. قال تعالى ]إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ[ (سورة النحل: الآية 106). والمندوب إليه عدم قوله الكفر، وإن أدى ذلك قتله؛ وهذا من معاني المستوى الأعلى.

تظهر واقعية الإسلام في أمر آخر، هو إيجاد المخارج المشروعة للمسلم، في أوقات الشدة والضيق، وعدم إلزامه بما كان لازماً له، أو واجباً عليه، أو محرماً عليه، في الأوقات العادية. وعلى هذا الأساس، جاءت الرخص كلها، وجاءت القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات"؛ لأن النفوس ربما لا تقوى، في الظروف القاسية والأحوال الاضطرارية، على الاستمرار بما يريده الإسلام، فتقع في المعصية؛ فخفف الإسلام عنها، بما شرعه من رخص؛ ومنها إباحة أكل الميتة، عند الجوع الشديد، الذي يخاف فيه تلف النفس؛ وإباحة ترك الواجب، مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وإباحة الصلاة للمريض، وهو قاعد، إذا كان لا يقوى على الوقوف.

وبهذه الواقعية في الإسلام، يستطيع المسلم، أن يحقق لنفسه الكمال المقصود، بيسر واعتدال وشمول، وبما يوافق الفطرة، من دون إرهاق، ولا حرج، ولا انعزال عن الحياة وأهلها.

سادساً: الثبات والمرونة والتطور

تنقسم مظاهر الإسلام إلى قسمين:

·   قسم يمثل الثبات والخلود

ويتمثل في أركان الإيمان والإسلام، وفي المحرمات القطعية، مثل: الشرك والسحر، وقتل النفس، والزنى، وأكل الربا وأكل مال اليتامى، وقذف المحصنات، والتولي يوم الزحف والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها، مما ثبت في القرآن والسنة. وكذلك في أمهات الفضائل، من الصدق والأمانة والعفة، والصبر والوفاء والحياء، وغيرها من مكارم الأخلاق، التي عدَّها القرآن والسنة من شعب الإيمان.

وفي شرائع الإسلام القطعية، في الزواج والطلاق، والميراث والحدود والقصاص، مما ثبت بالنصوص القطعية.

·   قسم يمثل المرونة والتطور

وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العلمية. وهو نوع يتغير بحسب اقتضاء المصلحة، زماناً ومكاناً وحالاً.

وقد يوجد الثبات والمرونة مجتمعين جمعاً متوازناً، ومن أمثلة ذلك:

1. يتمثل الثبات قطعاً في مجال الحكم والقضاء. وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معين للقضاء والتقاضي؛ هل يسير على أسلوب القاضي المفرد أو على أسلوب المحكمة الجماعية؟ هل يكون هناك محكمة جنايات وأخرى للمدنيات؟ كل هذا متروك للاجتهاد، والنظر في مصالح المسلمين.

2. يتمثل الثبات في قوله تعالى: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ[ (سورة المائدة: الآية 3). وتتمثل المرونة في قوله، بعدها ]فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌٌ[ (سورة المائدة: الآية 3). فهنا، قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.

3. تتمثل المرونة في استثناء الظروف الحربية، ومقتضيات التنكيل بالعدو، وإجباره على التسليم، من خلال إحداث أقل الخسائر الممكنة. وذلك في قوله تعالى: ]مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ[ (سورة الحشر: الآية 5). وقد نزلت هذه الآية في حصار النبي ليهود بني النضير، وقطعه بعض نخيلهم، ليضطرهم إلى التسليم. وقد شنع اليهود، وقالوا: يا محمد، قد كنت تنهي عن الفساد، وتعيب على من يصنعه. فما بال قطع النخيل وتحريقها! فكانت الآية رداً عليهم، بأن ذلك بإذن الله، وليخزي الفاسقين.

4. يتمثل الثبات في رفض القرآن للاجتهاد والرأي، في مقابلة نص محكم؛ لأن رأي المخلوق، لا يقابل حكم الخالق. ولذا، أنكر القرآن على الذين استحلوا الربا، تشبيهاً له بالبيع، مع أن الله أحل هذا وحرم ذلك؛ ولكن، لا مجال للقياس، ولا للاجتهاد، هنا ]ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[ (سورة البقرة: الآية 275).

5. في حديث: ]فَقَالَ النَّبِيُّ r لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَأَمَّا أَنْتَ، يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2498).

فيه رفض النبي r أي قضاء أو إفتاء، في مقابل تنفيذ النص الشرعي.

6. وتتمثل المرونة في رأي سلمان الفارسي، في حفر الخندق، يوم الأحزاب.

7. وفي يوم الحديبية، تنجلي مرونة النبي كأوضح ما يكون؛ فقد قبل أن يكتب في عقد الصلح، بينه وبين الكفار، (باسمك اللهم)، بدلاً من بسم الله الرحمن الرحيم، التي رفضتها قريش.

8. يتمثل الثبات في موقف الرسول الكريم من القرشية المخزومية، التي سرقت؛ وحاولت قريش تخليصها من العقوبة، بالوساطة والشفاعة. فقد غضب النبي r، وقال ]أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ! ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ؛ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3216). بينما تتمثل المرونة في قوله ]لا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الْغَزْوِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1370)؛ رعاية لحال الحرب وظروفها خشية أن يلحق الجاني بالكفار، ويرتد عن دينه.

9. من المرونة قصر الصلاة في السفر، وإباحة الفطر للصائم فيه؛ وجمع الصلوات، في السفر والمطر والخوف؛ والتيمم عند فقد الماء؛ وأمر النبي r لمن أكل أو شرب، ناسياً، في نهار رمضان، أن يتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه: ]عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ r، قَالَ إِذَا نَسِيَ، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1797).

10. وتتمثل المرونة في تشجيع الابتكار والاختراع، في أمور الدنيا، مثل وسائل المواصلات، التي أشار إليها قوله تعالى، بعد ذكر الخيل والبغال والحمير ]وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ[ (سورة النحل: الآية 8). ومثل أدوات الحرب المستحدثة ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[ (سورة الأنفال: الآية 60). ومثل صناعة السدود العظيمة، كما في قصة ذي القرنين. وسائر الصناعات، الحربية والمدنية، لقوله تعالى ]وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد[ (سورة الحديد: الآية 25).

وتتمثل كذلك في أسلوب الرسول الكريم، اللين الرفيق، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم؛ ولهذا، أمر بالتيسير والتبشير؛ فقال ]يَسِّرُوا، وَلا تُعَسِّرُوا. وَبَشِّرُوا، وَلا تُنَفِّرُوا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 67).

وكان من أخلاق المصطفى r، أنه ما خُير بين أمرين، إلاَّ اختار أيسرهما؛ ما لم يكن إثماً: ]عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا؛ مَا لَمْ يَأْثَمْ. فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ، كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْه[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6288).

وهكذا كان الثبات والمرونة، سمتان أساسيان في شرع الإسلام. والفقيه المسلم ملتزم بما هو ثابت من النصوص المحكمة، في القرآن والسنة؛ لأنها أساس الوحدة، الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم. ثم هو، في الوقت نفسه، في حرية واسعة، أمام المسائل المرنة، أو التي لم يرد فيها نص شرعي، أو كانت نصوصها متشابهة، ذات احتمالات.

وجدير بالذكر، أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والأحوال؛ لأن شرعة الله عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها. ومن ذلك أن رجلاً جاء إلى ابن عباس t، فقال: ألقاتل توبة؟ قال: لا، بل إلى النار. فلما ذهب قال له جلساؤه: كنت تفتينا بخلاف ذلك. فما بال هذا اليوم! قال: إني أحسبه مغضباً، يريد أن يقتل مؤمناً. فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك. لقد رأى ابن عباس، في عيني هذا الرجل، حقداً وغضباً وتوثباً للقتل؛ وإنما أراد أن يُفتح له باب التوبة، بعد أن يرتكب جريمته. ولذا، قمعه وسد عليه الطريق، حتى لا يتورط في هذه الكبيرة.